مغامرات شارب خمر التمر “وعاصر خمر تمره الميّت في بلدة الموتى”

 


 

 

مغامرات شارب خمر التمر
"وعاصر خمر تمره الميّت في بلدة الموتى"
أموس تيوتيولا
Amos Tutuola
ترجمة: إبراهيم جعفر

صدر الكتاب، للمرة الأولى، بالإنجليزيّة عن دار "فيبر آند فيبر". أعيد إصدار طبعة شعبيّة منه "فيبر للطبعات الشعبيّة-1961". ثمّ نُسخت منه طبعاتٌ في 1963، 1969، 1971، 1974، 1980، 1985.
صمّمت الغلاف دار بينتقرام Pentagram للتصميم الفنّيّ. رسمُ الغلاف بريشة جون كليمينتسون.John Clementson صورة الغلاف الخلفيّة من تصوير كارولين فوربس.

نبذة عن حياة المؤلف:-
أموس تيوتيولا، كاتبٌ نيجيريٌّ ولد في بلدة "أبيوكوتا" وتلقّى تعليمه في مدرسة لمنظّمة جيش الخلاص المسيحيّة. ثمّ، مؤخّراً، عمل مدرّساً في مدرسة لاغوس الثانوية العليا. وكتابه الموسوم شارب خمر التّمر... الخ [ذاتٌ المؤلّف الذي ترجمتٌه هنا إلى العربيّة]، الذي هو أكثر مؤلفاته شهرةً، قد كٌتِبَ في لهجة إنجليزيّة- نيجيريّة عاميّة وتناول مغامرات بطله وسط "الموتى"، أي أرواح الرّاحلين. من مؤلّفاته الأخرى حكاية موسومة بـ"مٌسغب، صيّاحة وخبيث (1987)" ومجموعة قصص قصيرة موسومة بـ"امرأة الرّيش الغابيّة".

يستلهم أموس تيوتيولا مؤلفاته من أساطير وخرافات قبيلة اليوروبا النيجيرية. فهو قد خلّق من هاتيك فانتازيات (متخيّلات) حيّة يتعايش، في جنابها، الواقعيّ (الطبيعيّ) وما فوق الطّبيعيّ.
............
[من:- 1. قاموس جامبارس للبيوغرافيا، النسخة القرنيّة، تحرير مالاني باري (طبعة 1997).
2. موسوعة ماكميلان (طبعة 1997)].

حكايات أخرى للمؤلّف:-
* حياتي في غابة الأشباح My Life In The Bush of The Ghosts
* إمرأة الريش الساكنةَ الغابة The Feather Woman of The Jungle
* أجايي وفقره الموروث Ajaiye And His Inherited Poverty

قيل عن هذه الرواية:-

"موجزة، محتشدة، مرعبة وآسرة ... كتبها، بالإنجليزيّة، "غربُ-إفريقيّ" ... لا شيء معجز جداً أو تافه جدّاً على أن يُسلك في مجرى هذه الرواية المولعة بالمبالغات الشديدة أو
اللا يُصدّق من الأشياء".

ديلان توماس
"صحيفة الأوبزيرفر البريطانيّة".

إهداء هذه الترجمة:-
* إلى الأستاذ الفاضل كبّاشي الذي أمتعني قديماً، بمجلّة "الإذاعة والتلفزيون والمسرح" السودانيّة، وبملاحق شتّى الصحف السودانيّة الثقافيّة، بترجماته الممتازة لكثيرٍ من الأدب الإفريقيّ ومقالاته وهوامشه على ذلك.
* إلى الصديق الفاتح فضل، عارف الأدب الإفريقيّ الصّامت عن الخوضِ الهشِّ فيه!

إبراهيم جعفر
***
"الجزيرةُ الطّيفيّةُ"

استأنفنا رحلتنا داخل غابةٍ أخرى، طبعاً. كانت ملآنةً بالجزر والمستنقعات وكانت مخلوقات الجزر طيبةً جداً فحال ما وصلنا هناك استقبلونا ببشاشةٍ ووهبوا لنا منزلاً لطيفاً في بلدتهم كي نحيا فيه. كان اسم الجزيرة "الجزيرة الطيفيّة"، وكانت مرتفعةً جداً ومحاطةً تماماً بالمياه. كلّ سكان الجزيرة كانوا طيبين جداً ومحبيّن لأنفسهم وشغلهم هو فقط زراعة طعامهم. أما من بعد ذلك فليس لهم شغل آخر سوى "لعب" الموسيقى والرقص. كانوا أعظم المخلوقات جمالاً في عالم المخلوقات الغريبة. كما وكانوا أيضاً أكثر الراقصين والموسيقيين روعةً إذ هم يعزفون الموسيقى ويرقصون النهار والليل بتمامهما. ولما كان جوّ الجزيرة مناسباً لنا ورأينا أنّنا لا ينبغي لنا أن نغادرها في الحال بقينا هناك راقصين معهم وفاعلين مثلما كانوا يفعلون. كلما ارتدت مخلوقات الجزيرة ملابسها اعتقد من يراها أنها مخلوقات إنسانيّة. كان أطفالهم دوماً يؤدون التمثيليات المسرحية. وعندما كنا عائشين معهم أصبحتُ أنا فلاحاً وزرعتُ أنواعاً كثيرةً من المحاصيل. لكن عندما بلغت المحاصيل تلك أوج نضجها رأيتُ، ذات يومٍ، مخلوقاً رهيباً يأتي إلى المزرعة ويأكلها. كان الوقتُ صباحاً حين شاهدته هناك فشرعتُ في سوقه بعيداً عن المزرعة. طبعاً ما كنتُ بقادرٍ على مجابهته لأنه كان كبيراً كفيلٍ. كان طول أظافره حوالي قدمين، ورأسهُ كان أكبر من جسده بعشر مرات. وكان له فمٌ كبيرٌ مليء بأسنانٍ طويلة كلٍّ منها ممتدةً إلى نحو قدمٍ طولاً وعريضةً عرضَ بقرة. كما وكان جسده مغطىً، تقريباً، بشعرٍ طويلٍ كشعر ذيلِ حصانٍ. كذلك كان قذراً جداً وله خمسة قرونٍ على رأسه كلّها مقوّسةً ومستويةً مع رأسه وأربعة أقدام أياً منها كبيرةً كِبَرَ كتلةِ خشبٍ. لهذا كلّه ما استطعتُ الاقتراب منه فشرعتُ في رميه بالحجارة من مسافةٍ بعيدةٍ. لكنه، قبل أن يصله أيٌّ من حجارتي، جاء إلى حيثُ كنتُ واقفاً وتأهّب لقتالي.

فكّرتُ مليّاً في وسيلةٍ أتمكّنُ بها من الفرار من ذلك الحيوان المخيف. ما كنتُ أعلمُ أنه كان مالك الأرض التي زرعتُ عليها محاصيلي. أما هو فقد كان غضبانأً جداً لأنني ما قدمتُ له أيَّ "قربانٍ" قبل أن أزرع محاصيلي هناك. حين فهمتُ ما يبتغيه منّي حصدتُ بعضاً من تلك المحاصيل وأعطيتُها له. عندما رأى ما أعطيتُهُ مثَّلَ إشارةً تعني أنّني ينبغي لي أن أمتطي ظهره فامتطيتُهُ. من بعد ذلك ما سمعتُ منه أيّ شيء. ثم أخذني إلى بيته الذي كان لا يبعد كثيراً عن المزرعة. وصلنا إلى هناك فانحنى ونزلتُ أنا عن ظهره. دخل البيت وعاد بأربع حبّات ذرة، أربع حبّات أرز، وأربع حبّات بامية وأعطاهنَّ لي فذهبتُ إلى المزرعة وزرعتهنَّ في نفس الوقتِ. لدهشتي نبتت تلك الحباتُ والبذورُ في الحال فصارت، في خمس دقائق، محاصيلَ كاملةَ النّموّ. ثم، في عشر دقائق، أثمرت فاكهةً نضجت، أيضاً، في نفس اللحظة. قطفتُ الفاكهةَ وعدتُ بها إلى البلدةِ ("الجزيرة الطيفيّة")... مضى زمنٌ وأثمرت المحاصيلُ آخر الفاكهة ويبس عودها فقطعتُها واحتفظتُ ببذورها حتى أرجع إليها في وقتِ الحاجةِ، خاصّةَ وأنّنا مسافران في أرجاء الغابة.

"ليس أصغر من أن يختار"

كانت هنالك مخلوقات مدهشة كثيرة في العهود الغابرة. ففي ذات يومٍ دعا ملك "الجزيرة الطيفيّة" كلّ الناس، الأرواح ومخلوقات الجزيرة المرعبة كي يعينوه على نظافة حقل الذرة في صباحٍ رائعٍ. ذهبنا إلى حقل الذرة ونظفناه، ثمّ عدنا إلى الملك وأخطرناه بأننا قد نظّفنا حقله فشكرنا ووهبنا طعاماً وشراباً.

في الواقع ما كان أيُّ واحدٍ من تلك المخلوقات صغيراً- حجماً أو مكانةً- على أن يُختارَ للمساعدة في شأنٍ ما. شاهدُ ذلك أنه، دون أن ندري، جاء إلى الحقل، حال مغادرتنا له مباشرةً، مخلوقٌ صغيرٌ لم يستدعه الملك للذهاب معنا إلى الحقل وأمر كلّ الأعشاب التي أزلناها عن الحقل أن تنمو، مرةً أخرى، وكأنها ما أُزيلت. قال، في أمره ذاك، ما يلي:- "بما أنّ ملك "الجزيرة الطيفيّة" قد دعا كلّ مخلوقات "الجزيرة الطيفيّة"، ما عداي، إلى عونه (في نظافة حقله) فإنّني آمر كلّ الأعشاب المزالة أن "تنهض" مرةً أخرى. ثم دعنا، بعد ذلك، نذهب ونرقص على ألحانِ فرقةٍ موسيقيّةٍ في "الجزيرةِ الطيفيّةِ"، وإن لم تكن لتلك الفرقة أصواتَ طروبة فعلينا أن نرقص على الحانٍ طروبةٍ أخرى...".

في ذات الوقت الذي أمر فيه المخلوق الصغير تلك الأعشاب بالنمو مرةً أخرى قامت على سوقها وكأنها ما أزيلت منذ عامين. باكراً في الصباح التالي ليوم نظافتنا للحقل ذهب الملك لتفقد الذرة المزروعة فيه لكن، لدهشته، قابله مشهد الحقل وهو غير منظّف من الأعشاب فعاد إلى البلدة ودعانا كلّنا إليه وسألنا:- لماذا لم تنظفوا حقلي؟ أجبناه بأنّنا قد نظفناه في يوم أمس، لكنه قال لنا إن ذلك لم يحصل. ذهبنا جميعاً إلى الحقل لنشهد على ما قاله الملك فبدا لنا الحقل- فعلاً- وكأنه ما نُظّف. تجمعنا، ثانيةً، وذهبنا لتنظيف الحقل كما في السابق، ثمّ عدنا إلى الملك، مرةً أخرى، وأخبرناه بأننا نظفنا الحقل. لكنه عندما ذهب إلى هناك وجده، ايضاً، غير منظّف فرجع إلى البلدة وقال لنا، ثانيةً، إننا لم ننظّف حقله. هرعنا جميعاً إلى هناك فوجدنا الحقل- كما قال- غير منظّف. إلتممنا، للمرة الثالثة، وذهبنا للحقل لتنظيفه. وبعد أن نظفناه أوصينا أحدنا أن يختفي داخل دغلٍ قريبٍ جداً من الحقل للمراقبة. قبل أن تمضي ثلاثون دقيقة هناك شاهد صاحبنا مخلوقاً صغيراً جداً، كأنّه طفلٌ عمره يوماً واحداً. أمر ذلك الطفل- كما فعل سابقاً- الأعشاب أن تنمو. ثمّ بذل صاحبنا، الذي كان يراقبه خفيةً من داخل الدّغل، كلّ جهوده وقبض عليه وساقه إلى الملك. حينما رأى الملك المخلوق الصغير (المخلوق الطّفل) دعانا كلّنا إلى قصره.

سأل المخلوق إياه عمّن كان يأمر الأعشاب المزالة عن حقله بالنموّ مرةً أخرى عقب كلّ تنظيفٍ يجري للحقل. أجابه المخلوق الصغير أنه هو الذي كان يأمر الأعشاب بالنّمو. ذلك لأن الملك قد اختار كل مخلوقات "الجزيرة الطيفيّة" للمشاركة في تنظيف حقله واستثناه من ذاك الاختيار. ثم أضاف لما قاله إنه- رغم أنّه الأصغر من بين مخلوقات الحقل جميعها- صاحب قدرةٍ على أمر الأعشاب المزالة عن الحقول (وخلافها من نباتات) بالنمو مرة أخرى وكأنّها ما قُطعت أبداً. حينذاك قال الملك إنه، فقط، قد نسي أن يدعوه، مع البقيّة، لتنظيف الحقل وغنّ سبب ذلك ليس هيئته الصغيرة. ثم اعتذر له الملك كثيراً عمّا حدث فرضي ومضى في سبيله. كان ذلك المخلوق الصغير مدهشاً جداً.

مكثتُ وزوجتي ثمانيةَ عشرة شهراً في "الجزيرة الطيفية" قبل أن أخبر أهلها أنّنا راغبين في مواصلة رحلتنا التي ربما لا تنتهي إلى غايتها أبداً. ولأن مخلوقات الجزيرة تلك كانت طيبةً جداً فقد وهبت زوجتي أشياء غالية عديدة كهدايا. حزمنا أمتعتنا في ذلك اليوم. وفي صباحه الباكر أقام لنا أهل "الجزيرة الطيفيّة" حفل وداع ركبوا وإيّانا فيه مركباً كبيراً وغنّوا أغنيةَ وداعٍ خاصّةٍ بهذه المناسبة وهم يجدفون المركب عبر النهر. صحبونا هكذا حتى حدود جزيرتهم، ثم توقفوا إلى حين نزولنا من مركبهم، وبعدها رجعوا إلى بلدتهم (جزيرتهم) وهم يعزفون الموسيقى ويغنون أغنيةً لطيفةً ويلوّحون لنا مودّعين. إن كان الأمر بيدهم لكانوا قادونا إلى غاية رحلتنا، لكنّهم ممنوعون من مسِّ أرضِ أو غابةِ أيِّ مخلوقٍ آخرٍ.

استمتعنا بكلّ شيء في تلك "الجزيرة الطيفيّة" لحدّ الرضا، إلاّ أنّ مهاماً عظيمةً عديدةً ما زالت أمامنا... أوغلنا في السفر خلال غابةٍ أخرى (وكما يذكر القارئ، ما كان هنالك أبداً طريقٌ للسفر عبر هاتيك الغابات). لاحظنا، بعد ترحالٍ في بطنِ الغابةِ لمسافةِ ميلينٍ تقريباً، أنّ بها أشجاراً كثيرةً ليس لها أوراقٌ ذابلةٌ، أعوادٌ يابسةٌ ونفاياتٌ فوق أرضها كما كان الحال في غاباتٍ أخرْ. كنّا جائعين جداً فوضعنا عنّا أثقالنا عند جذع شجرةٍ هناك (ما انتظرنا حتى نصل إلى غابةٍ أخرى عاديّة كسائر الغابات). ثم بحثنا حول الشجرة عن قطع خشب يابسة لنشعل بها ناراً، لكنّا ما وجدنا شيئاً منها هناك. لدهشتنا كان هناك فوحاً طيباً في كلِّ جزءٍ من الغابة وكأنّ بعض الناس كانوا يفرنون [من "فُرن"- المترجم] كيكاً وخبزاً ويشوون دجاجاتٍ أو لحما. الله كريمٌ جداّ! بدأنا نشتمّ الرائحة الطيّبة فاكتفينا بها جداً وما شعرنا، مرةً أخرى، بالجوع. كانت تلك الغابة " طمّاعة " جداً، ففي خلال ساعةٍ من جلوسنا عند قدم الشجرة بدأت الأرضُ التي قعدنا فوقها تدفأ فما عدنا قادرين على القعادِ فوقها أكثر وحملنا أثقالنا وتوغّلنا أبعدَ في الغابة.

لمحنا، فيما نحن حاثَّين السير في الغابة، بركةَ ماء فانثنينا إليها وتهيأنا لشرب مائها. لكن ذلك الماء كان قد غاض عنا عند حضورنا وتركنا عطشانين كما كنّا طول الوقت. حينذاك لاحظنا أنه ليس هناك مخلوقٌ حيٌّ واحدٌ في ذلك المكان. ثمّ رأينا أنّ أرضَ تلك الغابة- التي كانت دافئة فحسب من قبل- قد سخنُت جداً الآن ومنعتنا من الوقوف، الجلوس، أو الاستمرار في النومِ حتى الصباح. وهكذا أبت الغابة تلك، مرةً أخرى، على أيّ أحدٍ أن يبقى بها لوقتٍ أطولٍ من الضّروريِّ. غادرناها إذاً ومضينا أبعد لكن، فيما نحن ماضيان في سبيلنا، رأينا، ثانيةً، أشجارَ نخيلٍ كثيرةً ليس لها أوراق، بل فقط طيوراً صغيرةً مثّلتها. كانت أشجار النخيل تلك واقفةً صفاً واحداً. أوّلُ شجرةٍ منها وصلنا إليها كانت طويلةً جداً. ضحكت حينما بدونا لها. ثمّ سألتها الثانية عمّا أضحكها. أجابت بأنها قد رأت اليوم مخلوقين حيّين في غابتهما. بلغنا الشجرة الثانية التي سرعان ما ضحكت علينا أيضاً بصوتٍ عالٍ بحيثُ لو أنّ شخصاً كان على مبعدةِ خمسة أميالٍ منها لسمعها. عند ذاك ضحكت معاً علينا جميعُ أشجار النخيل فغدت الغابة كلّها وكأنّها- حقاً- قد ملئت بضجيجِ سوقٍ كبيرٍ، إذ أنّ أشجارها تلك- كما أسلفت- كانت منتظمةً في صفٍّ واحدٍ. وعندما رفعتُ رأسي ونظرتُ إلى أعاليها (وأعني الأشجار) لاحظتُ أنّ لها رؤوساً وأنّ تلك الرؤوس صناعيّة. ورغم أنها كانت تتحدث لغةً غريبةً إلا أنها كانت تتكلّم كما تتكلّم كائناتٌ بشريّةٌ. وجميع تلك الأشجار كانت أيضاً تدخّن غلاييناً طويلةً فيما هي ناظرةً إلينا (طبعاً نحنُ لا نستطيع القول من أين اتت الأشجارُ إياها بهذه الغلايين). كنّا عجيبين جداً بالنسبةِ لهم، فهم ما رأوا كائناً إنسانياً من قبل.

كنا نفكّر في النوم هناك، لكنّا ما استطعنا نوماً أو إقامةً في ذاك المكان بسبب ضجّة الأشجار وضحكها علينا. بعد مغادرتنا لتلك "الغابة الطّمّاعة" سرنا حتى وصلنا، في الواحدةِ والنصف بعد منتصف الليل، إلى غابةٍ أخرى نمنا تحت إحدى أشجارها حتى الصباح ولم يحدث لنا أيّ شيء خلال الليل كلّه. أما الجوع فقد نال منّا كلذ منالٍ إذ أنّا ما أكلنا شيئاً منذ اليوم الذي خرجنا فيه من "الجزيرة الطيفيّة"- أجمل جزيرة في عالم المخلوقات العجيبة. عند الفجر استيقظنا أسفل الشجرة وأوقدنا ناراً هناك طبخنا عليها طعامنا وبادرنا بأكله. لكن قبل أن نفرغ من الأكل شاهدنا حيوانات تلك الغابة راكضةً هنا وهناك، كما ورأينا جموعاً من الطيور الضخمة وهي تطاردها صعوداً ونزولاً متغذّيةً على لحمِ أجسادها. بلغ طول تلك الطيور حوالي قدمين وامتدّت مناقيرها، الحادّة جداً كسيوفٍ، مسافةَ قدمٍ أمامأً.

حين شرعت الطيور في أكل لحم الحيوانات شاهدنا، في ثانيةٍ، حوالي خمسين ثقباً في أجسادها. ثمّ، في ثانيةٍ، سقطت الحيوانات أرضاً وماتت. عندها بدأت الطيور في أكل أجسادها الميّتة وما استغرق منها ذلك سوى دقيقتين. وما أن انتهت الطيور من كلّ أجساد الحيوانات الميتة حتى تهيّأت لمطاردة غيرها من حيوانات أو كائنات ذات لحمٍ. ثمّ رأتنا الطيور حيثما كنا نجلس فنظرت إلينا بشراسةٍ مازجتها دهشةٌ. آنذاك وقع في خاطري أنها ربما أكلتنا كما أكلت الحيوانات فجمعتُ أوراقَ شجرٍ جافّةً وأشعلتُها بالنار. بعد ذلك نثرتُ على النار مسحوق "جوجو" أهداه لي صديقي المخلوق ذو الرأسين في "غابة الأشباح: بلد الأشباح الثاني" [روى الكاتب حكايته في كتابه حياتي في غابة الأشباح- المترجم]. أبعد المسحوق النافذ الرائحة الطّيور عنا لدقائقٍ قليلةٍ فاستطعنا السفر عبر الغابة خلال النهار بقدرِ ما قدرنا. وحين حلّ الليل جلسنا تحت شجرة ووضعنا أمتعتنا أسفلها- كنّا نجلس وننام تحت الأشجار متّخذينَ منها مأوى كلّما أتى الليل. بينما كنا جالسين تحت الشجرة إياها ونحن نتوجّس أخطار الليلة رأينا، على مسافةٍ منا، واحداً من "أرواح الافتراس". كان (ذلك "الروح") يماثلُ فرس الماء في حجمه، لكنه كان يمشي مستقيماً كإنسانٍ. كان لرجليه قدمين وجسده هو ثالثهما أما رأسه فكان تماماً كرأس الأسد، كما وكانت تُغطّي جسده قشورٌ صلدةٌ أيٌّ منها في حجمِ مِجرفةٍ أو مِعزقةٍ معقوفةً تجاه جسده. إن أراد "روح الافتراس" هذا أن يقبض على فريسته فهو، ببساطةٍ، سينظر إليها وهو واقف في مكانٍ واحدٍ- إنه لا يُطارد فريسته هنا وهناك. وبعد أن "يتفرّس" في فريسته جيداً فإنه سيغلق عينيه الواسعتين. وقبل أن يفتحهما، مرةً أخرى، ستكون الفريسة قد ماتت وجذبت نفسها- تلقائياً- نحو مكان وقوفه. عندما اقترب ذلك "الروح" من الموقع الذي نمنا فيه في تلك الليلة وقف على بعد حوالي ثمانين ياردةً منا ونظر إلينا بعينيه اللتين انساب منهما فيضانُ ضوءٍ له لون الزّئبق.

حينما كان ذلك الضوء مشعاً فوقنا بدأنا، في الحال، نشعر بحرارة وكأننا قد تحمّمنا بماءٍ ساخنٍ فأُغمي على زوجتي من شدّة الحرّ.

في ذلك الوقت كنتُ أصلّي لله ألاّ يشأ لـ"روح الافتراس" ذاك أن يغلق عينيه، إذ أنّ فناءنا الحتميّ كامنٌ في ذلك الإغلاق. لكنّ اللهَ طيّبٌ، فذلك "الروح" ما تذكّر، حينذاك، أن يغلق عينيه (أنا نفسي أيضاً كنتُ، آنذاك، شاعراً بوطأةِ حرارةِ إشعاعِ عينيه وكدتُ أن يُغمي عليّ، كزوجتي، من الانفساخ). رأيتُ، حينذاك، جاموساً عابراً بيننا وبين "روح الافتراس" فأغلق "روح الافتراس" عينيه ومات الجاموس وجرّ نفسه ناحيته فأكله. كانت تلك فرصتنا للهرب من "روح الافتراس". لكنّني انتبهتُ إلى أنّ عليَّ، قبل ذلك، أن أوقظ زوجتي المغمي عليها من غشيانها (إغمائها). نظرتُ في أنحاء المكان الذي جلسنا فيه فرأيتُ شجرةً ذات غصونٍ كثيرةٍ فتسلّقتُها وزوجتي على ظهري وتركتُ أمتعتنا عند جذع الشجرة. لدهشتي التهم "روح الافتراس" الجاموس الميّت في أربع دقائق فقط، ثمّ وجه فيض ضوء عينيه نحو البقعة التي كنا جالسين عليها قبل تسلّقنا الشجرة فما وجد شيئاً هناك سوى أمتعتنا فوجّه نحونا فيضَ الضوء فجرّت نفسها نحوه. لكنه، حين فكّ عنها أربطتها، ما وجد فيها شيئاً يؤكل. بعد ذلك انتظرنا (كي ننزل عن الشجرة) حتى أواخر أصيل ذاك اليوم. عندها رأى أنه لا يستطيع بعد أن يُمسك بنا فتركنا وحالنا.

أمضيت الليل كلّه في معالجة زوجتي فصارت حالتها، قبل حلول الصباح، حسنةً جداً. نزلنا من الشجرة وحزمنا أمتعتنا وشرعنا، حالاً، في الرحيل. قبل الخامسة مساءاً تركنا تلك الغابة وراءنا. تلك كانت حكاية خلاصنا من "روح الافتراس"... الخ... الخ...

استأنفنا رحلتنا في غابةٍ أخرى ذات مخلوقاتٍ أخر. تلك الغابة كانت أكبر من تلك التي خلّفناها وراءنا. كما وكانت أيضاً عريقة الأصل إذ أنّ بها منازلٌ كثيرةٌ هُدّمت منذ مئات السنين وبقيت ممتلكات ساكنيها الغابرين وكأنهم ما زالوا هناك وما زالوا يستعملونها كلّ يوم. هنالك رأينا "هيئةً"، لها ثديين طويلين مركّبةً فيهما عيوناً عميقةً، جالسةً على حجرٍ مسطّحٍ. كانت الهيئةُ تلك قبيحةً جداً وفظيعةً لرائيها. أوغلنا سيراً في تلك البلدة المتهدّمة فرأينا "هيئةً" أخرى ذات سلّةٍ ملآنة بـ"الكولا" موضوعةً أمامها. أخذتُ واحدةً من حبّات "الكولا" من تلك السلّة. لكن، لدهشتنا، في نفس الوقت الذي فعلتُ فيه ذلك، سمعنا، فجأةً، صوت شخص (مخلوق) قائلاً: "لا تأخذها! دعها هناك!" ما أطعتُ الصوت إياه فأخذتُ حبّة "الكولا" في الحال واستمررنا في السّير. مرة أخرى، لدهشتنا، رأينا رجلاً يمشي "تجاه" ظهره أو إلى الخلف. كانت عيناه على ركبتيه، وذراعاه على فخذيه. كما وكانت ذراعاه طويلتين طولاً تجاوز قدميه مما يمكنهما- لو رفعتا- من الوصول إلى أعلى قمة لأيّ شجرةٍ. أيضاً كان ذلك الرجل يحملُ سوطاً طويلاً. طاردنا الرجل بسوطه الطويل فيما نحن مسرعان في السير فما لبثنا أن شرعنا في الجري حفاظاً على حياتينا. ظلّ، لساعتين، مطارداً لنا هنا وهناك في أنحاء الغابة- كان يريد أن يجلدنا بسوطه. وبينما نحنُ جاريان بعيداً عن ذاك المخلوق دخلنا، دون توقّعٍ منا، طريقاً واسعاً فتراجع، في الحال، عنّا، غير أنّا ما درينا إن كان مقيداً بأن لا يتعدّى الغابة إلى ذلك الطريق أم لا.

انتظرنا ثلاثين دقيقةً على ذلك الطريق عسانا نرى شخصاً يعبره فنعرفُ أيّ جانبٍ منه علينا اتخاذه في سفرنا (أيضاً كنّا نشكّ في أن الطريق إياه "طريق" حقاً!..). لكن، رغم انتظارنا كلّ ذلك الوقت، ما مرّ كائنٌ من كان، ولو ذبابةٌ، من هناك.

ولما كان ذلك الطريق نظيفاً جداً بحيثُ أن لا أثرَ قدمٍ واحدةٍ يمكنها أن ترى عليه فإننا آمنّا بأنه الطريق المؤدّي إلى "بلدة السماء التي لا يرجع منها الذّاهبُ إليها". إنها البلدةُ التي ليس لإنسانٍ أو أيّ مخلوقٍ آخرٍ إلاّ أن يدخلها. فإن دخلها امرئ ما، رجلاً كان أو امرأة (ذكراً أو أنثى)، فهو، بلا شكّ، سوف لن يعود منها مرةً أخرى، فساكنوها أشرارٌ جداً، قساة وبلا رحمة ولا خلاص لأحدٍ منهم، اللّهمّ إلاّ بفنائهم.

في طريقنا إلى "بلدة السماء التي لا يرجع منها الذّاهبُ إليها"...

تابعنا الطريق من جانبه الشمالي وكنا، آنذاك، مسرورين جداً بالسفر عليه، غير أنه ظلّ خالياً من أيّ أثرٍ لقدمٍ أو علامةٍ على مرور امرئٍ (أو كائنٍ) ما عبره. استمرت رحلتنا تلك من الثانية ظهراً حتى السابعة مساءاً دون أن نصل أيّ بلدةٍ أو نهايته. توقفنا على جانبه، من بعد ذلك، وأوقدنا ناراً وطبخنا طعامنا وأكلناه، ثم نمنا هناك أيضاً. لم يحدث لنا أيّ شيء ذي بال طوال الليل. عند الفجر استيقظنا وطبخنا طعامنا، مرةً أخرى، وأكلناه.

شرعنا في السفر ثانيةً. لكن، رغم ترحالنا على الطريق إياه منذ الصباح حتى الرابعة مساءاً، ما رأينا أو قابلنا أيّ أنسيّ (أو غير أنسي) عليه. حينها تأكدنا من أنه الطريق إلى "بلدة السماء التي لا يرجع منها الذاهب إليها" فامتنعنا عن السير وتوقفنا حيثُ كنّا ونمنا هناك حتى الصباح. في الصباح الباكر جداً استيقظنا وأعددنا طعامنا وأكلناه. بعد ذلك غلبتنا فكرةُ أن نسير قليلاً على ذلك الطريق قبل أن نغادره فسرنا عليه. عندما حان الوقت لنا كي نعرج إلى شمال الطريق إياه حتى نواصل الرحلة، كالعادة، داخل غابةٍ أخرى ما استطعنا عروجاً أو توقفاً أو عودة؛ فقط "غُصبنا" على الحركة عليه تجاه البلدة المنكودة. بذلنا أحسن مساعينا لإيقاف أنفسنا، لكنّها ذهبت كلّها سدىً.

كيف لنا أن نتوقف الآن؟ هذا هو السؤال الذي سألناه أنفسنا آنذاك، فنحنُ كنّا مشرفينَ على البلدة التي لا عودة منها. تذكّرتُ أنا، حينذاك، أحد "الجّوجُوات" الخاصة بي والذي أنقذني، مرةً، من ورطةٍ عويصةٍ كتلك. جربته لكنه، بدلاً عن إيقافنا عن المسير، جعلنا نسير أسرع مما قبل في ذات الاتجاه. عندما بقي ربع ميل فقط على وصولنا إلى البلدة تلك أشرفنا على بوابةٍ ضخمةٍ متقاطعةٍ مع الطّريق كانت مغلقةً في ذلك الأوان. وحين وصلنا إلى تلك البوابة استطعنا الوقوف. لكنّا ما استطعنا أن نتحرك أماماً أو خلفاً. وقفنا إزاء البوابة إياها لمدة ثلاث ساعات قبل أن تنفتح من تلقاء ذاتها. ثم، على غير توقّعٍ منا، انفلتنا إلى داخل البلدة دون أن ندري من الذي كان دافعاً بنا نحوها. في داخل تلك البلدة رأينا مخلوقاتَ ما رأيناها من قبل قطّ في حياتنا. لا أستطيع أن أصف كلّ أولئك المخلوقات هنا، لكنّي، على كلّ حال، سأسرد بعضاً من حكاياتهم الجارية كالآتي:- البلدة التي دخلناها كانت كبيرةً جداً و ملآنةً بمخلوقاتٍ مجهولةٍ منها ما هو راشدٌ ومنها ما هو طفلٌ، وكلا النوعين كانا قاسيين جداً على الكائنات الإنسانيّة. ثم أنهم كانوا، فوق ذلك، يبحثون دوماً عن وسائلٍ يجعلون بها فظائعهم أشدَّ سوءاً. لذا، عند دخولنا البلدة تلك، امسك بنا، بإحكامٍ، ستّة منهم فيما انهمك الباقون في ضربنا، ولم يسلم حتى أطفالهم، الذين كانوا يرموننا بالحجارة مراراً، من المشاركة في تعذيبنا.

كان أولئك القوم المجهولون يفعلون كلّ شيء بطريقةٍ معوجّةٍ أو غير صحيحة. فإن شاء أحدهم أن يتسلّق شجرةً- مثلاً- فإنه سوف "يتسلّق"، أولاً، السلم قبل أن يتكأَهُ عليها. كما وأنهم، بدلاً عن أن يبنوا منازلهم على الأرض المسطحة القريبة من بلدتهم الحاليّة، بنوها على جانب تلّ وعرٍ فصارت كلّها منحنيةً إلى الأسفلِ وكأنّها موشكةً على السقوط. أما أطفالهم فقد كانوا دوماً يتدحرجون أسفلاً من داخل هاتيك المنازل فلا تكترث عائلاتهم بذلك. كانت كلّ أولئك المخلوقات لا تغسل أجسادها أبداً، بل تُغسل حيواناتها الأليفة. وملابسهم كانت نوعاً من أوراق الشجر يلفونه حول أجسامهم، فيما ملابس حيواناتهم كانت ثياباً غاليةً جداً. كانوا يقصون أظافر أصابع حيواناتهم ويتركون أظافر أصابعهم غير مقصوصة لمائة عام. ولقد رأينا، فوق ذلك، كثيرين منهم وهم ينامون على سقوف منازلهم، وإن سئلوا عن ذلك كانوا يقولون إنهم لا يستطيعون استخدام تلك المنازل التي بنوها بأيديهم لشيءٍ سوى النوم عليها.

بلدتهم كانت محاطةً بجدارٍ سميكٍ وطويل. وإذا دخل أنسيٌّ (رجلٌ أو امرأةٌ) بلدتهم بالخطأ فإنهم كانوا يمسكون به ويبدؤون في تقطيع لحم جسده، وهو حيّ، قطعةً فقطعةً. وأحياناً كانوا يطعنون الشخص في عينيه بسكّينٍ حادّةِ النّصل ويتركونها هناك حتى يموت من شدة الألم.

بعد أن أمسك بنا ستّةٌ من أولئك المخلوقات أخذونا إلى ملكهم بينما كانت بقيتهم وأطفالهم يضربوننا ويرموننا بالحجارة. وحينما أردنا أن ندخل قصر ملكهم قابلتنا مجموعةٌ لا تُحصى منهم عند مدخله منتظرةً أن تنال نصيبها من ضربنا. دخلنا، بعد، إلى القصر فسلّمنا أولئك إلى حجّاب الملك. أخذنا الحجّاب إلى الملك. وإذ نحنُ ندخل القصر كانت آلافاً مؤلّفة من تلك المخلوقات منتظرةً إيّانا عند باب القصر وهي تحمل الهراوات، السكاكين، المناجل وأسلحة حربٍ أخرى. أما أطفالهم فقد حملوا كلّهم الحجارة.

الأسئلة التي سألنا لها الملك جرت على النحو التالي:- "من أين أتيتم؟" سأل الملك. أجبته بأننا أتينا من "الأرض". "كيف دبرتم الوصول إلى بلدتنا؟" سأل ثانيةً. أجبته أن طريقهم هو الذي ساقنا إلى بلدتهم وأننا ما رغبنا قطّ في المجيء إليها. بعد ذلك سألنا عن الجهة التي كنا ذاهبين إليها. أجبته أنا كنا ذاهبين إلى عاصر خمر تمري الذي مات ببلدتي منذ زمنٍ مضى. كما أسلفت القول، كانت تلك المخلوقات قاسيةً جداً عليّ أيّ بشريٍّ يدخل بلدتها خطأ. لذا ردّد الملك علينا، عقب إجابتي على كلّ أسئلته، اسم بلدتهم مرةً أخرى:- "بلدة السماء التي لا يعود منها الذاهبُ إليها". ثمّ قال إنها بلدةٌ ما عاش (ولا يعيش) بها إلا أعداء الله القساة، الطمّاعين والخالين من الرحمة. بعد قوله هذا أمر حجّابه أن يزيلوا عن رؤوسنا كلّ الشّعر. حين سمعوا وأهل البلدة ذلك منه قفزوا مسرورين ومتصايحين. كم كان الله طيباً معنا عندما لم يشأ الحجّاب أن يسوقونا إلى خارج القصر قبل أن يشرعوا في حلق رؤوسنا كما أمرهم الملك، فلولا ذلك لمزّقنا مزقاً الخلق المنتظرون لنا عند بوابة القصر.

أعطى الملك الحجاب حجارةً مسطّحة كي يستعملوها كشفرات موسى ويحلقون بها رأسينا. لكن، حينما سخّروها لذلك الهدف، بدا جليّاً أنها ليست فعالة كشفرات الموسى في إتمام ما عهد لها به- فقط هي كانت مؤذيةً لكلّ بقعةٍ في رأسينا. وبعد ما استنفذوا كلّ جهودهم وفشلوا في إتمام مهمتهم قدّم لهم الملك قطع زجاجةٍ مكسورةٍ حتى "يجزُّوا" بها شعر رأسينا. عالجوا الشعر بذاك الزجاج المكسور فأزال بعضاً منه بشراسةٍ خلّفت دماً لم يترك لهم سبيلاً لرؤية بقيّته. كانوا، قبل أن ينهمكوا في حلق شعرِ رأسينا، قد أوثقونا، بحبالٍ متينةٍ، على أحدِ أعمدة القصرِ. تركونا، من بعد ذلك، حليقى الرأسين جزئياً وغير محلولي الوثاقين وذهبوا ليطحنوا فلفلاً. هنيهةً مضت فعادوا بالفلفل ومسحوا به رؤوسنا ثم أشعلوا خرقةً ثخينةً بالنار وعلقوا طرفيها كلٌّ على مسافةٍ كادت أن تجعله- تقريباً- على رأسِ كلٍّ منا. في ذلك الوقت ما عرفنا إن كنا ما زلنا أحياء أو موتى، علماً بأننا ما استطعنا دفاعاً عن رأسينا بسبب إيثاق أيادينا وجسدينا معاً إلى ذلك العمود. بعد مضيِّ حوالي نصف ساعة على تعليقهم للنار قرب رأسينا أخذوا الخرقة المشتعلة بعيداً وبدؤوا، مرةً أخرى، في كشط رؤوسنا بقوقعةِ حلزونةٍ كبيرةٍ فغدا، عند ذلك، كلّ جزءٍ من رأسي ورأس زوجتي نازفاً. لكن، قبل ذلك الأوان، كان كلّ الخلق الذين انتظرونا خارج البوابة قد عادوا إلى منازلهم وهم تعبون من الانتظار الطويل.

بعد ذلك ساقونا إلى حقلٍ واسعٍ مكشوفٍ لحرارة الشمس وليس بقربه شجرةٌ أو ظلٌّ. كان ذلك الحقل مُسَوّياً كميدان كرة قدم وقريباً من البلدة. حفروا لنا هناك، في مركزه، حفرتين أو جحرين متجاورين بلغا عمقُ كلٍّ منهما حداً يغطي شخصاً إلى فكّه. أدخلوني في أحد الحفرتين أو الجحرين وزوجتي في الحفرة الأخرى أو الجحر الآخر وأهالوا علينا ذات التراب الذي كانوا غرفوه من الحفرتين أو الجحرين وأردفوا ذلك بضغطٍ شديدٍ على ذاك التراب بحيثُ أننا، بالكاد، ما استطعنا التنفّس. ثم وضعوا طعاماً على مقربةٍ من فمينا، لكنا ما كنا قادرينَ على مسِّه أو أكله- كانوا يعرفون أننا كنا جائعين جداً في ذاك الوقت. بعد ذلك برى جميعهم سياطاً وبدؤوا يسوطون بها رأسينا، لكنا ما كان لنا أيدي كي ندافع بها عنهما. أخيراً أتوا بصقرٍ وأقاموه قبالتنا لينزع عنا عيوننا بمنقاره. لكن الصقر اكتفى بالنظر إلى عيوننا فحسب ولم يؤذنا. عاد أولئك الخلق، من بعد ذلك، إلى منازلهم وتركونا بصحبة الصقر.

بقينا في الحفرتين أو الجحرين من الثالثة بعد الظهر إلى الصباح ولم يؤذنا الصقر مطلقاً، فأنا قد روّضت ذلك النوع من الطيور في بلدتي من قبل. عند حوالي التاسعة صباحاً مَرَقَتْ الشمس وأشرقت، بقسوةٍ، علينا. وعند العاشرة صباحاً عاد أولئك القوم وأشعلوا ناراً كبيرةً حولنا وجلدونا، لبضع دقائق، بالسياط ومضوا بعيداً. لكن حين كادت النار أن تنطفئ جاء أطفالهم بالسياط والحجارة وبدؤوا في جلد رأسينا ورميهما بالحجارة. ثم شرعوا في الصعود على رأسينا وفي القفز من رأسٍ أحدنا إلى رأس الآخرٍ. بصقوا، من بعد ذلك، على رأسينا وبالوا عليهما ولطّخوهما بالخراء (الغائط). لكن عندما رأى الصقر أنهم أرادوا أن يدقّوا المسامير على رأسينا دفعهم، بمنقاره، بعيداً عن الحقل. كان أولئك القوم (كبارهم) قد حددوا ميعاداً لزيارتهم لنا وهو الساعة الخامسة من اليوم الثاني لبقائنا داخل الحفرتين... كم رحيمٌ هو الله‍‍ ففي الساعة الثالثة من بعد ظهر ذلك اليوم هطل مطرٌ غزيرٌ استمرّ حتى وقتٍ متأخر من الليل وأحبط ‍تدابير زيارتهم الأخيرة لنا. ولأنّ المطر كان غزيراً باتت الحفرتان رخوتين في الساعة الواحدة من بعد منتصف الليل. حينذاك رآنا الصقر ونحنُ نحاول الخروج منهما فأتى قريباً وبدأ في خدش الحفرة التي أنا فيها. لكن، لعمق الحفرتين الشديد ما استطاع الصقر أن ينبش تراب حفرتي بالسرعة التي يريدها فهززتُ جسدي يُسرةً ويُمنةً حتى خلّصتُهُ من الحفرة وجريتُ نحو زوجتي وأخرجتُها هي أيضاً من حفرتها. ثم تركنا الحقل على عجلٍ وذهبنا إلى بوابة البلدة الرئيسية. لسوء الحظّ وجدناها مغلقةً. كانت البلدة- كما أسلفت- محاطة بجدارٍ سميكٍ وطويل. لذا خبأنا نفسينا في داخلِ دغلٍ قريبٍ منه لم تزل عنه حشائشه منذ زمنٍ طويلٍ. حينما أصبح الصبح جاء القوم إلى الحقل وما وجدوا شيئاً هناك فبدؤوا في البحثِ عنا. عندما وصلوا إلى الدغل الذي خبأنا نفسينا فيه هصرونا معاً مع شجره وحشائشه بأيديهم فما عثروا، بذلك، على أيّ أثرٍ لنا فيه واعتقدوا أننا غادرنا بلدتهم.

ولأنّ شمس تلك البلدة كانت لاهبةً جداً كان أيّ مكانٍ مبلول أو رطبٍ فيها ينشفُ باكراً. في الساعةِ الثانية من بعد منتصف الليل تقريباً، حينما كان القوم نياماً، دخلنا البلدة بحذرٍ وأخذنا بعضَ نارٍ من نارهم التي ما خمدت بعد. كانت جميع منازلهم معروشةً بالقشّ وكان الموسم موسم جفاف، كما وكانت أيضاً ملتصقةً ببعضها البعض. أشعلنا النار في بعضها فتوقدت فيها تواً وقبل أن يستطيعوا الاستيقاظ من النوم. ثم احترقت، بعدها، كلّ منازلهم وباتت رماداً، كما واحترقت معها أيضاً تسعون بالمائة منهم وما نجا واحدٌ من أطفالهم. أما بقيّتهم القليلة التي نجت من النار فقد تسللت، في تلك الليلة، بعيداً عن البلدةِ.

حينما جاء الفجر ذهبنا إلى البلدة وما وجدنا أحداً من أهلها هناك فأخذنا واحداً من خرافها وذبحناه وشويناه وأكلنا اكثر ما نستطيع من لحمه. بعد ذلك حزمنا بقيته وأخذنا فأساً من فؤوسهم وتركنا البلدة خاليةً. عندما وصلنا إلى الجدار السميك فتحتُ فيه بالفأس طاقةً (شبَّاكاً) عبرنا من خلاله خارجاً.

تلك هي الطريقة التي سلمنا بها من المخلوقات المجهولة الساكنة "مدينة السماء التي لا يعود منها الذّاهبُ إليها".

بعد أن خلّفنا تلك البلدة وراءنا بمسافةٍ طمأنتنا بأننا سالمينَ من مخلوقاتها المجهولة توقفنا وبنينا منزلاً مؤقتاً وصغيراً داخل الغابة التي ارتحلنا عبرها. بنينا المنزل مرتفعاً عن الأرض بمقدارِ طولِ سُلّمٍ وسقفناه بالقشّ، ثم أحطته أنا بسياجٍ من العيدانِ عساه يصوننا من الحيوانات... الخ. هناك بدأتُ معالجة زوجتي من آثار الدفن. خلال النهار كنتُ أجولُ حول الغابة وأصطادُ حيواناتها وألتقطُ فاكهةً صالحةً للأكلِ فتغذى أنا وزوجتي على كلّ ذلك الطعام. أكملنا ثلاثةَ أشهرٍ على ذاك الحال فأصبحت زوجتي جيدة الصحّة جداً. أثناء تجوالي في الغابة بحثاً عن الحيوانات كنتُ قد عثرتُ على منجلٍ قديمٍ أكلت أطراف مقبضه الخشبيّ الحشراتُ فأخذته ولففتُهُ بوتر شجرةِ نخيلٍ ثم سننته على أرضٍ صلبةٍ لعدم وجودِ أيّ حجرٍ. قطعتُ منه، بعد، عوداً قوياً ونحيفاً (رشيقاً) وثنيتُهُ على هيئةِ قوسٍ، كما وشحذتُ، كسهامٍ، عدة عيدان فصار لدينا سلاحاً ندافع به عنّا.

عندما أكملنا خمسة أشهر وبعض أيام في ذلك المنزل وقع في ظننا أن عودتنا إلى بلدة والد زوجتي ستكون مخاطرة بفعل مشاقٍّ عديدةٍ وبسبب أننا ما كنا مستطيعين اقتفاء الطريق الصحيح الذي يجب أن نسافر عليه، مرةً أخرى، من ذاك المكان. كان صعباً علينا أن نعود إلى هناك وأصعبَ منه أن نمضي قدماً في طريقنا. على كلِّ حالٍ قررنا، أخيراً، أن نمضي قدماً في طريقنا. أخذتُ، تحسباً للطوارئ، القوس والسهام والمنجل معنا وما كان لنا متاعٌ غيرهم. فمتاعنا أو أحمالنا كانت قد أُخذت منا في "بلدة السماء التي لا يعود منها الذاهبُ إليها". طبعاً، بعد ذلك، حرقناها ومنازلهم معاً.

في الصباح الباكر جداً ابتدرنا رحلتنا. كانت السماء، حينذاك، معتمةً جداً وبدا كأنّ المطر كان على وشك الهطول غزيراً. ارتحلنا من المنزل المؤقت مسافةَ سبعة أميالٍ تقريباً، ثم توقفنا وأكلنا بعضاً من اللحم المشويّ الذي أخذناهُ معنا. شرعنا في الارتحال، مرةً أخرى. لكنّنا ما أن سرنا لمسافةِ ميلٍ واحدٍ حتى وصلنا إلى نهرٍ واسعٍ متقاطعٍ مع دربِ عبورنا. لم نتمكّن من دخول ذاك النهر لأنه كان عميقاً جداً ولأنّنا، عند نظرنا إليه، لاحظنا انعدام أيّ مركبٍ أو أيّ شيء آخرٍ يُعبرُ به. بعد توقفنا هناك لدقائقٍ قليلةٍ مشينا على يميننا بحذاء ضفة ذاك النهر عسانا نصل إلى نهايته. لكنّا، بعد ترحالٍ أكثرَ من أربعةِ أميالٍ، ما رأينا قطّ نهايةً له. أدرنا ظهرينا وسرنا، مرةً أخرى، على يسارنا. مضينا في ذلك الاتجاه مسافةَ أكثر من ستة أميالٍ دون أن نرى نهايةَ النهر فتوقفنا لنفكّر في ما نستطيع عمله لنعبره. في تلك البرهة خطر لنا أنّ نمشي لمسافةٍ أبعد بحذاء ضفة النهر عسانا نصل إما إلى نهايته أو إلى مكانٍ آخرٍ نرتاح فيه ونبيت الليلة. وفيما نحن موغلان في المسير رأينا، بعد سفرٍ حذاء النهر قطعنا فيه فسحةً لا تزيد عن ثلث ميل، شجرةً كبيرةً طولها حوالي ألف وخمسين قدماً وقطرها حوالي مائتين قدماً. كانت الشجرة تلك بيضاء بياضاً تبدو معه وكأنها كانت، بكل فروعها وأوراقها، تُضربُ (تُطلى) كلّ يومٍ بطلاءٍ أبيضٍ. عندما صرنا منها على مبعدةِ أربعين ياردة تقريباً لاحظنا شخصاً (كائناً) ينظر إلينا من خلالها مليّاً وبتركيزٍ كأنه تحديق عدسة مصور فوتوغرافي على هيئة شخصٍ ما. في ذات اللحظة التي رأيناه فيها وهو يركز نظره علينا هكذا انفلتنا جاريين يساراً فحوّل "عدسة" بصره نحو ذلك الاتجاه أيضاً. استدرنا، من بعد، يميناً فأدار "عدسة" بصره نحونا أيضاً. ثم ظلّ يلاحقنا هكذا ببصره دون أن نرى من يكون- فقط كنا نرى، حينذاك، تلك الشجرة البيضاء وهي تستدير وتميل معنا حيثما استدرنا أو ملنا. أفزعتنا الشجرة الرهيبة المحدّقة فينا فحدثنا نفسينا بأننا لا يجب علينا أن نماشيها، مرةً أخرى، في تصرفها ذاك فجرينا، حالاً، بعيداً عنها. لكن ما أن فررنا منها حتى سمعنا صوتاً رهيباً وكأنه صوت أشخاص يتحدثون من داخل حاوية غاز (أو بضائع) كبيرة. ثم نظرنا إلى خلفنا فرأينا هناك يدين ضخمتين خارجتين من الشجرة وراسمتين علامة "قف!" فما وقفنا قطّ. قال الصوت الرهيب "قف!" فما وقفنا. كرر الصوت الرهيب أمره لنا بالوقوف فقال :- "قف يا من هناك وتعال هنا" فما وقفنا وما ذهبنا إلى حيثُ قال. مرةً أخرى أمرنا الكائن المخاطب لنا، بصوتٍ غريبٍ وأكثر ضخامةً، أن نقف فوقفنا حينذاك ونظرنا خلفنا.

عندما نظرنا خلفنا وقعت عيوننا على مرأى اليدين الضخمتين فخفنا. ثم أعطتنا اليدان إشارةً طالبةً منا أن نقترب معاً منهما. عند ذلك أغرت الأنانية كلّ واحدٍ منا أن يقدّم نفسه على الآخر فأشّرت زوجتي لليدين عليّ كي تأخذاني وأشّرتُ أنا لليدين عليها كي يأخذاها. ثم دفعتني زوجتي أماماً حتى أكون الذاهب الأول لليدين ودفعتها أنا أيضاً أماماً حتى تكون الذاهبة الأولى لليدين. أثناء ما كنا فاعلين ذلك أخبرتنا "اليدان"، مرةً أخرى، أننا مطلوبان معاً داخل الشجرة. حينذاك تدبرنا كيف أننا لم نرَ، من قبل، في حياتنا، أو على الأقلّ منذ بدء ترحالنا داخل الغابات، شجرةً لها يدين وتتحدث فأفزعنا ذاك التدبّر وشرعنا في الجري بعيداً، كما فعلنا سابقاً. لكن، عندما رأتنا اليدان ونحنُ نولّي على أعقابنا مرةً أخرى، تمطّتا، لدهشتنا، وغدتا طويلتين طولاً لا نهاية له والتقطتانا معاً من على الأرض فيما نحن جاريان بعيداً. إثر ذلك جذبتنا اليدان وراءاً إلى باطن الشجرة وخلال بابٍ واسعٍ انفتح لنا فيها بمجرد لمسنا إياها بالكاد.

كنا، في ذلك الوقت وقبل دخولنا إلى جوف الشجرة، قد "بعنا موتنا" إلى أحد الأشخاص عند بابها بثمنٍ بلغ سبعين جنيهاً إسترلينياً وثمانية عشر قرشاً وستة سنتيمات (مليمات)، و"سلّفنا خوفنا" إلى شخصٍ آخرٍ عند الباب أيضاً مقابل فائدة مقدارها ثلاث جنيهات وعشرة قروش شهرياً. عليه ما اهتممنا، آنذاك، بالموت أو خفنا مرةً أخرى.

حينما دخلنا باطن الشجرة البيضاء وجدنا نفسينا في بيتٍ كبيرٍ قائمٍ في مركزِ بلدةٍ كبيرةٍ وجميلةٍ. قادتنا اليدان هناك إلى امرأةٍ عجوزٍ. ثمّ اختفيتا... قابلنا المرأة العجوز وكانت جالسةً على كرسيٍّ منصوبٍ في ديسوانٍ مزيّنٍ بأشياءٍ غاليةٍ. دعتنا للجلوس قبالتها ففعلنا ذلك. سألتنا عما إذا كنا نعرف اسمها فأجبنا بلا. عند ذلك أخبرتنا أن اسمها هو "الأمّ الوفيّة" وقالت لنا إنها فقط تساعد أولئك الذين يعانون مصاعباً ويحتملون قصاصاً ولا تقتل أحداً.

بعد ذلك سألتنا المرأة العجوز إن كنا نعرف اسم اليدين الكبيرتين اللتين جلبتانا إليها فقلنا: "لا". أخبرتنا، عندها، أنّهما تُدعيان "اليدان الوفيّتان". قالت لنا إن شغل "اليدين الوفيّتين" كان أن ترقبا العابرين أو التائهين في غابتها والمعانين فيها مصاعباً... الخ... الخ وتأتيان بهم إليها.

"أعمال "الأمّ الوفية" في الشّجرة البيضاء..."‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍

بعد أن حكت قصتها أخطرت الأم الوفية أحد خدمها أن يهبنا طعاماً وشراباً فأمدّنا بالطعام والشراب في الحال. أكلنا وشربنا وشبعنا. أوصتنا، من بعد ذلك، أن نتبعها فتبعناها. أخذتنا إلى أكبر صالةِ رقصٍ قائمةً في ذلك البيت فرأينا هناك أكثر من ثلاثمائة من الناس وهم يرقصون معاً. كانت الصالة مزيّنة بحوالي مليون جنيهاً إسترلينياً وصورٍ وهيئاتٍ عديدةٍ، من بينها هيئتانا، منعكسةً على مركزها. كانت هيئتانا اللتان رأيناهما هناك تمثلانا كثيراً جداً وكانتا، كذلك، بيضاوي اللون. دهشنا جداً من "مقابلتنا" لهيئتينا هناك وما درينا يقيناً إن كان المصور الذي ركّز "عدسة" بصره علينا في الوقت الذي سبق جَذْبَ اليدين لنا إلى داخل الشجرة البيضاء هو الذي أبدعهما. سألنا "الأمّ الوفيّة" عن ماذا هي فاعلةً بكلّ هذه الصور والهيئات. أجابتنا بأنها للذكرى ولمعرفة أولئك الذين أعانتهم على مصاعبهم وعراقيل حياتهم. كانت تلك الصالة ملآنة بكلّ أنواع الطعام والشراب، كما وكان بها أكثر من عشرين خشبة مسرح يقف عليها عددٌ لا يُحصى من الأوركسترات، الموسيقيين، الراقصين والمصفقين والموقّعين بأقدامهم على خشبات المسارح. كانت الأوركسترات مشغولةً دوماً وكان الأطفالُ ما بين السابعة والثامنة... الخ من أعمارهم يرقصون هناك دوماً ويصفّقون ويوقّعون بأقدامهم على خشبات المسارح ويغنون أغنياتٍ طروبةً في نغماتٍ دافئةٍ مصحوبةٍ برقصٍ لا يتوقّف حتى الصباح. رأينا هناك أن كلّ أنوار الصالة تلك كانت أنواراً صناعيّةً تتغيّر في ألوانها كلّ خمسة دقائق. من بعد صالة الرقص أخذتنا "الأمّ الوفيّة" إلى قاعة الطعام وإلى المطبخ الذي قابلنا فيه حوالي ثلاثمائة وأربعين طبّاخاً كانوا دوماً مشغولين كالنحل. رأينا، بعد، أنّ كلّ حجرات ذلك البيت كانت مصطفّةً صفاً واحداً. ثم أخذتنا "الأم الوفية" إلى مستشفاها حيثُ قابلنا مرضى كثيرين وهم على فُرشِ المرض، وسلّمتنا إلى إحدى ممرضاتها كي تعالج رأسينا الذين نزع عنهما شعرهما، بالقوة وبِقِطَعِ زجاجةٍ مكسورةٍ، أهلُ "بلدةِ السماءِ التي لا يعودُ منها الذّاهبُ إليها".

بقينا في المستشفى لمدة أسبوعٍ تحت المعالجة قبل أن يكسو رأسينا شعراً كامل النمو. ثم عدنا إلى "الأمِّ الوفيّةِ" فخصّصت لنا حجرةً في بيتها.

حياتُنا مع "الأمّ الوفيّة" في الشّجرةِ البيضاء

عشنا مع "الأم الوفيّة" فاعتنت بنا بإخلاصٍ. وفي خلال أسبوعٍ من حياتنا معها نسينا كلّ عذابات الماضي، خاصةً وأنّها سمحت لنا بالذهاب إلى صالة الرقص كلما رغبنا. في كلّ صباحٍ كنا نذهب مبكّرينَ إلى الصالة إياها فنأكل ونشرب أيّ شيء نشتهيه طالما كنا نأخذه مجاناً. ولأنني كنتُ شارب خمر تمرٍ كبيرٍ في بلدتي قبل أن أغادرها فقد بدأتُ أسرفُ في كلّ المشروبات المُسْكِرَة. وبعد أن مضى شهرٌ على إقامتنا مع "الأمّ الوفيّة" صرتُ أنا وزوجتي راقصين ممتازين. ذات ليلةٍ- وهذه حكايةٌ بها شيءٌ من الغرابة- أصبحنا، في حوالي الساعة الثانية من بعد منتصف الليل، في حاجةٍ إلى مزيدٍ من المشروبات الكحوليّة فأنبأ رئيس الجّرسونات "الأمّ الوفيّة" بذلك ولفت انتباهها إلى انه ليس هناك أي مشروبات في مخزن البيت فأعطته زجاجةً صغيرةً كانت تماماً في حجمِ زجاجة الحقنة واحتوت فقط على كميةٍ صغيرةٍ من الخمرِ. بعد أن أتى بها الجرسون إلى الصالة بدأنا في شربها، لكننا ما استطعنا كلّنا، لثلاثةِ أياّمٍ وليالٍ، شرب حتى خمس الخمر التي احتوت عليها...!... وهكذا أصبحنا، بعد حوالي ثلاثة أشهرٍ عشناها في داخل الشجرة البيضاء، سكاناً به وآل بيتٍ يُطعمون على أيّ شيءٍ هناك خالصاً من الثّمن. كانت هنالك، في ذلك البيت، حجرةً خاصةً للعب القمار فانضممتُ أنا إلى الشّلّةِ اللاعبة، لكنّني ما كنتُ لاعباً ممتازاً بما يُكفي فخسرتُ وأخذَ منّي أساطين المقامرين كلّ المال الذي كسبتُهُ من بيعِ "موتنا"- قد نسيتُ، حينذاك، أننا، يوماً ما، سنترك بيت "الأمّ الوفيّة" وسنحتاجُ مالاً لننفقه. طبعاً كان "مستلفُ" خوفنا يدفع لنا مستحقَّاتنا بانتظامٍ كلّ شهرٍ. الآن كرهنا مواصلة رحلتنا إلى البلدةِ التي كنّا ذاهبينَ إليها قبل دخولنا إلى جوفِ الشجرةِ البيضاء؛ في الحقيقة ما رغبنا أبداً في ترك الشجرة البيضاء ونِعَمِهَا.

مرت سنة وأسبوعان على معيشتنا مع "الأمّ الوفيّة". ذاتَ ليلةٍ دعت زوجتي وشخصي للقائها وأخبرتنا أنّ الوقتَ قد حان لنا كي نغادر بيتها ونستمرّ في رحلتنا، كالمعتاد. حين قالت ذلك توسّلناها ألاّ تدعنا أبداً نغادر بيتها فأجابتنا أنّ لا حقَّ لها في إبقاءِ أيّ شخصٍ أكثر من عامٍ وبعض أيامٍ هناك. ثم قالت أيضاً إن كان ذلك في مقدرتها لاستجابت لمناشدتنا. عند نهاية اللقاء أوصتنا بأن نذهب ونحزم كلّ متاعنا ونكون جاهزينَ للرحيلِ عن المكانِ صباحَ غدٍ. عدنا إلى حجرتنا وبدأنا نَهِمُّ من أننا على وشك الرجوع لعهد عنائنا. ما ذهبنا، في تلك الليلة، إلى صالة الرقص وما نمنا حتى طلوع الصبح. وفي الصباح الباكر فكرنا، في سرنا، أن نسألها مرافقتنا إلى الجهة التي نحنُ ذاهبان إليها. مضينا وأخبرناها أننا جاهزان للمغادرة وأننا نريدُ منها أن تقودنا إلى حيثُ نقصدُ لأنّ هنالك مخلوقاتٌ مخيفةٌ في الغابة. لكنها قالت لنا إنّها ليس بمقدورها تلبية طلبنا ذلك، فهي لا ينبغي لها أن تتعدّى حدود منطقتها. لذا أعطتني بندقيّة وذخيرة ومنجلاً. وأعطت زوجتي ملابس نفيسة... الخ... الخ كهدايا. كما وأعطتنا لحماً مشوياً وافراً ومشروبات وسجائر. بعد ذلك رافقتنا إلى الغابة وخارج الشجرة البيضاء. لدهشتنا الشديدة جداً رأينا الشجرة تلك وهي تنفتح كبابٍ كبيرٍ وما هي إلا خطفةً من الزمان وإذا بنا، على غيرِ توقّعٍ منا، نجد أنفسنا، ببساطةٍ، داخل الغابة وينغلقُ البابُ خلفنا حالاً وتبدو الشجرةُ شجرةً عاديّةً ليس بإمكانها أن تنفتحَ كما فعلت. في ذات الوقتِ الذي وجدنا فيه نفسينا عند قدم الشجرة البيضاء وداخل الغابة قلنا معاً فجأةً:- "ها قد عدنا إلى الغابة!" كان الأمرُ تماماً كأنّ إنساناً (امرأةً، رجلاً) نام في حجرته الخاصة وعندما استيقظ وجد نفسه داخل غابةٍ كبيرةٍ.

استرجعنا، من بعد ذلك، "خوفنا" من مستلفه فدفع لنا آخر فائدة استلاف عليه. ثمّ التقينا بالشخص الذي كان قد اشترى منّا "موتنا" وطلبنا منه أن يعيده لنا، لكنه قال إنه لا يستطيع ذلك لأنه قد اشتراه منا ودفع ثمنه مسبقاً فما كان منا إلا أن تركناه ("موتنا") إلى مشتريه وأخذنا معنا "خوفنا" فقط. قادتنا "الأمّ الوفيّة" إلى النهر الذي ما كنا قادرينَ على عبوره قبل أن نرى الشجرة البيضاء فخضناهُ ووقفنا ونظرنا إليها. بعد وهلةٍ التقطت عوداً صغيراً، كعودِ كبريتٍ، من فوقِ الأرضِ ورمته على ذاك النهر. في نفس اللحظة لقينا كُبْرِيّاً ضيقاً عابراً للنّهر إلى حافته الأخرى أو الجانب الثاني منه. أوصتنا، من بعد ذلك، أن نعبر إلى الحافّةِ الأخرى أو الجانب الثاني، لكنها ظلّت واقفةً في ذات المكان. وفي ذاتِ الوقتِ الذي وصلنا فيه إلى نهايةِ الحافّةِ (أو "الرَّدميّة") بسطت يدها ومسّت الكُبْرِيّ فما رأينا، بعدها، سوى ذلك العود الصغير في يدها. ثم شهدناها وهي تُغنّي وتُلوّح لنا يدها فبادلناها غناءاً وتلويحاً باليدين، ثم اختفت في الحال. كان ذلك حكياً لِكَيْفِ ودْاعِنا لـ"الأمّ الوفيّة" في الشجرةِ البيضاءِ والتي كانت وفيّةً لكلّ مخلوقٍ.

استعدنا "خوفنا" إذاً ومضينا في رحلتنا، كالمعتاد. قبل انقضاء ساعةٍ منذ مغادرتنا لبيتِ "الأمّ الوفيّة" هطل مطرٌ غزيرٌ ضربنا لساعتين ثمّ توقف. ما كان هنالك مأوىً في تلك الغابةِ يقي الإنسان من المطر أو أيّ شيء آخرٍ. زوجتي ما استطاعت التنقّل بالسرعة التي نرغب فتوقفنا وأكلنا اللحم المشويّ الذي أعطته لنا "الأمّ الوفيّة". استرحنا هناك ساعتين ثم بدأنا ارتحالنا مرةً أخرى. بينما نحنُ مرتحلان حثيثاً في داخل تلك الغابة شاهدنا امرأةً شابّةً كانت آتيةً نحونا فانحرفنا عنها إلى دربٍ آخرٍ، لكتّها انحرفت نحو ذلك الدرب أيضاً فتوقفنا وانتظرناها كي تأتي إلينا وتفعل بنا ما شاءت فعله، فنحنُ قد بعنا "موتنا" ولا نستطيع، بعد الآن، أن نموت، غير أننا كنا خائفينَ منها طالما أننا لم نبع "خوفنا". حين اقتربت منا لاحظنا أنها لابسةً معطفاً طويلاً زاهياً، لافّةً حول عنقها خرزات ذهبيّة كثيرة ومرتديةً حذاءاً عالي الكعبين يماثلُ الألمونيوم في لونه. كانت طويلةً كعودٍ طوله حوالي عشرة أقدامٍ وطلعتها حمراء غامقة. بعد اقترابها منا توقفت وسألتنا عن الجّهة التي نقصدها. أجبناها أننا ذاهبان إلى "بلدة الموتى". سألتنا، مرةً أخرى، عن من أين أتينا. أجبناها أنّا قد جئنا من بيتِ "الأمّ الوفيّة" في الشجرةِ البيضاء. بعد أن أخبرناها بذلك أوصتنا أن نتبعها فخفنا منها وقالت زوجتي:- "هذه ليست كائناً إنسانيّاً، كما وأنّها ليست روحاً، فمن هي إذاً؟"... على كلٍّ غامرنا باتّباعها كما أوصتنا. إثر ترحالنا معها في جوف الغابة لمسافةٍ تقارب الستّة أميالٍ دخلنا "غابةً حمراء". كانت تلك الغابة، بكلِّ أشجارها وأرضها ومخلوقاتها الحيّة، غامقةَ الحمرة. ما أن صرنا بداخل تلك الغابة حتى انقلب لوني ولون زوجتي لوناً أحمراً كحمرتها. لكن، في ذات الوقت الذي دخلنا فيه "الغابة الحمراء" وحدث لنا ما حدث فيها، انطلقت الكلماتُ التاليةُ، عفويّاً، من فمِ زوجتي:- "هذا هو فقط خوفٌ على القلبِ، لكنّه ليس خطراً على القلبِ".

"نحن والناس الحمر في البلدة الحمراء"

أوغلنا في السفر بعيداً في جوف الغابة حتى اجتزنا مسافةً تقارب اثني عشرة ميلاً. عندها دخلنا "بلدةً حمراء" فيها الناس وحيواناتهم الأليفة معاً ذوي حمرة غامقة. ثم دخلنا منزلاً كان هو الأكبر في المنطقة. ولأننا كنا، قبل وصولنا إلى هناك، حاسّين بالجوع سألنا السيدة المرافقة لنا أن تهبنا طعاماً وماءاً. بعد هنيهةٍ أتت لنا بهما معاً. لدهشتنا كان الطعام والماء معاً حمراوين كالطلاء الأحمر لكنهما، في المذاق، كالطعام والماء العاديين. أكلنا الطعام وشربنا الماء أيضاً. كانت المرأة التي جلبتهما لنا قد تركتنا ومضت بعيداً. لكن، أثناء جلوسنا هناك، ظلّ قومها من الناس الحمر يتوافدون إلى مكاننا وينظرون إلينا في دهشةٍ. بعد دقائقٍ عادت السيدة وأوصتنا أن نتبعها ففعلنا ما أرادت. أخذتنا في رحلةٍ حول البلدة أرتنا خلالها كلّ ما فيها. ثم ساقتنا إلى ملكهم الذي كان، أيضاً، أحمراً كالدم. حيانا الملك تحيّةً حسنةً ودعانا للجلوس أمامه ثم سألنا:- من أين أتيتم؟ أجبناه أننا قد أتينا من عند "الأمّ الوفيّة" صاحبة الشجرة البيضاء. حينما سمع منا ذلك قال لنا إن "الأمّ الوفيّة" هي شقيقته فروينا عليه كيف أنها ساعدتنا على تذليل مصاعبنا... الخ... الخ.. سألنا، من بعد ذلك، عن اسم بلدتنا فأخبرناه باسمها. ثم سألنا، كذلك، عمّا إذا كنّا أحياء ما زلنا أم أمواتاً قبل مجيئنا إلى بلدته فأعلمناه بأننا ما زلنا أحياء وأننا لسنا أمواتاً.

في نهاية تلك المقابلة أوصى الملك السيدة الحمراء التي ساقتنا إليه أن تُنزلنا إحدى حجرات قصره. لكن الحجرة إياها كانت بعيدةً عن الحجراتِ الأخرى ولا أحدٌ كان يعيشُ قربها. دخلنا الحجرة إذاً وبدأنا نفكّر:- ما هدفه، هذا الملك الأحمر، حاكم الناس الحمر، في البلدةِ الحمراء؟ هذا السؤال سألناهُ أنفسنا بإلحاحٍ فما استطعنا، بسببه، النوم حتى الصباح.

في الصباحِ الباكرِ ذهبنا إلى الملك الأحمر وجلسنا إزاءه منتظرين ما سيقوله لنا. وعند الساعة الثامنة صباحاً تقريباً جاءت السيدة التي قادتنا إلى مقر الملك وجلست خلفنا. بعد وهلةٍ شرع الملك في رواية قصة البلدة الحمراء والناس الحمر والغابة الحمراء فقال ما يلي: " كلّ سكان البلدة الحمراء تلك كانوا، ذات مرةً، كائنات إنسانيّة. ذلك في الأيام الغابرة حينما كانت عيون كلّ الكائنات الإنسانيّة على ركبِها، وحين كنّا نحنُ، بنو الإنسان، منحنيين من السماء إلى تحت بسبب جاذبيتها، وحين، كذلك، كنّا نمشي خلفاً وليس أماماً كما في الأيام الحاضرة". ثمّ استطردَ قائلاً:- "ذات يومٍ، حينما كنتُ ما أزالُ عايشاً بين بني الأنس، نصبتُ شركاً في غابةٍ بعيدةٍ جداً من أيّ نهرٍ أو بركةٍ صغيرةٍ حتى. ثمّ رميتُ شبكةَ سمكٍ في نهرٍ بعيدٍ جداً من أيّ غابةٍ، سهلٍ أخضرٍ أو قطعةِ أرضٍ صغيرةٍ مزروعةٍ حتى. عندما أصبح الصبح التالي ذهبتُ، أولاً، إلى النهر الذي رميتُ فيه شبكةَ السمك لصيدِ السّمك. لدهشتي وجدتُ الشبكة قابضةً، بدلاً عن سمكةٍ، على طائرٍ أحمرٍ ظلّ حياً كما لو كان سابحاً في نهرٍ وليس ممسوكاً به في شبكةٍ. أخرجتُ الشبكة والطائر الأحمر معاً من النهر ووضعتهما على ضفته. ثم ذهبتُ، ثانياً، إلى الغابة التي نصبتُ فيها شركاً لصيد حيوانات الغابة فوجدته قد أمسك بسمكةٍ حمراء كبيرة كانت ما تزالُ حيّة. بعد ذلك أخذتُ الشبكة والشرك معاً بسمكتهما وطائرهما الحمراوين إلى بلدتي. لكن حينما رأى والديّ السمكة الحمراء الحيّة التي قبضها الشرك، بدلاً عن حيوانِ غابةٍ، والطائر الأحمر الحيّ الذي قبضته الشبكة، بدلالً عن سمكةٍ، ناشداني أن أرجعهما إلى المكانين الذين جلبتهما منهما فأخذتهما لأعود بكلّ منهما على حيثُ قبضتُ عليه وعليها.

في أثناء مسيرة عودتي عبر الدرب توقفت، في منتصفه، تحت ظلّ شجرةٍ وأشعلتُ ناراً هناك، ثم هويتُ بالمخلوقين الأحمرين داخل النار. كان هدفي هو أن أحرقهما إلى رمادٍ وأعود إلى بلدتي من هناك. لكن الشيء الذي أدهشني أبلغ دهشةً هو أن ذلكم المخلوقين الأحمرين كانا، حين أزمعتُ أن أُلقي بهما في النار، يتحدثان كمخلوقاتٍ إنسانيّةٍ ويقولان إنّني ينبغي لي ألاّ ألقي بهما في النار، فالمخلوقات الحمراء ليس لها أن تقرب النار مطلقاً. عندما سمعتُ منهما ذلك فزعتُ فزعاً عظيماً. طبعاً أنا ما اهتممتُ بما قالاه- رغم خوفي منه- بل أخذتهما معاً، فحسب، من الشبكةِ والشّركِ إلى النارِ. حتى حين فعلتُ بهما ذلك ما كفّا عن ادّعاء أنني لستُ بقادرٍ أبداً على الإلقاءِ بهما في تلك النار. رغم أن سماعي ذلك منهم قد أزعجني كثيراً إلا أنني رميتهما، بالقوّةِ، في النار. وعندما غدا أولئك المخلوقين في جوفِ النار كانا يقولان لي إنني يجب أن آخذهما خارج النار في الحال، لكنني أنبأتهما أن فعل ذلك ليس ممكناً مطلقاً. بعد برهةٍ قليلةٍ قسمهما الاحتراق إلى نصفينَ نصفينَ، لكنهما ظلا يتكلمان. جمعتُ مزيداً من العيدان الجافّة وألقيتُ بها في النار. لكن، حين سمقت النار عالياً، غُطِّيتُ فجأةً بالدّخان الذي طلع منها فما استطعتُ، بالكادِ، أن أتنفّس. وقبل أن أجد لي مخرجاً من الدّخان تحوّلتُ إلى كائنٍ أحمرٍ. حين رأيتُ أنني قد صرتُ أحمراً جريتُ نحو بلدتي ودخلتُ بيتي. لكن الدّخان كان يتبعني أثناء ما كنتُ جارياً إلى بيتنا، بل ودخل معي إلى هناك. عندما رأى والديَّ أنني قد "انمسختُ" إلى مخلوقٍ أحمرٍ أرادا أن يغسلا عنّي الحمرةَ عساها تروح بعيداً عنّي. وبما أنّ الدّخان قد دخل معي إلى البلدةِ، ثمّ إلى البيت، فإنّ كلّ أهل البلدة صاروا، بسرعةٍ، حمراً أيضاً. ذهبنا جميعاً، من بعد ذلك، إلى ملك البلدة ووقفنا قبالة عرشه كي نحكي له ما حدث لنا، لكن الدّخان ما سمح له أن يقول أيّ شيء، فهو كان قد انتشر في كلّ أرجاءِ البلدة وحوّل، في ذات الوقت، لون ناسها جميعهم، حيواناتها الأليفة، أرضها، نهرها وغاباتها إلى لونٍ أحمرٍ.

بقدر ما أيٌّ منّا أن يغسل عنه اللّون الأحمر فشل في ذلك. وفي اليومِ السابع لتحوّل لوننا إلى اللون الأحمر متنا جميعاً وماتت جميع حيواناتنا الأليفة فغادرنا بلدتنا القديمة واستقررنا هنا، لكنّا ظللنا على لوننا الأحمر كما كنّا قبل موتنا، وكذلك ظلّت حيواناتنا الأليفة، أنهرنا، بلدتنا وغابتنا. ثمّ أنّ لا شيء التقينا به (أو قابلناه) هنا صار أحمراً فبتنا، منذ ذلك الوقت، نُسمّى "الناس الحمر"، وبلدتنا "البلدة الحمراء"... الخ... الخ... بعد أيامٍ من بقائنا هنا جاء إلى بلدتنا هذه السمكة الحمراء والطائر الأحمر وعاشا داخل جحرٍ كبيرٍ قريبٍ جداً منها. ومنذ مجيء هذين المخلوقين الأحمرين إلى هنا ظلا يخرجان من الحفرة كلّ سنةٍ ويسألانا تضحيةً إنسانيّةً فنضحّي لهما بأحدنا حتى ننقذ بقيّتنا. الآن نحنُ مسرورين جداً لقدومكما إلى البلدةِ الحمراءِ في هذا الوقتِ بالذّات، فقد تبقّت ثلاثةُ أيامٍ فقط على طلوعِ أولئك المخلوقين من جحرهما كي يسألا عن أضحيتهما لهذا العام. أنا- قطعاً- سأكون مسروراً جداً أيضاً إن شاء واحدٌ منكما أن يتبرّع بحياته إلى هؤلاء المخلوقين- ذلك أمرٌ لا بدٌّ منه".

بعد أن روى الملك الأحمر حكاية أهل البلدة الحمراء لنا وقال، في خاتمتها، إن على أحدنا أن يهب حياته للمخلوقين إياهما، طوعاً أو كرهاً، سألتُ زوجتي عمّا نحنُ فاعلاه وقتذاك. ذلك لأنني كنتُ غيرَ راغبٍ في فراقها وتركها وحيدةً هناك (في البلدة الحمراء) وهي أيضاً كانت غيرَ راغبة في فراقي وتركي وحيداً هناك (في البلدة الحمراء). ثمّ أنّ لا أحد من ناس البلدة الحمراء- رجلاً كان أم امرأة- قد أبدى رغبةً في وهبِ حياته إلى أولئك المخلوقين، الشيء الذي جعل الملك مريداً لأن يسمع منّا ما نراه في ذلك الشّأن في أسرعِ وقت.

عند ذاك الموقف قالت زوجتي الكلمات الآتية:- "هذا سيكون فقداً وجيزاً لامرأةٍ، لكن انفصالاً أوجزَ لرجلٍ عن محبوبته". ما فهمتُ معنى كلماتها لأنها كانت تتحدّث بلغةِ الأمثال أو كمتنبّئة. بعد ذلك، بوقتٍ قصيرٍ، ذهبتُ إلى الملك الأحمر وعرّفته أنّي سأهب حياتي للمخلوقين الأحمرين. سُرَّ الملكُ وناسه الحمرُ سروراً مفرطاً عندما سمعوا منّي ذلك. السبب الذي من اجله شئتُ التطوّع بحياتي للسمكة والطائر الأحمرين هو أنني، إذ تذكَّرتُ بيعي وزوجتي لـ"موتينا" نهائياً لشخصٍ آخرٍ، عرفتُ أنّ أولئك المخلوقين لن يكونا قادرين مطلقاً على قتلي. أما عن الطقس الأهليّ الذي اعتاد الناس الحمر على أدائه لأيّ شخصٍ يهب حياته للمخلوقين الأحمرين قبل اليوم المعين الذي سيطلعان فيه من جحرهما فما كنتُ أدري عنهُ شيئاً.

أجرى لي الناس الحمر ذلك الطقس في اليوم الموعود فأزالوا شعر رأسي كلّه وطلوا نصفه بطلاءٍ أحمرٍ ما والنصف الآخر طلوه بلونٍ أبيضٍ بلديٍّ. بعد ذلك التمّوا جميعهم ووضعوني في المقدمة مع طباليهم ومغنيّيهم. قالوا لي أن أرقص أثناء ضرب الطبّالين طبولهم خلال مسيرتنا حول البلدة. كانت زوجتي تتبعنا دون أن يظهر عليها مطلقاً ما يشي بأنها ستفقدني عاجلاً. حين جاءت الساعة الخامسة من باكرِ الصباح الذي سيطلع فيه المخلوقان الأحمران من مخبئهما أخذتُ بندقيّتي وذخيرتي ومنجلي الذين أعطتهم لي "الأمّ الوفيّة" قبل مغادرتنا بيتها. شحنتُ البندقيّة بأقوى ذخيرةٍ عندي وعلّقتُها على كتفي. ثمّ سننتُ المنجل وأمسكتُهُ، بتصميمٍ، بيدي اليمنى. عند السابعة صباحاً ساقني الملك الأحمر وجميع قومه الحمر إلى موقع الجحر وألقوا بي قربه أضحيةً للمخلوقين الأحمرين، ثمّ عادوا كلّهم إلى البلدة. كان ذلك الموقع لا يبعد أكثر من نصفِ ميلٍ عن البلدةِ.

تركوني هناك وحدي وعادوا راكضين إلى البلدة، فالمخلوقان الأحمران سوف لن يتورّعا، إن رأيا قرب جحرهما أكثر من شخصٍ واحدٍ، عن قتل جميع من رأوهم هناك. لكن زوجتي أبت أن ترجع معهم إلى البلدة وخبأت نفسها في مكانٍ ما بجوار ذلك الذي كنتُ فيه، الشيء الذي لم يكن لديّ به، حينذاك، أدنى معرفة. مضت نصفُ ساعةٍ على وقوفي إزاء الجحر فبدأتُ أسمعُ شيئاً يُحدثُ ضجّةً فيه وكأنّها جلبةُ ألفِ شخصٍ كانوا بداخله. اهتزّ كلّ جزءٍ من ذاك المكان فأنزلتُ، حالاً، بندقيّتي من على كتفي وقبضتُ عليها بقوةٍ، ثم عاينتُ الجحر.

حين طلوع المخلوقين الأحمرين من الجحر انفلتا إلى الخارج، ليس جنباً إلى جنبٍ، بل تباعاً. في الأوّل طلع من الجحر كائنٌ له هيئة السمكة شهدتُهُ وهو يندفع باتجاهي. في الحقيقة ما أن رأيتُ السمكةَ الحمراء الهائلة تلك حتى فزعتُ فزعاً عظيماً وأغمي عليَّ بالكادِ. لكن عندما تذكّرتُ أننا بعنا "موتينا" وأنني سوف لن أموتَ من بعدِ زال عنّي همّ الموت، لكنّني بقيتُ مرتعباً رعباً كبيراً، إذ أننا ما بعنا "خوفينا". في ذاتِ الوقتِ الذي ظهرت لي فيه السمكةُ الحمراء ألقيتُ بصري عليها فوقع على رأسها الذي كان تماماً مثل رأسِ سلحفاة، غير أنه كبيرٌ كرأسِ فيلٍ. ثمّ رأيتُ، على ذلك الرأس، أكثرَ من خمسين قرناً وعيوناً هائلةً موزّعةً على جميعِ جهاته. كانت القرون مُنَشَّرَةً على الرأسِ مثل مظلّة. ما كانت السمكة الحمراء تلك قادرةً على المشي كالبشر، فهي فقط كانت منزلقةً فوق الأرض كثعبانٍ، وجسدها، الذي غطّتهُ كأوتارٍ سبائبُ شعرٍ طويلةٍ حمراء، كان تماماً كجسدِ وطواط. كانت تستطيع الطيران لمسافةٍ قصيرةٍ فقط. وكان لها صوتٌ لو صرختْ به لسمعهُ شخصٌ على مبعدةِ أربعةِ أميالٍ منها. وكلّ العيون الموزّعة على جهاتِ رأسها جميعاً كانت تنغلقُ وتنفتحُ في نفس الوقتِ وكأنّ إنساناً كان يضغطُ "مفتاحاً" لنورها، مرةً لتضيء ومرةً ثانيةً لتنطفئ.

في نفس اللحظة التي رأتني فيها تلك السمكة الحمراء واقفاً قرب جحرها- هي والطائر الاحمر- انطلقت نحوي وهي ضاحكةً كما تضحكُ ابنةُ آدمٍ فقلتُ، في سرّي، إن تلك المخلوقةَ كانت، في حقيقتها الأصليّة، ابنةَ آدمٍ. تأهّبتُ للقائها وهي مندفعةً إلىَّ هكذا حتّى اقتربتْ منّي مسافةَ عشرين قدماً تقريباً فأطلقتُ على أمِّ رأسها نار بندقيّتي، ثمّ شحنتُ البندقيّة، مرةً أخرى، وأردفتُ طلقتي بثانيةٍ قبل أن يتناثر بعيداً دخانُ الأولى. وهكذا ماتت السمكةُ الحمراء قرب ذاك الجحر الذي عاشت فيه. كانت زوجتي قد فزعت فجرت عائدةً إلى البلدةِ حين رأتها، بكلّ رهبتها وفظاعتها، وهي طالعةً من الجحر الكائن على مرمي حجرٍ من المكانِ الذي اختفت فيه. أنا أيضاً كنتُ قد أدركتُ، عند طلوعها من الجحر، أنّني يجب أن أقتلها، ليس بسرعةٍ فحسب كما فعلتُ وإنّما في لمحةِ برقٍ، لولا نفاذ قوّة "الجّوجُوات" التي كانت معي من شدّةِ الاستهلاك.
عبّأت البندقية، شهرتها وتهيّأت للقاء المخلوق الأحمر الثاني (الطائر الأحمر). مضت خمس دقائق فبدا لي ذاك المخلوق طالعاً من الجحر. كانت له رأسٌ تزنُ طناً أو يزيد، وأسنانٌ ستّةٌ طويلةٌ وثخينةٌ كلُّ واحدةٍ منها ممتدةً، مثل منقاره، أماماً إلى مسافةِ نصفِ قدمٍ. وكانت تلك الرأس أيضاً مغطّاةَ بكلّ أنواع الحشراتِ مما صعّبَ عليَّ أن أصفه هنا على نحوٍ تامٍّ. ما أن رآني ذلك الطائر حتى فتح فمه متهيّئاً وانعطف نحوي كي يبتلعني. لكنني كنتُ، حينذاك، مستعداً له. وعندما أوشك أن يصل إلى المكان الذي كنتُ واقفاً فيه توقف وابتلع السمكة الحمراء التي بادرتُ بقتلها قبل أن يحينَ وقتُ طلوعه عليَّ. ثمّ طارَ، إثرَ ذلك، نحوي مباشرةً فأصليتُهُ ناراً عبّأت بعدها البندقيّة للمرة الثانية وضربتُهُ بحَمِيْمِهَا حتى الموت.

حين رأيتُ أنني قد قتلتُ أولئك المخلوقين الأحمرين تذكّرتُ ما قالتهُ زوجتي حال لقائنا بالمرأةِ الحمراءِ التي ساقتنا إلى الملكِ الأحمرِ. فهي قد تحدّثت هكذا:- "سيكونُ هذا ’خوفُ‘ قلبٍ، لكنه لن يكونَ خطيراً على القلبِ".

ذهبتُ إلى الملك الأحمر، صاحب البلدة الحمراء، وأخبرته أنني قتلتُ المخلوقين الأحمرين كليهما فأسرع، لحظة سماعه ذلك منّي، بالنهوض من على كرسيّه ومصاحبتي إلى المكان الذي فتكتُ فيه بالمخلوقين الأحمرين. وحين رأى أنهما- بالفعل- ميتان وشبعانان موتاً قال:- "هنا مخلوقٌ آخرٌ مخيفٌ ومضرٌّ يقدر أن يهدمَ بلدتي في المستقبل "(سمّاني "أنا" مخلوقاً مخيفاً ومُضرّاً!). في ذات الوقت الذي قال فيه ذلك تركني هناك وعاد إلى البلدة ودعا إليه سكّانها جميعهم وأطلعهم على ما رأى. ولأنّ ناس تلك البلدة كانوا قادرين على تحويلِ أنفسهم إلى أيِّ شيءٍ يرغبونه فإنّهم، قبل أن أدبّر عودتي إلى بلدتهم، تحوّلوا كلّهم إلى نارٍ عظيمةٍ حرقت منازلهم وجميع ممتلكاتهم. عندما كانت تلك المنازل تحترق ما استطعت الدخول إلى البلدة، فالدخانُ كان، آنذاك، كثيفاً. لكن، بعد برهةٍ وجيزةٍ، تلاشت النار وتلاشى الدخان فظننتُ أنّ سكان البلدة جميعهم، بما فيهم زوجتي، قد احترقوا وأضحوا رماداً. وقفتُ في مكانٍ بعينه ناظراً إلى البلدةِ الخاليةِ فرأيتُ شجرتين حمراوين باديتين في وسط البلدة. كانت إحدى الشجرتين نحيفةً وأقصر من الأخرى، كما وكانت متقدمةً، في موقعها، على الأخرى الطويلة الكبيرة. الشجرة الخلفيّة من بين الشجرتين (أي الطويلة الكبيرة) كانت مزهرةً بأوراقٍ كثيرةٍ وفروعٍ. حينما رأيتُ الشجرتين تبدوان في مركز البلدةِ ذهبتُ نحوهما، لكنهما تحركا إلى الناحية الغربية من البلدة قبل أن أستطيع الوصول إليهما. كانت كلّ أوراق الشجرتين، أثناء مسيرهما، تغنّي ككائناتٍ إنسانيّةٍ. في مدى خمس دقائق غابت الشجرتان عن بصري. كنتُ، خلال ذلك الزمن كلّه، ما عرفتُ أنّ جميع الناس الحمر قد غيّروا أنفسهم إلى الشجرتين إياهما فحسب. وبما أنّ زوجتي قد "اختفت" عند "اختفاء" أولئك القوم الحمر فإنني بدأتُ أفتّشُ عنها محلاً فمحلاً، ليلاً ونهاراً. ذات يوم سمعتُ أنها في صحبة الناس الحمر الذين حوّلوا أنفسهم إلى شجرتين حمراوين قبل مغادرتهم البلدة الحمراء فشرعتُ في المسير إلى المكان الذي سمعتُ أنهم استقروا فيه. كانت البلدة الجديدة التي- بالكاد- استقروا بها على مبعدةِ حوالي ثمانين ميلاً من البلدةِ الحمراء التي خلّفوها خرائباً. بعد ترحالِ يومين وصلتُ إلى هناك، لكنهم كانوا قد غادروا ذاك المكان حين بلغهم أنّني أيضاً في طريقي إليه. ما دريتُ أن أولئك الناس الحمر كانوا يعتقدون، بينما هم هاربون منّي بعيداً، أنّني سأقتلهم كما قتلت المخلوقين الأحمرين. لذا هم تركوا بلدتهم الثانية وعادوا، مرةً أخرى، إلى البحثِ عن مكانٍ مناسبٍ ليستقروا فيه فما وجدوه أبداً قبل أن ألاقيهم. رغم ظنّي أنني سألاقيهم في هيئةِ أشخاصٍ بشريين إلا أنهم ظلوا، حينذاك، نفس الشجرتين الحمراوين.

قابلتهم في منتصف الدرب. رأتني زوجتي ونادتني، لكننّي ما رأيتُها مطلقاً. ظللتُ، لأسبوعٍ، على متابعتي للشجرتين الحمراوين إلى حيثما تستطيعان أن تلقيا مكاناً مناسباً لإقامتهما. ثم وجدتا ذاك المكان فتوقفتا، لكنّني كنتُ، في ذلك الوقت، بعيداً جداً عنهما. وحين أدركتُ المكان الجديد رأيتُ كلّ جزءٍ منه ملآناً بالبيوت، الناس- إذ أن تلكم الشجرتين قد عادتا ناساً كما كانتا- وحيواناتهم الأليفة... الخ... الخ... تماماً كما كان الحال في البلدة التي أُحرقت إلى رمادٍ قبل أن هجر أهلها لها. عندما دخلتُ البلدةَ الجديدةَ ذهبتُ مباشرةً إلى ملكها (ذات الملك القديم) وأخبرتُهُ أنّني أريدُ زوجتي. ما أن سمع منّي ذلك حتّى ناداها حالاً فرأتني ورددت الكلمات التي قالتها من قبل:- "هذا سيكون فقدٌ وجيزٌ لامرأةٍ و انفصال قصيرٍ عن محبوب". ثمّ قالت إن ما حدث هو معنى تلك الكلمات. صدّقتُها. بقي لي أن أقول عن الناس الحمر، بعد إقامتهم في بلدتهم الجديدة، ما عادوا حمراً، فأنا- كما تذكرون- قد قتلت المخلوقين الذين حوّلاهم، في الماضي، إلى أناسٍ حمرٍ... لعلّ القارئ يذكرُ أن زوجتي قالت عن المرأة التي لاقيناها إنها ليست بنتَ آدمٍ وليست روحاً، فمن هي إذاً؟ أجابت زوجتي على سؤالها ذاك كالآتي:- "إنها كانت الشجرة الحمراء الصغيرة التي تقدمت الشجرة الأخرى الكبيرة". ثمّ استطردت قائلةً:- "والشجرة الحمراء الكبيرة كانت الملك الأحمر، رئيس الناس الحمر والبلدة الحمراء والغابة الحمراء. أما الأوراق الحمراء الكثيرة النامية على الشجرة الحمراء الكبيرة فقد كانت هي الناس الحمر أهل البلدة الحمراء والغابة الحمراء".

أصبحتُ وزوجتي أصدقاء أولئك الناس وعشنا معهم في بلدتهم الجديدة. مضت، من بعدِ ذلك، أيامٌ معدودةٌ فأعطتنا السيدةُ التي ساقتنا إلى بلدةِ ناسها السابقة (البلدة الحمراء) بيتاً كبيراً عشنا فيه مرتاحين... "إنها ليست بنتَ آدمٍ وليست روحاً، فمن هي إذاً؟" سألتُ وزوجتي ذاك السؤال مرةً أخرى فلقينا إجابةً ثانيةً له. فالسيدة التي سئل السؤال بخصوصها كانت هي، أيضاً، رقص (طبعاً يذكر القارئ أنني تحدّثتُ، في حكايتي الحالية، عن ثلاثة رفاقٍ لطافٍ هم طبلٌ وغناءٌ ورقصٌ). حين رأت رقصٌ أنني قد ساعدتهم كثيراً (بقتلي المخلوقين الأحمرين) وأنها وناسها قد أقاموا في مكانٍ مريحٍ ما عادوا فيه حمراً دعت رفيقيها الآخرين (طبل وغناء) للمجيء إلى بلدةِ أهلها الجديدة لمناسبة خاصة... هيهات لنا أن نجاري أولئك الرفاق الثلاثة في فنّهم حين يُطربهم الطرب! فلا أحدٌ يستطيعُ أن يضربَ الطبل كما يضربُ طبلٌ نفسه، ولا أحدٌ بقادرٍ على الغناء مثلما يغنّي غناءٌ نفسه، ولا أحدٌ بمُرقصٍ نفسه بِتَمَامٍ مثلما ترقصُ رقصٌ نفسها. من الذي يقدر أن يُباريهم؟ لا أحدٌ مطلقاً في هذا العالم... حين جاء يوم المناسبة الخاصة أتى الرفاق الثلاثة فبادر طبلٌ بضربِ نفسه ضرباً أوقظ من ماتوا لمئات السنين فنهضوا عن رقادهم وهرعوا ليشهدوا على فنّه. وبدأ غناءٌ في الغناء فخرجت كلُّ الحيوانات الأليفة في تلك البلدة الجديدة وحيوانات الغابة، من ثعابين... الخ... الخ، من بيوتها (براريها، جحورها... الخ... الخ...) ليروا غناء شخص. ثمّ انثنت رقصٌ راقصةً فأتت كلّ مخلوقات الغابة، أرواحها، مخلوقات الجبل وأيضاً مخلوقات النّهر لترى من التي كانت ترقص.

هكذا إذاً بدأ أولئك الخلاّن الثلاثة الحفل فرقص معهم، في الحال، جميع ناس البلدة الجديدة، جميع الناس الذين نهضوا من القبور، الحيوانات، الثعابين، الأرواح ومخلوقات أخرى لا أسماءَ لها. كان ذلك أول يومٍ في حياتي أشهدُ فيه الثعابينَ وهي ترقصُ رقصاً أبدعَ من رقصِ الكائناتِ الإنسانيّة أو أيّ مخلوقاتٍ أخرى. لم يفتر سكان البلدة تلك ومخلوقات غابتها عن الرقص ليومين تامّين. فـ"طبلٌ" كان قد وصل، أخيراً، إلى منتهى الرقص فسما إلى "الجنّة" قبل أن يدركَ أنه باتَ خارج العالم. منذ ذلك اليوم ما عاد بمقدور طبل الرجعة، مجدداً، إلى الدنيا. وغنّى غناء حتى دخل، دون سابقِ ارتقابٍ، في جوف نهرٍ كبيرٍ فما استطعنا، بعدها، أن نراه. ثمّ رقصت رقصٌ حتى صارت جبلاً ولم تبدو كـ"رقصٍ" لأيّ مخلوقٍ منذ ذلك اليوم. وفي ذلك اليوم أيضاً عاد الأمواتُ الناهضون من قبورهم إليها وما نهضوا عنها ثانيةً. ثمّ رجعت كلّ بقيّة المخلوقات إلى الغابة وما عادت، منذ اليومَذَاك، قادرةً على المجيء إلى البلادةِ والرقص مع أيٍّ من كائناتها أو ناسها.

اختفى الرفاق طبلٌ وغناءٌ ورقصٌ، إذاً، عن العيونِ جميعاً ورجع ناسُ البلدةِ الناشئةِ إلى بيوتهم. منذ ذلك الحين ما رأى أحدٌ منهم أيّاً من أولئك الرفاق الطروبين شخصياً. فقط صرنا- نحنُ البشر- نسمع ـ أسماءهم تتردّد في أنحاءِ الدّنيا، فقد فاق ما فعلوه في الماضي حدَّ أيِّ شيءٍ مثيلٍ له قد يجرؤ بشريٌّ (أو غيرُ بشريٍّ) على فعله في هذه الأيام.

بعد أن قضيتُ سنةً مع زوجتي في البلدةِ الجديدةِ صرتُ رجلاً غنياً وأجّرتُ عمالاً كثيرين لينظّفوا لي مساحةً من الغابةِ من حشائشها حتى أزرعها ففعلوا ما أمرتَ به ونظّفوا لي مقدارَ أربعةِ أميالٍ مربّعةٍ. عندها غرستُ البذور والحبوب التي أعطاني لها، في "الجزيرةِ الطيفيّةِ"، حيوانٌ "فريدٌ" (كما كان يُدعى) ملك الأرض التي زرعتُ عليها- عند إقامتي هناك- محاصيلي. تلك البذور والحبوب، كما يذكرُ القارئ، قد أفرخت في ذات اليوم الذي زرعتها فيه. حصل نفس الشيء في ذلك الأوان إذ نمت هاتيك البذور والحبوب، فرهدت وأثمرت في ذات اليوم الذي غرستُها فيه فجعلتني أغنى من بقيّةِ أهلِ تلكَ البلدةِ.

""يتبع"
khalifa618@yahoo.co.uk

 

آراء