مقاربات التجديد بين الترابي والتيجاني عبدالقادر
توافقا مع روح هذا الشهر العظيم أسوق هذه المقاربة للنظر في منهجين للتجديد اشتهرا بأصالتهما وقدرتهما علي تحريك الجمود الفكري والساكن السياسي.إذ نحا منهج الشيخ حسن الترابي للأخذ بأصول الفقه مدخلا للتجديد،وهو يتسق مع شخصيته القانونية وانشغاله بأصول فقه الأحكام وقد قدم مقاربات ما تزال تثير قسطلا من معارك الفكر وجدلا في مفاهيم النظر الديني، ويعتبر إسهامه الرئيس والأساس هو الفقه السياسي والاجتهاد الجماعي وتحرير المرأة وتجديد الفكر الديني. كما اشتهر بآراء فقهية اشتجر حولها الناس ورماه البعض بالزندقة والتكفير، ولكن امتد تأثير منهجه في استخدام القياس العقلي والفقه الظاهري معارضا لكثير من مسلمات التراث الإسلامي خاصة في قضايا علامات الساعة وعذاب القبر وامامة المرأة وزواج المسلمة من الكتابي، وبعث المسيح عيسي بن مريم وحجية السنة والفرق بين ما هو تشريع أو سلوك بشري للرسول صلي الله عليه وسلم. وهناك اجماع علي ريادته الفكرية وكذلك اختلاف عميق علي مجمل كسبه السياسي.وهو سؤال حاول أن يتحاشاه عندما سأله الدكتور عبدالوهاب الأفندي في ندوة الدوحة الشهيرة في العام 2012 حول ما يصف به ارثه السياسي اذا ما غادر فضاء العمل العام في الوقت الراهن.
يقول بعض نقاد الفكر الديني للترابي أنه لم ينتج افكارا متسقة لها منظومة فكرية واحدة بل هي آراء فقهية مشتطة تخالف ما عليه اجماع المسلمين خاصة في مسألة عذاب القبر وقوله أن العذاب هو يوم القيامة فقط مشيرا الي أن معظم اموات العالم الآن يحرقون ولا يدفنون في القبور، كما يقول ان القيامة تأتي بغتة لا علامات لها حسب نصوص القران وبشأن بعث عيسي يقول ان هذا خلق تواكلا وتكاسلا في نفوس المسلمين ينتظرون ظهور المسيح ليملأ الارض نورا بعد أن ملئت جورا دون أن يعملوا علي احقاق الحق وابطال الباطل الي حين نزول عيسي عليه السلام. وبشأن زواج المسلمة من الكتابي يقول إن القرآن سكت عن هذا وتركه لتقدير المسلمين وأجاز زواج المسلم من الكتابية ولكن لأن المسلمين اعتادوا علي قمع المرأة اصبحوا لا يثقون في دينها وشخصيتها وقدرتها علي كسب زوجها الكتابي للإسلام منوها في حديثه ان المسيحية أصبحت هوية تاريخية وليس التزاما سمينا بالعقيدة . ولعل رأيه الفقهي في جواز امامة المرأة للرجل جلبت عليه الكثير من النقد والعداء الفقهي خاصة من منسوبي التيار السلفي. ودليله في ذلك حديث ام ورقة الذي ورد في سَنَن ابي داوود وهو ان النبي (ص) كان يزورها في دارها وأمرها ان تصلي باهلها في دارها وقال ان الدار ليست المسكن بل هي المنطقة التي يصلها نداء الصلاة.
وتشهد صحف التاريخ علي المعركة الجهيرة التي اثارها حديث (الذبابة) والذي اسماه امين حسن عمر حديث (الدبابة) لغبار المعركة الفكرية التي اثارها في حينها وما يزال صداها يتردد حتي الآن، فالترابي أقر أن الرسول (ص) لم يكن فيزيائيا أو صيدلانيا أو طبيبا بل هو نبي يعلمنا مما اختلفنا فيه، وأن القوانين الطبيعية يمكن أن يتوصل لها بالتجربة والبرهان لا فرق بين مسلم ويهودي ونصراني.لذا فإن العلم الحديث أذا اثبت أن الذبابة ضارة بالصحة فيجب أن اطرح الشراب الذي حطت فيه لا ان اغمس جناحها الآخر حسب حكم الحديث الذي شكك في صحته.وقال إن البعض تزّيد في البحث عن سر غمس الجناح الآخر وما فيه من معادل علمي مقابل لما يحتويه الجناح الحامل للجراثيم، وبلغت السخرية بالترابي أن قال لمنتقديه إذن عليكم تربية الذباب ومص اجنحته لا محاربته بالمبيدات الحديثة وبناء نمليات الحماية في منازلكم . وقال ان الرسول لا يعلمنا تركيبة الماء ذرتين هايدروجين وذرة من الأكسجين لكن العالم النصراني يمكن ان يدلنا علي ذلك لان هذه من علوم الطبيعة فقط ورسالة النبي صلي الله عليه وسلم مرتبطة بالهداية لا الكشوفات العلمية كما يتخيل البعض.
بعض تلامذة الترابي وفي أطار تأوليهم لهذا الجدل الفقهي قالوا إن حديث الذبابة هو في الأصل حديث حول حجية السنة والتفريق بين أحكام أحاديث النبي (ص) بإعتباره نبيا وبين أحاديثه القولية المنسوبة لطبيعته البشرية مثل حديث تأبير النخل.وفصل في ذلك الدكتور محمد وقيع الله في كتابه (الترابي الرأي والرأي الآخر)، في عصر الثمانين من القرن المنصرم قبل أن يعود ويدمغ الترابي بالزندقة في هذا القرن الجديد.
ما يأخذه الدعاة علي الترابي هو جرأته علي الصحابة، وعلي علماء السلف فهو يتنقد المفسرين في أنهم ركزوا علي تفسير الكلمات والآيات في القرآن دون أن ينّزلوا مقاصد ومعاني هذه الآيات علي واقعهم الذي عاشوه،فهو يقول مثلا أن القرآن عندما يقول (يا ايها النبي) ماذا يقصد؟ أو إذا قال (يا نساء النبي) ماذا يقصد؟ في الوقت الراهن الذي لا توجد فيه نساء للنبي عليه لا بد من تفسير الآيات وربطها بواقع اليوم، لذا فهو يقول إن رؤيته للتفسير التوحيدي تقوم علي شمول وتوحيد المعني فهو يرمي الي توحيد الصوت والصوت الذي يليه والنغمة والنغمة التي تليها واللفظة واللفظة التي تليها والسورة والسورة التي تليها. لأن السورة تعني الإحاطة. ولكن ما يؤخذ علي الترابي في هذا أنه يقلل من بعض التفاسير القديمة وانكر أن يكون قد تأثر بمنهج سيد قطب في تفسيره الشهير (في ظلال القرآن) الذي اتّبع ذات المنج في الحديث في مقدمة السورة عن الموضوع والبيئة واسباب التنزيل وربط الألفاظ والإحاطة بمعاني الآيات ومن ثم الحديث عن القضايا التي تحدثت عنها السورة والدورس والعبر والموجهات والاحكام في خلاصة السورة. وينتقد كذلك التفاسير التي شرحت اسباب التزيل مؤكدا أنها لا ترتبط بقصة شخص أو حادثة أو قوم نزلت فيهم، ولكن يمتد المعني ليكون خالدا وصالحا لكل زمان ومكان.
وهناك شبه اجماع وسط المتابعين للتراث والإنتاج الفكري للشيخ الترابي أن التفسير التوحيدي أتي دون قامته الفكرية وكسبه الفقهي والمعرفي، ربما لأنه اشتغل بكتابته في سن متأخرة غاضت فيها ينابيع الإلهام والإبداع فأصبح يكرر ذات أفكاره السابقة.ولو أن الترابي اشتغل بالتفسير في سن مبكرة من حياته وهو في قمة عطائه الفكري لأخرج تفسيرا مغايرا وشكل اضافية نوعية لكتب التفاسير المتوفرة قديما وحديثا، والتفسير التوحيدي رغم انكار الترابي لا يفوق تفسير سيد قطب في نفاسته وتجدده، ربما لأن سيد قطب عكف عليه في خلوة السجن واضافت اليه رمزية استشهاده ألقا فكريا أما الترابي فقد كتبه في اوقات مختلفة ومتقطعة بعضها داخل السجن وبعضها في وسط المعمعان السياسي.ولكن رغم ذلك يمثل التفسير التوحيدي المحاولة الوحيدة لمفكر سوداني مرموق لتقديم تفسير متكامل للقرآن الكريم،هذا رغم محاولة البروفيسور عبدالله الطيب في تفسير القرآن بلغة دارجة آخاذة في حلقاته الشهيرة عبر الإذاعة السودانية مع المقريء الشيخ صديق أحمد حمدون. واكتفي الشيخ الراحل أحمد علي الإمام بتفسير معاني القرآن واشتهر كتابه (مفاتح فهم القرآن).
اشتهر الدكتور محمد بن مختار الشنقيطي بالبحث عن آراء الترابي ومراجعة كسب الحركة الإسلامية السياسي والدعوي والفكري لذا فهو يقول "ولست بالذي يفاجأ إذا أحاط بآراء الترابي الكثير من اللبس وسوء الفهم، فقد كنت أشرت في مقدمة كتابي عن "الحركة الإسلامية في السودان: مدخل إلى فكرها الاستراتيجي والتنظيمي"إلى ما اتسمت به كتابات الترابي من "التجريد في الأفكار والمصطلحات"، مؤكدا أنه "ليس من السهل على شباب الصحوة الإسلامية غير المتمكنين من ناصية اللغة العربية، المتمرسين بالمفاهيم الفلسفية والأصولية، أن يستوعبوا جميع كتابات الترابي بعمق، وهي كتابات تجمع بين تجريدات (هيجلْ) الفلسفية ولغة الشاطبي الأصولية". وقريب من شهادة الدكتور الشنقيطي وما يأخذه علي الترابي من تجريد الافكار والمصطلحات الكلمات التي ادلي بها الشيخ عبدالفتاح مورو في شهادته علي العصر، قال إن حركة النهضة التونسية تأثرت بالريادة الفكرية للدكتور حسن الترابي في قضية تحرير المرأة لفكره التقدمي ومعرفته بالأصول، وقد كان المفكرون الإسلاميون في تونس يكتفون بالعموميات عن تكريم الإسلام للمرأة ونقد مجلة الأحكام الشخصية، ولكن افكار الترابي احدثت حراكا متقدما دفع بقضية تحرير المرأة في التجربة الإسلامية التونسية.
في المقابل اتخذ الدكتور التيجاني عبدالقادر نهجا مختلفا في مقاربات التجديد الإسلامي رغم تتلمذه غير المباشر علي افكار الدكتور حسن الترابي في احياء العقل والاخذ بنسبية التراث الديني. وتؤكد الروايات أن لفظ (التفسير التوحيدي) هو مقترح الدكتور التيجاني عبدالقادر أثناء حلقات التفسير الجماعي من قبل. وعلي عكس الترابي الذي اتخذ من قضية المرأة وأصول الفقه ومقارعة مسلمات التراث الإسلامي والفكر الديني مدخلا للتجديد، فقد طور الدكتور التيجاني عبدالقادر منهجا مغايرا للتجديد ارتكز علي استنباط المفاهيم القرآنية لمخاطبة الظواهر الإجتماعية والسياسية والفكرية وفق منهج علمي محكم. والتيجاني عبدالقادر برع في هذا الحقل من الفن إثر اهتمامه بالدراسات القرآنية منذ عهد الطلب في جامعة الخرطوم حيث كان مبحثه للتخرج من قسم الفلسفة (الزمن في القرآن المكي)،وفي دراسة الماجستير بالجامعة عكف علي تطوير نموذجه البحثي ليتناول (اصول الفكر السياسي في القرآن المكي) ورغم ان هذا المبحث قد أكتمل عماده في العام 1983 إلا أنه خرج من ظلمات الحفظ الي نور النشر في عام 2005 من معهد إسلامية المعرفة تحت سلسلة دراسات جامعية، ومن ثم أخرج المعهد في الأردن طبعة ثانية منقحة اكد الدكتور طه العلواني في تقديمه للكتاب بأنها أهم مساهمة فكرية في هذا القرن.وتمت ترجمة الكتاب الي اللغة الإنجليزية علي يد البروفيسور ابولؤلؤة من لندن ووجد قبولا واهتماما واسعا في مختلف الكليات والجامعات المختصة في الدراسات الإسلامية. ويعود الإهتمام بالكتاب الي اصالة المنهج البحثي الذي اختطه الكاتب في بلورة منهج علمي استنباطي لإكتشاف أسس المفاهيم القرآنية وربطها بالحقول المعرفية المجاورة وتطويرها الي صياغة انموذج نظري لتفسير الظواهر الإجتماعية واخضاعها للدراسة والتنبوء بمسارها والتحكم في مخرجاتها.وسرعان ما اصبح هذا المنهج انموذجا نظريا تخطفته الجامعات واصبح جزءا من مقرراتها في الدراسات فوق الجامعة في حقل الفكر والدراسات الإسلامية. الفرق بين منهج أصول الفقه التجديدي للدكتور حسن الترابي والإنموذج النظري للمفاهيم القرآنية للدكتور التيجاني عبدالقادر، أن الأول ينزع الي المنهج الفقهي القانوني لإستنباط الأحكام بينما ينحو الأنموذج النظري للدكتور التيجاني عبدالقادر الي تفسير الظواهر الإجتماعية من خلال استنباط المفاهيم القرآنية وحقولها المعرفية المجاورة. وهو بذلك لا يستنبط المفهوم التجريدي ومن ثم يبحث عن آيات وأحاديث من القران والسنة لتؤكد نتائجه المسبقة، بل يعمد الي تطوير وصياغة هذه المفاهيم من خلال المفهوم القرآني عبر نماذج التحليل والدراسة التي طورها تباعا خلال مسيرته البحثية والأكاديمية الممتدة.وبهذا أصبح هذا المنهج النظري أنموذجا متماسكا جري اختباره وتطويره ويمكن لكل باحث جاد ومقتدر أن يطبق هذا النموذج من خلال دراسات القرآن الكريم، وان ينتهي الي نتائج باهرة وتجديدية.أي أن النموذج النظري للدكتور التيجاني عبدالقادر قابل للنقل والتملك والتطوير لأي نخبة علمية جادة تسعي لكسب معرفي جديد في دراسات القرآن الكريم. ويعتبر هذا النموذج النظري أصيل في جوهره الفكري ، متماسك في صياغته الفلسفية والمعرفية،واستطاع التيجاني عبدالقادر بهذا النموذج النظري المتفرد أن ينزع احتكار النشاط التجديدي المبدع من حقل الفقه والأحكام الي حقل المفاهيم القرآنية. إذ لم تعد قضية التجديد ينظر اليها من باب أصول الفقه والأحكام أو موافقات مقاصد التشريع، بل تشكل منظومة المفاهيم القرآنية هي النبع الأصيل لمسار التجديد الديني لأنها تهتم بتفسير الظاهرة الإجتماعية والفكرية والسياسية لا أصول الأحكام الفقهية.
يمكن تلخيص النزعة التجديدية عند الترابي الي مسارين هما: رد الإعتبار الي العقل لا الارتهان الي النقل من التراث الديني،والتعامل مع القرآن بإعتباره المصدر الأعلي والأسمي للتشريع وسيادته علي السنة القولية والفعلية وكذلك علي تفسير وشروحات وفتاوي السلف.وهذا يعاني تجاوز التراث الديني المتراكم والإتصال مباشرة بالنبع الأصل في التشريع والأحكام وهو مصدرية القرآن الكريم.
أما التيجاني عبدالقادر فقد خرج بمنهجه النظري المستحدث من شروط فقه الأحكام والمنطق الصوري في الأصول خاصة القياس والإستحسان الي فضاءات المفهوم القرآني الشامل من خلال تتبع الآيات عبر الحقول المعرفية المختلفة وربط شبكة المفاهيم عبر هذه الحقول المعرفية، ومثال لذلك ورقته الشهيرة عن مفهوم الإصلاح في القرآن الكريم، يشرح الدكتور التيجاني عبدالقادر هذا النموذج ليقول "إن مفهوم الإصلاح لا يستطيع أن يقف وحده منفرداً ليكون أداة تفسيرية, وإنما هنالك مجموعة من المفاهيم المتصلة بمفهوم الإصلاح. إن استطعت أن أستخرج شبكة هذه المفاهيم من القرآن الكريم أستطيع أن أصنع منها إطاراً تصورياً, أو نموذجاً تفسيرياً. وسأستخدم هذا الإطار التصوري من مفاهيم القران كأداة لتحليل الظاهرة الاجتماعية التي نحن بصددها ولتفكيكها، وربما لإعادة تركيب رؤية جديدة".
وارتبطت هذه المقاربة المفهومية للإصلاح من خلال نموذجها النظري بظاهرة التنازع بشقيه اللطيف والعنيف ومن ثم ربطه بمفهوم الإيمان والتآلف القلبي ومن ثم التناصر. وتقود هذه المفاهيم الي الفتح وهو يعني تدفق موارد جديدة في سياق الظاهرة السياسية والإجتماعية، مما يقود الي صراع ومنافسة محتدمة فيتم الإتجاه الي المجموعات ذات المصالح الخاصة. ويقول :"هناك مجموعة أخرى هي مجموعة المقاومة العنيفة, وهي مجموعة ذات نقاء في الرؤية، أو قد تكون منبعثة من مجموعة التآلف القلبي. ويكون عندها حنين أو رغبة جامحة في استعادة النموذج وتحقيق الرؤية – فتحاول – القيام بمحاولة، وتستخدم ما توفر لديها من أدوات".
ويبدو التيجاني عبدالقادر واعيا بنموذجه النظري ودوره كمثقف في معمعان الحراك السياسي والإجتماعي فهو يحض علي تقسيم المثقفين كما أورد ذلك في مقاله الشهير "المثقفون المصلحون"، فهم حسب وصفه ينقسمون الي فئات كثيرة منهم (الخفاف) "الذين تتحول المعرفة عندهم الى صناعة لفظية وشهادات ورقية يتحصلون من خلالها على معاشهم الدنيوي، وينالون بها حظا في البريق الاعلامي. ومنهم المثقفون النافرون المهاجرون، يفر احدهم من المستنقع السياسي بحثا عن الكرامه والحرية والاستقلال المادي - وهو بحث مشروع - ولكنه قد ينتهي في مخيمات النفط حيث تستغل الابدان وتكمم الافواه، فلا وطنا ابقى ولا استقلالا ماديا انجز، ومنهم المثقفون (الفنيون) يوظف احدهم تدريبه العلمي وخبرته الفنية لخدمة السياسي، خدمة ينفصل فيها النشاط الاداري عن غاياته البعيدة واهدافه القصوى، فالمثقف الفني يتصل بجهاز الدولة اتصالا عضويا لا ينفك عنه بتغيير السياسات الجزئية او الرؤى الكلية. بل انه يتلون لكل سياسة بما يناسبها ويقدم لها ما تحتاجه من وسائل التنفيذ والتمكين، هؤلاء ليسوا هم المثقفون الحقيقيون الذين نقصدهم ونسألهم صياغة )الرؤية) الجديدة والتعبير عنها. فهؤلاء قد تراجعوا من افق الالتزام الاجتماعي الوطني الى الاطار الذاتي، ومن المسؤولية الاخلاقية العامة الى الخصوصيات المهنية والفئوية، ومن الاستقلال الفكري الى تبعية القوى المتنفذه سياسيا واقتصاديا، وعندما (يتراجع) المثقفون الى محاضنهم العرقية وخصوصياتهم المهنية تخلو مواقع الإمامة الفكرية والسياسية ويكون ذلك ايذانا بالانهيار الاجتماعي"(انتهي الاقتباس). والتيجاني بهذا الوصف النظري لحقيقة المثقف يضع الملح علي الجرح فليس كل من نطق بنهج المتعلم او من حاز الشهادات والتأهيل الفني مثقفا ما لم يرتبط ذلك بمشروعتصور فكري متماسك متسقالرؤية مشتغلبالواقع ينحازللتغيرويتسم بالاستقلالية لا يوظف لخدمة الطبقات المستفيدة من السياسيين والعاملين في وظيفة التأمين او التجار.
رغم ذيوع صيت النموذج الفكري للدكتور الترابي ونزوعه لإعلاء العقل علي النقل والقرآن علي السنة والتراث الديني، إلا أنه يفتقد الي نموذج نظري متماسك يمكن نقله وتمليكه واستيعابه بواسطة النخبة المشغولة بحمل لواء التجديد ،وقد أخذ بعض الناشطين المعجبين بنهج الترابي قشور جرأته الفكرية ومصادمته الحادة للمسلمات السائدة في التراث الديني مما ادي الي تشويه نموذجه النظري في معمعان التنافس السياسي السائد الذي يتطلب القفز علي تجريد مصطلحاته الفكرية واستلهام جوهر ابداعه النظري، ورغم ذلك إلا أن بعض تلامذته برعوا في تحكيم العقل في مسائل التأويل الديني، أما التيجاني عبدالقادر فقد أنتج نموذجيا نظريا متماسكا كسر به احتكار نزعة التجديد من اصول فقه الاحكام ومقاصد التشريع الي صياغة شبكة مفاهيم قرآنية لتفسير الظواهر الإجتماعية والفكرية والسياسية.ويتميز هذا النموذج النظري بالقدرة علي النقل والتمليك و استلهام ادواته ووسائله المعرفية وتطبيقه بواسطة نخبة مدربة علي استخلاص نتائج من الحقول المعرفية الممتدة في القرآن الكريم.وهو كذلك نموذج راشد لا يصادم التراث الديني بل يعمل علي تأويله ولا ينزع الي تكريس جرأة فكرية مستفزة يتلقفها الناشطون بغير هدي ولا كتاب منير،بل هو انموذج فكري متماسك لتفسير الظاهرة الإجتماعية والسياسية يمكن ان تختص به نخبة اصيلة تحسن فهمه واستيعابه وتطبيقاته النظرية في مجمل الحقل المعرفي للقرآن الكريم.
wadakhalid@icloud.com