قبيلة بني يسار وحداثة داحس والغبراء في تونس الخضراء
د. عبد الوهاب الأفندي
5 August, 2013
5 August, 2013
حين تقع جريمة قتل أو أي جريمة أخرى في أي بلد حديث متحضر، يحال الأمر إلى السلطات المختصة في الدولة للتحقيق وتحديد الجاني ثم تطبيق العقوبة عليه حسب القانون. وفي الدول الديمقراطية الحديثة، لا يجوز توجيه تهمة لجهة معينة قبل أن تباشر الجهات المختصة التحقيق وتوجيه الاتهام لشخص بعينه. وحتى بعد ذلك تميل معظم الدول المتحضرة إلى حظر النشر في أي جريمة قبل بدء المحاكمة. وهناك تفاصيل لا يسمح بالنشر فيها إلى حين النطق بالحكم. ويستوي في هذا الجريمة الجنائية والجنايات السياسية، مثل العمليات الإرهابية. فعندما وقعت عمليات إرهابية كبرى مثل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 في أمريكا، أو تفجير السابع من يوليو 2005 في لندن، حرصت السلطات المختصة على عدم التوجيه الاتهام إلى جهة معينة قبل انتهاء التحقيقات. وتحديداً رفضت السلطات، حتى بعد توجيه التهم لأفراد بعينهم، تحميل المسلمين أو العرب عموماً جريرة مرتكبي الجناية.
وبالمقابل فإنه في المناطق البعيدة عن الحداثة، أو تلك التي غابت فيها الدولة أو غيبت، نجد أن ارتكاب جريمة عادية قد يتحول إلى حرب أهلية بين مكونات المجتمع. فقد يؤدي التحرش بفتاة أو شجار عادي بين شخصين، إلى حرب قبيلة كما يحدث كثيراً في دارفور في السودان هذه الأيام. وأذكر أنني تابعت قبل عامين واقعة أدت إلى قتل خمسين شخصاً من المدنيين العزل في أحد أسواق دارفور في هجوم قصد به تحديداً إيقاع أكبر عدد من الإصابات في أفراد قبيلة معينة. وقد استمعت مع لجنة تقصي حقائق افريقية لبعض الروايات حول خلفيات هذه الحادثة التي قيل أنها بدأت عندما قامت حركة مسلحة معظم أفرادها من قبيلة معينة بخطف شخصين ينتميان إلى قبيلة مجاورة. وبحسب القواعد المتبعة هناك، جرت مفاوضات لإطلاق سراح المخطوفين، ولكن المفاوضات فشلت وقامت المجموعة التي تحتجزهما بقتلهما. بدأت عندها مفاوضات أخرى لإجبار المجموعة الخاطفة على دفع دية القتيلين، ولكن المفاوضات فشلت، وأحست قبيلتهما بما رأت أنه استخفاف وإهانة من طرف الجماعة المسلحة، فقررت الانتقام على طريقتها بارتكاب جرائم قتل عشوائي في حق القبيلة الأخرى بدون التوجه إلى الجناة المعينين والمعروفين.
عندما استمعت لهذه الوقائع توجهت بسؤال لأحد المسؤولين الحكوميين الحاضرين: هل كانت الحكومة على علم بحادثة الخطف وما تبعها من قتل؟ وهل تم فتح بلاغ من قبل أهالي المخطوفين لدى الجهات المختصة من شرطية وعدلية في أي من الحادثين؟ فرد المسؤول بأن ذلك لم يحدث، وأن أجهزة الدولة لم تعلم بحادث الخطف إلا حين وقع اجتياح السوق وقتل العشرات بهذه الطريقة الهمجية. وعلل المسؤول هذا الوضع بأن المجتمع القبلي يرى أن "الشكوى" للدولة علامة ضعف ومهانة. فالقبيلة التي لا تستطيع أخذ حقها بيدها ينظر إليها على أنها ضعيفة، على طريقة المقولة العربية التي تهجو الفرد بأن "قبيلته لا يغدرون بذمة، ولا يظلمون الناس حبة خردل".
تذكرت هذه الوقائع وأنا أشهد "قبائل" اليسار و "طائفة" الحداثيين والعلمانيين في تونس تسرج خيلها، وتمتشق سيوفها للأخذ بثأر قتيلها المغدور محمد البراهمي الذي اغتيل يوم الخميس الماضي علي يد مجهولين. ورغم أن الدولة تحركت بسرعة لا مثيل لها بين الحكومات العربية، ونشرت معلومات في غاية الأهمية عن السلاح المستقدم وهوية المشتبه به، إلا أن قبائل اليسار تصرفت على طريقة أهلنا في دارفور والأسلاف من تغلب وذبيان، فحشدت الأفراد، وأعلنت الحرب على القبيلة المنافسة كيفما اتفق. وعلى طريقة الزير أبو ليلى المهلهل لم تقبل هذه القبائل بأن يسمى متهم بعينه أو يعتقل، فهو لا يكافيء القتيل الشريف، وإنما "يبوء بشسع النعل" على مقولة المهلهل المشهورة. ولا بد من أن يكون الثأر بالهجوم على مضارب القبيلة الأخرى وقتل رجالها وسبي نسائها وأخذ أموالها غنائم. عندها فقط تشفى الصدور وتسكن النفوس.
وكما هو الحال في أيام داحس والغبراء، سقاها الله، فإن التهم توجه جزافاً. فإذا كان الجاني المفترض من قبيلة بعينها، فكل أفراد تلك القبيلة هدف مشروع للانتقام، بغض النظر عن مسؤوليتهم وحتى علمهم بما حدث. ولا تقتصر التهمة على "القبيلة" المعنية، بل كذلك كل القبائل التي لم تعلن انحيازها غير المشروط لعشيرة بني يسار من قبيلة آل ليبرال ذات الحسب والنسب، وتلك التي قصرت في حماية فارسها القتيل كليب وائل، لا بد أن تصبح هدفاً للانتقام.
وبحسب اعتقادي –وبعض الظن إثم- فإن للدولة في تونس تاريخ عريق يرجع إلى قرون قبل الميلاد، ومكانتها أصبحت راسخة ومحترمة، ورحم الله الأغالبة وخير الدين التونسي. وإذا كانت هناك بقايا من ترسبات قبلية، فإن من ينسبون أنفسهم إلى الحداثة والتقدمية لا بد أن يدعوا البراءة منها ومن عصبياتها الجاهلية، ويكونون بالمقابل من الداعين إلى احترام سلطة الدولة وحكم القانون، والرافضين لدعاوى نشر الفوضى وتهديم بنيان الدولة. ولكن يبدو أن الغرض يعمي. فحداثة تونس المفترضة على ما يبدو هي حداثة داحس والغبراء، وتقدمية البسوس. لأنهم سارعوا إلى استغلال حادث أجمعت القوى السياسية على إدانته بأخس الطرق لتهييج الغوغاء وإثارة المشاعر، طمعاً في مكاسب سياسية لن ينالوها.
ولعل المدهش هو أن إسلاميي حزب النهضة في تونس أصبحوا هم وحلفاؤهم في الحكم، االليبراليين والتقدميين الوحيدين، بينما تحول من يسمون أنفسهم أنصار الحداثة والدولة المدنية إلى دعاة الردة إلى عصر ما قبل الدولة. ولكن المشكلة أعمق من ذلك، فبافتراض أن استراتيجية هؤلاء البسوسيين نجحت، وتم تقويض أركان الدولة والقضاء على المسار الديمقراطي كما حدث في سوريا ويخشى أن يقع في مصر إلا أن يتغمدها الله بلطفه، فهل سيكون اليساريون هم الرابحين من هذه الردة؟
إن أفضل ما يمكن أن يحصل عليه هؤلاء هو عودة جزئية لدولة بن علي كما تم بعث دولة مبارك من القبور في مصر، فهي تترنح مثل جثة تمشي على قدمين، قبل أن تنهار على رأس الجميع. ولكن ليذكر هؤلاء أن دولة بن علي وقبله دولة بورقيبة الاستئصالية سادتا في تونس غير منازعتين لأكثر من نصف قرن، فكا حصادهما حكومة من نفس القوى التي أخبرنا أكثر من مرة أنها استئصلت. ولعل السعي إلى بعث دولة بن علي من جديد تذكرة بأن كثيراً من أدعياء اليسارية والليبرالية كانوا من أنصار بن علي وبورقيبة، وبعضهم كان من وزرائه، وكثير منهم كان من المطبيلن ومن شهداء الزور على التعذيب والقمع. وقد عرف الشعب التونسي ذلك عنهم فأصدر فيهم حكمه الانتخابي العادل بالنفي والتغريب، وقد يتحول الحكم إلى الإعدام السياسي إن عادوا ولم يعلنوا توبتهم.
ولن تكون هناك ديمقراطية حقيقية في تونس ما لم تتم مساءلة سياسية وقانونية لرموز العهد السابق، وفضح من ساندوا الدكتاتورية من قبل بذرائع شتى، ويريدون اليوم استعادتها وإسقاط إرادة الشعب عبر نشر الفوضى وتحدي المؤسسات الشرعية المنتخبة. ولعل اغترار هؤلاء بوجود تيارات داعمة للثورة المضادة تقودها دويلات انتحارية تعتقد أنها تستطيع في نفس الوقت أن تشن الحرب على شعوبها هي، ثم على بقية الشعوب العربية وقبل ذلك وبعده على إيران وحلفائها، هو حماقة مثل حماقة تلك الدويلات التي تجلب على نفسها الانهيار بمغامرات كانت في غنى عنها. ولكن من يرد الله هلاكه فلا راد لحكم السماء في شأنه.
هناك إجماع دولي نادر على أن تونس قد تكون الدولة العربية الوحيدة التي تحظى بنظام حكم ديمقراطي حقيقي. فالحكومة القائمة في تونس ليست منتخبة ديمقراطياً فحسب، بل إن ممارساتها ديمقراطية بامتياز. وبخلاف ما حدث في مصر، فإن الإسلاميين في تونس لم يجنحوا إلى الانفراد بالسلطة، وإنما جعلوا من المشاركة والائتلاف سياسة، ومدوا أيديهم مراراً إلى المعارضة داعين إياها للمشاركة في السلطة. ولكن غلاة المعارضين رفضوا العروض تحديداً لأنهم غير ديمقراطيين ولا يقبلون الرأي الآخر، ولأنهم مغترون بأن مقاطعتهم ستضر بالحكومة، وهو وهم قاتل.
إن ما حدث في مصر من استبدال للديمقراطية بنظام يجمع بين حكم الغوغاء والبلطجية ودكتاتورية أجهزة أمن الرئيس المخلوع لن يتكرر في تونس، وهو على كل حال ليس مما يسر الناظرين. ولا شك أن من مصلحة الأقلية العلمانية في تونس الا تسود الفوضى في البلاد أو أن تتحول إلى صومال أخرى، لأنهم سيكونون أول ضحايا انهيارالدولة وتفككها. وهناك مصلحة للجميع في التعاون مع الحكومة الديمقراطية المنتخبة لإكمال المسار الديمقراطي عبر الطريقة السليمة الوحيدة المتاحة، وهي إقرار الدستور ثم أجراء انتخابات حرة يكون فيها التنافس القبلي متاحاً على طريقة سوق عكاظ وليس بحسب سنة داحس وغبراء. عندها تعرف كل قبيلة مكانتها، وكل عشيرة موقعها من الإعراب، ولكن بدون أن تتعرض هذه القبيلة أو تلك للإبادة كما أبيدت قرطاج من قبل لأنها انخرطت في مغامرة كانت في غنىً عنها.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]