مشكلة المعرفة في أنظمة (الربيع العربي)

 


 

د. حسن بشير
28 March, 2013

 




من الغريب أن انجلز اقرب أصدقاء ماركس والذي يرجع إليه الفضل في وصول رأس المال، المؤلف الجهبذ إلي العالم بعد أن قام بدور رئيس في عمليات الجمع والتنقيح وتكاليف النشر، الغريب ان هذا الرجل الفطن المتواضع كان يتميز بشمولية الفكر النقدي وعدم احترامه للنظريات المحافظة والجمود الفكري والإحكام المسبقة (وهي كلها من الاتهامات التي تكال للأنظمة الاشتراكية والأحزاب الشيوعية). انجلز هذا كان من أوائل من لفت الانتباه ونوه وأشاد بمساهمات العلماء العرب في النهضة الأوربية وتنسب إليه مقولة مشهورة هي ان (المفكرين الأوربيين قد ورثوا حرية الفكر من المفكرين العرب). هذه المساهمات والآراء منسية او (منكورة) في غالب التناول الفكري العربي الحديث، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والأنظمة الاشتراكية الأوربية وحتي ما بعد ما صار يعرف ب (ثورات الربيع العربي)، التي يبدو أنها ستدفن أسس المعرفة ونظرياتها في قبر واحد من الأنظمة البائدة، كما يبدو أن هذه المرحلة ستنتج أنظمة ستتوالي في الفناء دون ان تخلف إرثا معرفيا يفيد الأفراد والمجتمعات.
من المعروف ان الفيلسوف العربي المغربي بن رشد كان من ابرز المفكرين العرب الذين اثروا علي الفكر الأوربي واثروا العالم معرفيا وارسي أسسا متينة لعلوم المنطق والاجتماع الحديثة. إلا أن بن رشد غير محبوب من الوسط العربي – الاسلاموي لعمق فكره وإشكالية ما يطرحه من أسئلة جدلية تبدو هناك مشقة كبيرة في الإجابة عليها دون الاعتماد علي العقل واستخدام أدوات فلسفية معقدة والغوص في متاهات المنطق، وهذا طريق معرفي وعر محفوف بالمخاطر يتجنبه مضللي العقول ومروجي الجهالة والكسل الذهني. هنا تثور العلاقة بين الفلسفة كنقيض تاريخي للأسطورة وبين العقل كنقيض تاريخي للخرافة والدجل.
إذا تجنبنا التعقيد ودخلنا في موضوع مقدرة ما يسمي بثورات الربيع العربي في صناعة تاريخ جديد للمجتمعات العربية فماذا نجد؟ ما هو الطريق الذي ستسلكه أنظمة الربيع هذه في صناعة معرفة جديدة قائمة علي الإحياء الفكري والمعرفي في عصر تتطور فيه التكنولوجيا ونظم المعلومات؟ الأنظمة التي افرزها الربيع العربي لا تهتم بالتنوع والتطوير، بل تسير في طريق باتجاه واحد لا يضع اعتبارا لخصوصية المجتمع ولا يتبع منهجا في الانتقال من المرحلة السابقة الي مرحلة انتقالية تؤسس لمستقبل مختلف نوعيا ، ليس عن الماضي فقط وإنما أيضا عن الحاضر، الذي تتكدس فيه عوامل القهر والبؤس والتهميش. يعني ذلك ضرورة  استبدال النظام المعرفي القائم علي نمط قديم في التنمية السياسية ونظم التعليم وعلاقات الإنتاج والتوزيع، بنمط جديد يحقق أهداف الحداثة، تحول هيكلي اجتماعي - اقتصادي والتطوير المعرفي الممهد للانتقال من الأنظمة القديمة الي أخري جديدة تلبي متطلبات الحداثة في العمل، التنظيم وعدالة توزيع الثروة والسلطة، التي لا يمكن توفرها إلا عبر أنظمة تمتاز بالرشد السياسي وتسير في اتجاه توسيع المشاركة الجماهيرية ونحو ديمقراطية (تمثيلية) تستوعب جميع مكونات المجتمع وتسود فيها روح المؤسسية والشفافية والمسئولية القائمة علي حكم القانون، المساواة إمامه وفصل السلطات.
ما يحدث ألان هو الانصراف التام عن الجوهر إلي الفروع وعن فهم البناء القاعدي للعلاقات المجتمعية في كل دولة علي حدة الي جوانب ثانوية تهتم بالتمكين السياسي والفساد بغرض الوصول الي تكديس الثروات الشخصية لأفراد هذه الجماعة او تلك. يضاف الي ذلك تأصل المكون الخارجي لامتداد  هذه (الثورات)، المتمثل في قوي رجعية معادية للتطور المعرفي او أخري رأسمالية ساعية لتحقيق مصالحها في تعظيم المكاسب السياسية والاقتصادية وضامنة لأرباح مستمدة من استغلال ثروات تلك الدول او إعادة (أعمارها) بعد ان تقوم بتدميرها (بشكل شامل) او ربما ساعية الي تفكيك تلك الدول نهائيا وتحويلها الي فشل مقيم، يستمر لعقود من الزمان او ربما الي  الأبد. كيف إذن من الممكن تشكيل وعي معرفي جديد يصبح أساسا للممارسة السياسية وإعادة التنظيم الاقتصادي والاجتماعي وفي نفس الوقت تطور الحراك الراهن إلي ثورة معرفية شاملة؟
بالطبع لا يمكن تحقيق المطالب المذكورة إلا بالعمل علي تكوين رأس مال معرفي بقدرات مميزة عبر نظم التعليم والعمل ورفع القدرات التي تمكن المجتمع من تحقيق مستويات أداء متقدمة في جميع المجالات مقارنة بما كان عليه الوضع في الأنظمة السابقة. رأس المال المعرفي المشار إليه عبارة عن قوة وروافع من الخواص الفكرية، قواعد المعلومات، تراكم الخبرات، القدرة علي التحليل والتنبؤ والتخطيط، اي قاعدة فكرية أولية رئيسية لأي بناء سياسي او اقتصادي مستقبلي. بهذا الشكل ستصبح المعرفة من أهم الموارد المتاحة للمجتمع ليلحق بركب التقدم والحداثة وفي نفس الوقت هي العامل الأساسي في صناعة التكنولوجيا وتكنولوجيا المعلومات، اي اللغة التي يتخاطب بها العصر. بدون ذلك لا يمكن تحقيق اي مزايا تنافسية كما لا يمكن توليد قيم مضافة علي المستوي الاجتماعي، السياسي والاقتصادي. هذا شرط أساسي للتأثير ايجابيا علي حياة الناس ورفع مستوي معيشتهم ورفاههم الاجتماعي.
خلفت الأنظمة (الساقطة) ومثيلاتها القائمة فجوة معرفية كبيرة في الأقطار العربية ذات خلفيات سياسية، اقتصادية واجتماعية، إضافة للفجوات التقنية، الرقمية والعلمية بين الدول والشعوب العربية والأمم المتطورة والصاعدة. يمكن للاستدلال علي صحة هذه الفرضية بالرجوع لتقارير مراكز البحوث العالمية ذات المصداقية المرتفعة التي لا تعتمد علي معايير الكم المالي وإنما تهتم بقواعد الحريات، العدالة والمساواة في الحقوق لأدراك عمق الفجوات التي تحدثنا عنها. من تلك التقارير الجوانب الخاصة بالتنمية البشرية، الحقوق الاقتصادية، تنمية النوع، مؤشرات الفساد، مخرجات البحث العلمي والتصنيف العالمي لمؤسسات التعليم العالي.
نخرج بنتيجة مفادها ان الجهات التي وصلت الي الحكم نتيجة لما يسمي ب(ثورات الربيع العربي) لم تبرهن حتي اليوم، في إي دولة من الدول علي قدرتها علي إيجاد مناخ ملائم للتطور المعرفي او السير في طريق انجاز تنمية سياسية وتوفير عناصر الإنتاج التي تفتح المجال أمام فرص الكفاءة في الاستثمار، العمل واستخدام التكنولوجيا والتقنيات الحديثة في تعميق المعارف. للوصول الي فهم أعمق لأفاق المعرفة وسد الفجوات الموجودة في مكوناتها لابد من توفر أنظمة تؤمن بالمبادئ  التي تقوم عليها أركان المعرفة بعقلية منفتحة تقبل الآخر وتتيح المجال لمشاركة واسعة وتنتج ديمقراطية تمثيلية تستوعب جميع ألوان الطيف السياسي والاجتماعي والثقافي في المجتمع وتنبذ الإقصاء، العنف والتبعية. لكن المتمعن في الأمور يري أنظمة، غير قادرة علي الانجاز في إي من مجالات المعرفة، أنظمة تنظر إلي الوراء ولا تتطلع إلي المستقبل وكأن فهمها لشعاراتها، حتي الدينية منها قائم علي الثبات والتقهقر الي الوراء مع العلم بان من أول القيم المعرفية في الإسلام، علي سبيل المثال قائمة علي انه دين صالح لكل زمان ومكان، الأمر الذي يعني مقدرته علي استيعاب كل المستجدات التي تطرأ علي عالم متغير دائم الحركة والتطور. هذا أيضا يتطلب قدرة معرفية لإيجاد الوسائل التي تمكن من التكيف مع متطلبات العصر والتطلع إلي المستقبل (وكأنك تعيش أبدا). 
يبدو أن الخيارات قد أصبحت محدودة أمام أنظمة الإسلام السياسي لمواكبة عصر المعرفة والحداثة، فهي لم تستفد من فشل الآخرين لتتعلم الحكمة علي طريقة لقمان الحكيم، لذلك نقول للقادمين " عليكم بهؤلاء ، كلما ارتكبوا خطأ تجنبوه"، أو كما قال. 
hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]

 

آراء