كتاب: الرقص الشعبي في السودان بحث في إستطيقا الجسد

 


 

 

المقدمة 1-2

د. محمد عبدالرحمن أبوسبيب

هذا عنوان لكتاب - (قيد النشر) - وهو توأم، من حيث طبيعة الموضوع ومنهج البحث، لكتاب صدر من قبل عن مركز عبدالكريم ميرغني حول أدوات الزينة الشعبية وقيمها الإستطيقية وأصولها الثقافية. والكتابين دراسة في البعد التاريخي الحضاري للتجربة الإستطيقية (الجمالية) للإنسان السوداني وتأصيلها ضمن إستمرارية تاريخية لحضارة ممتدة في مساحة جغرافية واسعة شملت سودان وادي النيل وإمتداد السهول من حوله إلى الشرق والغرب والجنوب. والرقص، وبحسب هذه الدراسة، هو الفن الرئيسي major art form والحاضنة الإستطيقية والقاعدة التي يقوم عليها المنتوج الموسيقي والأدبي الغنائي لغالبية الشعوب السودانية، ورغم ذلك خلت المكتبة السودانية من دراسات أكاديمية مكرسة لهذا الفن.

تسعى هذه الدراسة إلى تحقيق عدة أهداف: تقديم فن الرقص والتأكيد عليه كحقل معرفي أصبح تخصص علمي متميز؛ والتأكيد، نظرياً وعملياً، على الإستطيقا (علم الجمال) كعلم ومنظور لا يمكن تجاوزه في أي بحث أو مقاربة لأي منتوج أو موروث فني، وتعريف هذا العلم في مدارسه المعاصرة؛ والتأكيد على الموروث الشفاهي والغنائي الشعبي كضرورة منهجية في دراسة الرقص الشعبي؛ والتركيز على الدراسات الآثارية والتاريخية واللغوية والفولكلورية، ضمن الدائرة الأوسع للمنهج التكاملي، كمصادر أكثر موثوقية في تاريخ وأصول الفنون السودانية؛ وإستكشاف شبكة العلاقات الإثنية والثقافية التي تجمع بين الشعوب السودانية كما تبدو في نواحي الشبه بين كثير من الرقصات الشعبية من حيث البنية الحركية والموروث الوظيفي المرتبط بالرقص؛ والنظر في التراث كمعطى تاريخي ثقافي معاش، وبذلك يسهم في الإجابة على أسئلة قائمة منذ فجر الوعي القومي والحركة الوطنية في العقود الأولى من القرن الماضي والتي تتمحور في سؤال الهوية الثقافية والإثنية للشعوب السودانية. هذه الأهداف حددت مسارات البحث الثلاث، نظري وميداني وتحليلي، وشكلت فصول الدراسة وموضوعاتها.

تهدف هذه الدراسة، إذن، إلى إشراك الباحثين من ذوي الإهتمام بالتراث ودعوتهم إلى إيلاء الرقص الشعبي ما يستحقه من حضور في مشاريعهم، لأنه مكون ثقافي له أثره وخطره في وعي الإنسان السوداني بهويته وإنتمائه الثقافي، ولأنه رغم تميزه كأروع أساليبنا الفنية في التعبير المباشر عن ما نحسه ونرغبه، إلا أنه لم يسلم من بعض مقولات قاصرة مبعثها في الغالب تقاصر في إدراك البعد الإستطيقي والنفسي والإجتماعي للرقص، أو دافعها حمولة دينية متكلسة. من جانب آخر، ليس التراث، وفيه الرقص، كما يظن البعض موضوعاً يجري البحث فيه كمادة منسوبة دوماً إلى الماضي كما توحي بعض المعانى في كلمة تراث. ذلك أن ما نعيشه في حياتنا اليومية كأفراد وما تتدبره مجتمعاتنا في أفراحها وأتراحها وما تسوس به الطارئ من أحوالها سلماً أو حرباً ما هو إلا الحلقة المعاصرة في جدل مستديم بين ذخيرة الماضي من رؤى وتقاليد ومعتقد وبين مستجدات الحاضر ومطلوباته من حلول تستجيب لما تطرحه هذه المستجدات.

ومن منظور إستطيقي أوسع تتناول الدراسة الرقص الشعبي كتجربة تشمل كل ما هو مرتبط بالرقص من عادات ومعتقدات ووظائف ودلالات إجتماعية وسياسية، إلخ، ورصدها وتفسيرها في لحظة حرجة من التحولات المتسارعة التي أحاطت بحياة المجتمعات السودانية. ومن منظور تاريخي، فهذه التجربة قائمة ضمن سيرورة متصلة من التطور، وكل مراحل التطور السابقة هي، بالطبع، في عداد المجهول، وما هو مطلوب في محاولتنا هذه هو الإمساك بهذه اللحظة الحاضرة من التجربة وما يعتريها من تحول وموضعتها ضمن مسار حركة الوعي والإدراك الثقافي العام وفي متناول مباحث العلم المتخصص. كذلك، الرجعة إلى التراث الشعبي كمنشط ثقافي تاريخي معاش ينهض كضرورة عملية في هذه اللحظة التاريخية التي تتطلب بناء الدولة القومية على أسس من الحقائق التاريخية والثقافية التي تؤسس لهوية الإنسان السوداني ودولته. هذا وقد إشتملت الدراسة على سبعة فصول نوجزها فيما يلي كما ورد في مقدمة الكتاب.

تحت عنوان "الرقص في البحث العلمي" إشتمل الفصل الأول على متابعة المراحل التي إنتقل فيها منشط الرقص إلى دائرة النظر العلمي. يعتمد مؤرخو الفنون، بما فيهم مؤرخي الرقص، على الإكتشافات في علم الآثار وتفسيرها للوصول إلى بدايات ممارسة الإنسان للنوع الفني المعين. فقد إكتشف الآثاريون مثلاً وجود رسومات لأشخاص راقصين في كهوف بهيمبتكا في الهند عمرها 9000 سنة، ورسومات أخرى في مقابر مصرية ترجع إلى 3300 سنة، وكذلك رسومات لراقصين في خزف صيني وجدوها في الصين عمرها 4000 سنة. ويُستخلص من ذلك أن كثيراً من أنواع الرقص المعاصر يمكن إرجاعها إلى أصول في الرقص الطقسي والشعائري والإحتفالي عند الشعوب القديمة. هذا وقد جاءت الإشارة للرقص أيضاً في العديد من المصادر التاريخية القديمة، مثل الحديث عن الرقص الإغريقي في نصوص أفلاطون وأرسطو وبلوتارك ولوسيان، وما ورد في الإنجيل والتلمود حول أحداث مرتبطة بالرقص، وفي الألفية الأولى قبل الميلاد كُتبت عدة نصوص حول الدراما والرقص الهندي منها نص ناتياشاسترا natyashastra باللغة السانسكريتية والمنسوب للحكيم الهندي بهاراتا موني. وقد لاحظ الباحثون في العديد من الرسومات التي وُجدت في أوروبا وأفريقية أشكال لصيادين في أوضاع راقصة وهم متخفون في أشكال حيوانات مفترسة متقمصين روحها وقوتها. وفي الدراسات الحديثة إرتبط النظر إلى الرقص كمنشط ثقافي بالدراسات الآنثروبولوجية وجذورها التاريخية في السياسات الثقافية لأوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبروز علم الفولكلور كنتاج للتطلعات السياسية في ذلك الوقت حيث أُعتبر التراث الشعبي، وضمنه الرقص الشعبي، نشاطاً ثقافياً يعبّر عن الهوية الوطنية. ومع تبني الإنجليزي وليم توماس William Thomas مصطلح فولكلور في العام 1846 تحولت صيغة التراث الشعبي إلى مصطلح أكاديمي إكتسب مع الوقت مضامين جديدة نتيجةً للتطور الجاري في الدراسات حول الموضوع وتعدد نظرياته ومناهجه.

   تعتبر الأمريكية قيرترود بروكوش كوراث Gertrude P. Kurath، المتوفية في 1992، من أوائل دارسي الرقص الذين جمعوا في بحثهم بين الجانب العلمي، كمتخصصة في الموسيقى الشعبية، والعملي الإحترافي، كراقصة، وذلك في ستينيات القرن الماضي؛ ويعود إليها كذلك الإسهام في بروز المصطلح إثنوكوريولوجيا Ethnochoreology، والذي يشير إلى دراسة الرقص الإثني ethnic dance. هذا وقد إتسع معنى هذا المصطلح ليشمل دراسة الرقص من خلال تطبيقات علوم مختلفة في محاولة للإجابة أكاديمياً على السؤال حول دوافع الإنسان لممارسة هذا الفن ومدلولات ذلك. في العام 1962 إعتمد المجلس العالمي للموسيقى التقليدية International Council For Traditional Music (ICTM). هذا المصطلح كمفهوم علمي، ومهد الطريق لأجيال الباحثين في حقول علمية مختلفة لدراسة الرقص.

هذا التطور في دراسة الرقص جذب إليه أيضاً علماء الإستطيقا والباحثين والأكاديميين الذين إنخرطوا في مجال الدراسات الثقافية cultural studies، وهو حقل جديد نشأ في الجامعات البريطانية في الخمسينيات مستنداً في مشروعه على قاعدة من الفكر السياسي والفلسفة والإقتصاد السياسي الماركسي، ثم تطور في إتجاهات نظرية ومنهجية منفتحة على مستوى المؤسسات الأكاديمية حول العالم. هذا الإنفتاح النظري والمنهجي أتاح لدارسي الرقص المبادرة في إستقصاء كل ما بدا لهم من جوانب متعلقة بهذا المنشط الثقافي والذي لم يجد الإهتمام الكافي في الأكاديميا الغربية. في هذا الحقل العلمي بدأ الحماس في دراسات الرقص بطابعه الآيديولوجي في منتصف الثمانينيات عندما شرع عدد من المثقفين، الكثير منهم راقصين، في الإستجابة لموجة التحولات المؤثرة التي أخذت تعيد تشكيل الدراسات الإنسانية والإجتماعية خلال الحقب التالية للحرب العالمية، مثل البنيوية وما بعد البنيوية، وتحت هذا الإسم ظهرت العديد من تيارات ونظريات الجندر والتفكيكية وإتجاهات ماركسية بتأثير غرامشي وألتوسير وغيرهم، إلى جانب دراسات ميشيل فوكو والأعمال المستندة على علم النفس.

من ناحية أخرى، إحتوت موسوعة الإستطيقا Encyclopedia of Aesthetics الصادرة في 1998م على العديد من المقالات حول الرقص، والتي تعكس في مجملها المنطلقات الفكرية والمنهجية التي تبين حدود وآفاق هذا العلم في تناوله للرقص. وتتناول بعض المقالات موضوعات أكثر تحديداً بحسب عناوينها مثل: الرقص والنقد الفني، الرقص الحديث، رقص ما بعد الحداثة، تنويت الرقص Dance notation، المعنى الوجودي للرقص Ontology of dance، إلى جانب مقالات أخرى ناقشت قضايا الأصالة في الفن وأنواع فنون الأداء Performing arts ألقت بدورها مزيداً من الضوء على منشط الرقص.

ومن القضايا الهامة التي عالجها البحث العلمي أصل الرقص ومنشأ إبداعه، وضمن هذا المبحث كان النظر في علاقة الرقص بالحيوان وعلاقته بالإيقاع الموسيقي. والحيوان، في كل أجناسه، ظل كائناً حياً مشاركاً للإنسان في الحياة على هذا الكوكب، ونشأت بينهما علاقة ضرورية إمتدت من العداء والعنف إلى المسالمة والإستخدام، وأصبح الحيوان عنصراً هاماً في الوجود المادي والفكري والروحي للإنسان وطرفاً يستوحيه حتى في ترميزه للصفات والقيم السائدة مثل السلام والحكمة والشجاعة والذكاء والخبث والتحمل والجمال، إلخ. وضمن هذه العلاقة أمكن النظر في الصلة بين الحيوان وأنواع من الفنون ومن بينها الرقص. ومن الدراسات القيمة في هذا الجانب، دراسة ستيفن لونسديل المعنونة (الحيوانات وأصول الرقص Animals and the origins of dance) والتي ربط فيها بين الماضي والحاضر من خلال رصد للأساطير وعلاقتها بأشكال الرقص الذي ما زالت تمارسه جماعات إثنية في كل القارات.

كذلك يقود البحث في أصل الرقص إلى طبيعة العلاقة بين الرقص والموسيقى، وتحديداً بينه وبين عنصر الإيقاع، نظراً للعلاقة العضوية بين حركة الجسد الراقصة وبين شكل من الإيقاع سواءً كان مُنتجاً بآلة ما أو حتى مُستبطن من قبل الشخص الراقص. وإذا كان من من الصعوبة تصور أن راقصاً في ثقافة ما أمكنه أن يبتدع في نفس الوقت رقصة معينة وإيقاعها الملازم لها سيكون من المنطقي طرح التساؤل حول أيهما جرى إبتداعه أولاً، الحركة الراقصة أم الإيقاع ؟ أو بصيغة أخرى، أيهما، بعد إبتداعه، أوحى أو ألهم أو أدّى بطريقة ما إلى إبتداع الآخر؟ يترتب على هذه الأسئلة فرضية هامة وهي أن إبتداع تلك الرقصة ولو في أبسط أشكالها أو إبتداع ذلك الإيقاع مهما كان بسيطاً لا يمكن أن يصدر عن تصور ذهني أو شكل متخيل لا صلة له بالواقع المعاش لذلك الراقص. وقد أدرك الباحثون وثوق الصلة بين الإيقاع الموسيقي وبين الإيقاع الذي تسير عليه حركة الجسم الإنساني، وأن للموسيقى أصلاً عضوياً أو طبيعياً ما دامت الحركة الإيقاعية فيها ترديداً لحركات مناظرة لها داخل الجسم الإنساني، الأمر الذي يؤدي إلى تكوين ما أسموه بالحاسة الإيقاعية لدى الإنسان. ويستدلون على ذلك بشكل الإستجابة العفوية للطفل لدى سماعه للموسيقى والمتمثلة في تمايل إيقاعي مع إيقاع الأنغام. وخلاصة القول هنا أن الجسد الإنساني، كموجود مادي مزوّد بحاسة إيقاعية فطرية، يترجم لغة الآلة الموسيقية، أو أي مصدر معادل لهذه الآلة، إلى لغة مغايرة تماماً هي لغة "آلة" الجسد، وهي حركة الجسد في المكان بحيث تتناظر أشكال هذه اللغة/الحركة في كل مراحلها مع مراحل التنظيم الزمني للموسيقى والتي هي عنصر الإيقاع. كما أن الإدراك الحسي للحركة kinesthesia وبحكم تعريفها العلمي عملية طبيعية تحدث عندما يتلقى الدماغ ردود فعل من العضلات والأربطة والأوتار حول كيفية تحرك الجسد، ووعينا بحركة جسدنا kinesthetic awareness هو شعورنا بعضلات الجسد وأربطته وأوتاره أثناء حركتها أو سكونها. النظر في هذه العلاقة قادت إلى السؤال الأشمل حول أصل الفن كمنشط إنساني، وماهية فعل الإبداع الذي أنتجه بإفتراض أنه نشاط رافق المراحل الأولى لتطور الكائن الإنساني بحسب ما توصلت إليه البحوث العلمية المتأخرة، خاصةً مباحث الإستطيقا Aesthetics والآنثروبولوجيا الثقافية Cultural Anthropology وعلم الإجتماع Sociology وعلم السلوك Ethology والتي تؤسس للإدراك الإستطيقي كملكة لدى الإنسان سابقة ومهيئة لظهور الفن. نواصل.


abusabib51@gmail.com

////////////////////////

 

آراء