لماذا فشل السودانيون في تأسيس الدولة؟

 


 

 

بعد أن (استقلت) البلاد، تسيّد المشهد أفندية مؤتمر الخريجين شراكة مع الطائفية، وكانت تلك الخطوة الأولى لبداية تشكل الدولة السودانية الفاشلة، حيث تنازع تكوينها الأوّلي المستمسكون بالولاءات الطائفية والمنحازون للعصبيات الأيدلوجية، فكانت وما زالت طبقة الأفندية هي الشريحة (المستنيرة) المساهمة مساهمة فاعلة في استمرار الدولة المشوّهة الحديثة التكوين، فولّدت هذه الشراكة شبكة من العلاقات الاقتصادية الطفيلية التي احتكرت السوق بين قلة قليلة من أفراد الشعب جمعت بينهم الجهة والأيدلوجيا، واستمالت عدد من جنرالات المؤسسة العسكرية وزجت بهم في أتون الميدان السياسي، منذ تلك الوهلة الأولى لخروج ذلك الجنين (المنغولي)، عاش السودانيون في زيف وتضليل منهجي مارسته حكومات الدويلة المخفقة، فلأكثر من نصف القرن لم يسع الحكومات المتعاقبة حسم أزمة الهوية وقضايا الحرب والسلام والتنمية المتوازنة والمستدامة، فكانت الأنانية والنرجسية النخبوية والدوغمائية الطائفية هي الحائل بين الشعب وحصوله على دولة العدالة وحكم القانون، ولا اعتقد أن هناك دولة في العالم خاضت حروب جهوية لمدة تجاوزت الستين عاماً كما هو حال الدولة السودانية، لقد بدأت اليابان والصين مشروعهما النهضوي بالتزامن مع نقطة انطلاق تكوين سودان ما بعد سنة ست وخمسين، وطوتا صفحة نصف القرن الماضي وهما تتربعان على عرش الاقتصاد العالمي، أما في أرض النيلين فقد جاء حصاد السنين مراً، حرباً ضروساً ما فتئت تقصف الأبرياء بصواريخ الكاتيوشا في منازلهم.
وحتى الانتفاضات والثورات الشعبية التي اجتاحت المدن والقرى، حرصت فقط على تحسين أوضاع عبودية الشعب وهو يرزح تحت نير قهر تحالف وتآمر النخبة مع الطائفة، فانتجت حكومات ديمقراطية واهنة وقصيرة الأجل، وبحكم التكوين الطائفي لأكبر حزبين ظلا يخوضان غمار الحراك الديمقراطي ويفوزان، لا لتماشي أجنداتهما مع الأهداف العليا للبلاد، وإنما لعدم استجابة هذه الأحزاب لمباديء ومعايير العملية الديمقراطية في حد ذاتها، وذلك بعدم خضوع نظامها الأساسي وتعاطيها العام للأسس والقواعد التي بنيت عليها الديمقراطية، ولو أردنا مثالاً لذلك علينا بالرجوع اربع سنوات للوراء حينما أنجزت الجماهير ثورتها السلمية، فاختطفتها ذات المجموعات الطائفية والنخبوية، ثم عرضتها للمساومة بين أيدي عسكر نفس النظام الذي اشتعلت من أجل اسقاطه الثورة، فالداء قديم والدواء لم يتطور ليكون مضاداً للأزمة المتراكمة عبر الحقب والسنين، والفشل الحكومي والسيادي الذي لازم الدولة منذ خروج المستعمر لم يكن مسؤولاً عنه العسكريون لوحدهم، فللقوى المنبثقة من نادي الخريجين ومعها الحزبين الكبيرين، وأضغاث أحزاب مؤدلجة صغيرة أيضاً لعبت دوراً في استشراء فايروس الإخفاق الوطني، ومن غرائب القوى السياسية القديمة غير المتجددة أنها ما زالت تحلم بأن تقدم ذات الأطروحات القديمة كحلول لأزمات اليوم، دون أن تدرك شسع المسافات الفاصلة بين عقلية جيل الستينيات وأجيال الألفية الثالثة.
حرب منتصف أبريل كشفت القناع عن وجوه الساسة الديناصورات، ووضعت الشعب أمام صورته الحقيقية أمام المرآة، فصدم صدمة أفقدته توازنه، وتتجلى هذه الصدمة في إيمانه العميق بمؤسسته المسؤولة عن الذود عن حياض عرضه وأرضه، رغم تراجعها البائن أمام شقيقتها الحديثة التكوين، فمهما حاولت أن تزيح الغشاوة المترسبة في عقول بعض القدماء لن تفلح، لأن الغسيل الدماغي الذي مارسته المؤسسات العسكرية والتعليمية على جماجم الفقراء، قد بلغ مدىً أصبح معه هذا البائس لا يرى ولا يسمع ولا يتحدث غير حديث الأبواق الصائحة بالزيف والتغبيش، وكما قال أحد نشطاء حركة الحقوق المدنية بأمريكا أن أصعب وأقسى ما واجهوه وهم يوزعون قناديل المعرفة والوعي بين المستعبدين من قبل الرجل الأبيض، هو كيفية إقناعهم بأنهم مستعبدون، فاستغلال جهاز الدولة في إذلال السكان ولعشرات السنين له أثر بالغ في خلق وصناعة روبوتات بشرية، تسبح بحمد الصانع وتنساق للموت مجاناً في سبيله بدون تردد ولا تشكيك، هذا بالضبط ما حاق بمجموعات سكانية عريضة في السودان، وتصديقاً لما نقول ما عليك إلّا أن تلقي بالنظرة الفاحصة على أفراد جيش الدولة القديمة أسرى القوة العسكرية الحديثة الرافضة للمشي خطو الحافر على البساط القديم، فهذه الحرب الأبريلية رغم مأساتها التي ولجت كل بيت إلّا أنها فعلت ما يطلق عليه اسم العلاج بالصدمة والذهول.
لقد فشل السودانيون في تأسيس الدولة لغلبة مشاعر العاطفة غير المرشدة على وجدانهم في ميادين العمل العام، فمارست النخب الحاكمة كل أشكال الفصل الجهوي والقبلي بين المكونات الاجتماعية، وأعلت من سقف الآصرة العرقية وحطت من خصيصة الشعور الوطني الجمعي ، فدارت كل الحكومات (الوطنية) حول دوائر إزكاء نار الحمية الجغرافية والأثنية والدينية، فانفصل جنوب الوطن كمحصلة حتمية للاحتقان الاجتماعي المزمن، وها هي اليوم تثور ثائرة النعرة الجهوية الصارخة بعد أن كشّرت الحرب عن أنيابها، وأصبحت أبيات الشعر التي جادت بها قريحة الشاعر دريد بن الصمّة هي المُعبّر الوحيد عن حال بني شعبنا اليوم:(وهل أنا إلّا من غزية إن غوت، غويت وإن ترشد غزية أرشد)، فالدولة لا تؤسس على أعمدة القبيلة ولا على الانتماءات الجغرافية، كما فعل مؤسسو الدولة الفاشلة التي نشهد انهيار أركانها بعد انفجار برميل الحرب، فقد حصدت هذه الدويلة المخفقة شر أعمالها التآمرية في الأطراف البعيدة ناراً موقدة في مركز قرارها السيادي، كيف لا يحدث هذا وأجهزتها الأمنية والعسكرية ما لبثت تنشط على مر السنين في دق إسفين الفرقة بين أبناء اللحمة الواحدة، فألسنة لهب الحروب القبلية المخطط لها من داخل قاعات اجتماعات هذه الأجهزة، لابد وأن تصل لسعاتها إلى عمق وجود المنظرين الرئيسيين لجرائم الفرز الاجتماعي المرتكبة من قبل عسس الدويلة الفاشلة.
النزف الدائم من الجراح التي اصابت جسد الدولة، والناتجة عن الطعنات النجلاء المتتالية التي صوبها النخبويون والمؤدلجون والطائفيون، على هذا الجسد الهزيل المثقل بتراكم الجراح والأورام منذ ما يسمى (الاستقلال)، فلا يمكن أن يُضمّد إلّا بإجراء العمليات الجراحية القاسية المزيلة للصديد والقيح وتراكم الأوساخ، وبغير الكي بالنار لا يمكن أن يتحقق الخروج الآمن والمعافى لهذا الجسد من غرفة الإنعاش، فالانهيار الكامل يلزمه انعاش كامل، وهذه السويعات التي نعايشها اليوم هي دليل دامغ على عدم وجود مؤسسة واحدة وطنية من مؤسسات الدولة، وذلك لأنها فشلت في الحفاظ على نفسها ناهيك عن أن تصون أمن وسلامة الكيانات الاجتماعية، وكل الاحتمالات تشير لحتمية وقوع واقعة التحول الشامل للدولة وكياناتها السكانية، المفرزة لمؤسسات وطنية حقيقية ليست كمثل تلك المؤسسات الهشّة الموبوءة بداء (الكنكشة)، الذي أحرق الناس وهم أحياء داخل بيوتهم في أحياء مدن السودان، فماء النيلين قد كذّب جميع الغطّاسين الذين ادّعوا مهارة زائفة في السباحة الماهرة، الموصلة لبر أمان العدالة والمساواة والتحرر والانعتاق الطائل لكل شرائح الكيانات المجتمعية في طول البلاد وعرضها، فعندما يختصم لاعبو الورق يقومون بدكه دكاً دكا، ثم يصطفون صفاً صفا استجابةً لعدالة التوزيع المنصف الذي من بعده يذعن الجميع لحكم قانون اللعبة. هذا ما نرجوه اليوم، دك يعقبه توزيع عادل.

إسماعيل عبدالله
26يوليو2023

ismeel1@hotmail.com

 

آراء