معليش معليش ما عندنا جيش

 


 

 

ظن مطلقو هذا الهتاف المستهجن انه سيدق اسفيناً بين الجيش والشعب، وسيكون خير مدخل لتهيئة الرأي العام السوداني لموضوع تفكيك الجيش؛ أو العبارة الملطفة (اعادة هيكلة القوات المسلحة)، وفي هذه الاسطر سنستعرض اهم المحطات التي تثبت ان الشعب والجيش يكونان معاً يداً بيد؛ في اوقات المحن وعند التصدى لأي خطر محدق بالبلاد.
شهدت العاصمة منذ فجر الاستقلال والى الآن عدة محاولات للاستيلاء على السلطة بالقوة وهي تنقسم لنوعين:
النوع الاول ويكون الاعتماد فيه على القوة الداخلية الموجودة بالعاصمة في شكل انقلاب عسكري؛ وهذا النوع غالباً ما يكون ناجحاً؛ إذ يتمكن منفذوه من الاستيلاء على السلطة والجلوس على كراسييها لسنين عددا، مثل انقلاب ابراهيم عبود عام 1958م، وانقلاب النميري عام 1969م، وانقلاب عمر البشير عام 1969م، وبالمقابل كان هناك انقلاب بدأ ناجحاً ثم آل الى فشل وهو انقلاب هاشم العطا عام 1971م.
أما النوع الثاني من محاولات الاستيلاء على السلطة بالقوة؛ فهو ما يُستعان فيه بقوات من خارج العاصمة تعتمد اما على قوى خارجية؛ او قوى قبلية او جهوية، وقد انتهت تجارب هذا النوع الى فشل ذريع. لاسباب سنتطرق لها في فقرات تاليات.
اول محاولة لغزو العاصمة منذ معركة كرري في عام 1898م حدثت في عام 1976م، وقد اعتمدت على قوى خارجية، وذلك حين هاجمت قوات الجبهة الوطنية المكونة من حزب الامة والاتحادي الديمقراطي والاخوان المسلمين العاصمة بتمويل من ليبيا في عهد القذافي، واحتلت هذه القوات دار الهاتف، وسلاح المدرعات وسلاح المهندسين والسلاح الطبي، ومواقع اخرى، كما رابضت قوة عند المطار لاعتقال النميري او قتله لحظة هبوطه من الطائرة قادماً من الخارج، وفشلت الخطة بسبب تغيير موعد هبوط الطائرة، إذ هبطت الطائرة مبكرة بنصف ساعة عن موعدها المقرر، وبينما كانت الفرقة المنوط بها الهجوم على نميري في حالة انتظار، كان الصيد الثمين قد وصل الى مكان آمن، ادار منه الهجوم المضاد، وبعد ثلاثة ايام من القتال واعمال التمشيط ومطاردة الفارين، اندحرت القوة المهاجمة وهُزمت وطوردت قياداتها العسكرية والمدنية، وفقد الكثير من الناس ارواحهم وسقطت المغامرة دون تحقيق النتائج المرجوة منها.
اتكأ جون قرنق على هذه التجربة رغم فشلها، ورأى انه يمكن الاستفادة منها؛ معنوياً على الأقل، ففي خلال الحرب مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، توالت تهديداته بنقل المعركة للخرطوم، وكان القصد من ذلك اثارة الفزع لدى المواطنين؛ ومن ثم الضغط على القيادة السياسية والعسكرية لتحقيق مكاسب تفاوضية؛ او لكسر الروح المعنوية للجيش؛ وما الى ذلك من اهداف. ولم يستطع قرنق تنفيذ تهديده على ارض الواقع ولو استطاع لفعل، واخيراً دخل الخرطوم وفق ترتيبات اتفاقية السلام الموقعة عام 2005م؛ على متن طائرة مدنية لا على ظهر دبابة كما كان طموحه.
نظرت الحركات المتمردة في دارفور لتجربة الثاني من يوليو عام 1976م بعين الرضا، واستلهمت فكرتها ثم اتخذتها كنموذج عسكري يمكن تكراره، ففي مايو عام 2008 قرر خليل ابراهيم قائد حركة العدل والمساواة أن يجرب حظه بغزو العاصمة، وقبل الغزو اطلقت حركته مثلها مثل حركة قرنق تهديدات بنقل الحرب لداخلها؛ ثم قاد خليل ما يسمى بعملية الذراع الطويل؛ وانتهت هذه المغامرة غير المخطط لها جيداً بفشل مدوٍ في يوم واحد، ودون تحقيق أي نتائج ملموسة، اللهم إلا تسجيل اسم قائدها في قائمة من فكروا في غزو العاصمة، وقد دفع المئات من جنوده ومن المواطنين ثمناً باهظاً لهذا التسجيل فسقطوا بين قتيل وجريح.
في ابريل عام 2023م وفي تمرد الدعم السريع كان التطور اللافت هو استخدام الاسلوبين، أي الاعتماد على القوة العسكرية الداخلية، وأيضاً الزج بقوات من خارج العاصمة، فهوجمت العاصمة من داخلها بقوات الدعم السريع المتمركزة كقوات حراسة في المواقع المهمة، ثم لما بدرت بوادر تدل على ان الفشل قادم في الطريق، تم استدعاء قوات وتعزيزات من خارج العاصمة، فجاءت أرتال عسكرية من غرب السودان. ولمجابهة هذه الارتال والمعسكرات المحيطة بالعاصمة استخدم الجيش الطيران لأول مرة كسلاح فعال في القتال، وهو ما لم يحدث في جميع المحاولات الانقلابية والغزوات السابقة، إذ ان الاعتماد يكون دائما بصورة تقليدية على المدرعات لتنفيذ انقلاب او القيام بانقلاب مضاد. وانتهت هذه المغامرة كما انتهت سابقاتها بفشل ساحق ستعقبه نتائج كارثية.
عاملان رئيسيان اديا لفشل الحركات الثلاث وهي حركة الثاني من يوليو عام 1976م، وحركة خليل ابراهيم في مايو 2008م، وحركة حميدتي في ابريل 2023م.
العامل الاول: يتعلق بالجيش نفسه، إذ أن مسألة الشرف المهني والكرامة العسكرية من الامور الحساسة للعسكريين السودانيين، خصوصاً عندما يتعلق الامر بكلمة (غزو)، وقد استغل النميري هذه النزعة عندما وصف حركة الثاني من يوليو بكونها (غزو مرتزقة) وتمكن من توحيد الجيش كله خلفه.
ويلحق بالشرف العسكري أن الجيش يأنف أن تصيبه هزيمة ما او انكسار من قوى يرى انها مدنية. إذ أن مقاتلي هذه الحركات الثلاث هم مدنيون في الاصل، ورغم انهم دُربوا على العمل العسكري، الا أن الجيش لا ينظر لهم باعتبارهم ابناء مؤسسة عسكرية عريقة لها عقيدتها القتالية، وتقاليدها وقيمها؛ وهياكلها التنظيمية، والتراتبية المهنية، والانضباط العسكري. ويكون الولاء فيها للمؤسسة نفسها لا لاشخاص.
الولاء في حركة الثاني من يوليو كان للقادة وما يمثلونه من رمزية لاتباعهم، كان الصادق المهدي من حزب الامة مع يمثله من رمزية للانصار، والشريف الهندي من الحزب الاتحادي الديمقراطي، وهو زعيم طائفة تحالفت مع طائفة اكبر هي الختمية، حتى الحركة العقائدية وهي الاخوان المسلمين كانت تدين بالولاء لقائدها حسن الترابي. وكان قائدها الميداني في ذلك الوقت هو عثمان خالد مضوي.
الولاء في حركة العدل والمساواة وكان يقودها خليل ابراهيم، والولاء في تمرد الدعم السريع والقائد هو محمد حمدان دقلو واخوه عبد الرحيم دقلو قبلي جهوي، ولا يمكن القول أن الدعم السريع اصبح مؤسسة عسكرية يكون الولاء فيها لقيم المؤسسة العسكرية، فالقرار فيها لعائلة آل دقلو، والولاء لهم. وللتركيبة العشائرية الاصلية التي قام عليها الدعم السريع في بداية تاسيسه.
العامل الثاني: ويتعلق بالشعب، وقد اخطأت الحركات الثلاث في حساب هذا العامل المهم؛ وكانت تتوهم وجود دعم شعبي لها يمكنها من تنفيذ اهدافها، وأن جماهير الشعب ستلتف حولها، وهو ما لم يحدث، بل كانت المفاجأة لهم ان الغالبية العظمى من المواطنين كانوا وفي كل هذه الحالات؛ يقفون مع الجيش للدفاع عن عاصمتهم؛ دون النظر الى درجة خلافهم مع السلطة العسكرية الحاكمة.
ففي الحالة الاولى حالة الجبهة الوطنية، وحربها ضد النميري، ومع الوجود الكبير لجماهير احزاب الامة والاتحادي الديمقراطي والاخوان المسلمين ضمن سكان العاصمة، إلا أن هذا لم يدفع غالبيتهم ابداً للتعاطف مع القوة القادمة من الخارج، ولم يقدموا لها المساعدة المأمولة مما مكن قوات الجيش من دحرها.
في حالة خليل كان الحاكم البشير، وقام المواطنون يومها بعرقلة تقدم عناصر قوات خليل وتضليلها ومساعدة الجيش والشرطة في هزيمتها، وحدث هذا في اقل من اربع وعشرين ساعة. وفي حالة حميدتي كان الحاكم البرهان، وقد ظهر جلياً مدى التعاطف والتأييد الذي حظي به الجيش السوداني في هذه المعركة من قطاعات الشعب المختلفة.
هذان العاملان يرسلان رسالة قوية لكل الغزاة ومن واقع الرصد التاريخي؛ أن الجيش السوداني لا يقبل المساس بكرامته العسكرية، وان المواطنين سيقفون دوماً وابداً مع الجيش لصد أي محاولة للهجوم عليه؛ بغض النظر عن من يحكم، حتى ولو كان الحاكم احد جنود ابليس نفسه.
هذه الدرجة العالية من الوعى الشعبي المرتفع جعلت المواطنون يميزون بين الجيش كمؤسسة قومية وبين الحاكم، ويرون ان الحاكم حتى ولو تحول الى طاغية فوسيلتهم لاسقاطه ستكون عبر الهبات الشعبية، ولديهم خبرتهم وتجاربهم في هذا الشأن، كما حدث في اكتوبر عام 1964، وفي ابريل عام 1984 وفي ديسمبر عام 2019م.
هذا الوعي الشعبي المرتفع يرفض أي غزو تؤيده قوى اجنبية كما حدث في حالة يوليو 1976م، والذي كان مسنودا وممولاً من دولة اخرى هي ليبيا بقيادة القذافي. ويرفض اقحام المجموعات العرقية والجهوية في صراع السلطة كما حدث في حالتي خليل ابراهيم وحميدتي.
ولا شك ان هذا الفهم الدقيق والتمييز بين المواقف المختلفة يجعلنا نقف احتراماً لهذا الشعب المعلم، وفي الوقت نفسه ننظر بعين الدهشة لمواقف بعض النخب التي تقول (معليش معليش ما عندنا جيش)، ولا تنظر للجيش كمؤسسة قومية عريقة، حيث تدعي هذه النخب ان هذه المؤسسة مسيسة لجهات معينة، وتتعامل مع الموضوع باسلوب (البصيرة ام حمد)، أي هدم المعبد كله على رؤوس ساكنيه.
من المفترض ان تكون النخبة هي القائدة للشعب، لكن ان يكون الفهم الشعبي متقدما على فهم (المتعلمين بتوع المدارس)، فهذا مما يثير العجب تجاه سلوك هذه النخب وتكالبها على السلطة، في الوقت الذي تفتقر فيه للسند الشعبي.
هذه النخب مع تشدقها بعبارات وشعارات الحرية والديمقراطية والمدنية والعدالة؛ تخشى انتشار هذا الوعي الشعبي وتحاول محاصرته بالتضليل الاعلامي؛ لأنه سينعكس سلباً على مستقبلها السياسي متى ما طرقت البلاد ابواب الديمقراطية. وهو ما يفسر هروب هذه النخب واحزابها السياسية الصغيرة من الانتخابات، ومحاولاتها عرقلة قيامها بشتى الوسائل. فهي تعلم عليم اليقين انها ستواجه شعباً معلماً لن تنطلى عليه لعبة التمسح والنشدق بالشعارات الرنانة.

nakhla@hotmail.com

 

آراء