قد تتعثر الثورة قبل أن تنتصر
صحيفة التيار 12 سبتمبر 2020
ما اعترى ثورة ديسمبر العظيمة من تعثُّر أمرٌ متوقع. وكل من قرأ تاريخ الثورات في العالم يعلم أن الثورات لا تتبع خطًّا مستقيمًا صاعدًا، يسير بوتيرةٍ منتظمةٍ حتى تبلغ غاياتها. فالثور تنشب، بطبيعتها، ضد نظام فاسد وصلت درجة الفساد فيه حد إشعال شرارة الغضب الشعبي العام. والثورةُ حين تُحدث التحول المتمثل في اجتثاث رؤوس النظام القديم، تواجهها مهمة تفكيك بنيةٍ ضخمةٍ فاسدةٍ، لا يمثل رؤوس النظام المُجتث فيها، سوى قمة جبل الجليد. ويقدم نظام الانقاذ المؤدلج المتمسِّح ظاهريًا بالإسلام أوضح النماذج للأنظمة الكليبتوقراطية التي تعمل بطبيعتها على سرقة سلطة القرار في الدولة واستخدامها في شفط مواردها وضخها في مجاري لا تقع تحت عين الشعب وأجهزته الرقابية المفترضة. بالإضافة إلى ما تقدم، لا يصمد أي نظام حكم شمولي من غير أن تكون له حاضنةٌ ذات شقين؛ شقٌّ رسميٌّ وآخر شعبي. ويتجه النظام الفاسد إلى السيطرة على الشق الرسمي باستمالة الأجهزة الأمنية؛ من جيش ومليشيات وقوى أمنية من مخابرات وشرطة وإشراكها في الثروات المسروقة، حتى تصبح صاحبة مصلحة في بقائه، ومدافعةً عنه.
أما في الشق الشعبي، فيسعى النظام الشمولي لخلق حزبٍ وحيدٍ يسخِّر له الموارد ليتغلغل في مفاصل الدولة وأركانها. بل وليتوسع بالتضييق على كل التنظيمات التاريخية؛ سواءً كانت أحزابًا سابقة لمجيئه أو نقابات أو منظمات مجتمع مدني، وغير ذلك. اعتمدت أنظمة اليسار العروبي المنقرضة على أحزاب البعث في سوريا والعراق. وخلق نظام عبد الناصر في مصر الاتحاد الاشتراكي ليعتمد عليه. وهو ذات النموذج الذي اتبعه نظام جعفر نميري في السودان. أما نظام معمر القذافي في ليبيا، فقد اخترع ما أسماه اللجان الثورية. وأوجدت الإنقاذ ما أسمته حزب المؤتمر الوطني. تقوم هذه الأحزاب الكرتونية، معتمدةً على استثمار نزعة المصالح الفردية وسط المؤمنين بأيديولجيتها، ومن يلف حولهم من سياسيين انتهازيين، بالتغلغل في سائر القوى الاجتماعية، فتستقطب الانتهازيين في الأحزاب القائمة، مستخدمةً قوة المال. وبسبب تأثير الدين القوي على الجمهور، تركز الأحزاب الشمولية ذات الطبيعة الدينية على اختراق الناشطين في الحقل الديني؛ من أئمة ووعاظ شيوخ للطرق الصوفية، الذين اعتادت أكثريتهم الوقوف إلى جانب الحاكم حفظًا للأملاك والجاه المتوارثين. يجري ربط كل هؤلاء عضويًا بالنظام الشمولي القائم، عن طريق خدمة مصالحهم المالية واستغلال حرصهم على الوجاهة الاجتماعية. فيصبحون، بالضرورة، مدافعين عن الشمولية كارهين زوالها. وحين تهدد الثورة هذه المنظومة الفاسدة، تتعاضد مع بعضها، وتعمل بكل ما أوتيت من قوة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
يمكن أن نضيف إلى كل هذه الفئات التي جرى ذكرها فئة "سارقي الثورات". وهؤلاء فصائل عدة يُحسبون ضمن فئة الثوار. خطر هؤلاء على الثورة لا يقل عن خطر أولئك. فبنيتهم العقلية لا تختلف في انتهازيتها عن بنية عقول أولئك. بل إن باطل هؤلاء يشبه الحق، ما يجعل اكتشافهم يأخذ وقتا. لكل ما تقدم، لا ينبغي أن نظن أن الثورة تسير نحو أهدافها في طريق مستقيم صاعد بصورة متسقة. فالحرب في الثورة، أي ثورة، تجري على عدة جبهات. ويقتضي كسب تلك الحرب صبرًا جميلاً ومثابرةً، ووقوف الثوار متحدين على أمشاط أصابعهم، إضافة إلى تحليهم بعزيمة أنبياءٍ مرسلين. من يتأمل بعمق ما ظل يجري عبر العام المنصرم يتضح له، وبجلاءٍ شديد، أن بنية عقل جسد المصالح الضخم، النقيض للثورة، يمكن أن تنطبق على فصائل الثورة نفسها، مثلما تنطبق على نقيضها الذي تحاول كنسه.