محجوب حسين: نحن شعوب متناثرة تعيش الوحدة تحت سطوة القوة … حوار: صلاح شعيب
8 August, 2009
منع من النشر:
منتدى الأحداث
محجوب حسين:
أحزابنا جزء من مكونات شرعنة الإستعمار الثاني ودورها إنتهي
ليس هناك مثقف سوداني يمتد ويتمدد إلي المليون ميل مربع بدلالة المصطلح والجغرافيا
مشكلة دارفور ليست أزمة تقليدية بين رعاة ومزارعين أو هويات مختلفة
السودان عرف كاريزما واحدة فقط وإرتبطت بالإمام المهدي الأكبر
حوار: صلاح شعيب
الاسئلة التي يثيرها (منتدى الأحداث) تهدف إلى معرفة آراء الخبراء، والأكاديميين، ونشطاء المجتمع المدني في بعض القضايا والمواضيع التي فرضت نفسها في واقع الجدل السياسي، بعضها منذ الإستقلال وأخرى جاءت في السنين الأخيرة، ولا زالت معلقة ولم تجد حلولا ناجعة من قبل الحكومات المتعاقبة. في الأيام السابقة إستضفنا عددا من الناشطين، كل في مجاله، لمعرفة تصوراتهم ورؤاهم حول الكيفية التي بها يمكن معالجة هذه القضايا، وإشباع هذه المواضيع حوارا بين النخب المتعددة في مشاربها الفكرية والسياسية والإثنية والثقافية والإجتماعية. وسنواصل هذه الحوارات بأمل خلق مساحة لحرية التداول، تتنوع فيها الآراء ليحدد القراء مواقفهم من الإجابات المطروحة بكل حرية وموضوعية سواء من المنتمين إلى هذه التيارات السياسية أو تلك. وإنطلاقا من قاعدة (الحرية لنا ولسوانا) نأمل أن نتيح الفرصة لكل ألوان الطيف السياسي والثقافي دون إنحياز، كما نأمل أن تجد كل هذه الآراء طريقها للنشر ليستخلص القراء الكرام المفيد منها في معرفة عمق التباين في أفكار ومرجعيات النخب السودانية في تحليلها عند الإجابة على هذه الاسئلة، والتي هي لا تمثل كل الاسئلة الضرورية التي تشغل ذهن الرأي العام والمنتمين لهذه التيارات. إن الهدف الأساسي من فكرة (منتدى الأحداث) هو تعزيز ثقافة الحوار الديمقراطي حول هموم وأسئلة المهتمين بالقضايا الوطنية، وكذلك تعميق أمر الإعتراف بالآخر، والاستنارة برؤى الناشطين في حقول الحياة السودانية مهما كان الإختلاف الفكري معها. وسيواصل المنتدى في المستقبل التطرق لكل القضايا الحيوية التي تهم القراء. وفي هذه المساحة نقرأ معا إجابات الاستاذ محجوب حسين، الناشط السياسي والكاتب، على أسئلة (منتدى الأحداث):
هل ترى أن هناك أزمة في فهم الهوية السودانية ما دعا النخب المتعلمة إلى الفشل في إنجاز مشروع الدولة السودانية؟ دعني بدء ً أقول إن ما تفضلت به من إستفهام هو مركب، و ذي أبعاد كما هو حال أسئلتك جميعها. ومن جانبي أعتبر هذا السؤال، من حيث الدلالة الإستفهامية والإصلاحية والمفاهيمية، أنه سؤال الضرورة التاريخية في سودان الراهن- إن صح التعبير. الأزمة لها خصائص بنيوية بإمتياز عند فحص تفاصيل مشروع الدولة في السودان، والتي لم يكتمل بناؤها أو حتي الإتفاق عليها بعد، حيث ما زلنا في طور دراسات الجدوي لماهية المشروع الدولتي الذي حاق بالسودان.
و عليه أنت هنا تتحدث عن جدلية ثلاثية ومعكوسة تتعلق بمفهوم الأزمة، ومفهوم الهوية، وكذا مفهوم النخبة، ودور ذلك في إنجاز محصلة الفشل في مشروع الدولة السودانية كما أسميته. لذا وبمقاربة هذه الجدلية المعكوسة، أقول إن ما أطلق عليها بظاهرة النخبوي أو الصفوي أو المثقف، عضويا أو وظيفيا في مشروع الدولة السودانية ــ والتي أورخ لها بمرحلة نخبة الإستعمار الثاني وصناعة الفشل ــ هي النقطة المركزية رابطة العقد، وفيها إستطاع هذا المثقف تجويد صناعة الأزمة وحولها إلي آيدولوجيا أزمة للإستمرارية في إعادة إنتاج صناعة (مشروع المفارقة) وليس مشروع الدولة. كان المثقف ـ وهو المسؤول عن هذا الفشل ـ بوليسيا، قمعيا، مستبدا، إثنيا، جهويا، مع إختلاف المدراس الفكرية والنهج والطروحات، لأن هذا المثقف في قناعتي هو الذي صنع شرعنات السلطة والتاريخ والهوية، والهوية الماثلة في سودان اليوم هويتان: واحدة للإسترزاق، تابعة لمؤسسة مشروع الدولة الإستعمارية في العصر الحديث، والثانية هوية مجتمعية غائبة وليست معرفة بأل التعريف وخارجة عن نظام مشروع الدولة الإستعمارية نفسه.
و بالتالي وجدنا أن نخبة الإستعمار الثاني إفتقرت للبرنامج، ووضوح الرؤية، وتدقيق الأحداث وفحصها من الشوائب، والإستلهام منها لبناء أمة سودانية. ولهذا أرى واجب محاكمة هذه النخبة، حيث هي تنظر إلي مشروع الدولة من برجها العاجي، وتتصور تهيئاته إنطلاقا من ما تتصوره مخليته العرقية، والجهوية، وليست بالطبع الوطنية، فأنتجت هذه النخبة هوية متناقضة لا تلبي متطلبات الواقع. وبذات الطريقة وظفت الهوية كمفهوم آيدولويجي صرف دون أن تدرك أبعادها الثقافية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والدينية والفلسفية. أنتجت هذه النخبة هوية قسرية ولذلك أرى أن ضرورة تجاوزها يجب أن تكون قسريا أيضا، لأنها صورت الهوية، وإنزلاقاتها المعروفة في الميادين كافة، لتنتج هوية شوفينية لصناعة مجتمع هويوي، ولكيان ظل متناض هويويا، بمعنى أن الكل متمترس بهويته وأبعاده العشائرية. والحال هكذا فإن ما أدعوا إليه هو أن تتأسس دولة سودانية تستمد هويتها من الأرض السودانية، وليس من الأعراق، أو هويات مستوردة من خارج الحدود. على أن تكون هناك ضروره تعارف سوداني سوداني يسبق إنجاز هذه الهوية، وذلك لأن السودانيين لم يتعارفوا بعد، ولذا يتجاهلون بعضهم بعضا، نقول هذا بناء على حقيقة أن السودان بلد هجرات ولم يستقر بعد. و بالتالي فالأزمة هي أزمة المثقف السوداني و ولاءته التحتية.
والمثقف بهذه الشاكلة هو الذي صنع عبر مؤسسة سلطة الإستعمار الداخلية هويات خارجية تابعة، حيث نري ونسمع من سودانيين كثر أن أصولهم من نجد والحجاز، وآخر من تشاد، وآخر، من جنوب أفريقيا، وآخر من المغرب، وآخر من مصر، وآخر من الأتراك ... إلخ جميعهم مراجعهم العرقية خارجية. إنها أزمة!! وما بينهما تراتبيات مبنية علي خرافات مجتمعية!! حيث يعلق الجميع إنتماءه بالخارج ليحصل علي مرتبة ما، حتي و لو ألق هويته بهتلر أو موسليني أو لنكولن و لم لا،بارك أوباما. إن للسودان شعوب لا عقد إجتماعي بينهم، وهم في رقعة جغرافية واحدة لا تربط بينهم غير أختام الجوازات التي تحرم الدخول لإسرائيل.
إن أقزى ما في ظاهرة المثقف السوداني هو تماهيه مع سلطة الإستعمار الثانية، حيث الاخيرة فعلت فعلها فيه وإنجبت منه مثقفا مخصيا لا يستطيع الإنتاج الفكري الخلاق، وفكره تقاصر عن الإستعانة بأدوات بحثية صارمة في المنهج والمحتويات لتقديم رؤية واقعية للسودان بدلا عن الرؤى المثالية الهلامية، ذات مقاصد تحتية.
كيف تقرأ المستقبل السوداني على ضوء مجريات الواقع السياسي، هل هناك ما يدعو إلى التفاؤل في ما يتعلق بالوصول إلى حل للإشكال المجتمعي السوداني التاريخي؟ لا يمكن لنا الولوج إلي المستقبل أو حتي قراءته دون إعادة القراءة الكاملة للتاريخ السيوسياسي السوداني و تصحيح مسار إنزلاقاته والتي أدت عمليا إلي إضمحلال دولة المشروع السوداني بعد نصف قرن من سطوة الإستعمار الثاني، و أعتقد أن مراجعة تناقضات التاريخ السوداني هو الأصل لبحث أي مستقبل في الأمد المنظور، لأن الماضي هو المحدد لأية إفتراضات قادمة وليست بالضرورة أن نسلم بديمومة هذا المشروع كما هو ماثلا والذي إستهلك كل تراثه النفعي. وأهم ما في هذه القراءة هي نبش التاريخ السوداني ومساءلته بناءا علي تاريخية الممالك والسلطنات التي صنعت السوداني و تم تجاوزها، لأن معضلة الحل الإجتماعي السوداني لا تتم بناءا علي قرارات وهويات وتاريخ فوقي يؤسس له مهندسو ومثقفو النجمة السداسية في السودان كشأن المثقفي اليهود و الذين يؤسسون لشرعنة إقليم وهويتهم بشكل ديني وعرقي، ضلا عن حماية مصالحهم وفق قانون إغتصاب أرض فلسطين.هذا هو مربط الفرس في راهن السودان ومستقبله، أما عن التفاؤل أعتقد أنه ثيمة طوباية ولاهوتية.أنا عقلاني برهاني، لست بيانيا أو عرفانيا، أنا لا أؤمن إلا بالنتائج وما يترتب عليها.
هل ترى أي غياب في القيادة السياسية الوطنية المجمع عليها والقادرة على وضع التصورات الفكرية لما ينبغي أن يكون عليه واقع الدولة السودانية؟
(--) نحن لم نبلغ مفهوم الأمة السودانية بعد. إننا شعوب فكيف يجوز لنا الحديث عن قيادة كارزمية، محركات تاريخنا هو تاريخا خلافيا ليس شأن جيراننا، الخلاف بيننا كجماعات وهويات بين وكبير، ويزداد دائرة إتساعه يوما بعد يوم، نحن ما زلنا شعوبا متناثرة تعيش التاريخ والوحدة تحت سطوة القوة في مساحة جغرافية محددة، الجميع بحاجة إلي تجديدها ومراجعتها، لم نتفق علي كتابة تاريخنا، أو على مفاهيم الوطن والإنتماء والمواطنة، وهذه المفاهيم منقوصة في ذهننا، ومفهوم التعدد والذي يدون في الأدبيات الدستورية لم ينتقل من الطور النظري إلي العملي، فأعتقد إن مساحة عدم الإعتراف بين الشعوب السودانية و أوطانهم العديدة في اللاوعي واسعة ولها ما يبررها، و بالتالي كارزمية القيادة لا تشكل حلا للأزمة. علما أن السودان عرف كاريزما واحدة و هو الإمام المهدي الأكبر إبان التحرير الأول وسرعان ما تم أدلجة الثورة وتحويل معطياتها لخدمة بلاط الإستعمار الثاني.
الانتخابات القادمة في فبراير 2010 ، هل تستطيع أن تحدث تغييرات جوهرية في طبيعة العمل الحزبي الحكومي والمعارض، خصوصا إذا دخلت قوى المعارضة في تحالف ضد المؤتمر الوطني؟
(--) أعتقد أن آلية الإنتخابات في النظم الديمقراطية، كأداة لتبادل السلطة هي حق دستوري وشعبي وبالتالي ليست الإنتخابات أمرا ممنوحا أو صكا من صكوك الرحمة والهبة كما هو الشأن في واقع السودان. إن الإنتخابات القادمة هي جزء من روزمانة منح نيفاشا التي تخضع لشروط ، شأنها شأن الحريات وممارسة الأحزاب لنشاطها في إطار قانون منح الشراكة، إنها هبة لمجموع الشعب من طرفي الشراكة، وما دمنا نحن في إطار دائرة الحقوق التي تحولت إلي عطايا من سلطة المتعالي. لا أري أن مثل هذه التراجيديا تحدث تغيرات ما لم تحدث جميع القوي السياسية ثورات داخلية و قطيعة فكرية مع تراثها الماضوي لإنجاز إستحقاقات دولة الإستقلال الثانية بعد التحرير من دولة الإستعمار القائمة منذ أكثر من نصف قرن و نيف.
أما ما أسميته بأحزاب المعارضة والحكومة، فلا أتفق مع هذا التصنيف، فجلهم إن لم نقل كلهم يحملون مرجعية سيادة وإستمرارية نسق دولة الإستعمار الثانية وحمايتها عبر تبادل الأدوار عبر أفعال وخطابات محددة. و الإنتخابات المرتقبة إن قدرت لها أن تقوم بعد مصادقة شريكا الحكم عليها تبقي هي جزءا من أدوات هذه الشرعنة لدولة الإستعمار الثانية في السودان.
الإستفتاء على تقرير المصير: إلى أي مدى يمكنك التفاؤل بنتيجته فيما خص وحدة السودان، وإذا قدر للجنوب الإنفصال هل تتوقع أن تموت فكرة (السودان الجديد) التي دعا إليها الزعيم السوداني الراحل جون قرنق؟ (--)رغم أن حق تقرير المصير كفله القانون الدولي إلا أنه في الحالة السودانية لم يأت عبر قناعات مثالية. إنه جاء نتاج ردة فعل سياسية وإستراتيجية وضعها مثقفو دولة الإستعمار الثانية لقطع الطريق أمام أي تحول مرتقب لإنجازات دولة التحرير الثانية، وتعقيل الجنوب أو قطعه قانونيا يضمن لهم بلاشك إستمرار ولو إلي حين مركز الإستعمار وهويته الخارجية وثقافته المفروضة، وبالتالي كان الإقرار بحق تقرير المصير إستراتيجيا، في خاتم المطاف، قدمته النخبة. وأري في الأمد المنظور أن كل السودان بحاجة إلي تقرير المصير وليس الجنوب فحسب، وضمن الحراك الإجتماعي الجديد والمتجدد، واقعا بالضرورة سيكون حق تقرير المصير حقيقة لا منجاة منها.
أما فكرة السودان الجديد فلا تنتهي بموت الشخص. إنها فكرة أخذت طريقها إلي التبيئة في واقع السودان وكفلسفة للخلاص النهائي من الماضي البغيض. ليس مهما أن تحصل هفوات من الحركة الشعبية و لكن سريان الفكرة وتطبيقها سيكون أمرا قائما ومؤكدا، وقد نري جون قرنق آخر. و لم لا؟ فوتيرة الدفع التاريخي قد تخرجه من هوامش مركز غردون هذه المرة.
هل أضعف بروز التيارات والأفكار (الإثنية أو الجهوية) إلى سطح العمل السياسي الهمة القومية في كل مناحي الحياة، وهل ترون أن هذه التيارات والأفكار ستختفي في حال الوصول إلى سلام دائم في كل أنحاء القطر عبر تسوية قومية؟
(--) القول ببروز الإثنية والجهوية كلمة حق أريد بها باطل لدي بعض التيارات، لأن الأمر لم يكن بروزا لإثنية أو جهوية، بل أنه معطي من معطيات الواقع، وبالتالي فإن مأسسة الشعوب السودانية قائمة تاريخيا علي ولاءاتها التحتية، من قبيلة وجهة، وسحنة، وعرق،إلخ. هذا هو واقع حال المجتمعات السودانية ولا أستطيع هنا الجزم بأن هناك مجتمعا واحدا في السودان له خصائصه الثقافية والبيئية، وذلك لأن بنى المجتمعات السودانية في أغلبها تقليدية، ومتقوقعة، ومغلقة، وهي لم تصل إلي بلورة مجتمع مدني حداثوي. والأسباب لكل هذا الخطل الإجتماعي سبق أن أوردتها ولعلها تعلقت بفشل مشروع الدولة السودانية، وإنعدام مفهوم العقد الإجتماعي المتفق حوله. ضف إلى ذلك أن ما هو كائن، في علاقات هذه المجتمعات، هو عقد نخبة الإستعمار الثاني والذي لا يمتلك أهلية الشرعية والمشروعية غير شرعنة القهر، وهذه الشرعية الأخيرة مثلت خيبة من خيبات المثقف السوداني الذي صنع مشروعا لدولة هو مخالف لتأريخ الشعوب السودانية، أو بالأحري أقرب إلي تحقيق دولة العصبية، هذه التي أرادوا تدجين الجميع لها، ولكن إرتدت البضاعة على النخبة فكانت الحرب ضد مركزية هذا المشروع نفسه. ولكل هذا نحن بحاجة إلي عقد سوداني تاريخي جديد لا مجال فيه إلي أدبيات الدبلوماسية المختالة، مثل التسوية أو المساومة، إلخ .
فكر الاحزاب والتنظيمات السياسية: هل يتحمل نتيجة الفشل السياسي، أم أن قواعد هذه الاحزاب تتحمل أسباب ضمور هذه الأحزاب ما أدى إلى فشل قياداتها؟
(--) موضوع الأحزاب السودانية و الفكر الحزبي السوداني، وعلاقة التضليل القائمة بين قواعد هذه الأحزاب وقياداتها من المواضيع المعقدة ، حيث أنني أرى أن الخلل الماثل بنيوي، فأحزابنا مثل مؤسسات (النظامين الرسمين العربي والأفريقي). ما زلنِا نتشدق تحت وعي القائد التاريخاني، والحاكم الملهم، والقائد الفذ، إنها أحابيل سياسية، الأحزاب الناشطة في الساحة هي مؤسسات مجتمع تقليدي ديكتاتوري مثل مشروع الدولة نفسه، فكرها إنبطاحي لتمجيد الأنا التاريخية والقيادية، و هذه أزمة كل الأحزاب في عالمنا الثالث، وفي الحالة الثانية أجد أن أحزابنا نفسها هي جزء من مكونات شرعنة الإستعمار الثاني، ودورها إنتهي وفقا لسيرورة التاريخ اللامتناهية، وحاجة المجتمعات، وضرورات الإنتقال. وما لم تجدد هذه الأحزاب وتواكب هذه السيرورة والحاجة والضرورات، وتوابع كل هذه، فإنها ستبقي خارج التاريخ الذي لم تستلهمه، وكذلك الجغرافيا التي أساءت توظيفها.
أيهما أقوى تاريخيا في تجربة دولة ما بعد الاستقلال: صراع الهوامش الجغرافية مع الجولة المركزية، أم صراع الآيدلوجيا والدولة؟
(--) التفسير الصحيح هو أن الصراع إنما كان صراع الهوامش مع نخبة الاستعمار الثاني، وبالتالي الصراع بين آيدولوجيا التحرير الثاني وأيدولوجيا الاستعمار الثاني بتوصيف أكثر دقة، وهذا الصراع هو الأقوي تاريخيا لأن إنجازات التحرير الأول سرقت وحول فائض قيمتها إلي غير مستحقيها .
المثقف السوداني: ماهي حسناته وعيوبه وهل يتحمل بعض الوزر في فهم كيفية العلاقة بين السلطة والمثقف ما بعد فترة الاستقلال؟
(--) ليس هناك مثقف سوداني يمتد و يتمدد إلي المليون ميل مربع بدلالة المصطلح والجغرافيا وآيدولوجيا الهوية، وإنما هناك مثقفون جزئيون ذو ولاءت وأجندات لأوطان وجهويات وأعراق ومراكز قوي متعددة في السودان. الكل يخدم جنده وذاتيته دون موضوعية ودون نظر لواقع السودان، والأدهي في هذا يعممه ويستلب به الأغلبية الساكنة و الرافضة كما نري بعض المثقفين الذين قولبوا سلالات وأعراق وأصول الشعوب السودانية لربطها بمعاقل النبوة.
أعتقد أن المثقف السوداني بحاجة إلي تحرر داخلي لخاصة نفسه، وهذا لا يتم إلا بممارسة نقد ذاتي وصارم من أجل الإنتقال من صناعة الوهم إلي الواقعية.
والمثقف المتخاذل برز منذ العام 1924 حيث حدث زواج المتعة وإكتمل الزواج العرفي في مؤتمر الخريجين مع مركز خلافة المستعمر الأول، وذلك الزواج العرفي نتج عنه مشروع دولة الإستعمار الثانية، والتي تسير بخطي لولبية إلي يومنا هذا تحت مفهوم كبير وهو الشرعنة فقط. وهي من مهام هذا المثقف الذي أصبغ نفسه عنوة صفة الوطني.
ما هي تصوراتكم لحل أزمة دارفور، وكيف يمكن الوصول إلى سلام دائم؟
بما أن هذا السؤال هو سؤال أزمة مشروع الدولة السودانية حاليا، فأستطيع أن ألخص رؤيتي لحل أزمة دارفور عمليا في الآتي، وكعناوين بارزة أولا: تعريف أزمة دارفور في السودان:
أزمة السودان في دارفور هي أزمة سياسية ذات أبعاد مجتمعية وإقتصادية وتاريخية وثقافية وحضارية ودينية وبالتالي ليست أزمة تقليدية بين رعاة ومزارعين أو هويات مختلفة. و ما ورد كل كلمة تحمل بابا و خريطة. ثانيا : المنهاج: يتحدد المنهاج في بعدين الأول من حيث الشكل، والثاني من حيث المحتوي لمسار العملية التفاوضية. 1/علي مستوي الشكل " طاولة التفاوض":
أ/ الحركات المسلحة و كتلة دارفور المدنية و الأهلية. المدخل المنهجي للعملية التفاوضية من حيث الشكل والإجراءات المسطرية التي تتبعها لمعالجة أزمة السودان في دارفور تتمحور في طبيعة المشاركة الواسعة لبنيات المجتمع الدارفوري ومحدداته، و يتمثل هذا في مشاركة الحركات المسلحة والحركات ذات الطابع السياسي " لأنها عناوين لقبائل"، فضلا عن مشاركة المجتمع المدني والأهلي في دارفور " ويتم تحديد اعضاءه والإتفاق حولهم بمشاورة الحركات العسكرية الأساسية، و يضاف إلي هذا ممثليين للنازحين واللاجئين. وكل هذا يتم وفق معايير وأسس تتفق عليها الأطراف الرئيسية من الحركات والوساطة والدولة المضيفة ودول الإقليم الأخري المجاورة، مثل تشاد، ليبيا، مصر، وإريتريا. هذا بالنسبة لجانب الحركات المسلحة و الكتلة الدارفورية. وهنا أري أن أي حل مستدام لأزمة السودان في دارفور لا يتم دون توافر أربعة شروط أساسية و قاطعة ، و تتمثل في الآتي: 1/ أن تتعاطي الحكومة السودانية مع الأزمة بجدية تامة ومصداقية زدون براغماتية، وهذه مسؤولية دول الإقليم والمجتمع الدولي و الوساطة.
2/ المشاركة الواسعة لمكونات المجتمع الدارفوري مع إصطحاب الشرعية العسكرية والشرعية الشعبية / الإجتماعية التقليدية.3 /علي الحكومة السودانية دفع إستحقاقات " سياسية وإقتصادية وتاريخية وثقافية وقانونية لشعب دارفور بإعتبار أن الأمر بات حتميا وواقعيا ولا مناص من دفع هذا الإستحقاق في إطار حراك التاريخ السوداني. 4/الضمانات الإقليمية و الدولية في إنفاذ أي إتفاق يتم التوصل إليه كمرجعية عليا تلجأ إليها الأطراف لأن تاريخ الحكومات السودانية قائم علي نقض المواثيق والعهود. ب/ الحكومة السودانية: أما فيما يتعلق بالجانب الحكومي السوداني فيتطلب تمثيل المجتمع السياسي السوداني وفعالياته وقواه السياسية المحورية بنسب متفاوتة، بالإضافة لشريكي الحكم في السودان ممثلا في المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، و يفضل أن يقود الوفد الحكومي المفاوض أحد فريق إتخاذ القرار في الدولة. أما في الجانب الدولي فيتطلب الأمر تمثيل دولي وإقليمي واضحين، دول الإقليم والأمم المتحدة ومجلس الأمن والإتحاد الأفريقي والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، إلي صناديق المال الدولية والعربية ومنظمات وهيئات حقوق الإنسان وخبراء دوليين، إلي ممثلي كل من بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا والصين و اليابان وروسيا. 2/علي مستوي المحتوي: معلوم لإنجاح مسار أي عملية تفاوضية لابد من إجراءات أولية تعزز بناء الثقة بين الأطراف، لذا فإن المدخل الأول في التفاوض لابد من يسبقه التوقيع على إتفاق نسميه: أ/ إتفاق إطاري لوقف إطلاق النار المؤقت في دارفور وأهم بنوده:1/ إعلان رسمي لوقف إطلاق النار بين الحركات المسلحة الأساسية والحكومة السودانية. 2/ وضع آليات مراقبة صارمة وهي آليات دولية تتكفل بها الأمم المتحدة بمراقبيين دوليين علي الأرض. 3/ وضع عقوبات دولية تجاه أي طرف يخرق هذا الإتفاق الإطاري. 4/ أسس و بنود إتفاق إطار لوقف إطلاق النار يوضع من طرف لجنة فنية عسكرية متخصصة مع الإستئناس بإتفاقات سابقة " أبشي وأنجامينا" و البرتكول الأمني الموقع في أبوجا. 5/ الإفراج عن جميع الأسري بين الطرفين بسبب الحرب في دارفور وكذا المعتقلين
6 / عودة المنظمات الدولية للمساعدة في العمل الإنساني. المفاوضات السياسية: أما في ما يتعلق بالمفاوضات السياسية، يجب البدء بإتفاق إطاري آخر "بمثابة إعلان مبادى يتضمن قواعد وموجهات عامة تحدد وتحكم العملية التفاوضية برمتها" و هذا يمكن أن نطلق عليه: ب/ إتفاق إطار سياسي لعملية التفاوض يتم التوقيع عليه كمرحلة ثانية. في هذا الإتفاق يتم تحديد الموجهات والأسس والمعايير التي تحدد العملية التفاوضية، ويحدد فيها سقف زمني محدد للمفاوضات وإنفاذ البرتوكلات.
العملية التفاوضية: نقترح أن نتفاوض مع الحكومة السودانية عبر برتوكولات منفصلة يتم التوقيع عليها منفردة وتتثمل في الأتي: أولا : برتوكول الترتيبات العسكرية "الأمن"، أهم بنوده إعادة هيكلة تشكيل الجيش السوداني من جديد لتكوين جيش قومي سوداني خلال مدة محددة لأن في السودان جيوش، لا جيشا واحدا، جيش المؤتمر الوطني، جيش الحركات، جيش الحركة الشعبية، الميليشيات، إلخ.
هذا البند يتبعه دعم جيش الحركات عبر نسب واضحة من ميزانية الدفاع خلال مدة ، مثلا 7 سنوات، علي أن يتم الدمج لاحقا، تفكيك ميليشيات الجنجويد بحضور دولي و في أجال محددة، إنسحاب الجيش السوداني إلي مواقعه المعروفة في عام 2000، أربعة مدن فقط، الفاشر والجنينة وزالنجي ونيالا، طرد المعارضة التشادية الممولة من السودان تحت إشراف دولي والمستوطنون الجدد القادمين من غرب أفريقيا
ثانيا : برتوكول وضعية إقليم دارفور ضمن السودان الموحد، وأهم بنوده أن يتم إستفتاء شعب دارفور خلال شهر من توقيع الإتفاق بين خيارين: أ/ الحكم الذاتي للإقليم ب/ الإقليم الواحد. كلاهما له شروطه الدستورية المختلفة مع الدستور الوطني. ب/ حدود دارفور وفقا لتاريخ إنضمام السودان إلي دارفور عام 1916. حاكم دارفور المنتخب شعبيا إن كان في إطار الحكم الذاتي أو الإقليم" له صلاحيات واسعة أهمها: إنشاء بنك دارفور الدولي يسمح له بالتعامل الدولي
- له صلاحيات إبرام صفقات تجارية مع أي دولة وصلاحيات التنقيب في البترول والمعادن والشراكات الإقتصادية. - حاكم الإقليم له حق الفيتو أمام المركز في كل ما يتعلق بشؤون الإقليم. - يرأس مجلس وزراء دارفور، ويطابق جميع وزراء الحكومة الإتحادية ما عدا وزراة الخارجية والدفاع. - إعادة إحصاء سكان دارفور تحت إشراف الأمم المتحدة. - إقرار دستورية مبدأ الوحدة الطوعية لكل أقاليم السودان. - أيضا ضمن مؤسسات الإقليم : دارفور تحكم بدستور منفصل يحدد العلاقة مع المركز والدستور الإتحادي ويصوت عليه من شعب دارفور، كما يسمح الدستور بإستضافة مكاتب تجارية لدول لها علاقات إقتصادية مع دارفور، و ضمن مؤسساته التشريعية، هناك مجلسين منتخبين، مجلس للنواب ويسمي مجلس نواب دارفور " وظيفته تتعلق بالتشريع المدني والجنائي والإعلام والتعليم، وبقانون شرطة دارفور وتتعلق أيضا بالقوانين الأخري من جمارك وخلافه.
مجلس للمستشاريين: يضم زعماء الإدارة الأهلية والزعمات القبيلية والفعاليات الإجتماعية والفكرية والثقافية والتجار. يقدم المشاورات والإرشاد يجيز بعض القوانين وفق ما ينظمه القانون ويعمل في إطار الحل الإجتماعي إذا ما نشب صراع بين المكونات الإجتماعية، فضلا عن تعضيد دور الإدارة الأهلية و تنظيمها، ودستور دارفور يحدد الإختصاصات و العلاقة.- إعادة النظر في التقسيمات المحلية في الإقليم من إختصاص مجلس نواب دارفور
- إعتماد التقسيم الفرنسي للتقسيمات الإدارية المحلية "مقاطعات" في الإقليم المتمتع بالحكم الذاتي أو الإقليم الواحد في سودان فدرالي.
ثالثا : برتكول إعادة توزيع الثروة ، أهم مرتكزاته:
أ/ الحصص وتحدد عبر النسب المئوية المحددة والتي تقتطع من الناتج القومي السوداني سنويا ، يوضع في صندوق يتبع للأمم المتحدة، وكذلك إنشاء مؤسسات إقتصادية ومستقلة موازية تعمل في دارفور كبنك دارفور الدولي والذي يسمح له بالتعامل الدولي. ب/ المعيار لتحديد ذلك عدد شعب دارفور وكذا درجة التأخر الإقليمي. ج/ حصة دارفور من مياه النيل رابعا برتكول النازحين واللاجئين والأرض، أهم بنوده: - ملف التعويضات الفردية المباشرة، يقتطع من عائدات البترول ويوزع لأصحابه عبر صندوق تابع للأمم المتحدة. وتأهيل القري والمواقع التي نزح منها المواطنون وفق آجال محددة. - إسترجاع كل الأرضي التي سلبت وطرد الميليشيات التي إستجلبتها الحكومة في دارفور منذ عام 2001. رابعا : برتكول السلطة: إنشاء منصب رئيس وزراء السودان بصلاحيات رئيس السلطة التنفيذية في الدولة، يمنح لشعب دارفور. - إقتسام السلطة يحدد عبر معيار عدد السكان و بالنسب المحددة بعد إحصاء كل المواقع الرسمية ومؤسسات السيادة والخدمة المدنية ومواقع إتخاذ القرار في السودان والسفارات الخارجية وكذا الجيش و الشرطة... إلخ حصة شعب دارفور من السلطة و ينطبق الأمر أيضا علي تقسيم الثروة
خامسا : برتكول العدالة: تنفيذ العدالة الدولية في حق مجرمي الحرب و جرائم ضد الإنسانية مجمل هذه البرتوكولات تسمي " إتفاق سلام دارفور الشامل" و يوقع من طرف أعلي هيئة دستورية في السودان وأعلي هيئات في الجانب الحركي. كما يشهد و يوقع و يضمن الإتفاق
سادسا :المرجعية العليا للإتفاق و أطرافه: رئيس الإتحاد الأفريقي بصفته وشخصه ورؤساء دول الإقليم ورئيس الدولة المضيفة ومجلس الأمن الدولي والجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي والإتحاد الأروبي وممثلي الدول الكبري والوسيط الدولي.
صلاحيات ومهام المرجعية العليا للإتفاق: هؤلاء ضامنيين و شهود علي الإتفاق و جميعهم يمثلون المرجعية العليا للإتفاق و عليهم تشكيل آليات و لجان للمتابعة و المساعدة في التنفيذ و حل أي إشكال عند وجود صعوبات في التنفيذ، تشكل المرجعية العليا آليات وهيئات للإشراف ومتابعة التنفيذ والتدخل في حالة وجود خلاف أو بطء في التنفيذ.
الحوار الدافوري / الدارفوري: يعقد في الأخير مؤتمر الحوار الدارفوري/الدارفوري في دارفور وبرعاية دولية وإقليمية وتحت إشراف الأمم المتحدة ودون مشاركة الحكومة السودانية في أشغاله.يناقش فيه: مجمل قضايا دارفور، بناء الثقة بين كل أطراف مكونات المجتمع الدارفوري، توقيع عقد دارفور التاريخي، تسليم الإستحقاقات التي تم إنتزاعها إلي شعب دارفور .