كيف ينصلح حال الدولة مع سيادة الإفلات من الحساب؟
وأخيراً كذّبته فعلاً: محنة إدارة الاقتصاد بنظرية (الموية تكضب الغطاس)!!
صحيفة إيلاف 19 يوليو 2017
تركت ما بدأت أكتبه في مقال جديد، حين مرّ علي خبر تحذير وزارة المعادن بإنهاء عقد شركة الروسي الشهير جوكوف، الذي وقعت معه الوزارة في مثل هذه الأيام منذ عامين عقداً خرافياً في قلب القصر الجمهوري للتنقيب عن الذهب مع الترويج لأحلام فضائية تعد بهبوط مليارات الدولارات على أرض السودان، الآن تقول لنا وزارة المعادن بكل بساطة أن الشركة مهددة بالطرد "وبس"، أما تلك الخزعبلات التي أصر عليها وزير المعادن السابق حتى راهن بحق الرئيس في إعدامه إن ثبت زيفها فقد ذهبت مع الريح، خرج الوزير ليس محاسباً على أدائه، بل لأن قسمة كيكة السلطة الصغيرة لم تسعه.
أما لماذا البلاغ إلى السيد رئيس مجلس الوزراء، حسناً حين جرى توقيع تلك الصفقة الوهمية كان النائب الأول لرئيس الجمهورية قد أطلق مشروع "إصلاح الدولة"، والسؤال ببساطة كيف يتم إصلاح الدولة إذا كان الإفلات من الحساب ولو المعنوي، دعك من العقاب، مكفولاً بفيتو "مجهول" يمد لسانه مطمئناً ألا أحد يجرؤ على محاسبة أي مسؤول مخطئ مهما قل شأنه، وعلى الشعب المغلوب على أمره أن يتحمل كلفة الخطايا والرازيا التي يرتكبها من توكل إليهم مسؤولية إدارة الدولة التي تهدر طاقاتها ومواردها وإمكاناتها بكل هذا العبث الفاضح.
أدعو السيد رئيس الوزراء لقراءة، أو بالأحرى إعادة قراءة هذا المقال الذي نشرته في هذا المكان في 12 أغسطس 2015، عن عبثية الصفقة مع الروسي جوكوف التي صدقها كبار المسؤولين وقد أكد لي أحدهم حينها أن السودان سيجني مقابلها خمسة مليارات دولار فوراً. لقد قبضت البلاد الريح وها هي قيمة عملتها الوطنية تتدهور لدرجة أن قيمة الجنيه اليوم بالكاد تعادل نصف مليم من قيمته في العام 1989.
والسؤال حتى متى يستمر هذا الصمت المطبق على كل هذه الإخفاقات المريعة في حق البلاد والعباد، والتي تقيد ضد "مجهولين" معروفين، وكيف ننتظر إصلاحاً للدولة، وكيف ينصلح حال الاقتصاد وهو يُدار بهذا التهريج والسذاجة وغياب النزاهة، ولا أزيد. تتكرر الخطايا لأن المحاسبة غائبة تماماً في عُرف السلطة الحاكمة، فضلاً عن الطريقة الاعتباطية التي تعهد بها المسؤوليات الجسام في إدارة الدولة بلا دربة ولا كفاءة ولا استقامة.
وبين أيديكم مقال: محنة الاقتصاد السودان حين يدار بنظرية "الموية تكضب الغطاس"، لنكتشف لماذا لا نزال نغرق ونغرق.
-------
كان من الممكن أن يمر التوقيع على العقد المثير للجدل للتنقيب عن الذهب مع الروسي فلاديمير جوكوف كما مرّت قبله العشرات من الاتفاقيات المماثلة، وكما مرّ قبله بيوم التوقيع على اتفاقية مع شركة قيل أنها فرنسية لم يلفت الأنظار اليها إلا ظهور شخص مثير للجدل هو الآخر في حفل التوقيع استغرب الناس وجوده، ولم يُعرف إن كان شريكاً أم جئ به لنيل “البركة” كما ذهبت بعض الروايات نقلاً عن شريك سوداني قيل أنه “يتبرك به”. وكما يلحظ القارئ الكريم تكررت كلمة “قيل” في فقرة واحدة، ببساطة لأنه لا وجود للشفافية في إدارة الشأن الاقتصادي على وجه الخصوص دعك من الشؤون العامة الأخرى، إذ لا شئ يجري بوضوح تحت الشمس في مجال المال والأعمال الملئ بالصفقات الغامضة والمصالح الضيقة، ولا أحد يعرف على وجه التحديد كيف تجري مما يجعل لمصطلح “الدولة العميقة”، التعبير الذي أطلقه وزير المالية حديثاً وردده رئيس المجلس الوطني، يتجاوز “بؤساء” الفاسدين الباحثين عن مصالح “صغيرة” في مزاحمة الحكومة على “توريدات اورنيك 15″ الشهير، إلى “الرؤوس الكبيرة” التي باتت تحتكر كل شئ، وهو ما يجعل المصطلح الأكثر تعبيراَ عن هذه الحالة هي “دولة التمكين” وليست “الدولة العميقة”، بفضل تلك السياسة التي جعلت على مدار ربع القرن الدولة السودانية”غائبة” عن الحضور وعن الفعل تُدار من خارج مؤسساتها، وبلا اعتبارللأسس والنظم والتقاليد المرعية، وبالطبع بلا مساءلة ولا محاسبة من أي نوع.
ربما المصادفة وحدها هي التي جعلت النائب الأول لرئيس الجمهورية يطرح للرأي العام مشروع “إصلاح الدولة”، في الأسبوع نفسه التي تفجرت فيه تداعيات صفقة تنقيب الذهب مع الروسي جوكوف، والتي تقدم دراسة حالة عملية لما آل إليه الحال في الطريقة التي تُدار بها بعض مؤسسات الدولة، ونحن هنا لا نتحدث عن تجاوزات بمعنى الفساد المتداول الذي يتبادر إلى الإذهان، بل عن تدني الكفاءة والإدارة الاعتباطية لواحد من أهم الملفات الحيوية في البلاد، أعني إدارة الشأن الاقتصادية إلى درجة تقترب من “السذاجة”، ولا أقول “سوء الطوية”, بنظرية جديدة غير مسبوقة عنوانها “الموية تكضب الغطاس”، وهو ما يجعل مهمة “إصلاح الدولة” مهمة أكبر خطراً وأكثر عمقاً مما يعتقده البعض من الحاجة لمراجعات فوقية عابرة.
ولعل الدلالة الأكبر فيما ذهبنا إليه ذلك الاستسهال الفج وتلك الجرأة التي جرى بها “توريط” رئاسة الجمهورية في رعاية صفقة مليئة بالثقوب مما أثبتته المتابعات الحثيثة التي نشطت فيها كل الصحف لاستقصاء حقيقة مما جرى، ويُحمد للسلطات الحكومية أنها لم تتدخل هذه المرة وتفرض حظر النشر حول هذا القضية المثيرة التي شغلت الرأي العام حيث تمتعت الصحافة بهامش حرية واسع في نشر المعلومات المتاحة كافة حول الموضوع، وهو نهج سليم نرجو أن يستمر وأن يصبر عليه أصحاب الشأن لأنه أداة فعالة في مساعدة جهود “إصلاح الدولة” في تسليط الضوء على جوانب القصور، كما أنه لن يتيح مجالاً لتمرير الأمور في الخفاء أو تحت أضواء تحاول الاحتماء بمظلة “القصر الرئاسي".
ونعود إلى أصل الموضوع الذي أثار كل هذه الضجة حول عقد تنقيب عن الذهب مع الروسي جوكوف، وقد أبرمت مثله ما يفوق المائة عقدا، لا شك أن الأجواء الاستثنائية التي جرت فيها مراسم التوقيع بحضور الرئيس عمر البشير، ثم التصريح الصحافي الذي أدلى به وزير المعادن عقب ذلك هو ما قاد الصحافة للتنقيب في سيرة “المنقّب الروسي المحظوظ”، خاصة في ظل الأرقام الضخمة التي أعلنها الوزير في صفقة تجعلها، إن صحت وقائعها، بلا شك الأكبر ليس في تاريخ السودان، بل في تاريخ العالم، فقد قال بلا مواربة إن الشركة نفذت عملية بحث واستكشاف بموقعين في ولايتي البحر الأحمر ونهر النيل بمعدات حديثة استطاعت بها تحديد الاحتياطيات المؤكدة بها والبالغة ستة وأربعين ألف طن من الذهب تُقدر قيمتها ب “تريليون وسبعمائة واثنين مليار دولار”. وأن العقد الموقع مع الشركة يغطي ثمانية آلاف طن ذهب في جزء من المربعات التسع المستكشفة تُقدر قيمتها بمائتين وثمانية وتسعين مليار دولار، وأعلن أنها ستدخل مرحلة الإنتاج خلال ستة اشهر، وانها ستنتج ثلاثة وثلاثين طناً في العام الأول، ويرتفع إلى ثلاثة وخمسين طناً خلال عامين.
وملاحظة أولى قبل الدخول في تفاصيل أشير إلى أن هذه ليست المرة الأولى تُكشف فيها أرقام عن احتياطات الذهب المؤكدة فقد ورد نصاً في خطاب رئيس الجمهورية عند أدائه لليمين الدستورية في الثاني من يونيو المنصرم ” وأُبشرُ هنا مواطنيَّ الكرامْ بأنَّ احتياطي الذهبْ المكتشف حتى اليومْ عبرَ التخريط الجيولوجي فاق الـ 8000 طن بقيمة تساوي 330 مليار دولار”، وحتى لا نُتهم بسوق النقد جُزافاً، أنظر إلى اضطراب الأرقام التي تسوقها وزارة المعادن، والسؤال كيف قفزت الاحتياطات المؤكدة من الذهب خلال شهرين فقط مما أعلنه رئيس الجمهورية في مطلع يونيو بأنه ثمانية آلاف طن، وهي معلومة مُستقاة بالطبع من وزارة المعادن، لتصبح الاحتياطات المؤكدة من الذهب على لسان الوزير الأسبوع الفائت تبلغ ستة وأربعين ألف طن؟، هل يُعقل أن تقفز إلى هذا الرقم الفلكي في غضون أسابيع قليلة أم أن الأمر لا يعدو أن يكون خبط عشواء أو لحاجة في نفس قائلها ما دام لا أحد يُسأل أو يحاسب؟.
من بين كل التغطيات الصحافية المتميزة التي تسابقت الصحف لتقديمها حرصت بوجه خاص على العناية بالمقابلة التي أجراها الزميل النابه فتح الرحمن شبارقة في “الرأي العام” مع د. يوسف السماني المدير العام لهيئة الأبحاث الجيولوجية بوزارة المعادن، والذي وصفته الصحيفة ب”مهندس اتفاقية الذهب” مع الروسي فلاديمير جوكوف، وذلك باعتباره الجهة الفنية صاحبة الاختصاص، وبحسبان أن “عند جهينة الخبر اليقين”، لم يكن المهم في إفاداته تفنيد الشكوك المثارة حول شركة سايبريان ومقدراتها، بل تلك المتعلقة بمصدر وحقيقة الأرقام التي أعلنها الوزير عن حجم احتياطات الذهب المؤكدة.
وأول ما يكتشفه المرء من إفادات المسؤول الفني الأول في الوزارة أنها حاملة أسفار لا غير في هذا الخصوص، ورداً على سؤال إن كان لا يرى تضخيماً غير منطقي في الاحتياطات المقدرة بستة وأربعين ألف طن ذهب، قال الدكتور السماني “السودان بلد غير مستكشف بعد، وعندما تتحدث الشركة عن أن لديها في مربعين نحو ال (46) ألف طن من الذهب، فإن الشركة بنت هذه الأرقام على نتائج وهي عملت عملاً حقلياً لعامين واستعانت بتقانات الآن هي وقعت اتفاقية إنتاج، ونحن إذا كانت هناك شركة لم تصل مرحلة اعتماد الخام لا يمكن أن تأتي وتسجل لتصبح شركة إنتاج، ولا توجد شركة تدخل للإنتاج دون أن تعرف كم ستنتج، وإذا كانت هذه الشركة لا تعرف ما ستنتجه لا يمكن أن توقع عقداً ب (240) مليار دولار لإنتاج الذهب".
حسناً إذن مصدر هذه الأرقام الضخمة التي روّج لها وزير المعادن هي “ما قالته الشركة” وليس ما تعرفه أو تحققت منه الوزارة عيناً، ولا يبدو أن وزارة المعادن وهي الجهة الفنية المختصة تملك وسيلة للتحقق من إدعاءات المستثمرين المغامرين سوى القبول بما يدعونه وانتظار ما ستسفر عنه الأيام، فعندما سئل المسؤول الرفيع في الوزارة بعبارة لا تخلو من تهكم “يقولون إذا كان من يتكلم مجنوناً فليكن السامع عاقلاً، لأن الشركة تتحدث عن أرقام فلكية وخيالية يصعب تصديقها في الواقع”؟ كان رده “لا يصعب تصديقه، ونحن لا نقول إن هذه الشركة كاذبة، لا نصدق ولا نكذب، ولكن البيان بالعمل والتجربة هي المحك، والموية تكضب الغطاس".
لم أشعر بمحنة السودان كما شعرت بها وأنا أقرأ هذه الإفادات البالغة الغرابة، فوزارة المعادن بدلاً من أن تقدم لنا دليلاً علمياُ موثوقاً على صحة الأرقام المزعومة، فإذا بنا نكتشف أن دليلها العلمي هو مثل شعبي، الانتظار حتى “تكضب الموية الغطاس”، حسناً هل تعرفون كم يلزمنا الانتظار حتى تتأكد هذه المزاعم؟، قال الوزير إن متوسط إنتاج الشركة سيكون خمسين طناً خلال عامين، ولكي تستخرج الثمانية آلاف طن التي تم التعاقد عايها حتى نتأكد من موثوقية معلوماتها فعلينا أن ننتظر مائة وستين عاماً.
أما إن تعين علينا الانتظار للتأكد من حكاية الاحتياطيات البالغة ستة وأربعين ألف طن ذهب فهذا يلزمه أن نلبث تسعمائة وستين عاماً، ويبدو أن نظرية وزارة المعادن في الإدارة هي، حتى ذلك الحين فمن المؤكد أنه سيكون “مات الأمير ومات الفقير ومات البعير والشعب كله ومثلهم لأجيال وأجيال”!!. كان الأمر سيكون أخف وطأة لو أن جهات أرفع في الدولة أخذت الأمر بما يستحقه من جدية وأن تبادر إلى فتح تحقيق مستقل في الوقائع والشكوك المثارة لا اعتباطاً بل بقرائن ودلائل معلومة، ليس فقط استجابة لما طرحته الصحافة السودانية من تساؤلات مشروعة حول حقيقة هذه الصفقة، بل كذلك لأن هذا تعّهد السيد رئيس الجمهورية في خطاب تنصيبه وهو يكرر في أربعة عشر موقعاً منه تبشيره ب”عهد جديد” ومنها تأكيده “عهداً جديداً يُعِلي قِيَمِ الشفافيةِ في اتخاذ القراراتِ واعتماد معاييرِ الكفاءةِ والنزاهة عندَ كلِّ تكليفٍ وتعيين والمحاسبة الحازمة عند كل فساد أو تقصير".
ولكن ما يؤسف له أن الأمور تُدار بذهنية “وما أنا إلا من غزية”، فقد كانت أول ردة فعل من أرفع مسؤول حزبي وحكومي حتى الآن على هذه التطورات ما قاله نائب رئيس المؤتمر الوطني ومساعد رئيس الجمهورية إبراهيم محمود في مقابلة تلفزيونية بالأمس حيث آثر الدفاع عما حدث مطالباً ب”عدم التشكيك في شركة سايبريان”، ومضى أكثر ليقول “إن النسبة التي طرحتها الشركة حول مخزون الذهب قد تكون صحيحة بنسبة 100% أو 50%” كيف؟ الله أعلم، أما ثالثة الأثافي فذهابه لاستخدام المثل العامي نفسه “الموية تكضب الغطاس”، ويبدو أن ذلك سياسة حكومية معتمدة وليس فقط من بنات أفكار وزارة المعادن.
أما المجلس الوطني المفترض أنه يمثل دور البرلمان الرقيب على أداء الجهاز التنفيذي، وبدلاً ان يقوم بدوره في الاستقصاء والتثبت والمحاسبة، فقد قرر هو الآخر أن يركب الموجة، فقد خرجت رئيس لجنة الطاقة والتعدين بالمجلس بتصريحات صحافية تقول فيها “إن لجنتها وبناءاً على تفاصيل من وزارة المعادن تؤكد أن الشركة حقيقية” وأنها “ستراقب أداء الشركة أولاً بأول وفق الجداول الزمنية التي التزمت بها”، بالطبع ليس من مهام البرلمان مراقبة الشركات، بل محاسبة ومساءلة وزارة المعادن الجهة التنفيذية المسؤولة، ولأن هذا الدور أصلاً ظل غائباً فقد كان طبيعياً أن تأخذ اللجنة البرلمانية “كلام وزارة المعادن صرة في خيط” وتأمل في الانتظار مائة وستين عاماً للمراقبة والتحقق من مزاعم الشركة.
الرسالة الخطيرة في كل هذه الضجة أنه سيتعين على الاقتصاد السوداني أن يتعثر لأجيال قادمة لأن هناك من لا يزال يفكر بعقلية “عبد القادر وزجاجة السمن”، لا يحتاج الاقتصاد السودان لينهض إلى بيع أوهام تقوم على التهويل، السودان بلد غني بالموارد كافة، ما تنقصه الرؤية المبصرة والإرادة الواعية والإدارة ذات الكفاءة والنزاهة، وإلى تحريك قطاعات الإنتاج الحقيقي، فقد أثبتت تجربة سنوات النفط النتائج الكارثية للاقتصاد الرمادي.