ما وراء جريمة الطبيب جمال !!
الذي شجّع وأغرى مدير مشرحة أمدرمان على تزوير وتلفيق تقرير تشريح جثة الشهيد بهاء الدين وجعله يفعل ذلك بقلب جامد في عهد الثورة، أنه رأي من سبقوه في إرتكاب جنس هذا الفعل لم تطالهم يد العدالة والقانون، فالطبيب الذي أجرى الكشف على الشهيد أحمد خير جاء في تقريره الذي تلى مضمونه مدير شرطة ولاية كسلا أن الشهيد توفى نتيجة تسمم غذائي، وأن بدنه كان سليماً وخالياً من الجروح والكدمات.
الذي شجّع وأغرى الطبيب جمال بمحاولته لطمس جريمة قتل الشهيد بهاء الدين هو ما فهِمه جمال من أن فرص إكتشاف جريمته تكاد تكون معدومة، لأنه يعلم أن أجهزة العدالة تعمل ألف حساب للجهة التي ينتمي إليها من قاموا بإرتكاب الجريمة (الدعم السريع)، وقد سمع وشاهد النائب العام على التلفزيون وهو يقول بأنه لا علم له بما يجري في مراكز الإحتجاز بدوائر الأمن والمخابرات والدعم السريع، وشاهده أيضاً يقول بأن علمه بالجرائم يقف عند حدود من يُعرضون أمامه من متهمين، وقد صدق النائب العام فيما قال، فهو لم يتحقق من سلامة إجراءت التشريح وتحريك البلاغ في هذه الجريمة من تلقاء نفسه - بحسبما يمكِّنه من ذلك القانون - وقد ذكر النائب العام ذلك بلسانه في تسجيل عُرض بالتلفزيون قال فيه بأن إعادة تشريح جثمان الشهيد بهاء الدين تمّ بناء على طلب أسرته.
مثل هذه الجرائم (تلفيق تقارير الطب الشرعي حول الإنتهاكات الجسدية) كانت تحدث في عهد الإنقاذ بتشجيع ورعاية جهاز الدولة، وقد كان أول ضحايا تزوير التقارير الطبية هو الأستاذ عبدالباقي الريح المحامي الذي بُتِرت ساقه من أعلى مفصل الركبة نتيجة التعذيب في بيوت الأشباح، وحينما سُئل حسن الترابي عن ذلك في مؤتمر حول حقوق الإنسان في الإسلام بكندا ذكر أن المحامي عبدالباقي كاذب وأن ساقه قد بُتِرت نتيجة مرضه بالسرطان، وبالمثل، جاء في تقرير تشريح جثمان الشهيد علي فضل الذي قُتِل بغرس مسمار على نافوخه، أنه توفى نتيجة حمى الملاريا.
الذي شجّع وأغرى هذا الطبيب لإرتكاب هذه الجريمة هو نفسه الذي كان - ولا يزال - يُغري غيره من المجرمين على التعدي على المال العام وإرتكاب جرائم الفساد، وهو غياب العدالة وتطبيق القانون بوجه صارم وفعّال، ذلك أن الفلسفة الأساسية للقانون من وراء فكرة العقوبة هي أنها وسيلة ناجعة في منع وقوع الجريمة من وراء ما يتحقق من ورائها من خِشية غيره من الإقدام على إرتكاب الفعل بسبب العقوبة التي أنزِلت على الجاني في جريمة مماثِلة، ويُسمّى ذلك ب (الردع العام)، إلى جانب هدف عقاب المجرم عن جريمته ويُطلق على ذلك (الردع الخاص)، وهذا هو الأساس الذي يجعلنا نقول ونُعيد بأن إسترداد الأموال دون عقاب سوف يظل العقبة الكؤود التي تقف أمام إصحاح دولة القانون والعدالة التي كنا ننشدها بعد قيام الثورة.