كونوا كالنحل ودعوا الدنيا لأهلها

 


 

سليم عثمان
1 August, 2011

 


بقلم: سليم عثمان
كاتب وصحافي سوداني مقيم فى قطر
قيل لأحد الحكماء: مالك تدمن إمساك العصا ولست بكبير ولا مريض؟ فقال:
لأذكر أني مسافر، حملت العصا لا الضعف... أوجب حملها عليّ ولا أني تحنيت من كبر
ولكنني ألزمت نفسي حملها ...لأعملها أن المقيم على سفر
نعم جميعنا مسافر عن هذه الفانية، إنه أول رمضان يمر علينا نحن معاشر السودانيين بعد إنفصال إخوة لنا ،كانوا يشاركوننا فضاء هذا الوطن الرحب ،صمت بضعة ايام من رمضان فى مدينه  جوبا  عاصمة دولة جنوب السودان ،قبل نحو عقدين من الزمن،وكانت وقتها مدينة من مدن جمهورية السودان ، وكان الجو حارا جدا وقتها ،كنت هناك فى مهمة صحفية ،ولكنني اليوم إن ذهبت الى جوبا ،فسوف أكون مواطنا أجنبيا فى تلك المدينة ،ولكني قطعا سأجد ذات المساجد والكنائس والناس والتقاليد، التى هى تقاليدنا وعاداتنا ،نحن السودانيون مهما فعلت السياسة ،وفرقت بيننا .
أظلنا شهر فضيل فيه الأجور مضاعفة والشياطين مصفدة،ورمضان محطة هامة من محطات سفرنا نحو الدار الأخرى فهل نتزود فى هذه المحطة بما يجعل سفرنا ميسرا هذا ما نرجوه لأنفسنا وللمسلمين أجمعين فى مشارق الأرض ومغاربها ونحن نهنئهم بحلول شهر رمضان الكريم سائلين الله أن يعيده علينا ونحن أكثر قوة ومنعة، رمضان فرصة عظيمة لترويض نفوسنا وحملها حملا على عمل الخيرات ،فخلال أيام الشهر الفضيل نتخلى عن كثير من عاداتنا الذميمة ،نترك فى نهارات رمضان اللغو حتى البرئ منه ، نقرأ القران الكريم ، نحاول تدبر اياته ،نغض أبصارنا عن النظر الى ما حرم الله ، وفى رمضان تنخفض بشكل واضح أشكال معاكسة الشباب للنساء ، وتلتزم البنات بلبس أزياء أكثر حشمة ،وفى رمضان تجود أنفس المسلمين ويشعر الغني مع قرصات الجوع بحالة الفقراء والمساكين ويتصدق عليهم ،وطوبى لنا فى رمضان إن لم يغفر الله فيه ذنوبنا وواحسرتاه إن مضى واثامنا كما هى لم ينقص منها شئ، وسلوكنا كما هو لم يتغير منه شئ.
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ... ولم ينهها تاقت إلى كل مطلب
يمر علينا رمضان كل عام وبعضنا أكبر همه ومبلغ علمه، لقمةٌ ولباسٌ ومركبٌ، مطعمٌ شهي، وملبسٌ دفي، ومركبٌ مطي، قد رفع راية: إنما العيش سماع ومدام وندام . فإذا فاتك هذا فعلى الدنيا السلام.
تقول العرب في المثل : ( كن احزم من قرلى، إن رأى خيرا تدلى وإن رأى شرا تولى) . ومن الحزم تعويد النفس على الخير، حتى تعتاده وتألفه، ومن الحزم منع النفس هواها، وعدم الرضا بالدون، دون علاها ( فإن في النفس كما يقول ابن القيم: كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقحة هامان، وحيل أصحاب السبت، وتمرد الوليد، وجهل ابي جهل، ومن أخلاق البهائم: حرص الغراب، وشره الكلب، ورعونة الطاووس، ودناءة العجل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، وصولة الأسد، وفسق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة ، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، ونوم الضبع، ووثوب الفهد، غير أن الحازم بالمجابهة يذهب ذلك كله) بإذن ربه، (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) (النازعـات:40) ،ليس من الحزم بيع الوعد بالنقد، وليس من الحزم جزع من صبر ساعة مع احتمال ذل الأبد، إن من يشتري الخسيس بالنفيس ويبيع العظيم بالحقير إنما هو سفيه ، لا يعرف الحزم ولا الحزم يعرفه، عينُه عينُ هوى، وعين الهوى عينٌ عمياء. إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ولم ينهها تاقت إلى كل مطلب، وكان أبو مسلم الخولاني رضى  الله عنه  حازما مع نفسه، فقد علق سوطا في بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه :( قومي، فوالله لأزحفن بك زحفا إلى الله حتى يكون الكلل منك لا مني، فإذا فتر وكل وتعب تناول سوطه وضرب رجله) ثم قال: (أيضن أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام ، أن يستأثروا به دوننا؟ كلا والله لنزاحمنهم عليه زحاماً، حتى يعلموا انهم خلفوا وراءهم رجالاً) .
يمر علينا رمضان كل عام وبعضنا أكبر همه ،ومبلغ علمه، لقمةٌ ولباسٌ ومركبٌ، مطعمٌ شهي، وملبسٌ دفي، ومركبٌ مطي. ومنا من يتحسر على ما مضى من تقصير، ويسرف في ذلك حتى يضيع حاضره، ويقطع عليه مستقبله، فيأتي عليه زمان يتحسر فيه على الزمن الذي ضيعه في الحزن والتحسر، وإن تعويض ما فات لا يكون بالندم على ما فات فحسب، ولا يكون باجترار أحزان الماضي فقط ، إنما يكون بالجد والعمل واغتنام كل فرصة ليتـقدم بها الى الامام ورمضان فرصة عظيمة ونفحة جليلة لمن اراد الاستفادة ،ولو عدنا الى الوراء قليلا لسنوات قليلة خلت لرأينا أننا فقدنا أحباء كانوا يصومون معنا ، يفطرون فى موائدنا ، يقومون معنا ليالي الشهر الفضيل ، يصلون معنا الجمع، يجلسون معنا فى حلقات التلاوة،ولكننا الأن لا نجدهم بيننا ، أختطفتهم يد المنون،ونحن لا ندرى هل ندرك رمضان القادم أم نلحق بهم،فالكيس منا من أغتنم هذه النفحات وأستفاد من هذه الفرص الربانية وتزود لاخرته. وهاهو أبن عقيل الحنبلي وقد بلغ الثمانين يقول:
ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خلقي ... ولا ولائي ولا ديني ولا كرمي
وإنما اعتاض شعري غير صبغته ... والشيب في الشعر غير الشيب في الهمم
فمعظمنا الإ من هدى الله ضيع شبابه فى توافه الأمور ودنايا المقاصد ،والشباب هم الذين نصروا الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليمحينما خزله الشيوخ ، وشبابنا اليوم غارق فى بحور المخدرات والجنس والمجون،و ومنغمس فى غرف الدردشة(الشات)وكم يتمني المرء أن يكون من بينهم شباب ممن يظللهم  الله بظله  يوم لا ظل الإ ظله ، وفي الزهد لإبن المبارك رحمه الله، إن أبا مسلم الخولاني رضى الله  عنه أنه دخل مسجدا رأى فيه حلقة ،ظنهم في ذكر، فجلس إليهم ،فإذا هم يتحدثون في الدنيا، فقال: سبحان الله هل تدرون يا هؤلاء ما مثلي ومثلكم؟ كمثل رجل أصابه مطر غزير، فالتفت فإذا هو بمصارعين عظيمين فقال: لو دخلت هذا البيت حتى يذهب عني هذا المطر، فدخل فإذا هو بيت بلا سقف، جلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على خير وذكر فإذا أنتم أصحاب دنيا. كم حديث يظنه المرء نافعا ... وبه لو درى يكون البلاء
معظمنا الا من رحم ربه ، لا يترك فى رمضان الغيبة والنميمة خاصة أخواتنا النساء،تمضى ساعات النهار بأكملها ،ونحن نقطع ونعقرونغتاب ،نأكل لحوم المسلمين والمسلمات أحياء ،وليس لنا  من صيامنا سوى الجوع والعطش ،كما قال: رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام،بل فينا من يمارس هذه الخصال السيئة داخل بيوت الله،وبعضنا يذهب الى المساجد فينام فيها ،بحجة أن نوم المسلم عبادة ، لم يجد من أنواع العبادة كلها سوى النوم،أين التلاوة ؟ أين الجلوس فى حلقات العلم والذكر والدعاء، أين النوافل؟ أين العمل؟ أين الجد،ومثال سيد جرسةالشهير خير شاهد على أن كسلنا نحن معاشر السودانيين،يتضاعف فى رمضان، نجد البعض منا فى المناطق التى لم تنعم بالكهرباء، وما أكثرها منذ العاشرة صباحا وقد تدثر بغطاء مبلل ونام بالقرب من الزير، ليبلل الغطاء كلما جف، البعض تجده ينام فى الحدائق العامة ،وتحت ظلال الأشجار، لايدرك الصلوات فى المساجد، بل لا يؤديها فى أوقاتها منفردا،وظاهرة البصق فى الطرقات هذه الظاهرة غير الحضارية،ما تزال مستمرة ،وتكثر فى رمضان بشكل ملتفت،وتجد البعض منا يمارس سنة السواك ،فى المركبات العامة وفى الطرقات،وهى على كل حال ظاهرة أيضا غير  حميدة ولو حاججت هؤلاء لذكروك بحديث رسولنا الكريم الذى يقول: لولا أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، نعم لكنه لم يقل فى كل مركبة أو شارع ،هؤلاء لايفارق عود الاراك جيوبهم.،وعلينا فى شهر رمضان ترك ما لا يعنينا والإهتمام بأمور أنفسنا وتزكيتها
دخل رجل فضولي على داود الطائي رضى الله عنه ، زائرا فقام يتفقد البيت فقال: يا إمام إن في سقف بيتك جذعا مكسوراً، قال: يا ابن اخي إن لي في البيت عشرين سنة ما تأملت سقفه مالك وله رحمك الله ، من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه،و دخلوا على أبي دجانة رضي الله عنه وهو مريض فكان وجهه يتهلل فقيل له: ما بال وجهك يتهلل يرحمك الله؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من إثنين كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني وكان قلبي للمسلمين سليما ورحم الله ابن بشار يوم قال متحدثا بنعمة الله عليه : منذ ثلاثين سنة ما تكلمت بكلمة أحتاج أن أعتذر عنها.أما نحن يرحمنا الله نحتاج لأن نعتذر للاخرين فى كل ساعة ذلك أننا نأكل لحومهم ،و إن الوقيعة في الناس بضاعة الجبناء،وكف اللسان عن الناس سمت العلماء، وكل إلى جنسه يحن، فليكن حنيننا إلى العلماء، وأخلاقهم  نكن مثلهم.وعلينا أن نحذر من  العجب والتعالي والغرور فهو دليل اسفه  ونقص عقل  ودنو نفس و لا يزال الشيطان بالإنسان إلى أن ينظر إلى نفسه وعمله نظرة إعجاب وغرور وإكبار، فيقول له: أنت فعلت وفعلت حتى يلقي في روعه أنه لا مثيل له ولا نظير له ،فيعجب بنفسه فيغتر فيهلك ،وهو لا يشعر، ثم يتوقف عن العمل فيشقى، لأن السعادة إنما تدرك بالسعي والطلب والمعجب يرى أنه وصل فلا حاجة للسعي فيقضي العمر كله وهو يراوح مكانه لا يتقدم لمكرمة ولا يرتقي لمنزلة ولولا السعي لم تكن المساعي.
وعلى شيوخنا وعلمائنا الأجلاء خاصة أولئك الذين يطلون علينا من خلال الفضائيات بفتاويهم المتعددة أن يرفقوا بالمسلمينويخفضوا لهم جناح الذل من الرحمة وأن يوازنوا فى أحاديثم ما بين الترغيب والترهيب، يقول الشهيد سيد قطب فى كتابه الظلال فى تفسير قوله تعالي(ولو كنت فظا غليظ القلب لأنفضوا من حولك)(ال عمران 159)
(الناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة ، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم ، في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم، ولا يحتاج منهم إلى العطاء، ويحمل همومهم، ولا يعنيهم بهمه، ويجدون عنده دائما الإهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضا) ويقول الشيخ على عبد الخالق القرني فى كتابه القيم (اشارات على الطريق)  أعلم (أن العمل لا نهاية له ، إطاره الأرض- مطلق الأرض- وميدانه الإنسان من غير حد للون ولا لجنس ولا لغة)، إنها جمع وتأليف على ساحة الإسلام من غير دخل . وعمل بهذه السعة يحتاج إلى رسم خطط دقيقة ، إلى دراسات متأنية، على نبذ للفوضوية ولو بحسن نية ، فالارتجال والفوضى خلل ووهن واضطراب في التصور، لأن الأمة في حاجة ماسة إلى جيل مصلح منقذ يمارس خدمة الإسلام بأرقى أساليب الإدارة والتوجيه، (جيل يتجاوز العشوائية، ويكفر بالغوغائية، يحتكم إلى حقائق الكتاب والسنة لا إلى الوهم، ولا ينسى وهو يتطلع إلى السماء أنه واقف على الأرض، فلا يجري وراء الخيال والأحلام والأماني، ولا يسبح في غير ماء، ولا يطير بغير جناح، جيل واقعي لا يسبح في البر، ولا يحرث في البحر، ولا يبذر في الصخر،  لا ينسج خيوطا من الخيال ، ولا يبني قصورا في الرمال)، ولا ييأس من روح الله، ولا يقنط من رحمة الله، لكنه يعرف حدود قدراته وإمكاناته، فيأخذ بالأسباب، ويدرس مشروعية الوسائل قبل أن يقدم على الأهداف.
وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهكذا كانت حياته مع الناس؛ ما غضب لنفسه قط ولا ضاق صدره بضعفهم البشري، ولا احتجز لنفسه شيئاً من أعراض هذه الحياة، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه.ليتنا نستفيد من أيام هذا الشهر الفضيل ولياليه، ليتنا نحس بالجوع الذى يفتك بإخواننا فى الصومال وفى رقاع اخري من المعمورة، ليتنا نتكافل فى هذا الشهر الفضيل ، ليتنا نخرج موائدنا الى الطرقات والمساجد، لا أن نجلس داخل بيوتنا ونتناول ما لذ وطاب وغيرنا لا يجد الأسودين(التمر والماء)ليتنا لانبذر فى الشهر الفضيل حتى لانكون من أخوان الشياطين المصفدة فى أغلال طوال الشهر،ليتنا نهدى مما نصنع فى بيوتنا من طعام الى جيراننا، ليتنا نكسر من موائد الرحمن فى كل مكان ليتنا ندعمها بكل ما نملك وبسخاء،ليت اخواننا التجار لا يحتكرون السلع ولا يرفعون الأسعار،ليت كل من لديه فضل ظهر أن يجود على من ليس لديه ظهر(دابة).
يقول الإمام أبن القيم :إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن انت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا فأفرح انت بالله، وإذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله، وإذا تعرفوا إلى ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة ،فتعرف أنت إلى الله وتودد إليه تنل بذلك غاية العز والرفعة، قال بعض الزهاد ما علمت أحداً سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعة لا يطيع الله فيها بذكر أو صلاة أو قراءة أو إحسان فقال له رجل إني أكثر البكاء فقال إنك وإن تضحك وأنت مقر بخطيئتك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك وأن المدل لا يصعد عمله فوق رأسه فقال أوصني فقال: دع الدنيا لأهلها كما تركوا هم الآخرة لأهلها ، وكن في الدنيا كالنحلة إن أكلت أكلت طيبا وإن أطعمت أطعمت طيبا وإن سقطت على شيء لم تكسره ولم تخدشه .
أدعية:
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. (201 البقرة)
ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. (250 البقرة)
سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. (285 البقرة)
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. (286 البقرة)
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهــاب. (8 آل عمران)
ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد. (9 آل عمران)
ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار. (16 آل عمران)
Saleem Osman [saleeem66@hotmail.com]

 

آراء