كل العوامل تدفع بإتجاه حدوث تغير سياسي حاد في مصر … بقلم: مؤيد شريف
30 June, 2009
المتابع لأحوال المجتمع والدولة في جمهورية مصر العربية يستطيع أن يلحظ أوضاعاً فريدة ومعقدة في كثير من الأحيان ، "فمصر المجتمع" تبدو أكثر اتزاناً واتساقاً تاريخياً علي عكس ما تبدو عليه " مصر السياسية " ، وهذه نتيجة لم نبدأ نحن بإقرارها بل توصل لها المفكر والمؤرخ المصري جمال حمدان في "كتابيه" (شخصية مصر) ، وجمال حمدان أسهب في سرد عوامل القوة والتماسك عند المجتمع المصري علي الرغم من المشاكل العميقة التي ما فتأت تضرب وتنخر في عظم المجتمع ذاته ، إلا أن مصر المجتمع لازالت تضرب المثل في تماسكها وتمسكها بوحدتها الوطنية والمجتمعية ويمكن أن نضيف أن المجتمع المصري لازال يلعب دور "الأسفنج الماص" للمشكلات التي يرحلها ويحيلها له النظام السياسي المتناهي القصور ، فحالة الاستبداد السياسي التي تميزت بها مصر السياسية عبر حقب وعهود تاريخية سياسية لعمري هي حالة تستحق الوقوف طويلاً أمامها وتمحيصها في محاولة لفهم العناصر المحركة للاستبداد في النظام السياسي المصري .
وحالة الاستبداد السياسي طويل الأمد أو المتلاحق هي في العادة حالة لا تعتمد فقط في ضمان بقائها واستمراريتها علي الوسائل العسكرية والأمنية علي أهميتها القصوى بالنسبة لها ولكنها وفي سبيل ضمان حالة التفوق والسيطرة المطلقة لا تتردد في إخضاع مستويات أخرى كالمستوى الاقتصادي والثقافي لفكرها الخاص عن طريق استخدام وسائل تشرعن لها من خلال سنها لقوانين استثنائية ومعيبة أو حتى عن طريق تجاهل القوانين والقفز من فوقها ، وفي سعيها نحو تحقيق الإخضاع التام لسياقاتها المختلفة تصطدم في العادة السلطة المستبدة بالكتل البشرية السياسية أو المدنية الراغبة في التغيير وهذا الاصطدام بين السلطة الساعية للسيطرة والمجتمع السياسي والمدني يمكن أن نلمس تفاصيله في جميع المراحل أو العهود السياسية في مصر وفي بعض الأحيان وصل الاحتقان بين المصطفين إلي مراحل خطرة لم تنحى فيها السلطة منحاً فكرياً سلمياً بل في أغلب الأحيان، إن لم يكن كلها ، لجأت السلطة للوسائل الأمنية القمعية والتي يمكن أن يكون مفعولها آنيا سريعاً في إخماد التوترات إلا أن أثرها البعيد قد يكون أعمق وأخطر مما يعتقد ، والقمع الأمني كثير الاستخدام في الواقع السياسي المصري كان من شأنه أن يقود البلاد إلي نفق مظلم قد يقوض ويضعف البناء القومي والوطني ، إلا أن الدور السحري "شديد الغموض" للمجتمع المصري "وطبيعة الشخصية المصرية في مستوى آخر" لم يتوقف من لعب الدور الاسفنجي المبادر بامتصاص أخطاء السياسة واحتقاناتها العميقة .
والسؤال الذي يتبادر للذهن هنا ، هل يستمر المجتمع المصري بذات الدرجة في لعب دوره الاسفنجي ؟ أم أن متغيرات كثيرة قد حدثت وأن أبعاداً جديدة داخلية كانت أم خارجية تدفع باتجاه سياقات جديدة وغير متوقعة ؟
من الغريب أن منحى الاستبداد في السياسة المصرية عبر مراحله الفكرية المتنوعة إلا أنها جميعاً تقريباً استندت في تبريراتها للاستبداد علي مسوغات معينة اعتقدت أنها كفيلة بالإقناع وضمان استمراريتها في التحكم بمقاليد الحكم ، والدور الإقليمي لمصر يقفز دائماً أولاً ليشكل الحائط المكرس والداعي لحالة الاستبداد "فمصر المواجهة" و "رأس الرمح في المواجهة مع إسرائيل " و"مصر المستهدفة" وغيرها من القوالب اللفظية الإعلامية الجاهزة والتي قد تصدق وتعبر عن الحقيقة إلا أن الترويج والاستهلاك اليومي لها لا يخلو من أغراض سياسية ومحاولة لخلق أوضاع سياسية معينة لتأمين حالة من الالتفاف والاصطفاف وراء النظام السياسي المستبد ، والدليل علي أن الحالة القدرية لمصر في كونها دولة المواجهة الأولى في النزاع العربي الإسرائيلي ، وهي حالة اُستغلت بشكل سياسي في ترسيخ أنظمة استبدادية ، أن ذات الحالة السياسية الاستبدادية تظل مستمرة ومتتابعة علي الرغم من تغير وتبدل ملامح ومواقع الدور المصري في النزاع العربي الإسرائيلي ، فمصر التي حاربت إسرائيل لم تكن هي مصر كامب ديفيد ومصر كامب ديفيد ليست هي قطعاً مصر "شرم الشيخ" وان كانت امتداداً لها في حالة الاستبداد ، والواضح أن الدور الإقليمي المصري في حالة تغير وتحرك مستمرين في الوقت الذي تستمر فيه ذات الحالة السياسية .
الكثير من الدارسين يقطعون بأن استمرارية النظام الاستبدادي في مصر من عدمه يبدو رهين بعوامل خارجية أكثر من ارتباطه بتغيرات داخلية ، وهذه قراءة فيها كثير من الصواب إلا أنها أغفلت نضالات وتضحيات الفعاليات السياسية والمدنية المصرية والتي نذكر جميعاً الكثير من المواقف التي استطاعت من خلالها كشف وتعرية أساليب الاستبداد في النظام المصري ، والدور الخارجي يبدو أنه متنازع بين أن يضمن استمرارية النظام السياسي "المعتدل" والموالي له في خطه السياسي وبين دعمه لدعاوي الإصلاح التي أطلقها ذات المجتمع الخارجي إلا أنه سريعاً ما نكث عنها بعد قراءة خاطئة منه لواقع المجتمعات العربية ، فالإسلام السياسي الذي بسبب صعوده "المفاجئ"، كما يعتقدون، هو الذي أخر عملية الإصلاح السياسي والمجتمعي وذلك بتعجله السلطة وعدم إتباعه ستراتيجية متدرجة ، وهنا لا بد من الإقرار بنجاح الأنظمة الاستبدادية في خلق حالة من الرعب لدى الغرب من الإسلام السياسي مستغلة في ذلك أحداث العنف التي تنفذها القاعدة أو الجماعات الجهادية الاخري ومستغلة أيضا جهل الغرب بطبيعة الإسلام السياسي المسالم وأنا هنا أعني تماماً كلمة مسالم علي الرغم من علمي بأحداث عنف كثيرة كانت مجاميع إسلامية طرفاً فيها ، إلا أنني أكاد أجزم بأن حجم ونوعية العنف الذي مارسته الأنظمة الاستبدادية بحق هذه الأطر المسالمة منهجاً كان كفيلاً بأن يحيل البناء الهيكلي الوطني إلي بناء متهالك وأن يخلق حالة من الانشقاقات والتشرذم غير أن أثر الأزمات المتتابعة بين الطرفين لم تصل لمراحل خطرة علي وحدة ومصير البلدان وذلك في اعتقادي يرجع لعدم رغبة الإسلام السياسي المطارد والمضروب أمنياً في قلب الطاولة علي الجميع "أنا هنا اخصص الحالة المصرية فالمثال يتمايز في تجارب أخرى" إضافة لانشغاله مؤخراً بمراجعاته الفكرية والسياسية في محاولة منه لحرمان الأنظمة من "كرت الاتو" الذي دائماً ما نجحت الأنظمة في استغلاله وإقناع المجتمع الدولي بعدم صلاحية أو جاهزية الإسلام السياسي لقيادة دفة الأمور السياسية أو حتى المشاركة في اتخاذ القرار .
ويبدو أن الأنظمة في طريقها لفقدان الكثير من قدرتها في إقناع المجتمع الدولي بضرورة إطلاق يدها في قمع الإسلام السياسي باعتباره خطراً علي مستقبل الشعوب وقضايا المنطقة ، وربما يرجع السبب في ذلك للمجتمعات الغربية التي أعادت النظر في أغلبها في علاقاتها بمجاميع الإسلام السياسي وبدأت تتعامل مع واقع أن هذه المجاميع الإسلامية لا تعبر عن حالة سياسية منقطعة ومعزولة عن الجماهير كما هو حال غالبية الأنظمة الاستبدادية وإنما هي حالة مجتمعية ذات أبعاد دينية لها أشواقها وتطلعاتها والتي قد تتعارض مع مصالح الغرب وقد ينزعج الغرب أيضاًُ من سقف الطموح السياسي المرتفع للإسلام السياسي بالمقارنة مع سقوف الأمر الواقع للأنظمة الاستبدادية وهنا يطرح السؤال نفسه : هل تواصل القوى الكبرى دعمها للأنظمة غاضة الطرف عن ممارساتها القمعية ورفضها للإصلاح السياسي ؟ وهل تحاول إيجاد بدائل وطنية أخرى قد يكون الإسلام السياسي المعتدل احد أطرافها ؟
كتب المقال في بدايات العام 2007