قصة الخرطوم -4- .. ترجمة وتلخيص : بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 




قصة الخرطوم The Story of Khartoum (4)

سي أي جي وولكلي C. A. J. Walkely

تقديم: هذا هو الجزء الرابع (والأخير) لترجمة مختصرة لمقتطفات قليلة من مقال نشر في العدد الثامن عشر من مجلة "السودان في رسائل ومدونات" الصادرة في عام 1935م، للكاتب سي أي جي وولكلي عن تاريخ الخرطوم. المترجم 
كان الأقباط يمثلون السواد الأعظم من الموظفين والعاملين في دوائر الحكومة. أتخذ هؤلاء الأقباط تدابير كثيرة لحماية عائلاتهم، فكانوا يحكمون إغلاق أبواب دورهم عند مغادرتهم لها عند الصباح، ويحملون معهم مفاتيح تلك الأبواب الخشبية الضخمة بمساميرها الحديدية، حيث لا يمكن فتح الأبواب من الخارج بغيرها. يقوم من يبقى في الدار من النساء والأطفال بإحكام قفل الأبواب الداخلية بالدار حتى عودة رب البيت عند المساء، حيث يقوم بإضافة قضيبين حديدين ضخمين يضعهما على الباب من الداخل شكل حرف X . لم تكن المفاتيح والأقفال الحديدة معروفة في ذلك الحين بعد. لازالت هذه المفاتيح الخشبية تستخدم في كثير من البيوت إلى الآن في أمدرمان (المقصود بالطبع عام 1935م. المترجم).
لم تكن الخرطوم في سنواتها الأولى مدينة صحية أو مريحة للعيش بها أبدا. لابد أن الحياة فيها للأوربيين كانت أمرا عسيرا قاسيا، فهبوبها عاصف، وحرها شديد، ومطرها غزير. ذكر فيردنارد فيرني أنه شهد في 31/8/ 1839م أعتى عاصفة هبوب ترابية شهدها في أفريقيا. اقتلعت تلك الهبوب البيوت وهدمت كثيراً من المباني، وأغرقت نحو 11 مركبا في النيل الأبيض. حكى عن أخوين كانا عائدين لمنزلما بعد أن كانا يسبحان في النيل عند هبوب العاصفة. وجدا كل غرفة في بيتهما مليئة بالماء، وظلا لساعات يجلسان فوق طاولة حتى انحسار الماء. كتب أوروبي آخر هو ليبسيوس عن هبوب عاصفة حدثت في عصر يوم 25 مارس من عام 1844م. كتب يقول إنها كانت "سحب طويلة سوداء من الرمال تبدو في الأفق البعيد كأنها حائط ضخم".
كان الحاكم العام في الخرطوم في عام 1839م هو "ابو ودان" ، وكان لا يطيق البتة سماع شكاوي الأهالي. يقف السوداني عنده ليشتكي من أمر ما، فيستمع إليه الحاكم في صبر إلى حين فراغه، ثم يأمره بالذهاب إلى الصراف ليستلم مبلغا من المال. يفاجأ المسكين عند الصراف بأن 500 قرش إنما تعني 500 سوطا! مات ذلك الحاكم في الخرطوم في أكتوبر من عام 1844م، ولا يزال قبره موجودا (وعليه قبة) في تقاطع شارع فيكتوريا مع شارع عباس (الآن عند تقاطع شارع القصر مع شارع البلدية. المترجم).
من نعم الله على الخرطوم وجود الطيور الجارحة (كالنسور) إذ كانت تتكفل بالتهام الحيوانات النافقة (وكذلك الجثث الآدمية أحيانا). كانت تلك الطيور أليفة إلى حد ما، ولا تطير بعيدا عندما يقرب منها البشر.
في عام 1848م وصلت للخرطوم أول بعثة تبشيرية (مسيحية) نمساوية، وكانت تتكون من الأب رايلو (وأصله من بولندا) ورجلين إيطاليين، وآخرين يسوعيين، ومعهما بعض الخدم. توفي الأب بعد فترة قصيرة من وصوله للخرطوم متأثرا بالحمى، بيد أن الآخرين بقوا، وسافر بعضهم في رحلات في داخل البلاد. تكاثرت من بعد ذلك وفود المبشرين المسيحيين الأوروبيين، بيد أن المرض والموت أثرا كثيرا على نشاط فرقهم. يجب ملاحظة صعوبة السفر من مصر إلى السودان في ذلك الوقت. فالرحلة للمحظوظ من المسافرين من القاهرة لأسوان تستغرق أسبوعا بالباخرة، وتأخذ الرحلة من القاهرة للخرطوم ما لا يقل عن 33 يوما.
كانت الأمور غريبة بعض الشيء في مكتب الحاكم العام، إذ أن الباشا كان الحاكم المدني والقائد العسكري في ذات الوقت. بلغ عدد جنوده وتابعيه وخدمه حوالي 20000 فردا، وكان يدير كل أمور البلاد في مختلف الشئون بمفرده. كان يرد إلي مكتبه ويذهب يوميا البريد في "جراب" جلدي محمولا على جمل، ويقوم على سكرتارية مكتبه خمسة رجال جميعهم محشورين في غرفة ضيقة في قصره. مما سهل مهمة هؤلاء الموظفين أن الحاكم كان يدير شئون البلاد بصورة ديكتاتورية فردية، فيصدر أوامرا وأحكاماً لا يستشير فيها أحدا، ولا ترد ولا تستأنف، ولا يعقب عليها أحد، وإنما هي أمور للتنفيذ الفوري، وليس غير ذلك.
كتب مغامر قادم من ليفربول هو جورج ميلي في كتاب أصدره في عام 1851م بعنوان "الخرطوم والنيلين الأبيض والأزرق" وصفا دقيقا للحياة في المدينة في عام 1850م.. وصف الخرطوم من على بعد مسيرة ساعة، حيث شاهد بيت الحاكم الأبيض، ومآذن جامعها، والنيل الأبيض من بعيد وهو يقترن برفيقه الأزرق. كتب ميلي أن المنظر بدا وكأنه "نهاية العالم". في ذلك الوقت كانت المدينة (عندما تشاهد من النيل) وكأنها حائط طيني طويل تطل من فوقه مساكن ومكاتب الحاكم،  ومقرا الحكومة والبعثة الكاثوليكية وكنيستها. دلف ميلي ومرافقوه مباشرة لمقر الحاكم عبر مجموعتين من الحراس، وعلى رأس كل مجموعة يقف ضابط  حاملا حربة طويلة. كان ضابط الفرقة هو من ينال حظوة الرقاد على سرير، إذ كان كل البقية يفترشون الأرض.
كان للحاكم العام "حامل غليون خصوصي “confidential pipe bearer   فرنسي الجنسية تولى مهمة مرافقة ميلي ومرافقيه. أخذهم أولا لمكان سكناهم بقرب مكان سكن حريم الحاكم، حيث وجدوا بيتا مريحا تحيط به حديقة وأشجار البرتقال والموز والرمان. كذلك زاروا صيدلية الخرطوم وقابلوا كل الأوروبيين بالمدينة، حيث دار الحديث معهم حول أفراس النهر (القرنتي) التي كانت تكثر في تلك المنطقة. عرضت "عينة" من ذلك الحيوان في "ريجنت بارك" في لندن في عام 1851م حيث تركت أثرا كبيرا، خاصة في أوساط الجنس اللطيف.
عرض القنصل البريطاني السيد ولاين مبلغ ألف جنيه إسترليني لمن يستطيع من الأهالي أن يقبض على زوجين من أفراس النهر، ولم يكن ذلك بالأمر الهين، فقد كانت تلك الحيوانات متوحشة تماما ولا تخرج إلا في الظلام.
أعجب ميلي ومرافقوه بحدائق الخرطوم، وسجلوا زيارة للصيدلية مرة أخرى، وتمشوا وسط أشجار العنب والبرتقال والرمان والياسمين والتين والتفاح. عند وصول المجموعة للسوق تدافعت حولهم جمهرة غفيرة من الأهالي وهم يبحلقون في والدة وأخت ميلي. نال ميلي إعجاب واهتمام الأوروبيين عندما قدم لهم في حفل للعشاء سمك سالمون معلب.
كتب جون بيثريك، والذي عمل بالتجارة في كردفان وكنائب للقنصل البريطاني في السودان، في عام 1861م كتابا عن "السودان ووسط أفريقيا"، ووصف الخرطوم في عام 1846م وسجل أن عدد سكانها كان حوالي 60000 نسمة، وبها مخازن الحكومة الرئيسة، وترسانة لصناعة وصيانة المراكب الشراعية. كانت مباني الحكومة ومساكن موظفيها مبنية من الطوب المحروق، بينما كانت بقية المباني من الطين اللبن. كان المبنى الوحيد الذي بني من الحجر هو مبني كنيسة الروم الكاثوليك (في المبنى الذي تحتله البلدية الآن) (أي بلدية؟). كذلك أقيمت كنيسة قبطية غرب الجامع العتيق. كان منزل بيرثيك منزلا ضخما ملحقاً به حديقة حيوانات أليفة وبرية متعددة، وكان به بيانو ضخم. بعد عامين سكن السير صمويل بيكر في ذات المنزل، ولكنه كتب أن ليس في الخرطوم مكان يمكن تصوره بمثل تلك القذارة والبؤس والضرر بالصحة مثل  ذلك المنزل. وصف بيكر الحاكم العام موسى باشا حمدي (والذي كان أول من أدخل عربة نقل carriage في الخرطوم(  بأنه  نجح في الجمع بين أسوأ ما في الشرق من طباع، مع قسوة حيوان وحشي. كان يبتز كل من حوله، ولا يفعل شيئا إزاء الفساد الذي لوث كل من يعمل تحت إدارته. يجب القول بأن الأوروبيين والمصريين (عدا قلة قليلة جدا) كانوا أسوأ سفراء لبلادهم في السودان. 
أضاف عبد اللطيف باشا (1850م) إلى ما بناه خورشيد باشا من مكاتب وقلاع  للحكومة. ومات بعد ذلك بعامين الحاكم العام الشركسي رستم باشا ودفن بالخرطوم. في عام 1856م اندلع وباء الكوليرا بالخرطوم، فتم نقل الحكومة وموظفيها مؤقتا إلى شندي. كذلك توفي الحاكم العام الأرمني أركيل بيه في 1857م، ودفن في مقبرة مسيحية بالخرطوم، ونقلت رفاته فيما بعد لمصر. في تلك الأيام كان هنالك صبي يدعى محمد أحمد (والذي ادعى المهدية فيما بعد) ينال الإعجاب من شيوخه في الخلاوي لعكوفه على الجد والتحصيل.
كان هنالك وجود أجنبي في الخرطوم تمثل في قناصل للنمسا وأمريكا وفرنسا، بالإضافة إلى نحو 6000 جندي من هذه البلدان. كان بعض أولئك الجنود من المصريين، وبعضهم من السود من كردفان والنيلين الأزرق والأبيض. كان هؤلاء لا يتقاضون مرتبات منتظمة، ولذا كان من الصعب أن يكونوا جنودا منضبطين، فكانوا يعيشون على ما ينهبونه من السكان.
كانت السلعتان المربحتان في السودان هما العاج والرقيق، ولم يكن هنالك أحد في البلاد (إلا ما ندر جدا) لم ينغمس في التجارة في هاتين السلعتين. فكل من له رأس مال صغير كان يمكنه عمل فرقة صغيرة تجلب له العاج و/ أو العبيد من الجنوب. فعلى سبيل المثال استجلب من منطقة أعالي النيل نحو 202700 كيلوجرام من العاج في عام 1858م وحده. من البيض الذين عملوا في تجارة الرقيق السوريون والأقباط والأتراك والشراكسة وبعض الأوربيين (لاحظ محاولة التخفيف من الدور الأوروبي في تلك التجارة. المترجم). كان تاجر الرقيق المبتديء يستدين بفائدة تبلغ 100% ، ويدفع القيمة عاجا بنصف القيمة، ثم يستأجر سفنا و100 – 300 من الرجال (غالبا من أنذل الخلق) لاصطياد الرقبق. ذكر صمويل بيكر أنه رأي نحو 15000 رجلا يعملون في تلك التجارة، وكان مرتب الواحد فيهم 45 قرشا في الشهر. كانوا رجالا في غاية الوحشية وفقدان الإنسانية وهم يقومون بمهمتهم تلك.
عندما عاد صمويل بيكر للخرطوم بعد رحلته النيلية عام 1862م ، وجد أن مرض حمى التيفوس المعدي قد انتشر بالمدينة، ونجا من ذلك الوباء 400 جندي فقط من أصل 4000 رجل. وجد المدينة – كما قال- أكثر زحاما وقذارة. زار بيكر المدينة مجددا بعد ثمانية أعوام فوجدها لم تتغير كثيرا في مظهرها الخارجي، بيد أن عدد السكان انخفض من 30000 إلى 15000. وصارت المنطقة جنوب بربر (والتي كانت منطقة زراعية مزدهرة) منطقة مهجورة تماما. اختفت قري بالكامل، وتوقف الري وانخفض عدد السكان انخفاضا رهيبا، واختفت معه أصوات السواقي التي كانت تسمع بالليل، وكذلك نباح الكلاب التي كانت تشق عتمة ليل تلك المناطق.
كتب سفاين فيرز في العام الذي تلى ذلك أن الأحوال الصحية في الخرطوم ما زالت رديئة جدا، وعزا السبب لعدم وجود تصريف فعال للمياه الراكدة (يبدو أنه لا جديد تحت شمس الخرطوم. المترجم). ففي يوليو من عام 1871م كتب الرجل إن البرك تملأ الخرطوم، وتنبعث منها روائح كريهة تجعل مجرد الاقتراب منها أمرا عسيرا. وجد كثيرا من معارفه السابقين قد سقطوا نتيجة أمراض لها علاقة بسوء الأحوال الصحية في المنطقة، خاصة مع توالد البعوض من نوع الأنوفليس ناقل الملاريا. ظلت هذه الأوضاع مستمرة حتى عام 1905م حيث كانت برك المياه التي تتكون من أمطار ساعتين مثلا تظل باقية لنحو ثلاثة أسابيع.لعب إسماعيل باشا أيوب دورا كبيرا في تطوير الخرطوم، وكان متفائلا بأن لها مستقبلا عظيما. بنى فيها قصر الحكومة  من طابقين بالطوب والحجر. أقام إسماعيل باشا أيوب كذلك محلجا للقطن في كسلا، وبذل جهدا كبيرا لتطوير صناعة القطن بالبلاد، وفي مكافحة الفساد، فقام باعتقال حاكم الخرطوم ممتاز باشا بتهمة الاحتيال.
كانت الحياة في الخرطوم تدور حول البازار (السوق) والشوارع المحيطة به. كانت هنالك أزقة متعرجة عديدة تؤدي لذلك السوق، وحولها مباني صغيرة مبنية بالطين اللبن ذات أسقف مسطحة. لم يكن هنالك مبنى كبير أو معلم بارز سوى الجامع ومئذنته الصغيرة. في السوق كانت تباع الملابس الأوروبية والأقمشة والأحذية والمنتجات الفخارية. في بعض المحال الصغيرة تجد كل أصناف المشروبات الكحولية. كانت للأغاريق محال تباع فيها منتجات رديئة الصنف، ولكنها غالية الثمن، مثل المربى (وغالبها متعفنة) ومكرونة مغبرة وملوثة بفطريات، وسكر رملي الشكل، وبيرة ومشروبات كحولية أخرى عديمة النكهة ورديئة الطعم. يعجب المرء من عدم ذكر من وصفوا السوق للمنتجات المحلية مثل العناقريب والمراكيب. --------------
نقلا عن "الأحداث"   .



badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء