ما بعد الحرب.. حساب الارباح والخسائر

 


 

 

للوصول الى تقييم يمثل صورة تقريبية لما ستؤول اليه الاوضاع بعد انتهاء الحرب، يمكن تقسيم اطرف النزاع الى طرفين هما:
طرفا القتال المباشر: الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
اطراف القتال غير المباشر: الشعب السوداني والاحزاب السياسية والقوى المدنية والمنظمات الدولية.

الجيش:
من اهم المكاسب الذي سيخرج بها الجيش من هذه المعركة هي الكسب المعنوي المتمثل في التفاف الشعب حوله بصورة غير مسبوقة، وهو الامر الذي سيمنح الجيش تفويضاً شعبياً لتنظيم شؤون البلاد في مقبل الايام؛ وأن يكون ذلك بصورة بعيدة عن الفوضى التي امتازت بها فترة ما قبل الحرب، ومن ثم تهيئة الجو العام لقيام ديمقراطية حقيقية عبر انتخابات حرة نزيهة، لا مجال فيها لإقصاء أي طرف، إلا إذا قرر صندوق الاقتراع وهو صاحب الكلمة العليا في هذا الشأن؛ اقصاء هذا الطرف او ذاك.
المكسب الثاني هو ظهور الجيش ككل موحد، فلم تحدث انشقاقات بين قادته وظلت مراكز القيادة والسيطرة فيه تعمل في تناغم وانسجام.
المكسب الثالث هو استغلال الجيش لهذه الفرصة لاكتساب الخبرات القتالية في ظل ظروف واقعية بها الكثير من التعقيد، والاستفادة من تصحيح الاخطاء التي تحدث اثناء العمليات الميدانية؛ ورصد اوجه القصور، واهم بند يحتاج للمراجعة هو الاهتمام بأساليب حرب المدن وتطوير القوات المختصة بهذا الشأن.
كما اتضح ايضا خطأ خضوع قوات الحراسة التي تقوم بحراسة المواقع الاستراتيجية الهامة لقيادة موحدة، لأن هذه القوات التي اؤتمنت على هذه المواقع؛ وكانت كلها تحت قيادة الدعم السريع؛ كادت وبضربة واحدة ان تعصف بالدولة، والدرس المستفاد من هذه الواقعة أنه يتوجب على قيادة القوات المسلحة ايجاد صيغ بديلة، بحيث تؤدي هذه القوات مهامها بالكفاءة المطلوبة، دون ان تتلقى كلها الاوامر من جهة واحدة.

قوات الدعم السريع:
الخاسر الاكبر في هذا القتال هو الدعم السريع، فقد مُسحت معسكراته وقتل الكثير من افراده وهرب بعضهم بأعداد كبيرة، ودمرت آلياته، ومنظوماته القتالية، ومراكز امداده وتموينه، وانتهى على الارض كقوة حقيقية طمعت ذات لحظة ان تكون قوة موازية للجيش؛ بل وسبح بها الخيال لكي تبتلع الجيش نفسه. وكل هذا نتيجة لحسابات خاطئة؛ إذ ليس من المعقول ان تقوم قوة ناشئة لا تتعدى خبراتها القتالية سنوات قليلة اكتسبتها من معارك ميادين مكشوفة، ان تلتهم كياناً عمره اكثر من مائة سنة، وهو كيان منظم ومؤسس بطريقة جيدة ويحتل المرتبة رقم 69 في جيوش العالم، الفكرة نفسها فكرة مجنونة ولا يقول بها عاقل، أو ان من فكر بها اصابته لوثة غرور.
عدا الخسارة العسكرية ستلحق بمؤسسات الدعم السريع المالية خسائر كبرى، أذ انها ستُصادر وتتحول ملكيتها للدولة، كما خسرت قيادته شبكة العلاقات الدولية التي انشأتها؛ وكانت تعمل في خط مواز لعلاقات السودانية الخارجية، بل كانت تتصرف في احيان كثيرة بمنأى عن مجلس السيادة وعن وزارة الخارجية، فتتصل برؤساء الدول والسفراء والمنظمات الدولية، وتنشر ذلك علناً، وقد انهت الحرب هذه الازدواجية.

الاطراف غير المباشرة:
الشعب: شارك الشعب بصورة غير مباشرة في هذه الحرب رغم أنه لم يحمل السلاح، لكن اصابه منها ضرر بليغ تمثل في حوادث القتل التي طالت بعض ابنائه، وفي حالات الاغتصاب الذي تعرضت له بعض نسائه، وما اصابه من نهب للممتلكات وتدمير للمنازل، وتعطيل مرافق خدماته وسرقة البنوك وتدمير المصانع وتوقف انشطة الحياة وانعدام السيولة، وشح المواد الاستهلاكية، وغير ذلك من ضروب المعاناة.
لكن رغم كل ذلك التف بكل فئاته وبكل العزم مع جيشه، وقبل بان يدفع هذه الفاتورة الباهظة، لعلمه ان استمرار وجود قوات الدعم السريع بالصورة التي كانت عليها سابقاً؛ وتمدده في شتى وجوه الحياة سينتج عنه في المستقبل اشد الضرر؛ وستكون الفاتورة التي ستدفع اضعافا مضاعفة لما سيدفع الآن، فصبر واحتسب وقدم الشهداء، وقبل بكل المعاناة، وهو يعلم تمام العلم ان البلاد ستكون في وضع افضل في مقبل الايام مما كانت عليه في سابقها. والربح كان في وحدته، وتكافله الاجتماعي، وارسل رسالة قوية للعالم بأسره انه وفي ساعة الازمات يكون هو والجيش جسماً واحداً، وهي رسالة لا شك ان كثيراً من الدوائر العالمية المختصة بتحليل المواقف ودراسة الازمات ستتوقف عندها كثيراً. وهي على أي حال رسالة لا تبشر بخير لمن يصنع هذه الازمات.

الاحزاب السياسية:
اكبر خاسر في الجانب المدني هي قحت فئة (المركزي)، فقد فشلت وبصورة تدعو للحيرة والدهشة في قراءة نبض الشارع السوداني وتحسس اتجاهاته، وقحت ينبغي ان يكون لديها منظريها ومحلليها باعتبارها من النخب التي يفترض انها (مثقفة)، فقد ايدت هذه الفئة قوات الدعم السريع سرا وجهراً، ومالت بكل عواطفها معه، ويمكن عزو سر التمسك بموقف المساندة للدعم السريع انها كانت موقنة بوجوده كحليف عسكري يمكن الركون اليه، وان هناك قوى اقليمية ستقف في صفها، واغفلت بالتالي دراسة الجانب الشعبي تماماً، وربما اعتبرته انه مضمون وفي جيبها.
لكن الغريب في الامر انه حتى بعد ظهور رجحان كفة الجيش وانحياز الشعب له بصورة لا تقبل الشك، ظلت هذه الفئة في عناد غريب تتمسك بموقفها الاول الداعم للدعم السريع، فكانت صماء عمياء لا تسمع ولا ترى، وكان بإمكانها ولو من باب المناورات الحزبية امساك العصا من منتصفها، لكن المفاجأة أنها ظلت تتمسك بالاطروحات القديمة؛ وتقدم رؤية فات اوانها من نوع (الجيش جيش الكيزان)، والحرب حرب (الفلول).
قدمت قحت بهذا الموقف وبسبب انعدام بصيرتها السياسية خدمة كبرى وهدية عظيمة للكيزان وللفلول، ففي ظل التيار الشعبي الكاسح المؤيد للجيش، كانت نظرة الشعب للكيزان انهم يقفون معه في صف واحد، وانهم يخدمون معه قضية واحدة، بينما كانت نظرة الشعب لقحت انها وقفت على الضفة الاخرى ضدهما الاثنين، والعامل النفسي المؤثر في هذه المسألة هو ان من يقف معك في ضفتك كتفاً بكتف، مهما كانت اخطاؤه، اولى بالمعروف والصفح والغفران من الذي يقف في الجهة المقابلة، فمن بجانبك هو صديق لك ومن يقف امامك هو عدو، هكذا بكل بساطة، ومسحت قحت بهذا الموقف غير المدروس عقوداً من جهودها الرامية لشيطنة الكيزان والتيارات الاسلامية.
نظرة قحت للمسألة كما يبدو هو انها كانت تريد اجتذاب الدعم الاقليمي والدولي بالقول: انظروا نحن نحارب الاسلام السياسي ونتصدى لفلول نظام البشير، وتجاهلت تماما اتجاه الشعب ورؤيته للموضوع، ظناً منها ان القوى الاقليمية والدولية ستخف لنجدتها، لكن هذه القوى مع كراهيتها العميقة للإسلام السياسي، إلا انها حذرة جداً في هذا الشأن وتستقرئ نبض الشارع وتضعه في حساباتها، مستفيدة من تجاربها المرة في العراق وافغانستان والصومال.
والنتيجة ان قحت كانت كالمنبت لا ارضاً قطع ولا ظهراً ابقى، فلم تحصل على الدعم الدولي المنشود، رغم جهود صديقها فولكر لحشد المؤيدين، إذ خرجت قرارات مجلس الامن مخيبة لتطلعاتها، ولا هي كسبت الشارع السوداني، فألحقت بنفسها وبصورة قادتها ضرراً بليغاً لن تفلح جلسات النقد الذاتي مهما كثرت في جبر كسره.
بناءً على هذا سيكون الاتفاق الإطاري والعملية السياسية التي كانت قحت ترعاها وتحمل لواءها في عداد المفقودين، وهذا لا يعني انه لن تقوم عملية سياسية، قطعا ستأتي مرحلة العملية السياسية الجديدة التي ستخرج من رحم مرحلة ما بعد الحرب؛ وهي عملية لن ترسم ابعادها احزاب صغيرة يقودها مجموعة من اصحاب (الحلاقيم الكبيرة)، يبشرون بالمن والسلوى، ولن تكون على حسب مزاج قحت، ولا توقيت ساعتها، ولا برسم مهندسيها، ولن يكون لها اليد الطولى في صياغتها وترتيبها، بل ستكون عملية سياسية مختلفة جداً، يدخل فيها لاعبون جدد سيفرزهم ميزان القوى الجديد؛ والذي سيكون فيه الجيش واصدقاؤه القدامى والجدد نجومه اللامعين.
اما المطالبة بهيكلة القوات المسلحة فستدخل غرفة الانعاش؛ واغلب الظن انها لن تخرج منها حية ترزق، فمع الانتشاء بالنصر من جانب العسكريين؛ واقتناع المواطنين بالأداء العسكري لقواتهم المسلحة، والظهور الميداني لها بأسلحة جديدة وقدرات لم تظهر بها من قبل، كل هذا سيجعل القوى السياسية التي تطالب بالهيكلة في وضع صعب؛ ان هي تجرأت وقامت بطرحها مرة اخرى. وبالطبع من المتوقع ان يقوم الجيش بدراسة ملفات الحرب وسيخرج منها بنتائج تساعده في هيكلة نفسه بنفسه؛ بطريقة مهنية بحتة لا دخل للسياسة فيها، وهو المسار السليم الذي تتبعه الجيوش في العالم. لا ان يأتي احد ما؛ لم يحمل بندقية على كتفه منذ ان خرج من بطن امه؛ فيقدم الفتاوي والمحاضرات لأهل الشأن، ويعتبر ان ما يقدمه ملزم لهم.

لجان المقاومة:
خفت صوت معظم هذه اللجان اثناء الحرب، بل وجهت لها اتهامات لا ندري مدى صحتها ان بعضها كان يتواطأ مع تمرد الدعم السريع، ولم يتحدث منها بصوت عال إلا قلة موجهة انتقادها للدعم السريع بصورة علنية، واضاعت اللجان الصامتة وهي الاغلبية فرصة ذهبية للاقتراب من الشعب واثبات فاعليتها في وقت الازمات، وهذا ليس مستغرباً منها، فهذه اللجان وحسب البرمجة التي بُرمجت عليها من طرف الاحزاب التي تقف وراءها، لا ترى في الجيش والشرطة والقوات النظامية الاخرى إلا عدواً لها، فأقعدها هذا الشحن بالعداء كعامل نفسي عن رسم الصورة الصحيحة للموقف؛ وما سينتج عنه في مقبل الايام، فاختار البعض منها ممالأة الجنجويد، والبعض الآخر لزم الصمت.
كلا الاختيارين يقودان الى نتيجة واحدة؛ وهي أن هذه اللجان لن تكون في وضع يسمح لها بالظهور مستقبلاً امام جماهير الشعب السوداني لتقديم أي طرح سياسي؛ أو دعوته للخروج في مظاهرة (مليونية كما يحلو لهم تسميتها)، أو ترديد شعارات مثل (حنبنيهو)، كما أن الشعار الاثير لديها وهو (الجيش للثكنات والجنجويد ينحل) قد تحدد مصيره بان يكون خبراً من اخبار كان. فالجنجويد قد حل، ولن يعود الجيش للثكنات الا بعد قيام انتخابات حرة وديمقراطية. وعليه يمكن اضافة هذه اللجان الى قائمة الخاسرين.

منظمات المجتمع المدني:
توارى الكثير منها خصوصاً ذات الصوت العالي في مرحلة ما قبل الحرب، وصمتت ولم تقدم أي ادانة واضحة وصريحة للدعم السريع في حوادث اغتصاب النساء؛ واتخاذ المدنيين دروعا بشرية، وانتهاك حرمة البيوت، والقتل في نقاط الارتكاز، والاستيلاء على المستشفيات وتعطيل الخدمات، وحرق المراكز العلمية، واقتحام المتاحف.
صمتت منظمة لا لقهر النساء، واتحاد المحامين، ونقابة الصحفيين إلا من بيانات خجولة في بداية الامر ثم سكتت، وقد احتجز بعض اعضائها من قبل الدعم السريع في مطار مروي، كما صمتت عن احتجاز العاملين بالهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون، وعن اقتحام الدعم السريع لصحيفة الحراك السياسي، واحتجاز صحفيين في وكالة السودان للأنباء. أما نقابة الاطباء فقد كانت تحمل المسؤولية (لطرفي النزاع) دون الاشارة بأصبع الاتهام الواضح للدعم السريع.
وهذه المنظمات يمكن اضافتها الى عداد الخاسرين في الحرب، وستواجه صعوبات جمة في اعادة تقديم نفسها للجمهور وبالخطاب السابق نفسه قبل مرحلة الحرب.

بعثة يوناميتس:
فولكر وبعثته (يوناميتس) عليهم ان يحزموا حقائبهم ويبحثوا عن رزقهم في دول اخرى، حتى وان تراخى العسكريون في أمر طردهم؛ وحاولوا مراضاة ما يسمى بالمجتمع الدولي، فالغضب الشعبي الجارف ضد هذه البعثة وتدخلاتها المستمرة في كل صغيرة وكبيرة والمهددة للسيادة الوطنية لن يقبل بوجودها، وسيضغط على العسكريين لإنهاء هذا الوجود، والعسكريون في المرحلة القادمة سيهمهم كثيراً مراعاة الشعور الشعبي من باب رد التحية بأحسن منها، وقد بدأت بوادر هذا الغضب في شرق البلاد من جانب الناظر ترك، وسيتنامى هذا الشعور ويعم كل البلاد في مقبل الايام. وفولكر لم يخف انحيازه للدعم السريع، بل أنه وفي فورة غيظ حين رأي بأم عينه ان هزيمة حلفائه اصبحت قاب قوسين او ادني، صرح متوعداً الجيش بان القوة المنتصرة ستكون معزولة.
العملية السياسية الجديدة يجب ان تكون سودانية مائة بالمائة، لا تتدخل فيها السفارات ولا عملاؤها، ولا يجد فيها فولكر ومن لف لفه موطئ قدم لهم فيها، إذ لن يقبل هذا الشعب الذي دفع فاتورة الحرب الباهظة بأنصاف الحلول؛ ولا التدخلات والمساس بكرامته. وعلى ضوء هذه المعطيات نستطيع ان نضيف يوناميتس إلى قائمة الخاسرين في هذه الحرب.

كانت هذه نظرة عجلى لمجمل الاوضاع، وتبين من خلالها غياب استشراف المستقبل للأحزاب وبعض القوى المدنية التي ايدت الدعم السريع، وانها قد راهنت على الفرس الخطأ، ولم تبادر لتصحيح خطأها في اثناء المعمعة، حتى ولو من ناحية تكتيكية تحفظ بها ماء وجهها، وتحفظ لنفسها خط الرجعة، اما وقد سارت الامور على غير ما تشتهي هذه الاحزاب والقوى المدنية، فعليها الآن مواجهة عواقب هذه المواقف الضبابية والمنحازة للفئة المهزومة، وعلى قواعدها محاسبة قادتها لإنقاذ ما يمكن انقاذه.
واخيرا لا نملك الا ان نقول ان شعار جيش واحد شعب واحد قد تحقق على ارض الواقع، والمرجو هو ان ينصرف ابناء الوطن للتعمير والبناء، أما كل من يفكر في الاستعانة بالأجنبي ضد وطنه فلن ينال إلا البوار والخسران.

nakhla@hotmail.com

 

آراء