قراءة نقدية في قصيدة (يا رشا يا كحيل) للشاعر صالح عبد السيد

 


 

 

كنا قد نشرنا قبل أسابيع مقالاً عن هذه الأغنية جاء تحت عنوان (كلمات استعصت على المغنيين من أغنية يا رشا يا كحيل) وتركز حديثنا عن نطق المغنيين الخاطىء لكلمتي (يغوص) و(مثاني) والتي ينطقونها (يبوس) و(مساني).
بعد نشر المقال مباشرةً عنت لنا العديد من الإضاءات والمقاربات المفيدة. فرأينا أن نقوم بتحليل لمجمل مفردات ومعاني الأغنية وأن نقارن بين المعاني الواردة في القصيدة وما ورد بقصائد أخرى للشاعر.
كذلك أجرينا مقاربات نقدية بين معاني هذه القصيدة وبين ما ورد عند شعراء آخرين منهم عمر البنا وسيد عبد العزيز. لكل ذلك رأينا أن نعيد تحرير المقال ونشره تحت هذا العنوان الجديد.
نقول إن أغنية (يا رشا يا كحيل) من القصائد الجياد لشاعر غناء (الحقيبة) المفلق، صالح عبد السيد (أبوصلاح). وقد لحّن هذه الأغنية وشدا بها مطرب الحقيبة الكبير (كرومة) ولكن للأسف لا يوجد له تسجيل محفوظ له منها. يقول مطلع الأغنية:

يا رشا يا كحيل غيثني/ الهوى سباني

الرشا الكحيل ولد الغزال أو الظبي كناية عن المحبوب. والمعنى أن الشاعر يستنجد بالمحبوب أن يغيثه أي (يلحقه وينجده) فقد سلب الحبُ عقله. يقول في المربع الأول من القصيدة:

الأمرضني وما طبّاني/ في خديدك يلوح نور باني
نيران أشواقك لهباني/ وسهام ألحاظك ناشباني
ومن ضمن الحالة التاعباني/ مهضوم كشحك وصدرك باني
يتهادى يميل خصرك فريع باني

يقول إن الذي أعياه ولم يداوه، خدود الحبيب التي يشيع منها نور رباني، وسهام عيونه ونظراته الجارحة، إضافة إلى خصره الناحل وصدره الطالع، وكل ذلك يشعل في بدنه نيران الشوق التي ما تنفك تحرقه بلهيبها.
والكشح جنب الإنسان الذي يقع في المسافة ما بين الضلوع والخصر، والكشح المهضوم أي الرقيق الناحل، والخصر الناحل المضمر من مقاييس الجمال عند شعراء الحقيبة. وكلمة (باني) في قوله: "وصدرك باني" من البناء بمعنى نابت لتوه (طاعن) أي (النهد). وهذا المعنى كان قد عبّر عنه الطنباري الكردفاني الجامعي في أغنية (ما دوامة، الدنيا ما دوامة) بقوله: "النهيد الطاعن دابا/ جنني وجنن العزابة".
وأما (باني) الثانية في قوله: "فريع باني" يقصد بها غصن شجر البان، فهو قد شبّه قامة المحبوب بفريع البان بما في الكشح والصدر والخصر. والياء في "باني" أصلها كسرة لأن بانِ مجرورة بالإضافة، فجرى إشباع الكسرة فولدت ياءً ولذلك نطقت وكتبت (باني). والأصل أن تكتب (فريع بانٍ).
وكما ترى هناك جناس تام بين كلمتي (باني) الأولى و(باني) الثانية. والجناس التام هو أن تأتي بكلمات متحدة في اللفظ مختلفة في المعنى.
وكان الشاعر والمغني عمر البنا قد جارى أبا صلاح في هذا المعنى بقصيدة (زيدني في هجراني) بقوله:

مال فريعك باني/ فيه بدر وظلمة وفيه رِدفاً باني

والمعنى مالت قامتك الرشيقة كما يميل فرع البان. وهذه القامة الرشيقة يزينها وجه كالبدر وعيون سود كظلام الليل ورِدف في بداية نموه (باني يا دوووب). أيضا يوجد هنا في قول عمر البنا، جناس تام بين كلمة (باني) نسبة لشجر البان وكلمة (باني) بمعنى نامي أي في بداية نموه.
ونحن لا ندري مَن أخذ هذا المعنى مِن مَن؟ ومعلوم أن صالح عبد السيد وعمر البنا قد ابتدأ مشوارهما الفني في وقت واحد. وكان عمر البنا يغني قصائد (أبو صلاح) قبل أن يسطع نجم (كرومة) فيما بعد.

يغوص وليس يبوس:
لفت نظرنا أن هنالك كلمات بالأغنية استعصى فهمها ونطقها على المطربين الذين تتوفر تسجيلاتهم الآن بما في ذلك تسجيل (أولاد شمبات)، كما استعصت هذه الكلمات على مطربي الشباب في الوقت الحاضر. تقول الأغنية بالمقطع الثاني وفقاً لما هو متداول الآن غناءَ وكتابةً:

مِن شُفتَ الحسنَ الفتاني/ قلبي ترحّل ووجدي أتاني
مالَ جيش حبك عتّاني/ بسهامه الما بتختاني
مالَ صدرك لحشاك تاني/ وكتفك مالَ بو فريع بستاني
يتّكل في دروعه يبوس تاني

هنا في قفلة هذا المقطع (البيت الأخير) ترد كلمة (يبوس) وهي كلمة غريبة في هذا السياق. فالشاعر يصف هنا القامة بفريع البستان أي أنه يشبه قامتها بغصن البستان في الرشاقة والتثني والميسان، لذلك هذه القامة تميل بالكتف والصدر اليانع، فكيف (تبوس) القامة الكتف والصدر؟
الحقيقة أن مجمل المعنى في البيتين الأخيرين من هذا المقطع، في رأينا، هو أن القامة (فريع البستان) أمال الصدر (النهود) كما يميل الغصن بالثمر اليانع وأمال أيضاً بالكتف الذي يتّكل (يستند) في دروعه. والدروع هنا الثياب والهدوم. والمعنى أن الصدر وكذلك الكتف تارة ينكشف وتارة يختفي خلف الثياب.
وأصل الدرع في اللغة قميص المرأة، وقد استعير اللفظ للسترة التي يلبسها المحارب وقايةً من السلاح فسميت درع أيضا. يقول الشاعر الجاهلي المخضرم الأعشى (صناجة العرب) في قصيدته الخالدة:

ودِّع هريرةَ إنّ الـــركـبَ مرتحـــــــلُ
وهل تطيقُ وداعـــــاً أيهـــــا الـــرجـــــــلُ
غـــــراءُ فــــرعاءُ مصـــــقولٌ عوارضها
تمشي الهوينا كما يمشي الوجِي الوحِلُ
كأن مشـــيتها مــــن بيت جـــــــارتها
مــــرُّ الســــــحابةِ لا ريثٌ ولا عجـــــلُ

إلى أن يقول:
صِفرُ الوشاحِ وملءُ الدرعِ بهكنةٌ
إذا تأتى يكاد الخصـــــر ينخــــزلُ

قوله (ملءُ الدرع) الدرعُ القميص أو الفستان بلغة اليوم أي أن جسدها يملأ قميصها دلالة على كونها ممتلئة في غير ما ترهل ولكن خصرها نحيل إذ يكاد ينفصل عن جسدها من شدة التثني. وهذه مقاييس جمال المرأة في ذلك الزمان. وهي كذلك مقاييس جمال شعراء الحقيبة للمرأة، فعندهم شرط جمال المرأة الممتلئة العود (غير السمينة)، نحافة الخصر (الضمير) إلى جانب رشاقة القوام.
إذاً كلمة دروع الواردة في قول أبي صلاح يقصد بها الثياب على النحو الذي تقدم. وقد استعمل أبو صلاح كلمة دروع في معنى الثياب في قصيدة أخرى هي رائعته (جوهر صدر المحافل) حيث يقول:

يا المـــرنوع لكتفــــهُ هــــــادلْ
في دروعهُ لمعاصمهُ جادلْ

المرنوع اللّدِن، وقوله: (في دروعه) يقصد بها في ثيابه. والمعنى أن المحبوب يلف (يجدل) معاصم يديه بطرف ثوبه. كأنه يغطي بذلك أطراف يديه بالثوب كما تفعل النساء دائما بقصد أو دونما قصد. وهذه الصورة تؤكد لنا أكثر أن الكلمة محل الجدل ليست (يبوس) وإنما (يغوص) أي أن الصدر وكذلك الكتف بعد أن تنكشف عنه الثياب، يعود ويغيب (يغوص) مرة أخرى في الثياب.
ومعلوم عندنا أن الثوب السوداني (زي المرأة) ينحسر عادةً عن الرأس والكتفين والصدر رغما عنها وتعمل المرأة جاهدة طول الوقت على إرجاعه لتغيطة هذه الأجزاء من جسمها. ونحن لا ندري ما إذا كان (كرومة) المغنى الأول للأغنية ينطق هذه الكلمة (يغوص) وذلك لأنه لا تتوفر تسجيلات بصوته لهذه الأغنية (لتحري الدقة لم نتهد إلى تسجيل بصوته) غير أن كل المغنيين من بعده والذين تتوفر لهم تسجيلات متداولة ينطقونها خطأً (يبوس) بمن فيهم (أولاد شمبات).
هذا، ومثلما استعمل الشاعر الجناس التام في كلمتي باني، في قوله(صدرك باني) وقوله (فريع باني) نجده قد كرر هذه الخاصية البلاغية في قوله:

مالَ صدرك لحشاك تاني/ وكتفك مالَ بو فريع بستاني
يتّكل في دروعه (يغوص) تاني

تأمل الجناس التام في كلمتي (تاني) في قوله (لحشاك تاني) وفي قوله (يغوص تاني). والجناس التام كما سبقت الإشارة هو أن تأتي بكلمتين متحدتين في اللفظ مختلفتين في المعنى. فأنت ترى أن (تاني) الأولى من الثني والانثناء. والأخيرة من (الثاني) أي للمرة ثانية، ابدلت الثاء تاء في كلامنا.

كلمة (مثاني) القرآنية:
هناك كلمة أخرى يخطىء المغنون في نطقها لا استثني منهم سوى (أولاد شمبات) وأحمد الجابري (له أكثر من تسجيل). وهي كلمة (مثاني) إذ يلفظها سائر المغنيين (مساني) بالسين. وتجدها مكتوبة في كل النصوص المطبوعة ورقيا وإلكترونيا للأغنية (مساني) بالسين. وقد وردت الكلمة بالبيت الأول من المربع الثالث بالقصيدة حيث:

لو للشعراء قصيد ومثاني/ ما بجيد وصفك غيرَ لساني
في فؤادي الحـــب مسّـــاني/ وأصــبح بهــواك وماسَـــاني
مــا يصــح منك تنســـاني/ لو غاب شخصك عن إنساني
غير شك أوصاف حسنك موانساني

تلاحظ بالبيت الثاني أن هناك تشابهاً بين كلمة (مسّاني) بآخر صدر البيت، وكلمة (ماساني) بآخر العجز. الأولى من المسّ، أي أن الحب قد مسّ قلبه. والثانية (ماساني) من المساء أي عاودني في المساء. والمعنى منذ أن مس الحب قلبه صار يصبح ويمسي ولهاناً.
وأما كلمة (مثاني) في قوله بالبيت الأول هنا: "لو للشعراء قصيد ومثاني" مفردة قرآنية تناصص معها الشاعر ليرمز بها إلى الوحي الشعري وإلى سدرة منتهى البلاغة. ويقصد بكلمة (مثاني) في القرآن النصوص والآيات المحملة بالأسرار الإلهية والإشارات العرفانية الدقيقة التي لا يتيسر فهمها وتأويلها إلا لأرباب البيان والفتوحات النورانية. يقول تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ) – الزمر 23.
ويقول تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) – الحجر 87.
ومعنى الشاعر هو أنه لو افترضنا أن الشعراء يوحى إليهم إلى جانب قدرتهم على قرض الشعر، فإنهم مهما أبدعوا من شعر وأجادوا في فن الوصف فإنهم لم يبلغوا مبلغ شعره في وصفها. وهكذا تتجلي براعة شاعرنا صالح عبد السيد في اصطياد شوارد الكلم للتعبير عن معانيه ورؤاه الشعرية.
وكان الشاعر المفلق سيد عبد العزيز قد جارى أبا صلاح في توظيف كلمة (مثاني) القرآنية وذلك في قصيدته (يا أماني جار بي زماني) حيث يقول سيد عبد العزيز:

من عيون الناس يا النساني/ في وداعة ربّ المثاني
يا الفريع الرمانُه تاني صدرُه/ يعلا ويرجح بو تاني

يقول أودعتك عند الله (رب المثاني) من عيون الناس يا مَن نسيتني. (النساني) أي الذي نسيني. كذلك جارى سيد عبد العزيز أبا صلاح في توظيف بلاغة الجناس اللفظي التام بين كلمتي (تاني) المكررة في كل من صدر البيت وعجزه. فكلمة (تاني) الأولى من الثني والانثناء و(تاني) الأخيرة بمعنى ثانيةً. والمعنى أن الشاعر شبّه قامة الحبيب بالغصن (الفريع) وشبّه النهود بثمر الرمان في ذلك الغصن، وأن القامة تميل بالصدر، فتارة يهبط، وتارة أخرى يرجح بالقامة فيعلو.
وهذا هو نفسه معنى صالح عبد السيد الذي توقفنا عنده أعلاه والوارد في قوله: "مالَ صدرك لحشاك تاني/ وكتفك مالَ بو فريع بستاني".
ويقول أبو صلاح بالمريع الرابع من القصيدة:

هبّتْ لي روائح داهشاني/ يا نسيم عقّب عود على شاني
قول ليه غرامك أغشاني/ وادركني الدمع الرشاني
الجمال شأنك والحب شأني/ يا نسيم روح بلغ وأغشاني
بحق من أنشاك وأنشاني

هنا تلاحظ أن كلمة (أغشاني) قد تكررت مرتين في هذا المربع من الأغنية. المرة الأولى بنهاية صدر البيت الثاني في قوله: "قول ليه غرامك أغشاني"، والمرة الثانية بنهاية البيت الثالث في قوله: "يا نسيم روح بلِّغ وأغشاني". ولا يخفي الجناس اللفظي التام بين الكلمتين وهو اتحاد في عدد الحروف وترتيبها. غير أن المعنى مختلف.
فكلمة (أغشاني) الأولى من الغشاوة بمعنى أن الشاعر أُغشِى عليه بسبب الحب الذي أفقده عقله. قال تعالى: (فاغشيناهم فهم لا يبصرون).
وأما (أغشاني) الثانية فهي بمعنى مُرْ عليّ، فهو يطلب من النسيم أن يمر بدياره ليحمله رسالة إلى المحبوب تحكي عن حالة الوجد التي هو فيها، ثم يطلب من النسيم أن (يعقب) مرة أخرى ليؤكد له أنه قد أوصل الرسالة إلى المحبوب. ويَغشَى في هذا المعنى فصيحة. يقول معجم لسان العرب: "غَشِيه يَغشاه غِشيانا إذا جاءه". يقول تعالى: "إذ يَغشَى السِّدرةَ ما يَغشَى".
نلاحظ أيضاً تكرار كلمة (شأن) في صدر البيت الرابع. وذلك في قوله: "الجمال شأنك والحب شأني". والمعنى أن المحبوب قد خُصّ بالجمال بينما خُصّ الشاعر بالحب. فلكل منهما شأن. وفي كتابة القصيدة، لا بد من إثبات الهمزة في كلمة (شأن) في الحالين، حتى لا تختلط الكلمة بالفعل (شان) يشين، فينقلب المعنى إلى النقيض. غير أنه لأغراض الأداء الموسيقي واللحني الغنائي يجوز تسهيل الهمزة أو إهمالها.

عبد المنعم عجب الفَيا
22 مايو 2021

 

abusara21@gmail.com

////////////////////

 

 

آراء