ما هي الأُبانيشادس ؟ وجهة نظر شخصيَّة بقلم باربارا هاردنق .. ترجمة: إبراهيم جعفر

 


 

 

ما هي الأُبانيشادس The Upanishads؟
وجهة نظر شخصيَّة بقلم باربارا هاردنق Barbara Harding

ترجمة: إبراهيم جعفر

ما هي الأُبانيشادس The Upanishads؟ هي مجموعة من التَّعاليم الرُّوحيَّة. ثُمَّ هي، حقَّاً، مُنتخباتٌ تشتمِلُ على قصائد شعر ومقاطع نثر بحجم وطول الإنجيل، تقريباً. والأقدمُ من بين تِلكَ الأُبانيشادس من المُحتمل أنَّهُ كان قد أُلِّفَ حوالي العام 600 قبل الميلاد فيما أُلِّفَ الأحدثُ من بينِها حوالي العام 1400 الميلادي. ولا يزيد عدد صفحات أُبانيشاد كاثا The Katha Upanishad، الذي هو أحد أعظم النِّصوص الدينيَّة في هذا العالم، عن 13 صفحة، على وجه التَّقريب، بيد أنَّهُ يُمسكُ بالجَّوهر الحقيقي للأُبانيشادس. وهو قد كُتِبَ، على وجه التَّقريب، عِند بداية العهد المسيحي في هذا العالم. وكُلُّ الاقتباسات في هذه المادَّة مأخوذةً عن ذاكَ الأُبانيشاد المُقدَّس العظيم.

يعود مصدر كلمة أُبا-نيـ-شاد Upa-ni-shad إلى اللُّغة السِّنسكريتِيَّة القديمة وهي تعني "الجِّلوس عِندَ قَدَمَي المُعلِّم المُرشد"، تلقِّي التَّوجيه والإرشاد. وجاءت الأُبانيشادس إلى الغرب، للمرَّةِ الأولى، على هيئةِ ترجمةٍ لاتينيَّةٍ لها نُشرَتْ في باريس في العام 1802م. ومُنذ ذلك الحين غدا للأُبانيشادس أثرٌ عظيمٌ على الفِكرِ الرُّوحِيِّ في الغرب. وقد قرأها الفيلسوف آرثر شوبنهاور وقال عنها إنَّها قد أضحت "سلوى حياته" وسُتُضحِي "سلوى مماتِهِ" أيضاً. وتتخطَّى رُوحُ الأُبانيشادس كُلَّ حواجز الأسماء، الأديان ومُختلفِ شِكُولِ العقائد وذلكُم لأنَّ تعليمَهَا مَعنِيٌّ بشأنِ الرُّوح الكائنة وراء كُلِّ الأديان. إنَّها، ببساطة، لا تنتمي لثقافة واحدة، أو شعب واحد، فهي الفلسفةُ الأزليَّة والمغزى-الموضوع العظيم لديها هو أنَّ مملكة الله كائنةٌ في كُلِّ فردٍ مِنَّا. وفي ذلكَ تقولُ كلماتٌ في أُبانيشاد كاثا: "إنَّ الرُّوحَ، النَّفسَ الكُلِّيَّةَ Atman المُستقِلَّة بذاتِها وبكينُونتِها في جُواءِ كُلِّ الكائنات، مَخفيَّةٌ في قلُوبِ كُلِّ الكائنات؛ أصغر من أصغر الذَّرَّات، بيدَ أنَّهَا أعظم من الفضاءات الشَّاسِعَةْ".

إنَّ كُلَّ واحدٍ مِنَّا، بحسب الأُبانيشادس، هو الكون، الشَّيءُ الذي يعني، عند الأُبانيشادس، أنَّ حقيقةَ العالم الذي هو خارجنا مُتطابقة مع حقيقة العالم الذي هو بداخلنا. عليهِ يكن الاكتشاف العظيم للأُبانيشادس هو أَنَّنَا، بالفِعل، العالم؛ هو أنَّكَ أنتَ شخصيَّاً العالم؛ أنَّنا نحنُ بيئتُنا. ورياضةُ اليوغا الرُّوحيَّة تمنحنا سبيلاً لذاكَ الاكتشاف.

على ذاكَ السَّبيل يُخطِرُنَا أُبانيشادُ كاثا أنَّ "النَّفسَ لا تُدرك خَلَلَ اللُّجاجِ والحُجَاج، خَلَلَ فلقِ الشَّعرةِ بالحُجاجِ واللُّجاج، خَلَلَ الدَّرس والتَّثَقُّف النَّظري، مهما يكُن ذلكَ عظيمَاً، وإِنَّمَا هي- تِلك النَّفس- تجيءُ إلى من تُحب، تأخذُ بَدَنَهُ لها".
إنَّ تلك الرُّوح ليس لها أن تُعرَفَ سوى خَلَلِ التَّوَحُّدِ معها وليس خَلَلَ التَّعليمِ والتَّثَقُّفِ النَّظريِّ المحض: إنَّ الكُتبَ قد تُضجر أو تُرهقْ. يقولُ أُبانيشاد كاثا في ذلكَ المُتَّصَل: "إنَّ النَّفسَ الفرديَّة والنَّفس الكُلِّيَّة تقيمان في القلب مثل الظّل والضُّوء ورُغم أنَّ النَّفس الكُلِّيَّة كائنةٌ فيما وراء أيِّ لَذَّةٍ ومُتعةٍ تَظَلُّ هي، مع ذلك، بِوُسْعِهَا الالتذاذ والتَّمتُّع بنتائج الأفعال". كما يقولُ أيضاً: "الله تعالى قد صيَّر الحِسَّ مُنعَطِفَاً خارجاً، عليه يغدو الإنسان ناظراً خارجاً وليس إلى جُوَّانِيَّةِ نفسِهِ ورُوحِهِ. غير أنَّهُ فيما بين الحين والآخر جرُؤُت أَنفُسٌ جسورةٌ، ناشدةً الخِلُود، على النَّظرِ الجُّوَّانِيِّ ووجدت كُلٌّ منها نَفسَهَا". كذلك يقولُ الأُبانيشادُ نفسُهُ إنَّهُ "آنَ ما تُسَكَّنُ الحواس الخمس ويُسَكَّنُ العقلُ ويَقِرُّ الفِكْرُ نفسُهُ في الصَّمت يبدأُ السَّبيلُ الأسمَىْ" وإنَّ ثَبَاتَ ورِسُوخَ الحواس على الهدوء والسَّكينة ذاكَ يُدعى "اليُوغَا" وإنَّهُ حينذَاكَ "تنبغي على الإنسان المواظبة على صيرورة المُراقبة وذلك لأنَّ اليوغا تجيء وتذهب".

إنَّ ثَبات ورسوخ الحواس على الهدوء والسَّكينة ذاكَ، ذاكَ التَّسكين لاضطراب وتأرجح حركة "بندول" العقل يُدعى "يُوغَا"، ثُمَّ إنَّ تدريب النَّفس ذاك يقودُنا إلى اكتشاف الخِلُودْ... حقَّاً إنَّ هُنالكَ رُوحَ تفاؤلٍ وبهجةٍ غيرَ عاديَّة في الأُبانيشادس التي تُوكِّدُ لنا أنَّ تدريب الحواس في آنِ ممارسة رياضة اليُوغا الرُّوحيَّة من شأنِهِ التَّحكُّم في اضطراب وتأرجح حركة "بندول" العقل. يقُول أُبانيشاد كاثا على ذلك السَّبيل: "إنِّ مَن يُدركُ أنَّ الحواس لا تنتمي إلى الرُّوح وإنَّما إلى العناصر، أنَّها تُولد وتموت وتفنى، ليس له من بعد ذلك إلى الأسى سبيل".

وفي أُبانيشاد كاثا الموتُ هو المُعلِّم وفيها ينشُدُ الشَّاب ناشيكيتاس Nachiketas المعرفة ويُعلِّمُهُ الموتُ حكمة اليوغا السَّامية.

ويتخلَّلُ الحديثُ عن الكارما، العِلَّة والمعلول، جِماعَ أرجاء الأُبانيشادس. بيدَ أنَّهُ من الممكن لنا هنا أن نُفكَّر في الكارما كالقابليَّة، كالاحتمال والإمكان المفتوح أمامنا. أعني بذلكَ أنَّهُ بإمكاننا هنا استخدام "كارمانَا" وتمديدها إلى أقصى حدودِ إمكاناتِنَا. ونُشيرُ في هذا المُتَّصَلِ إلى أنَّ أُطروحة الكارما تُقدِّم لنا تعليلاً لما تبدُو لنا مظالم في عالمنا هذا، كما إلى أنَّها أطروحة معنيَّة بشأن هذه الحياة وبشأن الماضي والمُستقبل فيها. وتَمْنَحُنَا الأُبانيشادس سبيلاً لكسرِ قيدِ الكارما ذاكَ حيثُ تقُولُ أُبانيشادُ كاثا: "النَّفسُ تُدركُ كُلَّ شيءٍ، لا تُوجد ولا تموت، ليست هي معلول أيِّ عِلَّة؛ إنَّها أزليَّة، مُستقِلَّةَ الوجود بذاتِها، لا يُدركُهَا فناءٌ أو امِّحاقْ، قديمة. أَنَّى، والحالُ كذلك، لإماتة الجَّسد أن تُميتَهَا؟"

إِنَّنِي أجِدُ الأُبانيشادس مُشَجِّعَةً لي، تشجيعاً كبيرا، بهيجةً ومُحِبَّةْ. وأقولُ هنا إنَّ أيَّ اكتشافٍ بشأنِ الأُبانيشادس ينبغي له أن يَتِمَّ التَّوَصُّلُ إليهِ، أو بُلُوغُهُ، فرديَّاً. والتَّعلُّم هُنَا يبدأُ من استيعابٍ ذهنِيٍّ فِكرِيٍّ ("وشِعُورِيٍّ")، ثُمَّ يذهبُ، من بعدَ ذلكَ، أعمقَ فأعمقَ، خَلَلَ الجَّسَدْ. ونحنُ نتعلَّم هُنَا كيف نُوقِظُ ذكاءَ كُلِّ خِليَةٍ في الجَّسَد، نغدُو، كَرَّةً أُخْرَى، مثل الأطفال، لكنَّا ننمُو ونرتقي، في ذاتِ الآن، إلى حالِ رُشدٍ كامِلْ.

دعنا، إذاً، نكُن مُفعَمِينَ بامتلائنا بالحياة وبيقظة الرُّوحْ.

هامش بقلم كاتبة المقال:

* هنالك ترجمتان حسنتان لأُبانيشاد كاثا، أولاهما ترجمة شِري بيُوريهت اسواميSwami Shree Purohit برفقة و. ب. ييتس W. B. Yeats المُسمَّاة "الأُبانيشادس العشر الرئيسة The Ten Principal Upanishads" الصَّادرة عن دار فيبر وفيبر للطباعة والنَّشر، وثانيتهُما ترجمة جُوان ماسكارُو Mascaro Juanالمُسمَّاة "الأُبانيشادس" الصَّادرة عن دار بنجوين للطِّباعة والنَّشر.

هامش بقلم المُترجم:

عثرتُ على هذا المقال، المكتوب باللَّغة الإنجليزيَّة، مُرْفقَاً بترجمة جوان ماسكارو Juan Mascaro للأُبانيشادس إلى اللُّغة الإنجليزيَّة المُسمَّاة "الأُبانِيشادس" الصَّادرة عن دار بنجوين للطَّباعة والنَّشر في العام 1965م:

 

Mascaro, Juan, The Upanishads, Penguin Classics, Penguin Books, 1965.

[اكتملت هذه التَّرجمة في يوم 1 نوفمبر، 2021م].

khalifa618@yahoo.co.uk
/////////////////////

 

آراء