قرارات الدمار الشامل
د. حسن بشير
23 May, 2012
23 May, 2012
الجهة التي اتخذت القرار الخاص (بتعويم) الجنيه السوداني، لابد أنها راجعت أولا المقولة الشهيرة التي أثبتت المعطيات النقدية صحتها، والتي تقول "إذا أردت أن تدمر اقتصاد دولة ما فدمر نظامها النقدي". إلا أن الجهة المعنية أرادت، من حيث قصدت ام لم تقصد ، ان تجهز تماما علي ما تبقي من نبض في قلب الاقتصاد السوداني. الشيء الصحيح في قرار (التعويم)، هو ان الجنيه السوداني كان يبحث ، وهو في حالة الغرق التي يعاني منها، عن سباح ماهر يعلمه السباحة، في بحر اقتصادي عاصف عاتي الأمواج، إلا القرار ، بدلا من إنقاذ الجنيه، ادخله في لجة من الصعب الخروج منها.
بالطبع المقصود من (التعويم) هو تحرير سعر الجنيه وتركه لمقتضيات العرض والطلب للتخلص من التضارب والمفارقة في أسعاره بين الرسمي الذي يحدده بنك السودان المركزي والموازي في السوق الأسود. لكن السؤال المهم هو لماذا هناك سوق اسود؟ ولماذا لم يكن موجود في زمان العز البترولي؟ أليس السبب هو النقص الحاد في النقد الأجنبي وجفاف مصادره! القاصي والداني يعلم هذه الحقيقية. إذن من أين ستأتي الصرافات بالنقد الأجنبي اذا كان هذا غير متوفر بالبنك المركزي وبالتالي في مجمل الجهاز المصرفي؟ لابد ان الجهة التي اتخذت القرار قد تعاملت بعقلية تاجر ساذج اعتقد انه سيخدع الجمهور علي شاكلة ان الأكل بمطعمه غدا سيكون مجانا.
الخدعة حول التحرير الجنيه المراد منها الاستنتاج بان النقد الأجنبي سيكون متوفر ابتداءً من يوم غدا وبالتالي سندفع الناس الذين يملكون نقدا أجنبيا إلي إيداع ما لديهم من عملات بالبنوك. هذه الحيلة لم تنطلي علي احد، بل شجعت كثيرين كانت لديهم ودائع بالنقد الأجنبي لا يستطيعون الحصول عليها إلا بالجنيه السوداني، شجعتهم علي سحب تلك الودائع في شكلها الأجنبي قبل ان يجف حبر قرار (التعويم). أما الحكاية حول ان هناك جهة أجنبية قد تبرعت بملء خزائن البنك المركزي بالدولار فيبدو أنها لم تهم أحدا.
النتيجة هي تحريك سعر الجنيه الي مستوي السوق الأسود دون ان تتوفر الشروط الاقتصادية اللازمة لاستقرار سعر الصرف في ذلك الحد ومن هنا بدأ سباق التتابع الذي لا نهاية له، إلا بعودة الروح إلي الاقتصاد السوداني وانتعاشه وتحقيقه لنمو ومستدام، وهذا أمر من المؤكد انه لن يتحقق في هذا العام الذي سيشهد نموا سالبا.
أضيفت تبعات هذا القرار الأخير التي أثار التضخم المتصاعد والي ما ينتظر الناس من ويلات خاصة برفع الدعم عن الوقود. نعود في هذا الشأن الذي يسمي اصطلاحا برفع الدعم إلي التأكيد علي ان ما سيتم بشأن مشتقات البترول هو زيادة في الأسعار وليس رفع للدعم، علي الأقل من الناحية الاقتصادية. لماذا هذا القول؟ لان ما يسمي بالدعم، الذي يتم الحديث عنه في السودان، هو الذي يعرف بالدعم (المحاسبي) وليس (الاقتصادي)، لان قياس تكلفة الدعم تتم بطرح سعر تكلفة إنتاج المشتقات البترولية عن السعر المدعوم. ما دام سعر البيع المدعوم اعلي من سعر تكلفة الإنتاج (حتي وصول البنزين والجازولين إلي المستهلك)، فهذا يعني ان الحكومة تحقق أرباحا ولا تدعم. أما قياس التكلفة بناءا علي الأسعار العالمية فلن يكون اقتصاديا، إلا في حالة استيراد المشتقات البترولية من الخارج بالأسعار العالمية، وهذا لم يحدث حتى الآن، إذ لا زال الإنتاج المحلي يكفي حاجة الاستهلاك الداخلي.
من جانب أخر فان الشروط الاقتصادية اللازم توفرها حتى يكون رفع إي دعم مجدي من الناحية الاقتصادية فتتمثل في عدة نقاط أهمها: أولا ان يتم استخدام نظام الإحلال بمعني تحويل العبء من مجموعة من المستهلكين الي مجموعة أخري بشكل يعوض الخسائر في طرف ما بمكاسب في أطراف أخري، عبر توظيف الإيرادات التي تم الحصول عليها، بشكل يحقق توازن اقتصادي يمتص اي صدمات في الأسعار او اي خسارة في مكاسب عوامل الإنتاج ولا يؤثر علي معدلات النمو او القوة الشرائية للنقود بفعل ارتفاع معدلات التضخم. ثانيا أن يكون هناك نمو في الدخول الحقيقية للأفراد او القطاع العائلي يجعل الدخول قادرة علي تلبية الحاجات الأساسية . ثالثا ان تتبع الدولة سياسة اجتماعية عبر المدفوعات التحويلية وتوفير السلع والخدمات الاجتماعية عبر الإنفاق العام لتعوض فشل السوق . رابعا ان يكون القطاع الخاص متمتع بكفاءة في الإنتاج والتنافسية تمكن من التشغيل الكامل للطاقة الإنتاجية والاستخدام الكفء للموارد وتوليد فرص عمل جديدة، جميع تلك العناصر غير متوفرة في الاقتصاد السوداني، لأنه يمر بأزمة عميقة تستدعي العلاج، الذي يتطلب بدوره إجراءات سياسية في منتهي الصعوبة وتحتاج لشجاعة وعزيمة صارمة في اتخاذ القرار والمقدرة علي تنفيذه، وهذا ما تحدثنا عنه كثيرا ولن نعيد تكراره في هذا المقام.
في الظروف التي يمر بها السودان سيكون لكل من تعويم الجنيه ورفع الدعم اثأرا اقتصادية واجتماعية كارثية، ليس اقل فتكا من استخدام اسلحة الدمار الشامل. اقلها يتمثل في تدهور الدخول الحقيقية وتدني مستويات المعيشة وارتفاع معدلات الفقر, زيادة الفاقد التعليمي وتدني الرعاية الصحية, نقص مكاسب عوامل الإنتاج الأمر الذي سيؤدي في المستقبل الي نقص الإيرادات الحكومية علي مختلف مستويات الحكم – بشكل كمي ومن حيث القيمة الحقيقية- مما يقلل من كفاءة الأداء الحكومي المتواضع أصلا, ارتفاع تكاليف الإنتاج وبالتالي ارتفاع معدلات البطالة مع تدني القدرة علي توفير فرص عمل جديدة، تدني بيئة الاستثمار وزيادة الاعتماد علي القطاع التقليدي وغير الرسمي.
في هذه الحالة لا مناص من البحث عن فرص حقيقية لإنعاش النشاط الاقتصادي بتوفير متطلبات الاستقرار السياسي والاقتصادي وخلق بيئة ملائمة للاستثمار المحلي والأجنبي . نقول ذلك مع التأكيد علي ان الوقت الذي تم تحديده لرفع الدعم عن المحروقات والكهرباء في يناير القادم سيلحق ضررا مميتا بالمنتجات الزراعية سواء ان كانت في العروة الصيفية او الشتوية، ذلك لان يناير قريب من موسم الحصاد ومن المعلوم ان أسعار المنتجات الزراعية في ذلك الوقت لن تكون في أفضل حالاتها، كما ان الحكومة لا تتوفر لديها الموارد لدعم المنتجين الزراعيين وبالتالي فان إشعال موجة عاتية من التضخم سيدمر مكاسب المزارعين ويحولهم إلي جيوش من المعسرين.
لا مناص أيضا من تدخل بنك السودان المركزي وبشكل فوري في التأثير علي سعر صرف الجنيه السوداني عبر آليات نقدية فعالة والابتعاد عن الإمعان في وهم ان (التعويم) سيحل المشكلة لان هذا لم يحدث في اي بلد في العالم، فجميع بلدان العالم تتدخل في من اجل التحكم في عرض النقود وتحديد آليات سعر الصرف، وان لم يكن ذلك صحيحا فلماذا وجدت أدوات السياسة النقدية والتحكم في الجهاز المصرفي والسيولة وضبط القاعدة النقدية؟ هذه الأدوات تستخدم في أكثر الاقتصاديات تقدما ويزيد استخدامها في أوقات الأزمات.
أما عن بدائل مصادر تمويل الموازنة العامة التي يبحث عنها السيد وزير المالية فليبدأ أولا بتقليص مستحقات جيوش الدستوريين في المركز والولايات وليحاول تقليص عدد الولايات وجيوش الوزراء والمعتمدين والنواب والمسئولين الولائين الذين إن وجدوا في ايطاليا لتسببوا في انهيار اقتصادها. فليبدأ أيضا بمحاربة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة والمجنبة بشكل غير قانوني وعندما ينتهي من هذه المهمة، وقبل إعادة هيكلة تامة والوصول الي حكومة قومية تحظي بالقبول العام ، ستنهال عليه المقترحات بالبدائل، لكن دون القيام بذلك فلا جدوى من الحديث عن بدائل، الم نقل لكم ان الحلول سياسية لذلك هي في غاية الصعوبة؟
hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]
////////////