مأساة كرينيك محنة وطن

 


 

 

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم
الرحمة والمغفرة وعاجل الشفاء لضحايا ومصابي مجزرة كرينيك. الذين اضيفوا لقافلة ضحايا الموت سنبلا! او لمجرد وجودهم في المكان الخطأ (دولة غياب الدولة) في الزمان الخطأ (حادثة عابرة)! تحت رحمة نيران من يتخذون انفسهم حكام جلادين، لسلبهم حياتهم بطريقة بشعة لا رحمة فيها. واذا صادف ان نجأ احد من حفلة الموت باعجوبة، ستحيل هذه الفظائع حياته الي سلسلة من الكوابيس. وبالطبع في ظل هكذا اوضاع اعتباطية وفوضي عبثية، لا مكان للحديث عن توافر علاج نفسي، يتعذر وروده علي الخاطر، في مناطق يجاهد اهلها من اجل البقاء علي قيد الحياة. وعموما، هذه الاحداث ليست بغريبة طالما ينتمون الي دولة يتحكم فيها القتلة واللصوص، ولذا ليس مصادفة ان تتواطأ مع القتلة وتخضع لابتزاز المجرمين.
واكدت احداث كرينيك الاخيرة المؤكد، من خطورة اجهزة الدولة الفاشلة علي مواطني ذات الدولة، وكيف لحادثة عابرة او جريمة بسيطة، ان تتحول في غمضة عين وانتباهتها الي مجزرة دامية وابادة جماعية لا تبقي ولا تذر؟ وكيف ان ملف الامن في البلاد بصفة عامة ودارفور بصفة خاصة، اصبح خارج نطاق السلطة الانقلابية او دائرة اهتمامها؟ وبصورة ادق تحول الي واحدة من اجندة الانقلابيين المتباينة في كيفية السيطرة علي السلطة؟! والحال كذلك، تتطلب المحافظة علي توازن السلطة الانقلابية الهش بين الجيش والدعم السريع، غض الطرف عن تجاوزات الدعم السريع حتي لا يحدث خلل في توازن السلطة الانقلابية. وللمفارقة هذا جعل السلطة الانقلابية نفسها رهن لابتزاز واطماع الدعم السريع! ليصبح الاخير هو المحرك والمتحكم في السلطة، ولا يشكل الجيش ممثل في البرهان، إلا غطاء شكلي لسطوة الدعم السريع ممثل في حميدتي. وهذا بدوره يعني الكثير من تحول السيطرة من جهة منظمة (الجيش) ابتلينا بها منذ الاستقلال، ولعبت العامل الحسم في تعطيل تطور الدولة، الي سيطرة المليشيات (الدعم السريع) وهو ما يعد بمرحلة ما بعد الفوضي والانتهاكات والخراب، الذي سيطال ما تبقي من ملامح الدولة المنكوبة.
وصحيح ان مشاكل دارفور لها جذور تاريخية وجغرافية وبيئية واقتصادية، وكان لها تقاليدها وآلياتها الخاصة في معالجة الصراعات القبلية والاهلية. ولكن مع تحول مشاكل دارفور لاجندة سياسية في صراع السلطة. وهو بدوره تحول الي صراع مسلح بحكم طبيعة النظام الانقلابي المسيطر وتفضيله لغة السلاح في حسم الصراعات. عمل ذلك علي توسيع حجم الخسائر الانسانية والمجتمعية والتنموية. وزاد الطين بلة، دخول تشكيل اجرامي بحجم الجنجويد علي خط الصراع، ومن ثمَّ اتخذ الصراع طابع الابادة الجماعية. اي بما يشبه تركيبة الجنجويد كمجموعة ارتزاقية تمتهن القتال، وهي مزودة سلفا بنظرة دونية واحتقارية للضحايا، تبيح ابادتهم بعد تجريدهم من آدميتهم. بمعني، يقوم الارتزاق علي نزع آدمية الارتزاقيين، كمقدمة لتجريد ضحاياهم من آدميتهم، وتاليا كمسوغ لابادتهم بدم بارد.
وبما ان الجنجويد (قوات الدعم السريع)، يقوم هيكلها علي القرابة وعقيدتها علي المال. جعل ذلك البحث عن الموارد ونهبها دافع لانشطتها. وهذا ما وسع نطاق اباداتها، وعلاقاتها مع جهات تستفيد من خدماتها. الشئ الذي انعكس مزيدا من البؤس علي دارفور واهلها، ومن ثمَّ توسع ليشمل كافة ارجاء الوطن.
لكل ما سبق، احداث كرينيك تقول الكثير مما تغض السلطة الانقلابية الطرف عنه، من ذلك:
اولا، انه لا توجد دولة بالمرة وانما سلطة باطشة، وان من يحتكمون علي السلاح يتحالفون مرحليا (لكل مآربه)، ضد كافة المواطنين.
ثانيا، ان المواطن سواء كان مسالم في دارفور او ثائر سلمي في الخرطوم، هو مجرد من كافة حقوقه، ومن ثمَّ فهو عُرضة لفقدان حياته مجانا من قبل قوات السلطة الانقلابية. اي الدولة واهلها اصبحوا رهائن فعليا في يد مجرمين مجردين من كل اعراف وقيم المجتمع.
ثالثا، انسحاب القوات المعنية بحماية المواطنين في كرينيك، بعد التنسيق التام مع القوات المعتدية، يعبر قبل كل شئ عن طبيعة توازن القوي الحاكم للسلطة الانقلابية السالف ذكره! وكيف ان القوات المسلحة السودانية اصبحت لا تختلف عن المواطنين العُزل، من ناحية فقدان الحيلة والخضوع التام لكل ما يمت للدعم السريع بصلة؟ اي هيبة القوات المسلحة تظهر فقط عندما تتقاطع مع مصالح قوات الدعم السريع، وإلا تعرضت للاهانة والبهدلة علي راس الاشهاد. والسبب ان المال اصبح هو السلطة الحاكمة فعليا في البلاد، وهو ما يتوافر بكل سهولة للدعم السريع! وهي بحكم طابعها العشائري الاكثر سخاء مقارنة مع البرهان الذي يسيطر علي اموال الجيش علي طريقة الاستمتاع بحب التملك (مستجد النعمة) الذي يمنعه الانفاق حتي علي شراء ولاءات المناصرين، لذلك هو الاكثر عرضة لخسران كل شئ!
رابعا، ان اتفاق جوبا هو ليس اتفاق باي معني من المعاني، وانما هندسة من حميدتي ولخدمة مخططاته، وكما اشار الاستاذ عثمان محمد حسن قامت علي شراء قادة اتفاق جوبا. وهو ما لم يكلف حميدتي كثيرا، بحكم تواضع طموحات وقدرات واخلاقيات هؤلاء القادة. اما البرهان فهو في هذا الاتفاق كالزوج المخدوع آخر من يعلم، لان الاتفاق في حقيقته يستهدف طموحات البرهان المنافس لحميدتي في السيطرة علي السلطة، قبل ان يمس مطامح الحرية والتغيير و مصالح البلاد.
خامسا، اثبتت هذه الجريمة وعلي هذا المستوي من الجرأة والاستباحة، ان حالة الفوضي وانعدام الامن هي افضل بيئة لعمل المليشيات المسلحة. ولذلك هي الاحرص علي استدامة حالة عدم الاستقرار. اي بقدر ما تعبر هذه المليشيات عن حالة الفوضي، بقدر ما تعمل الفوضي علي تغذيتها وتضخمها وفرضها كامر واقع. وهذا ما يفسر الدافع للقيام بانقلاب 25 اكتوبر الفوضوي. لان المضي قدما في التاسيس لدولة كما تطمح الثورة، يقتضي قيام مؤسسات لها وظائف محددة مراقبة ومحاسبة. وعليه، ليس هنالك فرصة لقيام دولة حقيقية في ظل وجود المليشيات والحركات المسلحة ومؤسسة عسكرية غير مهنية.
سادسا، من يعتقد انه يستفيد من الفوضي فهو واهم، خصوصا من دعَمَ انقلاب 25 اكتوبر خارجيا وداخليا. والسبب ان الاستفادة تحتاج للاستقرار والتحكم في الامور، وهو ما يتنافي مع حالة الفوضي مهما كانت قوة الفوضويين. والفوضي قد تخدم انصارها وداعميها علي المدي القصير، إلا ان مكاسبها نفسها مكلفة وغير مضمونة ولا تحكمها قيم، بل هي محكومة باللاقيمية (اللصوصية) اذا جاز التعبير، وهذا ما لا يستقيم مع اي تفكير استراتيجي، وهو علي اي حال يبدو غير متاح للفوضويين واللصوص.
وما حدث لسوريا وليبيا واليمن والعراق، وما يقوم به قيس سعيد في تونس وبوتين في اوكرانيا، لا يصب في مصلحة احد، مهما حاولنا اللجوء الي نظرية المؤامرة او تعسفنا في ايجاد مصلحة لاولئك المستفيدين. والسبب ان الفوضي لا تصدر إلا عن معتوهين، لا يملكون السيطرة علي سلوكياتهم المنحرفة، فكيف يسيطرون علي فوائد مرتجاة من فوضي عصية علي التحكم؟ فالفوضي لا تنتج إلا الفوضي، ولا خير في فوضي حتي للفوضويين علي المدي البعيد. ودمتم في رعاية الله.

///////////////////////////

 

آراء