لمصلحة من تتحول ذكري مارتن لوثر في الخرطوم الي دعاية لأشاعة الكراهية؟
8 March, 2010
Kha_dfa@yahoo.com
إحتفلت الخرطوم مساء السبت الماضي بنشاط نوعي خلاق، في أطار من الشراكة الذكية بين المكتب الثقافي للسفارة الأمريكية، وفندق برج الفاتح، وقناة الشروق، وذلك لتدشين الفيلم الوثائقي لداعية الحقوق المدنية مارتن لوثر كينج. وقد وقع في روع الحشد النوعي الذي تداعي لحضور عرض الفيلم في برج الفاتح، أنها سانحة لتلاقح الوعي الجمعي بمشروع مارتن لوثر الأنساني في النضال المدني، وأستخلاص الدروس والعبر من سموقه الروحي والفكري وهو يقدم التضحيات الجسام من أجل أن يتصالح الشعب الأمريكي مع نفسه نابذا للتفرقة العنصرية وداعية للعدل والمساواة ودولة القانون دون أعتبار للون، والعرق والديانة. وهي لا شك دروسا وعبرا تنسجم مع اللحظة التاريخية الفاصلة التي يعيشها السودان الآن. وتذكرت ذلك المشهد النادر، والمدن الأمريكية تئن وتنفجر أحتفاءا بفوز السيناتور باراك أوباما بمنصب رئيس الولايات المتحدة، لأن فوزه فتح أبواب التاريخ، ودشن صفحة جديدة في التاريخ السياسي المعاصر للولايات المتحدة الأمريكية، وأعتبر المثقفون والمراقبون فوزه قطافا لثمرة النضال المدني للزعيم الراحل مارتن لوثر كينج وغيره من زعماء حركة الحقوق مثل مالكوم أكس.إذ سرعان ما تداعت الأمواج البشرية المتدفقة الي ميدان المول في وسط واشنطون وهي تذرف الدموع ، وتلوح بالأعلام إحتفاءا بالحلم الذي تحقق.لقد أنبجس ذلك الحلم، من ركام اليأس والنضال والعرق والدم والخيانة، وأطل من كوة التاريخ مارتن لوثر كينج في العام 1963 وهو يتلو خطبته التاريخة (لدي حلم) I have a dream التي ألقاهها في ذات موقع الأحتفال في واشنطون، مؤكدا أنه يري بعيني الحلم أن التاريخ سيسفر في لحظة مخاضه وتجليه عن أنتصار الأنسان الأسود لقيم المساواة والعدل، محررا نفسه من رق العبودية، والأضطهاد. وقد أصبحت تلك الخطبة مقررا مدرسيا بعد أن نجح تلاميذه مثل جيسي جاكسون و اندرو يونج في العام 1986 من أستصدار قانون من الكونقرس لتصبح ذكري ميلاده عطلة قومية في أنحاء الولايات المتحدة.
جاء ذلك الحشد النوعي الي فندق برج الفاتح مساء السبت الماضي، وهو يستدعي هذه المعاني ، وبالفعل فقد تم عرض الفيلم الذي أستغرق بضعا وثلاثين دقيقة بحضور مرشح الحركة الشعبية للرئاسة الأستاذ ياسر عرمان،وقد أفتتح الحفل بكلمة مقتضبة من مسئولة الأعلام بالسفارة الأمريكية، ومن ثم عقب علي الفيلم أثنين من الأمريكيين الأفارقة اللذان سلطا الضوء علي حركة الحقوق المدنية، والتاريخ النضالي للزعيم الراحل مارتن لوثر، والملابسات التي أحاطت بمقتله. وقال أحدهم إن الدولة أعترفت بزواج البيض والسود بعد أربع سنوات من أغتيال مارتن لوثر. كما أستدعي بعضهم ذكرياته الأسرية واللحظات العصيبة التي مرت بهم عند أعلان حادثة أغتياله.
وتوقع الجميع أن تنسجم فقرات البرنامج مع القيم التي ناضل من أجلها مارتن لوثر كينج مثل التعايش السلمي، والنضال المدني،وقيم العدل والمساواة وتأسيس دولة القانون ونبذ الكراهية والعنف، ولكن لأعتبارات أثارت الشكوك، أبتدر النقاش في المنصة المهندس فاروق جاتكوث وعضوا آخر بالبرلمان القومي ينتمي للحركة الشعبية. وقد أحال حديث المهندس فاروق جاتكوث وصديقه هذه المناسبة النبيلة الي منبر لأشاعة الكراهية والبغضاء، حيث أشار الي أن الجنوبيين في السودان يعانون من نفس وضع الأفارقة الأمريكيين في زمن مارتن لوثر. ولا يمكن تحريرهم من ربقة الأضطهاد والعبودية ، إلا بالكفاح المسلح.ووصف العرب والمسلمين في شمال السودان بممارسة الرق والأضطهاد ضد المجموعات الأفريقية الأخري،مشيرا الي أن الشماليين يطلقون صفة العبيد علي الجنوبيين، وكل المجموعات المهمشة. وأكد علي وجود تمييز عنصري وسط المسلمين إستنادا الي العرق والقبيلة وليس الدين. وقال إن مسلمي دارفور يعانون من الأضطهاد والتهميش، حيث لم يشفع لهم أسلامهم، لأن الحكام الفعليين ينحدرون من مناطق وقبائل معينة في شمال السودان.
لقد تم أختطاف المنبر الثقافي للأحتفاء بتراث مارتن لوثر السلمي، وتحويله الي منبر لأشاعة الكراهية والدعاية السياسية التي تتعارض وقيم التعايش والتسامح والتصالح الأجتماعي، وبالتالي فقد هزمت كل من قناة الشروق، وفندق برج الفاتح والمكتب الثقافي للسفارة الأمريكية بالخرطوم روح مارتن لوثر التي كانت تحلق في سماء الخرطوم مع سبق الأصرار والترصد. وما زالت الأسئلة معلقة دون أجابات. وهي لماذا يمنح المنظمون منبر تدشين فيلم مارتن لوثر لمنسوبي الحركة الشعبية دون ممثلي القوي السياسية الأخري؟ ولماذا لم يتم أختيار عناصر معتدلة تنسجم مع قيم ومبادئ الزعيم مارتن لوثر وهو داعية الحقوق المدنية والتسامح الأجتماعي؟. لا شك أن قناة الشروق رغم مشاركتها كانت مغيبة عن الترتيبات الفنية، كما أن فندق برج الفاتح شارك بالمكان فقط. ولا شك أن أختيار المتحدثين، وترتيبات العرض والندوة المصاحبة قد أشرف عليها المكتب الثقافي والأعلامي للسفارة.
إننا نتفهم بعمق الدوافع النبيلة لعرض الفيلم ، لا سيما وأن تدشين هذا الفيلم يحمل بشريات أخري تتمثل في عودة البرامج الثقافية والتعليمية الأمريكية للسودان بعد أن تم سحبها وإلغائها منذ بداية عقد التسعينات. ويكشف تقرير المفتش العام لوزارة الخارجية الأمريكية كيف أجتهدت السفارة في الخرطوم ولاحقت واشنطون لأعادة تأسيس المكتب الثقافي والتعليمي، وتخصيص ميزانية معقولة لنشاطاته. ولكن رغم نبل المنطلقات والأهداف التي لا تنتطح عليها عنزتان إلا أن الذين أشرفوا علي المناسبة يفتقدون الخبرة الكافية بطبيعة الخطاب السياسي السائد، ويجهلون أصحاب الآراء المتطرفة ، ويستسهلون الآثار الجانبية المترتبة علي هذا النشاط الذي يخدش روح التعايش السلمي والأجتماعي، ولا يتدبرون أعطاء المنبر لنشطاء دعاية نشر الكراهية ، دون مسوغ منطقي واضح.ولعل مما زاد هذه الشكوك هو أنحياز المنصة لفئة تتماهي مع طرح المتحدثين ، دون أعطاء فرص متكافئة للفئات الأخري داخل قاعة العرض.
كيف ترضي قناة الشروق وهي طرف أصيل في رعاية هذا النشاط، بأختطاف منبر الندوة المصاحبة للفيلم لصالح الخطاب المتطرف الذي يغذي الكراهية والعنف؟. تصدي لتفنيد هذه الترهات بخطاب رصين، وفكر معتدل أحد المثقفين المستنيرين ،بعد أن حرمته المنصة حق التعليق في بادئ الأمر، إمعانا في تحييد الأصوات المعارضة لطرح المتحدثين الحاد.إن الخطاب المتطرف مرفوض أيا كان مصدره من الشمال أو الجنوب، وهو بالطبع لا يمثل صوت الأغلبية التي ما زالت تحتفظ بمزاجها السوداني المعتدل الذي يميل الي الوسطية والتسامح ونبذ العنف.
لقد عاش مارتن لوثر 39 عاما فقط حتي تم أغتياله في ممفيس بولاية تنسي في أبريل 1968. في العام 1964 أصبح مارتن لوثر أصغر فائز بجائزة نوبل العالمية التي حصل عليها تمجيدا لجهوده في حركة الحقوق المدنية لأنهاء الأضطهاد الأثني، والفصل العنصري ضد السود عن طريق الكفاح السلمي والعصيان المدني. وقد أتضح جليا فاعلية منهجه في حركة العصيان المدني التي قادها أحتجاجا علي حادثة بص مونتقمري الشهيرة عام 1955. وركز جهوده في أخريات أيامه علي مكافحة الفقر، ومناهضة حرب فيتنام .هذا وقد منحه الرئيس الأمريكي في العام 1977 ميدالية الحرية الذهبية، كما منحه الكونقرس في العام 2004 ميدالية الكونقرس الذهبية أعترافا بجهوده الكبيرة في أنهاء سياسات الفصل العنصري ضد السود في أمريكا.
أنحاز مارتن لوثر طيلة فترة نضاله السياسي والمدني الي الفقراء والضعفاء، لذا فأن الأفكار الأساسية لحركته بدأت بأنحيازه للفكرة الشعبوية Populism . وهي تيار أيدلوجي وفكري يرتكز علي خطاب سياسوي أجتماعي مناصر لتطلعات وأحلام ورغبات رجل الشارع العادي،ويقف ضد فكرة النخبوية والصفوية ، وسلطات الطبقات العليا في المجتمع. تأثر مارتن لوثر بأستاذه في جامعة بوسطن ثرمان هوارد الذي أصبح قائدا روحيا له بعد أن تعهده بالرعاية وفاءا لصداقته مع والده. وقد زار ثرمان هوارد المهاتما غاندي في الهند، وتوجه إليه بالسؤال عن الرسالة التي يريد أن يحملها معه الي الولايات المتحدة. فقال غاندي لثرمان، إنه فشل في أن يجعل النضال السلمي المدني، ممارسة سائدة في العالم، وتنبأ أنه ربما ينهض قائد من الأمريكان الأفارقة بهذه الرسالة ويجعلها فكر وممارسة تسود العالم. وقد نقل ثرمان رسالة غاندي الي الولايات المتحدة ، وتأثر بها تلميذه مارتن لوثر كينج.ولذلك قرر مارتن لوثر زيارة منزل غاندي في الهند عام 1959 بعد أن قاد حركة العصيان المدني أحتجاجا علي حادثة بص مونتقمري عام 1955 كما ذكرنا آنفا. وألقي مارتن لوثر خطبة شهيرة في الهند، حيث أكد فيها أنه صار مقتنعا أكثر مما مضي بحركة الحقوق المدنية والنضال السلمي بأعتباره أنجع الوسائل للمضطهدين لنيل حقوقوهم وحريتهم. وقال إن مبادئ غاندي ، مستمدة من روح الطبيعة، ومبادئ الأخلاق الأنسانية. ومما زاد من قناعة مارتن لوثر بمبدأ النضال السلمي المدني الذي أسسه غاندي،شروح أستاذه بيراد روستن الذي تخصص في السيرة النضالية لغاندي، وأستطاع روستن أن يقنع مارتن لوثر بتبني منهج غاندي السلمي في النضال المدني. ويعود الفضل كذلك الي روستن في تنظيم مسيرة واشنطون عام 1963 والتي ألقي فيها خطابه الشهير (لدي حلم) رغم إعتراض الرئيس الأمريكي جون كندي الذي كان يري أن المسيرة قد تؤجل التصويت علي قانون الحقوق المدنية الذي كان علي طاولة التصويت في الكونقرس. وقد تعرض مارتن لوثر لمضايقات كثيرة بسبب علاقته مع روستن المتهم بالشذوذ ودعمه للأشتراكية الديمقراطية وأرتباطاته بالحزب الشيوعي في الولايات المتحدة، وقد حاربت السلطات الرسمية نفوذ حركة مارتن لوثر برميها وأتهامها بالشيوعية حتي يستنكفها الناس وينفضوا من حولها. وعندما عارض مارتن لوثر الحرب في فيتنام هاجمته وسائل الأعلام المتعددة التي يملكها البيض بما في ذلك صحيفة الواشنطون بوست التي أشارت الي أن معارضته للحرب تهدم كل تاريخه النضالي ، وكل ما بناه من أجل شعبه ووطنه. وقد أستعرض كينج في أقوي خطاباته ضد الحرب، مصير الجنود السود الذين يموتون جنبا الي جنب مع الجنود البيض في ساحة الوغي والحرب من أجل وطنهم. ولكن فشلت أمريكا التي جعلتهم متساويين في الموت والجندية من أن تساوي بينهم داخل أمريكا نفسها، حيث لا يستطيعون أن يدرسوا في مدرسة واحدة لسياسة الفصل العنصري. ومع تنامي شعبيته وتصاعد نجمه،تعرض لوثر الي أغتيال معنوي وأبتزاز سياسي ، ومحاولة دمغه بالشيوعية. وقد نشط مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI تحت قيادة مديره الشهير أدغار هوفر، في متابعة نشاطات لوثر، والتنصت علي مكالماته بعد منحه الاذن من وزير العدل روبرت كندي. وسرعان ما تغلغل مكتب التحقيقات الفيدرالية في حياته الخاصة وأتهمه بالعلاقات النسائية المتعددة. وهدده الـ FBI في العام 1963 بكشف المعلومات عن حياته الشخصية، وفضحه أمام الملأ إذا لم يوقف حركة الحقوق المدنية المتصاعدة. ولكنه أبي أن ينحي للضغوط والتهديدات ، وواصل مسيرته حتي تم أغتياله في مدينة ممفس في ولاية تنسي وهو يطل من بلكونة فندقه الصغير، وكان يتهيأ لمخاطبة الجماهير في ذلك المساء الحزين. ويكاد الزعيم مارتن لوثر يتنبأ بمقتله في الخطبة التي القاها قبيل مصرعه، عندما تم أخطاره بوجود قبلة في طائرته فقال" لا أعلم ما سيحدث لي ، ولكني صعدت الي قمة الجبل، ولا أبالي، ومن هناك رأيت أرض الميعاد، ربما لا أكون معكم عندما تصلونها. ولكن أريدكم أن تعرفوا أننا أعطينا أرض الميعاد، ويغمرني شعور غامر بأن أضواء الرب تناديني". وعندما تم تشريح جثته بعد إغتياله قال الطبيب وجدنا بداخله قلب رجل يبلغ 60 عاما رغم أن عمره عند أغتياله كان 39 عاما فقط، ولكنها أثقال النضال، وهموم الكفاح، ومسئولية التغيير.
في 2 نوفمبر 1983 وقع الرئيس ريغان قرارا بتخصيص يوم 20 يناير من كل عام عطلة قومية في كافة أنحاء الولايات المتحدة تخليدا لذكراه. وجعل الرئيس بوش الأب عطلة مارتن لوثر يوم الأثنين الثالث من شهر يناير كل عام. ونبه مارتن لوثر في أحدي خطبه الي الكيفية التي يجب يتذكره بها الناس فقال: "عندما أموت تذكروني بأنني أخلصت طوال حياتي لأطعام الجائع، وكساء العاري، وزيارة المسجونين،وأزالة الفقر ، وتحقيق العدل والمساواة، وأنني كنت داعية سلام، مناضلا من أجل الحقوق المدنية وأزالة العنصرية، تذكروني أنني عملت من أجل الأنسانية. أما أي شئ آخر لا يهم".
هل تستحق هذه السيرة التي أستعرضناها بمناسبة عرض الفيلم التوثيقي عن حياته في الخرطوم، أن تدنس وتشوه، وتختطف من سياقها الأنساني الباهر، لأشاعة الكراهية والبغضاء. لقد كان مارتن لوثر داعية للنضال المدني، والكفاح السلمي، ولم يدع طيلة حياته الي الغلو في الخصومة، وأشاعة الكراهية . لم يحسن المنظمون الأحتفاء بسيرته الملهمة ورسالته النبيلة في الحياة، بل شوهوا مبادءه الداعية للسلام الأجتماعي والنضال المدني والكفاح السلمي، ربما أنهم لم يقرأوا أو يتأملوا معاني خطبته التي أشار فيها الي الطريقة التي يجب أن يتذكره بها الناس.أي أن يتذكره الناس كداعية للسلم الأنساني، لا أن يتذكروه كداعية للعنف الثوري مثلما يحتفلون بسيرة شي جيفارا. لهذا ربما يكون المتحدثون من فرط تأثرهم بنظرية العنف الثوري، قد أخطأوا العنوان فأحتفلوا بسيرة شي جيفارا بدلا عن مارتن لوثر.