مذكرات في الصحافة والثقافة

 


 

صديق محيسي
7 October, 2012

 




محمد ابو القاسم حاج حمد: من المثقفين الرًحل الي التربادور الأسباني


رد  الاستاذ  شوقي ملاسي علي الدكتور العوض محمد احمد بـتأكيده علي بعثية الراحل محمد ابو القاسم؛ وشوقي ملاسي لمن لايعرف من ابناء هذا الجيل،  هو من اهم القيادات التاريخية لحزب البعث العربي الأشتراكي في السودان بجانب سعيد ميرغني حمور، واسحق القاسم  شداد، ومحمد علي جادين واخرين. واتساءل  لماذا انزعج  الدكتور العوض من ذكرنا بعثية محمد ابو القاسم كأنما  الأنتماء  لحزب البعث هو عار سياسي يلحق بالذين يقدمون عليه.
ان حزب البعث العربي الأشتراكي بجانب الحزب الشيوعي السوداني كانا النافذة الوحيدة لإشاعة  الأستنارة والحداثة في السنوات الأولي للاستقلال.ويومذاك  لم تكن قواميس الأحزاب  الطائفية تعرف معني  كلمة الاشتراكية، فهي ثقافة جديدة ادخلها الحزبان  الي ساحة العمل السياسي لأول مرة.
اذن فإن محمد ابوالقاسم كان احد دعاة التنوير في تلك المرحلة ولم نصوره كمتهم بهذا الأنتماء كما ذهب الدكتور العوض الذي الصق بالراحل بطولات أقرب للخيال عندما قال ان ابا القاسم جلب السلاح للثورة الأريترية من منطقة المناصير بالشمالية! وهذه لعمري حكاية عجيبة اسمعها لأول مرة. ولكن لكي  ندل الآستاذ العوض علي حقيقة  أول شحنة سلاح سوري تصل الثورة الاريترية نحيله الي حقائق ان هذا السلاح  وصل  في غمرة  المد  الثورى لثورة اكتوبر، وحالة عدم  الأستقرار التي  لازمت اول حكومة للثورة. ولنستمع لمعاصر وشاهد عيان لحادثة السلاح  وهو عمر جعفر السوري،  أحد القيادات الثورية الشابة التي ناصرت الثورة الإرترية في ذلك الزمان . يقول عمر:
"في العام 1963 اتصلت جبهة التحرير الإرترية بالحكم الجديد في سورية الذي أتى الى السلطة بعد حركة 8 مارس/آذار 1963. كان صلاح البيطار، رئيسا للوزراء آنئذ، و هو ثاني اثنين أسسا حزب البعث. أما الآخر فهو ميشيل عفلق. كان البعثيون، رغم حداثة عهدهم بالحكم، قلقين من تنامي الوجود الإسرائيلي في إثيوبيا و خصوصا على ساحل البحر الأحمر و الجزر الإرترية المتناثرة فيه واتخاذ جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) من اسمرا قاعدة متقدمة يدير منها عملياته في شرق ووسط القارة الإفريقية. و لكن كان لهم محاذيرهم في التعامل مع من يدعي الثورة و الكفاح المسلح. فهم لا يعرفون هؤلاء الفتية. قد يكونون من النصابين الذين يتاجرون بقضايا الشعوب و يتكسبون منها. فكان لابد من اختبار. أمرت قيادة حزب البعث و رئيس الوزراء، صلاح البيطار، قيادة الجيش السوري أن تطلب من الوفد الإرتري الذي رأسه عثمان صالح سبي إيفاد عشرين من المقاتلين للتدرب على حرب الأغوار عند كتائب المغاوير و القوات الخاصة السورية، و ذلك قبل الخوض في تفاصيل الدعم الذي يمكن أن تقدمه سورية لهم. جئ بالمقاتلين المطلوبين و تدربوا لستة اشهر هناك أصابوا خلالها مدربيهم بالذهول و الإعجاب، فتقرر أن تمضي سورية قدما بتقديم كل ما تستطيع من عون. و لكن السبيل الى دخول المعونات كان العائق الأكبر الذي انهار بعد قيام حكومة أكتوبر/تشرين الأول 1964.
اتصل رئيس جبهة التحرير الإرترية، إدريس محمد أدم، و مسؤول شؤون الثورة، إدريس عثمان قلايدوس، بقطب الحزب الوطني الاتحادي، وزير شؤون رئاسة الوزراء في حكومة جبهة الهيئات الأولى، محمد جبارة العوض. كان القائدان الإرتريان على معرفة وثيقة بالوزير العوض منذ أيام الصبا، فقد درسا في مدارس القضارف سويا. و اتصلا كذلك بممثل الأخوان المسلمين في الوزارة، محمد صالح عمر، إذ كانا على معرفة به من قبل و يعرفان مدى حماسته للقضية الإرترية. طلبا من الوزيرين تسهيل استقبال طائرات سورية تحمل أسلحة و ذخائر للثورة هي في أمس الحاجة إليها. تحمس الوزيران إلا أنهما طلبا أن يبقى الأمر طي الكتمان، لا يعلم به من الوزارة غيرهما، و أن يتولى محمد جبارة العوض المسألة مع رئاسة هيئة الطيران المدني فقد كانت لوزارته علاقة بذلك و له في الهيئة معارف و مناصرين. بدأت الطائرات المدنية السورية في الوصول الى مطار الخرطوم ليلا تفرغ حمولتها و ترجع قبل بزوغ الفجر. كانت تلكم الشحنات ٌتخزن في منطقة بري قبل نقلها الى ارتريا سريعا. إلا أن الأمر بلغ مسامع قوى سياسية سودانية تساءلت عن كنه هذه الطائرات السورية و ليس بين البلدين طيران منتظم، و لا كانت العلاقات السودانية – السورية وثيقة كما هي اليوم. أفشى الصادق المهدي – بعد معرفته بتلك المساعدات - ما كان خافيا، لكنه اتهم حزب الشعب الديموقراطي بجلب السلاح لمقاومة الانتخابات المقررة في العام 1965 و التي هدد الشيخ علي عبدالرحمن بمقاطعتها و منعها. فهل كان الصادق المهدي يعرف من هم أصحاب السلاح و أراد توظيف ذلك في نزاع سياسي محلي على حساب ثورة فتية؟ أمر يصعب الجزم به. كان معظم السلاح قد وجد طريقه الى ساحات القتال الإرترية و أشرف على تسلمه المقاتلون الذين تدربوا في سورية. و بذلك لم تصادر قوات الأمن السودانية سوى كميات قليلة، إلا إنها اعتقلت عثمان سبي و رفاق له آخرين".
هاهو  شاهد من الشبان الذين التحقوا بالثورة الإرترية مبكراً بعد أن أفرجت عنه السلطات الاثيوبية من السجن. كان عمر السّوري يقضي اجازته المدرسية في ذلك الزمان صحبة العائلة في اسمرا، حينما أودعته الاستخبارات الاثيوبية  السجن المركزي هناك، و لعب القنصل السوداني  حسن محمد الامين و أقطاب الجالية العربية بأسمرا دوراً محورياً في فك أسره و عودته الى السودان، فقرر أن يقدم ما يستطيع لنصرة هذه القضية العادلة. و من هنا كانت علاقته الوثيقة بكل قيادات جبهة التحرير الإرترية. و هذا يؤكد  ماذهبت اليه  في روايتي عن دور الراحل ابو القاسم في موضوع  السلاح السوري"عمر السوري تعليقا على روزنامة كمال الجزولي في 22 يناير8 200 سودنايل"
ولانظنن ان الدكتورالعوض يملك رواية تدحض هذه الرواية واذا توافرت لديه فليأت بها .
عموما لم اكن في كل ما كتبت عن الراحل ابو القاسم اقصد الأنتقاص من دوره في خدمة الثورة الأريترية, فذلك امريعترف به كل الأريتيريين الأحياء منهم والأموات، ولكن ان يضخم هو، اوالبعض هذا الدور الي درجة مفارقة الحقيقة فهذا مايتنافي مع حقائق الواقع التاريخية .ولكن مع ذلك  علينا الا  نعبر فوق متناقضات الراحل الكثيرة والمدهشة والتي جعله بعضها اشبه  بالتربادور الاسبا ني  حاملا جيتاره من  شرفة الي اخري.
استمرارا لسيرة الراحل ابو القاسم دعانا مرة عام 1980 الي اجتماع  عاجل في منزل الصديق يحي العوض في ابوظبي، وكنا زمانئذ  نعمل سويافي صحيفة الأتحاد الظبيانية، حضر الأجتماع كل من الأصدقاء طه النعمان، عابدون سعيد، ومحمد طه الفيل، وحسين شريف، وعلي عمر  طرح علينا مشروع صحيفة بأسم "كتابات سودانية" يكون مقرها بيروت هدفها اسقاط  نظام النميري.باركنا كلنا الخطوة وابدينا استعدادنا  لتحريرها وجعلها منبرا  للقوي الحديثة.  ووسط دهشة الجميع كشف لنا انه رشح  الراحل يوسف عبد المجيد  زعيم الحزب الشيوعي القيادة الثورية ليكون رئيسا لتحريرها , وانه جهز له شقة في جبل لبنان ليمارس منها نشاطه ورد الجميع علي الترشيح ان عبد المجيد  سيرفض حتما العرض لأن الرجل وطن نفسه علي  النضال من الريف والعمل بين المزارعين  ولايمكن ان يقبل  مثل هذا العرض، وذُكر الجميع ابوالقاسم خلاف يوسف عبد المجيد  مع عبد الخالق محجوب، فهو حسب النظرية الماوية يؤمن بالزحف من الريف لتحرير المدن، ولايؤمن بالوصول الي السلطة من خلال  التطور البرلماني. تجاوز الجميع  حكاية يوسف عبد المجيد، وسألنا ابو القاسم  عمن يقف وراء عملية تمويل صحيفة كهذه  , فكان رده علينا انه ابرم اتفاقا مع دار الكلمة في بيروت لأصدار خمسة اعداد  اولي  وبعد ذلك تستطيع  الصحيفة  ان تقف علي قدميها، وبالطبع  نحن كصحفيين محترفين  اشتممنا رائحة ما يحبسها منا ابو القاسم ،ولم نقتنع بكلامه وانفض الأجتماع  بتعليقات ساخرة هي اشبه بالمثل الذي يقول "جاء يبيع الماء في حارة السقايين".وبعد شهر من هذا الاجتماع  وصل يوسف عبد المجيد الي ابوظبي ,واجري عملية جراحية في عينه ,ولما علم بترشيح ابو القاسم له ليكون رئيسا لتحرير الصحيفة المفترضة ضحك بخبث وقال لأبي القاسم اعلم يا صديقي ان بعد المسافة يطًول من عمرالديكتاتور فلتتركني قريبا من  "ناسي " افضل لي الف مرة  من لبنان وجبالها.  اثنان من الزملاء الذين حضروا الأجتماع  عرض عليهما  ابو القاسم  مشروعا اخر وهو ان ليبيا القذافي علي استعداد  لتمويل صحيفة كبري للمعارضة  يكون مقرها لندن ,والح عليهما ان  يتوجه ثلاثتهم الي طرابلس للقاء المسئولين الليبيين للبدء في تنفيذ المشروع.بعد تردد وافق الزميلان وتوجها  الي مطار ابو ظبي في المواعيد المحددة، ولكن ابو القاسم لم يحضر.وقبل اقلاع الطائرة اتصلا به في محاولة يائسة فرد عليهم ان لايخافوا وانه سيلحق بهم في الطائرة التالية. يروي احد  الزميلين ان مسئولين ليبيين استقبلوهما في مطار طرابلس واخذوهما عبر ازقة متعرجة حتي وجدا  نفسيهما في مبني قديم وسط حي شعبي ا كتشفوا انه أحد  مقار الاستخبارات الليبية. وعندما قابلا مسئولا كبيرا  كانا ينتظران  منه ان يبدأ معهما  بحث موضوع  الصحيفة  فاجأهما الرجل  بموضوع  مختلف تماما،وهو انهم   اتفقوا مع  ابو القاسم علي ان يختار لهم بعض السودانيين ليشرعا في تجنيد  شباب  سودانيين  من المتواجدين في الأمارات العربية المتحدة للألتحاق بمعسكرات الجبهة الوطنية التي كانت تقيم معسكرات لها في ليبيا ولم يرد علي لسان المسئول اي ذكر للصحيفة التي تحدث عنها ابوالقاسم، فعاد الزميلان الي ابوظبي في تكتم شديد ليجدا ابو القاسم قد غادرالي بيروت.
في عام 1997 قررنا، يحي العوض وانا، اصدار جريدة الفجرالمعارضة  للنظام في لندن ,وحاول ابو القاسم الكتابة فيها وكان يتصل  بنا يوميا من بيروت ولكننا  اعتذرنا  له بلباقة حتي فهم عدم رغبتنا  في ان يكون احد  كتابها ,وكنا نأخذ عليه  هجومه المستمر علي التجمع الوطني الديمقراطي واشادته وتنظيره فيما بعد لما  اطلق عليها النظام اتفاقية سلام الداخل التي وقعها الانقاذيون مع مجموعة انتهازية من القادة الجنوبيين؛ ولم تعش تلك الاتفاقية طويلا. دخل ابو القاسم  البوابة السعودية عبر كتاب اسماه " قدر السعودية المواجهة المصيرية وخصائص التكوين لاحرب دون مصرلاسلام دون سوريا ولاتطبيع دون السعودية"وهو كتاب ساعده كثيرا في التقرب من المملكة،فقد كان حتي ثمانينات القرن الماضي يعتبر السعودية احدي الدول الأكثر رجعية في العالم العربي انطلاقا من ثقافة بعثية سورية قديمة.
في عام 1997  أجري  ابو القاسم إتصالات  بالشريف زين العابدين الهندي واقنعه  بالعودة الي السودان عبر مبادرة سورية كان اطلق عليها"اعلان دمشق"تعاون ابو القاسم  مع نظام الأنقاذ  وسجل له حزبا  متواليا اسماه الحركة السودانية المركزية "حسم". كان الراحل كأخطبوط  سياسي يمدد اذرعه بين سوريا والعراق والبحرين وايران وليبيا ومصر وقبل رحيله كانت  اذرعه  ممدودة للإنقاذ. الا رحم الله  ابو القاسم وغفر له واحسن اليه وجعله من اهل الجنة مع الصديقين والأبرار
sedig meheasi [s.meheasi@hotmail.com]

 

آراء