قراءة في تداعيات مؤتمر برلين (2): مفارقات مجتمع المانحين: مقاربة مع سخاء مؤتمر بروكسل
(1)
في الثلاثين من يونيو المنصرم، أي بعد خمسة أيام فقط من انعقاد مؤتمر شركاء السودان في برلين، نظّم الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة مؤتمراً للمانحين حول مستقبل سوريا ومساعدة اللاجئين السوريين، وأسفر المؤتمر الذي استضافته العاصمة الأوروبية بروكسل بمشاركة 80 دولة ومنظمة عن تعهد المانحين الدوليين بتقديم 7,7 مليار دولار، وأعلن المفوّض الأوروبي لإدارة الأزمات يانيز لينارتشيتش عقب المؤتمر أن 5,5 مليار دولار من هذه التعهدات مخصصة للعام 2020، ومليارين ومئتي مليون دولار إضافيين للعام القادم.
وأعلن جوزيف بوريل نائب رئيس المفوضية الأوروبية، المفوض الأعلى للسياسة الخارجية والأمن، أن الاتحاد الأوروبي أسهم بـ 2,6 مليار دولار، أي بنسبة 30% من هذه التعهدات مشيراً إلى مجمل المساعدات التي قدمها الأوروبيون للسوريين منذ اندلاع الصراع في العام 2011 التي تربو على 20 مليار دولار. واللافت في كلمة المسؤول الأوروبي الرفيع في افتتاح المؤتمر الافتراضي أنه لم يشترط لإعادة تطبيع العلاقات السورية الأوروبية سوى موافقة الرئيس بشار الأسد على الدخول في حوار وعملية سياسية مع المعارضة لحل الأزمة.
(2)
ما أن يطلع منشغل بأمر السودان وعلاقاته مع شركائه الدوليين التي يسمع حولها الكثير مما يُقال عن متانتها والالتزام بدعم التحول الديمقراطي والحكم المدني، ما أن يطلع على هذه المعلومات الواردة في هذه المقدمة حتى يبرز إلى ذهنه تساؤل كبير محيّر، ما الذي يجعل مؤتمراً للمانحين ترعاه الجهتان الدوليتان الأكثر نفوذاً، الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، يخرج بهذه التعهدّات الضخمة، دون ضوضاء أو احتفالات، دعماً لمستقبل سوريا ومساعدة اللاجئين، مع الإشارة إلى أن المانحين الدوليين قدموا عشرات المليارات من الدولارات منذ أن تفجّرت أزمتها، ثم يخرج مؤتمر دولي ترعاه المنظمتان نفسهما بنتائج متواضعة لدعم “التحوّل الديمقراطي” في السودان لا يتجاوز 1.8 مليار دولار، أي نحو ربع حجم تعهدات مؤتمر بروكسل، مع كل المظاهر الاحتفالية والدعائية التي حفت بمؤتمر برلين؟ فهل هذا قدر السودان وثورته وتحوله الديمقراطي المرتجى عند المجتمع الدولي، ولا يسوى عنده أكثر من هذا؟
(3)
لا نأتي بهذه الحقائق المجردة للمقارنة، والمقاربة بين الحالتين السورية والسودانية، بقصد التبكيت على الحكومة الانتقالية أو توجيه انتقاد أعمى من أجل الانتقاد بلا معنى، ولا بغرض إفساد فرحة من ابتهج من السودانيين لمجرد وقوع الحدث دون قراءة فاحصة لدلالاته وجدواه على صعيد خدمة قضية الانتقال والتحوّل الديمقراطي بعد ثورة ديسمبر المجيدة، بل لنقدر لخطواتنا موضعها من الوعي بحقائق الأمور كما تحدث فعلاً على أرض الواقع، وليس كما نتمنى لمجرد الإطراء والوعود المتواضعة من قبل “الشركاء الدوليين، حتى نتحسب ببدائل وطنية حقيقية مهما كانت صعبة، حتى لا نقبض ريح الرهان على الخارج.
(4)
قد يجد المرء عذراً لغمار الناس إن أسسوا أحكامهم في أمور بالغة التعقيد بطبيعتها وخارج تجاربهم وخبراتهم على نزعة انطباعية عاطفية وروح تفاؤل بظواهر الأشياء وليس بجوهر حقائقها، ولكن ليس وارداً البحث عن أعذار لمن يقومون بمسؤولية رجال الدولة، من صناع السياسات ومتخذي القرارات المصيرية، وذوي الخبرات والتجارب في مجالات الاقتصاد، والدبلوماسية، والعلاقات الدولية وما اتصل بها من صناعة الرأي العام أن يتغاضوا عن مقتضيات النزاهة والاستقامة في التعامل مع قضايا الشأن العام بما يصلح حقيقة لإخراج الشعب السوداني من المأزق الاقتصادي والسياسي الموروث، ومواجهة تعقيدات الأوضاع بمعطيات موضوعية، وليس باستسهال السباحة في تيار بيع الأحلام لحصد شعور زائف بارتياح شعبي لـ”إنجاز” سرعان ما يكتشف الشعب في ساعة الحقيقة الوشيكة أنه بيعت له أوهام وقبض الريح “ولات ساعة ندم”، ومهمة الإعلام ودوره بث الوعي والحث على اجتراح البدائل الوطنية، وليس التعتيم وتغطية الحقائق مهما كانت مرّة.
(5)
نعود للمقاربة بين مؤتمري بروكسل وبرلين، ولماذا بدا المانحون كرماء إلى هذه الدرجة في شأن مساعدة الوضع في سوريا ولاجئيها بلا شروط سوى الدخول في عملية سياسية، ولماذا أظهروا كل هذا الشُح في شان ما يحرصون على وصفه بدعم “التحول الديموقراطي في السودان”؟ وأبادر إلى القول بأن هذا الاختلاف البيّن في التعامل مع الحالتين لا يتعلق بكون مجتمع المانحين الدوليين يحب السوريين أكثر، أو لأن السودانيين ليسوا على المستو ى نفسه من المكانة في نفوسهم.
في الواقع فإن القاعدة التي يبني على أساسها “صُنّاع القرار الدولي” مواقفهم في الحالتين تبقى واحدة تحكمها معطيات عقلانية غرضها خدمة أجندة “المصالح الاستراتيجية”، وفق معادلة تخاطب توازنات مصالح هذه الدول حسب مقتضى الحال، وبالتالي فإن حجم التجاوب مع المساعدات المطلوبة في كل الحالتين لا علاقة له بأي اعتبارات مجردة “عاطفية”، أو “إنسانية”، أو شعارات فضفاضة “تحول ديموقراطي”، صحيح أنها حاضرة على نحو ما في خلفية المشهد، ولا تخلو من نية حسناً، ولكن في نهاية الأمر ليست هي العامل المرجّح في اتخاذ القرار الذي تحكمه اعتبارات موضوعية بحتة تتعلق بمدى نجاعتها في تحقيق “المصالح”، وليس في ذلك ما يدعو للاستغراب أو الاستنكار، فالعلاقات الدولية تقوم على قاعدة خدمة المصالح وفق نظرية الأمن القومي الوطنية، وكلما زاد وزن الدولة، أو تشاركت مجتمعة مع غيرها، في موازين القوى كلما كانت أقدر على خدمة أجندتها وخدمة مصالحها، أما المساعدة التي تقدم من أجل المساعدة فهذه تصلح في إدارة العلاقات الإنسانية، ولكن لا وجود لها في معايير العلاقة بين الدول.
(6)
حظيت قضية اللاجئين السوريين بما يبدو كرماً حاتمياً من مجتمع المانحين لسبب بسيط يتعلق بهذه المعادلة المشار إليها أعلاه ذلك أن إفرازات الصراع السوري تشكل تهديداً للأمن والاستقرار في المنطقة كما أن تبعاتها الإقليمية تتقاطع بصورة مباشرة مع معادلات الأمن الغربي عموماً والأوروبي على وجه الخصوص، لذلك أنفق مجتمع المانحين عشرات المليارات من الدولارات خلال السنوات القليلة الماضية على تعزيز الأمن الصلب لحلفائه في المنطقة من خلال دعم الحرب ضد داعش، وعلى تثبيت الأمن الناعم في مساعدة اللاجئين السوريين والدول المستضيفة لهم ليبقوا تحت السيطرة بعيداً عن النزوح إلى أوروبا، وليس سراً أن تركيا مثلاً ظلت تستخدم مسألة اللاجئين كورقة ضغط على الاتحاد الأوروبي، والشاهد في هذا المثال دون الدخول في تفاصيل أن خدمة أجندة مصالح عواصم القرار هي التي تحدّد وزن أي قضية في معادلات حسابات الاستراتيجية وحدود دعمها.
(7)
وللسبب نفسه جاء حجم المساعدات الذي قررته عواصم القرار الدولي في مؤتمر برلين لدعم “التحوّل الديمقراطي” في السودان متواضعاً وضئيلاً متناسباً مع وزن الحالة السودانية في حساب مصالحها الاستراتيجية، دون أن يعني ذلك بالضرورة أنه سيتناسب مع حجم التحديات الاقتصادية البالغة الخطورة التي تواجه الحكومة المدنية وتشكل تهديداً جدياً لفرص نجاحها وبالتالي قدرتها على عبور الفترة الانتقالية، ولا متناسباً مع حجم التوقعات التي بنت عليها الحكومة الانتقالية رهاناتها استناداً على وعود المجتمع الدولي لدعم السودان التي لا تعدو أن تكون مليئة بالكلمات المعسولة، محدود المنافع كما سنبين لاحقاً، ليعكس الوزن الحقيقي لهذه القضية ومحدودية تأثيرها في حسابات مجتمع المانحين الدولي، ولذلك كان طبيعياً أن يتم التعامل معها في هذا الإطار المحدود لا سيما وقد أبدى السودانيون سعادة بالقليل الذي حصلوا عليه.
(8)
ربما لم يكن هذا الأمر ليحتاج إلى اهتمام أكثر من حجمه الواقعي، والتعامل معه في إطاره الموضوعي، لولا التصورات الخاطئة المدفوعة بـ”تفكير رغبوي” وأحاسيس لا تخلو من مبالغة في الزهو والتي تجعل من هذه الخطوة المحدودة الأثر تبدو وكأنها فتحاً مبيناً، ليس فحسب، وبل وتبني عليها آمالاً عريضة وبناء قصور من رمال في سفر الخروج من الوضع المأزقي الراهن لن تلبث أن تتداعى تاركة وراءها آثاراً بالغة التعقيد اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً ستبدّد رأس مال التغيير وفرصته الكبيرة في إنجاز المهام الكبيرة لثورة ديسمبر المجيدة.
وما كان الأمر ليحتاج إلى كل هذا التنبيه والتحذير من مغبة عواقبه لو أن هذه الحالة الاحتفالية اقتصرت على سواد الناس، ولكن الخطورة تكمن في أن من بيدهم صنع السياسات واتخاذ القرارات، وهم مدركون بلا شك لمحدودية تأثير مردود مؤتمر برلين في معالجة الأوضاع الاقتصادية البالغة التعقيد، ولكنهم آثروا التصرف على هذا النمط الاحتفالي نفسه على حساب استحقاقات المسؤولية وأخذها بحقها على أساس الشفافية والوضوح ذلك أن استدامة الوضع الراهن المأزوم مستحيلة، كما أن الرهان الجوهري الذي بنوا عليه حسابات سياسات وإدارة الاقتصاد تلقى ضربة موجعة في مؤتمر برلين الذي لم تتضمن مجالات دعمه المحدودة أي دعم لسد العجز الكبير في الموازنة، أو لميزان المدفوعات.
(9)
ظللنا نطرح سؤالاً محورياً في أكثر من مقال، هل المجتمع الدولي جاد حقاً في دعم الحكم المدني، كيف ومتى وإلى أي مدى، وما هي دلالة ذلك؟ وهل في سيرة تعامله مع السودان منذ نجاح الثورة في تغيير النظام السابق ما يقوم دليلاً عليه؟ لا نطرح هذا التساؤل من باب الأهمية الاستراتيجية في حسابات عواصم صناعة القرار الدولي التي أشرنا إليها آنفاً، فهي لا شك تتصرف بما يتسق وحدود مصالحها بالضرورة مما لا يحتاج إلى سؤال، ولكن نطرحه في سياق ما أسميه بحالة “الدعم البلاغي” المبالغ فيه من قبل المجتمع الدولي في إظهار الوقوف إلى جانب الثورة السودانية الثالثة، والحرص على نجاح الحكم المدني والتحول الديمقراطي، ولكن عندما تأتي لفحص مدى الالتزام بذلك بعرضه على منهجية ولاية ميسوري “أرني”، لا تجد ما يقف عليه شاهداً بقدره في أرض الواقع.
(10)
ولحسن حظ عواصم القرار فقد أغناها عن دفع استحقاقات “تعهداتها البلاغية” تبسّط المطالب السودانية، ولا شك أنها درست نفسية “المزاج السوداني” وأدركت عدم تطلّبه وكيف تكفيه، للمفارقة سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي، ذكره محاسنه العديدة والثناء عليه، وهو أمر يستحقه بلا شك، ولكن يبقى مما يصلح في شأن العلاقات الإنسانية، ولكن روح المجاملة بالطبع مما لا يصلح على الإطلاق في إدارة شأن الدولة، وهو داء قديم في جسد سياسات السودان الخارجية مما أفقده مصالح بالغة الحيوية لا يتسع المجال للحديث عنه هنا.
ولذلك تأتي هذه الكتابات للتنبيه بقوة لمكامن النقص والتماس البدائل، والمطلوب أن نحلل بموضوعية “موقعنا من الإعراب” في معادلات المصالح الاستراتيجية لـ “شركاء” السودان الدوليين وحدود ما نتوقعه منها وتأثيره حتى لا نقع ضحية أوهام سياسة خارجية كثيرة المظاهر الاحتفالية، قليلة المنافع الفعلية حتى لا نكتشف بعد فوات الأوان أننا نتدبر اقتصادنا بذهنية “عبد القادر وقزازة السمن.
khalidtigani@gmail.com