مجلة “السودان في رسائل ومدونات” كمصدر من مصادر أبْحَاث السودان .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

SUDAN NOTES AND RECORDS as a vehicle of Research on the Sudan

جورج نيفل ساندرسون

G.M. Sanderson
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لغالب ما ورد في مقال نشره جورج نيفل ساندرسون (1919 – 2001م) في العدد الرابع والخمسين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات" الصادرة عام 1964م بعنون: مجلة "السودان في رسائل ومدونات" كمصدر من مصادر أبْحَاثْ السودان.
وبحسب ما جاء في موقع أرشيف السودان بجامعة درم البريطانية عن البريطاني ساندرسون، وفي نعي بيتر وود له في العدد الحادي والعشرين من مجلة "الدراسات السودانية" فقد تخرج الكاتب في جامعة أكسفورد عام 1940م. التحق بعد ذلك بالجيش البريطاني، وبعث به إلى مصر عمل الكاتب بوزارة المعارف السودانية بين عامي 1946 و1947م، ثم عُين محاضرا بكلية غردون التذكارية (1947 – 1953م)، وأستاذا للتاريخ (ورئيسا لوحدة أبحاث السودان) بجامعة الخرطوم بين عامي 1962 و1965م.
تولى ساندرسون رئاسة تحرير مجلة "السودان في رسائل ومدونات" بين عامي 1953 و1962م.
يمكن النظر في مقال مشابه باللغة العربية لعبد الرحمن النصري صدر عام 2000م في العدد الرابع من "مجلة مجمع اللغة العربية السوداني" بعنوان (دور مجلة السودان في رسائل ومدونات في نشر دراسات اللغة العربية في السودان)، ومقال صدر في "مجلة أبحاث حوض النيل" عام 2008م ليوسف عيسى عبد الله بعنوان: (المواد المنشورة في مجلة السودان في رسائل ومدونات (1964 - 1999م): دراسة ببليومترية).
الشكر موصول للأستاذ الفاضل طارق أبو صالح لمدي بنسخة من المقال.
المترجم
****** ******
بدأت مجلة "السودان في رسائل ومدونات" في الظهور عام 1918م. وظلت تلك المجلة هي المجلة المنتظمة الوحيدة التي تنشر مختلف الأبحاث عن السودان، إلى عام 1953م، حين ظهرت مجلة "كوش"، المتخصصة في أبحاث الآثار السودانية.
وظلت غالب المواد المنشورة بالمجلة حتى نهاية الثلاثينيات بأقلام مفتشي القسم السياسي لحكومة السودان، وكانت معظمها تدور حول مواضيع أنثروبولوجية واثنوجرافية. وكان الدافع من كتابة أمثال تلك المواضيع هو الضرورة العملية لمعرفة كل ما يمكن معرفته عن سكان البلاد التي كان يديرها أولئك المفتشون، خاصة في جنوب السودان. وحتى إذا قُدر لكل وثائق وسجلات حكومة الحكم الثنائي أن تختفي تماما، فيمكن عن طريق قراءة مجلة "السودان في رسائل ومدونات" تتبع ما قامت به الإدارة الحكومية بالجنوب، وظهور قبائل "جديدة" به. وكان على المبشرين (مثلهم مثل الإداريين) أن "يعرفوا الناس"، وكان لهؤلاء المبشرين مساهمات مهمة في مجالي الأنثروبولوجيا الاجتماعية والاثنوجرافية بجنوب السودان.
وفي الفترة الباكرة للمجلة (بين عامي 1918 و1924م) كانت الأبحاث في مجالي الأنثروبولوجيا الاجتماعية والاثنوجرافية عن شمال السودان قليلة العدد ولكنها كانت أيضا بالغة الأهمية. وظللت أمثال تلك الأبحاث تتناقص بعد عام 1925م، ولكنها ازدادت لاحقا خاصة خلال أعوام الخمسينيات، حين تضاعف الاهتمام بأبحاث علم الاجتماع الحضري. وكانت سجلات كل المراكز في شمال السودان تحوي موادا في غالية الأهمية، كتب بعضها في شكل "مذكرات إحالة / مُنَاوَلَة/ تَسْلِيم Handing – over Notes" أو مقدمات تعريفية للمنطقة "Introductions to the District" للمفتشين الجدد القادمين للعمل في المركز المعين. غير أن معظم تلك المواد لم تنشر للأسف.
وفي عام 1927م تغيرت هيئة تحرير مجلة "السودان في رسائل ومدونات"، فحل ماكمايكل محل كروفورت، وازدادت بعد ذلك المقالات المنشورة في علوم الآثار والتاريخ القديم. ومن أهم تلك المقالات سلسلة نشرها البروفيسور الأمريكي جورج أندرو رايسنر Reisner في المجلة. وشجع ذلك المسؤولين بشمال السودان على البحث الميداني في مجال الآثار (كمستكشفين ومنقبين هواة).
وفي غضون الأربعين عاما من عمر مجلة "السودان في رسائل ومدونات" وضح ميلها لنشر مقالات في علوم الأنثروبولوجيا الاجتماعية والاثنوجرافيا، بتركيز خاص على جنوب السودان خاصة بعد عام 1924م، وكذلك بتركيز على علم الآثار بوسط وشمال السودان. وبلغت المقالات المنشورة في مجالات علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية والاثنوجرافية 191 مقالا، منها 143 مقالا تم تصنيفها على أنها تختص بـ "الريف / موضوعات أخرى" – وكانت كلها عن شعوب جنوب السودان، عدا القليل من الأوراق عن الفور والبجا. ونُشر بين عامي 1918 – 1924م 42 مقالا في ذلك التصنيف الفرعي. وتناقصت بعد ذلك أعداد الأوراق المنشورة بالمجلة في تلك الموضوعات، غير أن ذلك لم يكن بسبب النقص في الاهتمام بها. بل على العكس، دل ذلك على زيادة في المعرفة والخبرة الاكاديمية. فقد كانت المقالات المنشورة في سنوات المجلات الباكرة مقالات مبسطة قصيرة أو مذكرات مختصرة، وأتت بعد ذلك مقالات أكثر تجويدا وتفصيلا وعمقا. وقبل أن تمر الكثير من السنوات، كان "الإداريون – المهتمون بعلم الأنثروبولوجيا" قد شرعوا في النظر لما هو أبعد من مجرد احتياجاتهم المهنية. وكان مما زاد من شغفهم وحماستهم لذلك هو دخول بعض الأكاديميين في دراسة تلك المواد والنشر في مختلف مواضيعها، مثل أي. أي. إيفانز بليتشر وسي. جي. سيليقمان. وكان بروفيسور أي. أي. إيفانز بليتشر قد نشر مقاله الأول في مجلة "السودان في رسائل ومدونات" عام 1927م، وواصل بعد في نشر الكثير من المقالات (منها مقال في هذا العدد من المجلة بعنوان: القصص الفلكلورية عند الزاندي). ولا غنى لباحث في مجالي الأنثروبولوجيا الاجتماعية والاثنوجرافية بالسودان عن الرجوع لما نشر عنهما في مجلة "السودان في رسائل ومدونات". وكانت معظم المقالات في تلك المواضيع عن قبائل الزاندي والنوبة والقبائل النيلية. وكانت المجلة تنشر في قليل من أعدادها مقالات عن الجماعات السكانية غير المعروفة كثيرا في السودان، وذلك من باب الاهتمام العلمي العام. وتحوي الكثير من المقالات المنشورة بالمجلة قوائما بالمراجع والملاحق الببليوغرافية ترشد القارئ لمزيد من الدراسات المحكمة لخبراء مشهود لهم بالتخصص في الفرع العلمي المعين.
وقاد حركة النشر بمجلة "السودان في رسائل ومدونات" في فرعي الاثار والتاريخ القديم خبراء مهنيون، حفزوا غيرهم من الهواة لارتياد هذين المجالين والبحث والنشر فيه. وتم نشر 92 ورقة في هذين الفرعين من العلم.، وهذا رقم كبير يدعو للإعجاب والفخر، على الرغم من أن تلك الأوراق – المهمة بالفعل - لم تكن تقارب درجة التجويد والكمال الذي تميزت بها الأوراق المتعلقة بالأثنوجرافيا والأنثروبولوجيا الاجتماعية. غير أن أعداد الأوراق في فرعي الاثار والتاريخ القديم كان قد بدأ في التناقص في هذه المجلة، ليس لتناقص الاهتمام، بل لظهور مجلة "كوش" الأكثر تخصصا. وكانت تلك الأوراق تدور حول توصيف مختصر لبعض الآثار والمواقع الأثرية التي لم تستكشف ولم تدرس بعد دراسة وافية من قبل المتخصصين، خاصة خارج حدود مناطق النوبة الأثرية التي تم اكتشافها ودراستها بكثير من العمق. ومن فوائد المقالات القصيرة والمذكرات التي نشرها عدد من أولئك المفتشين الآثاريين "الهواة" أنها تقدم أدلة قيمة للمهنيين الخبراء في عمليات اختيار مواقع بحثهم، وهي عمليات كثيرا ما تكون عسيرة ومحفوفة بالمخاطرة، ووليدة المُصَادَفَة.
ونُشرت العديد من المقالات بمجلة "السودان في رسائل ومدونات" في مجال التاريخ. ومن تلك المقالات نذكر ما نشره آركل وبالفور بول عن تاريخ دارفور الحديث الباكر في نحو 12 مقالا، وما تم نشره من مقالات عن فترة حكم الفونج، ولم تكن كلها عن تاريخ سلطنة الفونج تحديدا. وأهتم كثير من الباحثين بالبحث في "أصول الفونج" وكانت تلك المسألة المثيرة قد غدت في سنوات الثلاثينيات والأربعينيات بمثابة تحويل وجهة/ انحراف فكري intellectual diversion في سنوات الثلاثينيات والأربعينيات كبير عند الموظفين البريطانيين من ذوي الاهتمامات التاريخية. غير أن أحدا من الكتاب لم يقم باقتفاء أثر هيلليسون في مقالاته الباكرة عن "طبقات ود ضيف الله" بالكتابة عن تطور المجتمع السوداني في غضون سنوات دولة الفونج. وهذا مما يؤسف له بالفعل، إذ أن تلك الفترة كانت – كما نعلم اليوم - هي الفترة التي نشأت فيها "المؤسسات التقليدية" التي ما زالت تؤدي دورا بالغ الأهمية في مجتمعات شمال السودان. وفي مجلة التاريخ الحديث (بعد 1820م) نشرت مجلة "السودان في رسائل ومدونات" في بعض أعدادها الصادرة بعد 1950م سِيَر حياة وشهادات شهود عيان ومذكرات لبعض الشخصيات. ويؤمل أن تزداد أمثال تلك المقالات. ولعل أهمية مجلة "السودان في رسائل ومدونات" للبحث في هذا الجانب تكمن أساسا في العثور على مجموعات الوثائق والمستندات (عادة ما تكون غير مكتملة)، وترتيبها وتَمْحيصها ودراستها بطريقة منهجية.
ونال التاريخ المحلي والقبلي حظا أكبر في مجلة "السودان في رسائل ومدونات" من التاريخ العام الحديث. وكان "العصر الذهبي" لنشر المجلة لمقالات عن التاريخ القبلي المحلي (في مقابل القبلي الخالص على وجه العموم) بين عامي 1932 و1939م. فلم تكن الأوراق المنشورة عنه في تلك الفترة أكثر عددا فحسب، بل كانت ذات نوعية أفضل أيضا. فقد كتب في تلك السنوات آر. أليس عن تقلي، وإي. ووكلي عن الخرطوم، وجي. اف. بلوس عن سواكن، ودي. سي. كمنين عن كسلا ومديرية التاكا. وبعد ذلك بقليل ظهرت كتابات آركل الرئيسة عن تاريخ دارفور الباكر والوسيط. وكانت المواد المنشورة بمجلة "السودان في رسائل ومدونات" عن تاريخ القبائل جيدة النوعية، إلا أنها لم تكن موزعةً على أعداد المجلة توزيعا متساويا. وأرست كتابات بيتون وكتابات وايتهيد عن قبيلة الباري الأساس لدراسات تاريخ تلك القبيلة الحديث. ونشر ايفانز – بريتشارد في المجلة سلسلة مقالات تاريخية عن قبيلة الزاندي، إلا أنه قام بنشر معظم إنتاجه الأكاديمي الأهم عن تلك القبيلة في مجلات أخرى (سرد الكاتب قائمة بأسماء المجلات المتخصصة التي نشر فيها ايفانز – بريتشارد أعماله مثل Man و Anthropos و African Studies. المترجم). وحوت مجلة "السودان في رسائل ومدونات" أيضا أعمالا مجودة عن التاريخ الحديث للمجموعات المكونة للبجا (الأمرار والبني عامر والبشاريين والهدندوة). غير أن مجموعات قبائل العرب والنوبة لم تحظ إلا بالقليل من الأوراق في المجلة. وكان مجموع الأوراق المنشورة عن تاريخ القبائل السودانية قليلا، ولم يتضمن عدد المجلة الذي صدر في عام 1939م أي مقال عن ذلك التاريخ. ولم يتم التطرق بَتاتًا في المجلة إلى بعض المجموعات القبيلة للأسف. فليس هنالك أي ذكر تقريبا للرباطاب والجعليين، ولم تُذكر قبائل الشايقية والجوامعة والمجموعات النوبية مطلقا في أي عدد من المجلة. وهذا لا يعني بالطبع أن هنالك ما نٌشر عن تاريخ تلك القبائل (في العصر الحديث) بمجلات أخرى. وكان ماكمايكل أكثر اهتماما بالأصول القبيلة من اهتمامه بتاريخ القبائل الحديث. وفيما عدا ما نشره ماكمايكل، لم تكن هنالك دراسات جادة كثيرة عن تاريخ القبائل العربية بالسودان. ونتيجة لذلك نجد أنفسنا الآن على علم بالتاريخ الحديث للقبائل التي كان دورها السياسي إلى حد ما هامشيا، بينما لم يُدرس التاريخ الحديث للقبائل الشمالية المهمة سياسيا، التي لا يمكن فصل تاريخها عن تاريخ السودان العام (أشار الكاتب في الهامش إلى كتاب ألماني من تأليف آر. هيرزوق عن تاريخ القبائل النوبية كان قد صدر ببرلين عام 1957م بعنوانDie Nubier، كان منهجه ينحو نحو الدراسة الاثنولوجية وليس التاريخية. المترجم).
وتم كذلك تجاهل دراسة الإسلام في السودان. وربما لم يكن ذلك من الأمور المستغربة، إذ أن الإسلام كان دوما موضوعا "حساسا"، وظلت مجلة "السودان في رسائل ومدونات" – بحسبانها مجلة علمية - تجَهَد دوما في تحاشي نشر مواد قد تثير الجدال، عدا في الأمور الأكاديمية (هكذا!؟ المترجم). غير أنه يجب القول بأن ليس كل المواضيع المتعلقة بالإسلام السوداني (بحسب ما سماه الكاتب. المترجم) هي أمور "حساسة" بدرجة متساوية. ومن العجيب أن أحدا لم يمس ذلك الموضوع منذ نشر سلسلة مقالات واليس وهيلليسون في الأعداد الباكرة من مجلة "السودان في رسائل ومدونات". ونشرت المجلة خلال السنوات الماضية بعض الأوراق عن بعض المعتقدات والممارسات الدينية – غير الإسلامية – بالسودان، وكانت نوعية تلك المقالات عالية، إذا قيست قيمتها بشهرة وسمعة كتابها. وكانت جل تلك المقالات عن الزاندي والنوبة والشعوب النيلية. غير أن أمثال تلك المقالات لم تُنشر بالمجلة في غضون العقد الأخير (أي بين 1956 و1963م. المترجم)
ولم يبدأ رجال ونساء التربية والتعليم في نشر أي أوراق عن التعليم بالسودان حتى عام 1948م حين نشر اسكوت أول الأورق عنه (كانت تلك الورقة عن اختبار مستوى الذكاء بالسودان، وتجد هنا ترجمة لها: https://tinyurl.com/y4kzx97e المترجم). وكان "التعليم" في السودان، على نحو ما، من الموضوعات "الحساسة" أيضا. غير أنه لم يبلغ درجة من الحساسية تمنع الكتاب من تناول بعض المعلومات الأساسية عن واقعه، مع بعض التعليقات والتكهنات الحذرة عن غاياته ووسائله. ويبدو أن مصلحة المعارف كانت تؤثر أن "تخفي السِّراج تحت المكيال" كما قال يسوع، وأن تكتفي بما تنشره في تقاريرها السنوية، أو في أماكن أخرى (رغم أن تتبعنا لما نُشر قبل عام 1948م يثبت أن شيئا من تلك المعلومات لم يُنشر).
وهنالك تباين شبيه بين ما ذكرنا آنفا وبين أعداد الأوراق التي نشرت عن دائرتي "العرب" و"غير العرب"، خاصة في مجال اللغويات والآداب (وتشمل بالطبع الأدب الشفاهي والقصص الفلكلورية). وجرت في العشرينيات محاولة منظمة ومنهجية لجمع ونشر مفردات اللغة العربية السودانية، غير أنها وجدت قبولا وشهرة في القاموس الذي أعده هيلليسون أكبر من تلك وجدها نفس القاموس عند نشره على صفحات مجلة "السودان في رسائل ومدونات". وتضاءلت منذ الثلاثينيات أعداد الأوراق المنشورة بالمجلة عن اللغويات العربية، بعكس اللغويات غير العربية التي ظل الاهتمام بها ثابتا تقريبا، رغم قلة الأوراق المنشورة في موضوعها. وظلت المجلة تنشر عبر السنوات – ولكن بصورة متقطعة – بعض الأوراق عن الأدب الشفاهي السوداني. وكان نشر بعض الأوراق لعبد الله الطيب في هذا المجال كبير الأثر في تشجيع الآخرين للنشر فيه (انظر مثلا ورقة عبد الله الطيب المعنونة The Changing Customs of the Riverain Sudan المنشورة في العدد 45 عام 1964م. المترجم). ومنذ عام 1948م بدأ كتاب كثر في نشر أوراق في هذه المجلة عن الأدب الشفاهي غير العربي. وكان "العصر الذهبي" لمثل تلك الأوراق بين عامي 1932 – 1947م. وأبرز الأمثلة على تلك الأوراق هي مجموعة أوراق بيتون عن أشعار قبيلة الباري (العدد 17/2، 1934م. المترجم). ولم يكن التباين كبيرا بين المجالات التي تناولتها مقالات المجلة عن "العرب" و"غير العرب" في الآداب واللغويات وتاريخ القبائل علم الاجتماع العام، غير أن الصورة العامة كانت متماثلة عبر كل العلوم الإنسانية والاجتماعية. وكان الاهتمام (البحثي) بالجنوب غير العربي - ولدرجة أقل بالبجا في الشرق - يفوق بدرجة ملفتة الاهتمام بالعرب في الشمال. وتفسير ذلك يفتح بابا واسعا للتفكر والتكهن، ولكن ذلك يقع خارج نطاق هذه الورقة.
ونشرت مجلة "السودان في رسائل ومدونات" في السنوات الماضية بعض الأوراق عن القانون في فترتين مختلفتين. فمنذ بدء المجلة في الصدور عام 1918 وحتى 1947م كانت كل تلك الأوراق تدور حول القوانين العرفية، وأغلبها عند غير العرب بالسودان. وظهرت بين عامي 1948 و1955م بعض الأوراق عن القانون العرفي وتذكر أيضا شيئا عن الأنظمة الأكثر تقدما. وشملت تلك المقالات دراسةً مهمةً لجي. ان. أندرسون عن "الشريعة" (نشر اندرسون مقاله المعنون Recent developments in Shari'a law in the Sudan
في العدد 31/1 عام 1950م. المترجم). ولم تنشر المجلة أي مقال عن القوانين العرفية بالسودان بعد عام 1956م. ولم تكن المقالات عن القوانين في السودان كثيرة، على أي حال، إلا أن بعض الأوراق الأنثروبولوجية المنشورة بالمجلة كانت تتعرض أحيانا للقوانين العرفية أو تشير لمراجع عنها.
وننتقل الآن من "البشر" إلى "الأرض". والجغرافيا من الموضوعات العسيرة التصنيف. ولعل بعض ما نُشر بالمجلة من موضوعات في مجال الأنثروبولوجيا قد يعُد من موضوعات "الجغرافيا البشرية". غير أنه من الثابت أنه لم تنشر بمجلتنا أي مقالة بقلم جغرافيين في سنوات ما قبل عام 1948م. وكانت تلك المساهمات السابقة لا تتعدى مذكرات ومشاهدات رحالة ومستكشفين، في الغالب بمناطق الصحارى في الشمال الغربي للبلاد. وكانت الأوراق المنشورة بالمجلة في مجال الجيولوجيا قليلة العدد ومتواضعة المستوى. غير أن هنالك الآن تحسنا مضطردا في هذا الجانب. وربما كان خبراء الجغرافيا والجيولوجيا بالسودان، منذ الثلاثينيات أو قبلها، ينشرون أعمالهم (عن هيدرولوجية النيل وعلم المناخ) في مجلات أخرى غير مجلة "السودان في رسائل ومدونات". وحتى بداية الخمسينيات لم تنشر هذه المجلة أي مقال عن هيدرولوجية النيل، إلا أنه بعد التفكير في "مشروع النيل الاستوائي" زاد الاهتمام بالبحث في مسألة المياه بالبلاد. ولما تم التخلي عن المشروع (على الأقل في صورته الأولى) قل الاهتمام البحثي عنه. وللعجب لم تنشر مجلة "السودان في رسائل ومدونات" قط أي ورقة عن علم وفن الري بالسودان، سواءً أكانت عن الري بصورة عامة أو في مشروع الجزيرة.
أما موضوع الزراعة (الحديثة) فكان من الموضوعات المهملة تقريبا في مقالات المجلة مقارنة بالمقالات عن طرق الزراعية التقليدية بالبلاد، التي ظهرت عنها مقالات مفيدة. وتعدت بعض تلك المقالات مجرد وصف تلك الطرق إلى تقديم اقتراحات عملية لتحسينها في إطارها التقليدي. ولم يُنشر بالمجلة أي مقال عن مشروع الجزيرة سوى مقالة مهمة في مجال الدراسات الاقتصادية – الاجتماعية بعنوان ("Western" migration and settlement in the Gezira ) لعصام حسون. ونشرت بالمجلة، للعجب، العديد من المقالات عن زيادة وتحسين إدارة الثروة السمكية بالسودان، وكأن صيد الأسماك – وليس الزراعة – هو أساس اقتصاد السودان.
وتحت باب "الاقتصاد والصناعة والصناعات اليدوية التقليدية والتقنيات" نشرت مجلة "السودان في رسائل ومدونات" العديد من الأوراق تناولت مختلف الأنشطة مثل النسيج وبناء المراكب وصناعة الحراب وبناء فِخاخ الصيد. وكان هذا يمثل غالب – وليس كل جوانب – الصناعات اليدوية بالبلاد، ويبين مستوى التقنية الذي بلغه "السودان التقليدي" في السنوات الماضية. وكان السودان في بعض الصناعات (مثل صناعة المركب) قد بلغ مرتبة محترمة. ولم تقم أي صناعة حديثة بالسودان – لأسباب بدهية – إلا بعد عام 1947م. وارتبطت تلك الصناعات ببعض المشاكل المتعلقة بالتسويق الداخلي والخارجي وبالمشاكل الاجتماعية المرتبطة بالنمو والتطور (تناولها سعد الدين فوزي في كتاباته عن العلاقات العمالية). ومع تطور التعمير والتمدين السريع بالبلاد في السنوات القريبة الماضية شرع الكتاب في نشر مقالات بالمجلة في مجال علم "الاجتماع الحضري" والإسكان وتخطيط المدن. وتتعدى أهمية أمثال تلك المقالات المجال الأكاديمي المحض إلى أدوار عملية لإرشاد الإداريين وغيرهم من القائمين على أمر تلك الشؤون. غير أن ما يثير العجب بالفعل هو ندرة المقالات عن النقل بالسودان بالمجلة. ومشاكل النقل – كما هو معلوم- من أخطر المشاكل التي تواجه البلاد. (لم أجد غير مقال وحيد لموريس، هـ. الف، نُشر عام 1949م بالعدد الثلاثين من المجلة عنوانه:"The development of Sudan Communications".
وألهم التعداد السكاني الذي أُجري لأول مرة بالسودان عام 1956م عددا من الكتاب لنشر أورق عظيمة الفائدة العملية بمجلة "السودان في رسائل ومدونات" عن توزيع السكان بالبلاد والهجرات الداخلية ووفيات الأطفال وغير ذلك. ويمكن أن تُصنف تلك المقالات على أنها مقالات في "الصحة العامة" والجوانب الاجتماعية للطب. ومنذ عام 1948م ظلت المجلة تنشر مثل تلك المقالات المتخصصة (في فروع من العلوم الطبية كالتغذية وعلم الحشرات الطبية والأوبئة والجوانب الطبية للسكان)، رغم أنها مجلة يفترض أن تكون مجلة عامة. وكانت كل المقالات التي نشرت بالمجلة قبل عام 1948م تتعلق بالطب التقليدي (الشعبي) بالسودان وتعرض معلومات أولية عنه. أما الجوانب التقنية المهمة (الأكثر تخصصا) في الطب البشري والبيطري فقد كانت تُنشر في دوريات أخرى.
وفي مجال العلوم البحتة، كان لعلمي النبات والحيوان نصيب الأسد في النشر (العلمي) بمجلة "السودان في رسائل ومدونات". ونشرت بأعداد المجلة الباكرة (بين 1918 – 1924م) أوراق مهمة في علم النبات الاقتصادي والزراعي، والتجارب الزراعية التي أجريت لتحسين السلالات النباتية بالبلاد (خاصة القطن). غير أن ذلك النوع من الأوراق تحول لاحقا للنشر في المجلات الفنية المتخصصة، فضعفت نوعية الأوراق المنشورة في علم النبات بالمجلة (عدا قليل من الأوراق، مثل أعمال ك. جي. ماكيلي عن السرخسيات ferns بالسودان). وكان علم الحيون أكثر ظهورا في المجلة، وظلت الأوراق فيه – كما في بقية العلوم الأخرى - تزداد "مهنية" وجودة مع مرور السنوات، مع أفول نجم الأوراق في "التاريخ الطبيعي" و"علم الحيوان الجِهَازِي". وكانت المجلة قد نشرت أورقا مهمة في "علم الحيوان الجِهَازِي" مثل ورقة أوين عن القوارض، وورقة أوين ولوفريدج عن الثعابين (في عامي 1953م و1955م، على التوالي. المترجم). غير أن غالب الأوراق في علم الحيوان الجهازي كانت حول الطيور في السودان. ومن المؤكد أن الأوراق الأكثر أهمية في علم الحيوان ربما كانت في حقل "الحشرات الطبية والاقتصادية"، وكانت الفترة بين 1948 و1955م هي "العصر الذهبي" القصير لتلك الدراسات التي أجراها دي جي لويس (مثل ورقته المعنونة Notes on tsetse flies in the Anglo-Egyptian Sudan، التي نشرت بالعدد رقم 32 عام 1951م. المترجم).
يصعب ذكر الأهمية والقيمة المحددة لمجلة "السودان في رسائل ومدونات" في كلمات قليلة فيما يتعلق بكونها أحد مصادر الأبحاث، ومستودعا للنتائج العلمية في حقول المعرفة التي ذكرنا بعضها آنفا. ويمكن تلخيص قيمة وأهمية المجلة على وجه العموم في النقاط التالية:
1. تقدم المجلة خلاصة وافية في علم السودان (Sudanology)، خاصة في العلوم الإنسانية والاجتماعية (مع بعض النواقص في فروع مثل تاريخ العرب واللغويات العربية)، وفي ضروب محددة من العلوم الطبيعية (مثل علم الحيوان).
2. تعمل المجلة كأداة ببليوغرافية، وتنشر مقدمات أولية مفيدة في الموضوعات التي لا تتناولها بتوسع. وكانت "بيبلوغرافات السودان" التي ظلت المجلة تنشرها منذ الأربعينيات تحتوي على تحليلات المطبوعات الدورية ومراجع للأدبيات قَصيرُة الدَّيمومَة (ephemeral literature) التي لا تتوفر دوما في أماكن أخرى.
3. تمثل المواد المنشورة في مجلة "السودان في رسائل ومدونات" في علم أو علمين (خاصة علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية) جزءًا كبيرا (وفي بعض الحالات غالب) ما هو معروف حاليا عن ذلك الفرع بالسودان.
4. هنالك بعض المقالات التي نُشرت بالمجلة (خاصة في حقول التاريخ والعلوم الاجتماعية) يمكن أن تُعد في بعض الأحايين أكثر البيانات الموثوقة في موضوعها المعين.
************ ********** ********
- أورد الكاتب في نهاية مقاله تلخيصا (في شكل جداول) لأعداد ونوعية الأوراق الني نشرت بالمجلة في سنوات معينة (مثل 1918 – 1924، و1925 – 1931... و 1956 – 1963م)، بحسب العلوم (كالجغرافيا والتاريخ والاقتصاد الخ).
- لم يرد ذكر في هذا المقال لأي رسالة أو مقالة لزعيم سياسي أو طائفي سوداني في مجلة "السودان في رسائل ومدونات". ومبلغ علمي لم تنشر المجلة شيئا من ذلك سوى رسالة السيد عبد الرحمن المهدي للمجلة التي نُشرت في العدد الرابع والعشرين، عام 1941م. تجد ترجمة لتلك الرسالة في الرابط: https://www.sudaress.com/sudanile/59882


alibadreldin@hotmail.com

////////////////////

 

آراء