كُــلـُّــنــا اسكافي، لــكنّــا لا نُخيط “بوت” الجنجويد أو (وصفة القاهرة المغتاظة من إصرار الشارع) 

 


 

منعم عمر*
8 March, 2022

 

8 مارس 2022

بسبب توقف العملية السياسية، و عجز فولكر عن تقديم حلول، و مراوغة العساكر للمجتمع الدولي ومطالبة الاتحاد الأوروبي للسودان بتوضيح موقفه من الحرب على أوكرانيا بعد زيارة دقلو (حميدتي) لموسكو، وبسبب التردِّي الاقتصادي وتوقّف المساعدات الخارجية، والتهديدات الأمنية، والانفلات في دارفور؛ بالإضافة إلى وجود خلايا الإسلاميين مع التوجه اليساري "المزعوم" للمقاومة؛ تدهورت الأوضاع لحد احتمالات اندلاع حرب أهلية، خصوصاً وأن السودان يتوفّر على ذاكرة عنف وكثرة من يحملون السلاح؛ وبالتالي أصبح مستقبل (البرهان) لدى المصريين على المحك واحتمال اختفائه من المشهد يتصاعد أو هكذا يقولون (على ذمّة أماني الطويل)!


ومع ذلك، يبدو أنّ المصريين برغم قناعتهم بضرورة رحيل (البرهان) ؛ محمّلين بهواجس ضخمة من تقارب أثيوبي-سوداني، يناورون لإيجاد طريق وطريقة للجلوس مع القوى السياسية المدنية السودانية؛ وصارت الوصفة لديهم لاحتواء هذا التدهور: "توافق إقليمي-دولي بشأن استقرار وأمن السودان، عبر آلية جديدة غير الرباعية (لعلّها مصرفولكرية)، وفي خلق مكوّن مدني بروافع إقليمية يكون مقبولاً للشباب والعساكر  .. أو هكذا قالوا (على ذات الذمة)! فقاموا يرتدون سُترات المبادرات الداخلية ويُركّبون خُوذ المواثيق الشبابية، ويحيكون دُرّاعة الترتيبات الأمنية، فهل يا تُرى سيخيطون أحذية الجنجويد؟


وتلطيفاً للأجواء لدى المؤسسة العسكرية والشارع السوداني، دفعت القاهرة بأربع طائرات عسكرية محملة بــــــ 120 طناً من المساعدات والأدوية والمعدات الطبية ، كان من ضمن مستقبليها رئيس هيئة الأركان الفريق أول ركن محمد عثمان الحسين، وقائد القوات الجوية السودانية. وعلى الرغم من أنّ فكرة الالتقاء بقوى الثورة المدنية، تأتي بعد أن "فاحت" رائحة غياب (البرهان) عن المشهد، إلّا أن اللّافت هو رفض هذه القوى لتعاطي الوفد المصري مع الأزمة السودانية من منظور أمني -على ذمّة مصادر العربي الجديد- ؛ وبالتالي فإنّ زيارة الوفد المصري، لم تحقق الأهداف المرجوة منها، بإحداث اختراق لدى القوى السياسية والثورية في السودان.


(وفيما يخصّ الأجواء أيضاً) في يونيو من العام الماضي، تمّ نقل الطائرات المقاتلة من قاعدة وادي سيدنا العسكرية، إلى قاعدة شيكان بالأبيّض على خلفية التوترّات التي جرت بين الجيش والدعم السريع، وفي هذا الأسبوع -على ذمّة مونت كاروو- تمّ تكرار هذا الترتيب، ومن دون عناء التكهنات التي تربط ذلك باجتماعات (دقلو) على هامش زيارته لروسيا مع شركة (فاغنر) الروسية، أو بتوقفه بالقاهرة عند عودته؛ فإنّ الإخلاء سواءً كان لصالح طائرات روسية أو مصرية، فهو يؤكّد أنّ وقت الإطاحة ب(البرهان) قد أزف؛ من غير أن نخوض في التقارير الاستخباراتية عن وصول ست حاويات لأجهزة اتصال حديثة، وطائرات (درونز) قادرة على حمل صواريخ موجّهة بالليزر (على ذات الذمة)!


ويبدو أنّ (دقلو) في مؤتمره الصحفي، ممارساً عادته الأثيرة: ("كلام الطير في الباقير") بدا غاضباً ومرتبكاً في آن، وكأنّه لم يستوعب الأمر جيّداً، ماذا يريد وماذا يُريدون منه، فخانته حتى سجيّته فخرجت منه كلمة "ضمانات" بلا مناسبة، ولا سياق ولا معنى، ولم يستطع "لملمتها" بعد أن (وقعت) منه، وكانت من نصيب "الميكروفون". كما بدى ليس واثقاً مما أبدى من عدم ممانعة في إقامة روسيا قاعدة عسكرية على سواحل السودان على البحر الأحمر؛ مشيراً إلى أنّ هذا الملف من اختصاص وزير الدفاع؛ أما عن لقائه المخابرات المصرية _ مكرهاً لا بطل _ فقطعاً تطرّق لتحركاته في العواصم الأربع التي زارها -جوبا وأديس أبابا وأبو ظبي وموسكو- وما إذا كان الأمر له علاقة باستبدال (البرهان)؛ بجانب قلق مصر الدائم بشأن الملء الثالث لسدّ النهضة المقرر في يوليو المقبل؛ فهل ستتيح له العاصمة الخامسة – القاهرة - أن يُعرّض مصالحها للخطر ناهيك عن الضرر؟! سيّما وإنّ كليهما يرغبان في عمليات غسيل السمعة فمصر ترسل للمدنيين السودانيين نزاهتها بانتزاع تنازلات من العساكر، ودقلو يطمح في قبول مصر له، وعدم إبعاده من المشهد.


يد مصر في انقلاب (البرهان)، واستقالة (حمدوك)، لا تخطئها عين، وعين مصر المغتاظة من إصرار الشارع على حكم مدني بلا شراكة مع المكون العسكري، لا تخطئها يدٌ تمسك بقلم، أو ببندقية؛ والخلاصة عندهم أنّ مواجهة (البرهان) و (دقلو) مع الشارع هو الذي يُشكّل المستقبل، فـــ(البرهان) هو الذي سمّم العملية السياسية الانتقالية وخان الشريك المدني وبسببه السودان بلا رئيس وزراء، وبلا حكومة، والوضع الأمني عنوانه العنف والقتل. أمّا (دقلو) فقد خان موسى هلال، وخان البشير، ثم خان الثوّار، والآن بصدد خيانة (البرهان)، وهذا ما ذهبت إليه (أماني الطويل) في مغازلة للجيش السوداني، لدقّ إسفين بين (حميدتي) وقوّاته، موحية للجيش بالعمل على حمل قوات الدعم السريع على خيانة قائدها بسبب خياناته المتكررة هذه؛ ومشيرة إلى موسى هلال بتفعيل (كرت) المحاميد. ولم تكتف الطويل بذلك، فحذّرت من الحرب الأهلية ومواجهة الإسلاميين في الجيش وانخراط الحركات المسلحة معهم، إذا اختار دقلو "اللعب بالنار" ومواجهة المؤسسة العسكرية، وبعثت برسالة واضحة إلى حلفائه الإقليميين، "أنّهم لن يستطيعوا إنقاذه على أي نحو"!


أمّا عن "التسوية السياسية التي تتطلبها الحالة السودانية"، وما شاكلها من الُجمل السياسية الفضفاضة، فلا تختلف عن الخطاب المُبتسر السائد، الذي يختزل الصراع بين المدنيين والمؤسسة العسكرية، ولا تختلف عن غثاء الخبراء الاستراتيجيين، وكبيرهم الذي قال بأنّه سيرضى بتقديمه للمحاكمة بشأن حوادث القتل الأخيرة، ومجزرة فضّ الاعتصام، وأنّه أقال عدداً من قادة الأجهزة الأمنية لفشلهم في الوصول إلى قتلة الشهداء، ولم يستبعد اتخاذ إجراءات بحقهم في المستقبل، بل وأنه قام بمغازلات بائسة أيضاً، حين قال بحرصه على الحوار مع لجان المقاومة، صاحبة الفضل الأكبر في التغيير بالسودان؛ وأنه لا يزال مؤمناً بمبدأ تفكيك نظام الثلاثين من يونيو،؛ في حين أن رئيس لجنة التفكيك ومقرّرها وأعضائها ورفاقهم في معتقلات (البرهان)! فمن يريد أن يقدّم نصيحة أو تحليل أو رسالة أو مقترح في هذا الشأن وما يسمّى تسوية، فعليه أن يطرح تفاصيل هذه التسوية أو مآلاتها على الأقل، فحوار لا تُقرأ نهاياته فهو لا يفضي لتسوية حقيقية أبداً. أما تسوية إبعاد العسكر عن الحكم فلا أحد يختلف حولها، ولا تنازل عنها؛ وأبجديات هذا الحوار هو الاعتراف بأن ما تمّ في الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي هو انقلاب يستوجب الحساب.


لقد كانت اتصالات عباس كامل ومسؤولي الخليج، منذ البداية لإقناعهما بضرورة عدم دعم أي خطوة إضافية تدعو لابتعاد الجيش عن السلطة. لكن الآن أرادت القاهرة أن يكون لها الأفضلية للمشاركة في اتخاذ القرارات بشأن السودان، فعليها إذاً أن تقنعهم بضرورة رحيل الجيش عن السلطة، ؛ وأن وجود العسكر في الحكم هو الذي سيورد البلاد الهلاك، ويقوّض استقرار السودان وأمنه ونسيجه الاجتماعي، وهو ما سيؤثر على من ليلاه الأمن القومي، ومن ليلاه الاستثمار والموارد ومن ليلاه الحرب.  غير أنّ مهمة القاهرة الآن باتت أصعب، حيث أنّها كانت تنصح (البرهان) و(حميدتي)، بضرورة الثبات في المواقف وعدم إبداء مرونة، مهما كانت الضغوط، وهو ما التزموا به و رشح في تصريحاتهم المخجلة بأن التدخل العسكري كان ضرورياً "لتصحيح مسار الثورة" وظهر في التشبث الطفولي بوجود "طرف ثالث يقتل المتظاهرين"؛ كما أنّ القاهرة هي التي كانت تصر على أنه لا مستقبل مستقراً للسودان في حال تمّت الإطاحة بــــــ(البرهان).


على بعثة الأمم المتحدة، والاتحاد الافريقي وإيقاد وغيرهم من الفاعلين المباشرين، في بحثهم عن خارطة طريق سياسية، أن يتفاكروا بكل شفافية مع المدنيين السودانيين ونظرتهم لقطاع الأمن، وكيفية ألّا يتعارض إصلاحه مع الحكم المدني الديمقراطي؛ وعليهم أن يحثّوا الشركاء الإقليميين ألّا يُصفّوا معاركهم وتسابقهم في ميدان السودان. وأن يلعبوا دوراً حاسماً وبناءًّ لإعادة الثقة بين المكونات المدنية من قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة والأحزاب والمهنيين من خلال الدبلوماسية، وما يخصّ تقريب وجهات النظر بين المدنيين أنفسهم. وإلّا فما معنى الحوار وما معنى العملية السياسية؟! .. فحوار مبنٍ على خططٍ مخادعة، لا يفيد مستقبل السودان وسيكون مدخل لعودة النظام السابق. والعملية السياسية في السودان واضحة الهدف، وكل المجموعات المدنية تطمح لدولة مدنية ديمقراطية كاملة مع قيام قطاع الأمن بواجباته ودوره الصحيح من دون انخراط في السياسة والمجالات غير الأمنية. فهذه هي الغاية النهائية التي يجب تبنيها، وتُخطَّط لها الاستراتيجيات، وتُصمَّم لها العمليات.

إنّ التوجه للمجتمع الإقليمي والدولي ومخاطبته بقوة وبالحقائق أمر مهم ويجب أن يتم تحت الأضواء بدون تردد أو خجل، وتبيان أنّ الثورة السودانية لن تترك أرضاً لأي تطرف يهدد دول الاقليم أو دول العالم؛ فمن المعلوم أنّ بناء اقتصاد يحقق استقرار السودان هو من أهم أسباب وقف الهجرة، كما أنّ الاستقرار السياسي والاقتصادي له مردوده الاقتصادي والأمني لمصر كسوق وكمعبر مما يزيد من حجم التبادل التجاري إضافة لعلاقات تاريخية جواراً ورحم و مصالح لا تنفصم؛ وكذلك بالنسبة للخليج فانّ الاستقرار السياسي يثمر قوانين واضحة تحكم الاستثمار، ما يجعل السودان جاذب لاستثمار رؤوس الأموال الخليجية، ويرفد اسواقهم بمنتجات زراعيه وحيوانيه ذات جودة عالية؛ كما أنّ الأنظمة الديمقراطية ليس من ضمن أجندتها تصدير أيّ مشاكل للدول الأخرى، بل من صميم التزاماتها عدم التدخل في شؤون الغير. فوجود نظام ديمقراطي في السودان سيجعل المنطقة أكثر استقراراً وأمنا.

ختاماً، على القاهرة -في ظلّ انشغال الغرب بالغزو الروسي على أوكرانيا- إن أخذت الضوء الأخضر أن توصي نفسها والفاعلين الإقليميين بالوعي بأن التغيير في السودان يصبّ في مصلحة استقرار المنطقة وفيه مصلحة لهم جميعاً؛ فعوضاً عن محاربته، الأجدر مساندته؛ لأنّ الكل خاسر باندلاع الحرب، سيّما وأنّ البيئة مرشّحة وملائمة لسيناريوهات أفريقيا الوسطي و النيجر وليبيا وغيرها من مناطق التمدّد في أفريقيا المستهلك الأسود لغاز الدبّ الأبيض الجديد؛ وحيث الفرصة سانحة لعساكر الدعم السريع الروسي (شركة فاغنر) التي تحكم مسارات تموين الدعم السريع السوداني وتوفّر طائرات السفر وتهريب الذهب،. وحيث يتم تفريخ الإرهاب بكثافة في المنطقة. وعلى مصر إن كان بيدها خيط، أن تسمع من في أذنه صمم: كلنا اسكافي، لكنّا لا نخيط "بوت" الجنجويد!


*منعم عمر

محامي ومستشار قانوني سوداني مقيم بالمملكة المتّحدة والمملكة العربية السعودية


aboann7@hotmail.com

 

آراء