مقتطفات من قراءة فى تاريخ الحركة الوطنية فى السودان .. اعداد هلال زاهر الساداتى
هلال زاهر الساداتي
29 June, 2012
29 June, 2012
دور الجيش
لقد اشتهر السودانيون منذ اقدم العصور بانهم مقاتلون اشداء بواسل شجعان لا يهابون الموت ولا ينكصون على اعقابهم ولا يفرون من الوغى ، وحتى النساءكن مقاتلات من هذا الطراز فى دولة كوش القديمة ، وفى وقت لاحق كان من اغراض محمد على باشا هو الحصول للرجال السودانييين ليضمهم الى جيشه ،ولقد شهد اعداؤهم قبل اصدقائهم بشجاعتهم ،فقد كتب تشرتشل رئيس وزراء بريطانيا فى كتابه (حرب النهر) عن موقعة امدرمان والتى تعرف بمعركة كررى ،وكان قد حضرها كمراسل حربى لصحيفة التايمز اللندنية ،اشاد فى كتابه ببسالة الانصار الفائقة وقال : اننا كسبنا الحرب ولكن النصر كان للانصار. وكان فرسان الشايقية عند تصديهم لجيش محمد على الغازى يصيحون مرحبين بالموت ( مرحباـمرحبا ) ، وفى الحرب العالمية الثانية كان جنود وضباط قوة دفاع السودان القلة يتصدون للجيش الايطا لى فى كسلا وهزموه شر هزيمة وطاردوه حتى كرن والى ان دخلوا أسمرة عاصمة اريتريا ،وحاربوا فى شمال افريقيا الى جانب قوات الحلفاء بقيادة مونتقومرى وحرروا ليبيا من الايطاليين ،وفى حرب فلسطين عام 1948 حارب المتطوعون السودانيون وكانوا فى مقدمة الجيش المصرى حتى ان وزير الخارجية لاسرائيل قال شاكيا فى الامم المتحدة ان الجنود السودانيين بقيادة ميجرزاهركانوا فى منتهى الوحشية معنا فى الميدان .
وهذه نماذج من بطولات الجيش السودانى فى الخارج, واما فى الداخل فقد كانت للجيش مواقف وطنية بارزة وقف فيها الى جانب الشعب ضد حكم الطغيان والاستبدادعن طريق التمرد او الثورة .
وفى عهد حكم غردون وفى عام 1860 تميزت السنوات الخمس التالية بسوء الادارة والاسراف فى الانفاق الحكومى ولم تدفع مرتبات الموظفين لمدة ستة اشهر ،وتراكمت الضرائب على التجار والافراد ،وامتدت الاضطرابات والقلق الى داخل صفوف الجيش فى سنة 1864 وذلك عندما خرجت القوات الموجودة فى حامية الابيض من الثكنات ،وتوجهت صوب مصر ،ولكن تلك القوات حوصرت وحجزت بوادى حلفا .
وفى ذلك العام انفجر تمرد بالغ الخطورة داخل صفوف الجيش بكسلا وذلك بسبب فشل الحكومة فى الوفاء بمرتبات الجنود .وفى عام 1865 تمردت القوات التى اعدت لتخلف القوات المحاربة بالمكسيك وانضم اليها الفيلق الرابع الذى كان معسكرا بكسلا ،بيد ان احد الضباط السودانيين استخدم نفوذه واقنع القوات بالقاء اسلحتهم واعدا بالعفو عنهم ، ومهما يكن من امر لم تف الحكومة بذلك الوعد ،بل اعدمت المتمردين الامر الذى اوغر صدور الجنود السودانيين عليها ،واندلعت نيران العصيان فى سواكن وسنار ،ولكن العصيان بكسلا كان اكثرها خطورة . ومنذ 1865 اتجهت سياسة الحكومة الى تخفيض عدد القوات المكونة من السود فى السودان وذلك عن طريق نقل هذه القوات الى مصر ،واستبدالها بقوات من الفلاحين المصريين .بيد ان هذه السياسة لم تثمر بل اثارت مزيدا من السخط والتذمر ،ذلك لانها لم تقابل بالرضا والارتياح من جانب السودانيين او المصريين ومن ثم فقدت الحكومة تاييد قواتها المسلحة بعد ان فقدت تاييد جماهير الشعب .
ولربما كان اخطر حركات التمرد تلك روح الكراهية والتذمر التى بدت من القوات السودانية عقب الفتح مباشرة ، وكانت مكونة من اربعة عشرة اورطة وكان معظم الضباط الصغار لهذه الاورط من المصريين الذين تلقوا تدريبهم بالمدرسة العسكرية بالقاهرة او من حفنة من السودانيين الذين ترقوا من صفوف القوات المسلحة ،ففى عام 1900 قامت احدى الاورط بالقاء القبض على الضباط البريطانيين واستولت على المهمات العسكرية.وكان من اسباب التمرد قلة مرتباتهم واللوائح المعاشية المجحفة ،وكان هناك اتصال ضئيل بين الجنود والضباط البريطانيين ولم يكونوا على صلة كافية بالضباط المصريين والسودانيين ، بل اكثر من ذلك كانوا (دائما وقحين)فى مواجهة الضباط الاخرين الذين قضوا مدة اطول واكثر البريطانيين تجربة منهم والذين عوملوا دائما فى الايام الخالية باحترام تام من جانب الضباط البريطانيين .
وفى 9أغسطس من عام 1924 قام طلاب المدرسة الحربية بمظاهرة مسلحة تعبيراعن تاييدهم لجمعية اللواء الابيض واحتجاجا على اعتقال على عبداللطيف وساروا عبر الطرق الرئيسية بالخرطوم وتوقفوا عند الجامع الكبير ثم عند منزل على عبداللطيف حيث اهدوا اسلحة لعائلته ومن هناك ساروا الى سجن الخرطوم بحرى هاتفين بحياة على عبداللطيف الذى كان سجينا به ،وقاموا بتوزيع بعض الاسلحة للاهالى ، ولدى عودتهم الى المدرسة الحربية احاطت بهم اللقوات البريطانية مناشدة اياهم تسليم اسلحتهم . والقى القبض على واحد وخمسين طالبا ممن اشتركوا فى المظاهرة واحتجزوا بسفن من حاملات المدافع الراسية على شاطئئ النيل ،حيث اخذوا يرددون هتافات سياسية حتى تم نقلهم الى سجن االخرطوم بحرى .
واتاح مقتل السيرلى استا ك حاكم السودان العام وسردار الجيش المصرى بالقاهرة فى التاسع عشر من نوفمبر 1924الفرصة والتبرير للقيام بتنفيذ السياسة التى ظلت حكومة السودان تسعى لتنفيذها خلال العامين السابقين وهى انسحاب القوات المصرية من السودان .
وامرت الحكومة البريطانية باجلاء القوات المصرية والضباط بالقوة ،ورفضت المدفعية والفرقة الثالثة تنفيذ الاوامرالصادرة اليها بمغادرة البلاد ،واحتج الضباط المصريون فى الخرطوم بحرى واعلنوا انهم لن يغادروا البلاد الا اذا تسلموا امرا مباشرا من وزير الحربية المصرية .
وقررت الفرق السودانية بالخرطوم وامدرمان وتلودى القيام بمظاهرات تعبيرا عن تعاطفها مع القوات المصرية واستعدادها لشق عصا الطاعةعلى الحكومة ، وفى ذات الوقت تمرد واضرب المسجونون السياسيون وطلاب المدرسة الحربية المحتزجون بالسجن العمومى بالخرطوم بحرى .وفى 27 نوفمبر سارت ثلاثة سرايا من الفرقة السودانية الحادية عشرة من ثكنات سعيد باشا الى مدرسة الفرسان بعد ان كسرت مخزن السلاح واستولت على مدفعين فيكرز وكميات من الذخيرة ،وتحركوا عن طريق السوق الى وزارة الحربية فى طريقهم الى الخرطوم بحرى
وعندئذ تم اخطار القوات البريطانية بمعسكرات برى ـمكان جامعة الخرطوم ـ والقوات البريطانية المرابطة بالخرطوم بحرى .وزحفت هذه القوات لتسد شارع الخديوى ـ شارع الجامعةـ بوضع المتاريس لمنع سير الفرقة 11 من بلوغ هدفها . ولما فشل القائد مكاوان فى اقناعها بالعودة الى ثكناتها وجه لهم انذارا باللجوء الى استعمال القوة ثم اخطر القائم باعمال السردار والذى امر بتدعيم القوات البريطانية بجلب ستة مدافع من الفيكرز ثم ذهب الى القوات السودانية وامرها بالعودة الى ثكناتها،ولما لم يجد استجابة امر القوات البريطانية باطلاق النار .وما ان اطلقت المدافع الرصاص حتى رد السودانيون بالمثل ،واستمر القتال حتى الساعة العاشرة ،فانكسرت شوكة المقاومة ولحقت الهزيمة بالثائرين
وفى فجر اليوم التالى ،شرعت القوات البريطانية فى البحث عن كل من اشتبه انه من الثائرين ،وما ان تقدمت صوب المستشفى العسكرى حتى انطلقت النيران من جديد ،فقتل عدد من الضباط والجنود البريطانيين ، واحتمى بعض الجنود السودانيين بمبانى الضباط المصريين بالقرب من المستشفى ، وابدوا مقاومة ضارية ولم ينفع فى دحرهم رصاص المدافع الرشاشة ولا القنابل اليدوية ،ومن ثم احضر البريطانيون المدفع الوحيد الثقيل هاوتزر عيار الموجود بالحامية واطلقت منه ثلاثين قنبلة من على بعد مائة ياردة تقريبا،بيد ان ذلك كله لم يجد البريطانيين بل باءت محاولة الولوج الى المستشفى بخسائر فادحة جديدة وفى النهاية اضطرت القوات البريطانية الى اتباع اسلوب اطلاق القنابل فاطلقت 170 قذيفة مما ادى الى انهدام اركان المبانى والقضاء على المقاومة فلم يبق على قيد الحياة واحدمن ابطال المقاومة الشجعان الذين حظوا باعجاب اعدائهم ، كما تفرق شمل الباقين .ولقد قتل عبد الفضيل الماظ واربعة عشر ضابطا واصيب بعض الجنود بجراح خطيرة ، وقتل خمسة ضباط من البريطانيين وثمانية من الجنود وجرح احد عشر شخصا توفى منهم اثنان فيما بعد متاثرين بجراحهما.
وفى28 نوفمبر حاول الملازم اول احمد سعد محمد قيادة جنود الحملة الميكانيكية فى ثورة سافرة تاييدا للفرقة 11 وهجم الضباط على مستودع الاسلحة ووزعوا الاسلحة والذخائر على جنودهم الا ان الثورة لم تتم على اثر القبض على احمد سعد وطليعته بواسطة قوة من البوليس .وما ان حل اليوم التالى حتى عم الهدوء ارجاء الخرطوم ،ومن ثم انطفأت جذوة الثورة من جانب الفرقة 11 ،اما ثورة الفرقة 10 السودانية التى اندلعت فى تلودى بجال النوبة فقد واجهت نفس المصير ،فقد استطاع ثلاثة من الضباط المصريين وثلاثة من الضباط السودانيين كانوا قد اعتقلوا لرفضهم تنفيذ امر الجلاء من الافلات من الحرس ،ووزعوا الاسلحة لجنودهم وقاما بمظاهرة سياسية الا ان الضابطين البريطانيين الموجودين بتلودى نجحا فى السيطرة على الموقف وفى ذات الوقت ارسلت قوات حكومية من الخرطوم والابيض وتم اخماد التمرد واعتقل الضباط المصريون والسودانيون الذين اشتركوا فى الثورة ومن ثم امكن الحفاظ على النظام والامن .ولدى الرجوع الى تقارير ووثائق ا لمخابرات يبين ان قادة ثورة الجيش فى عام 1929كانوا هم : عبد الفضيل الماظ وحسن فضل المولى وثابت عبدالرحيم وسليمان محمد وسيد فرح وعلى البنا واحمد سيد احمد
ولقد قتل عبد الفضيل الماظ فى فجر 28 نوفمبر، وقدم حسن فضل المولى وثابت عبد الرحيم وسليمان محمد لمحكمة عسكرية قضت باعدامهم رميا بالرصاص ونفذ فيهم الحكم فعلا،اما سيد فرح فقد اصيب بجراح فى الخرطوم فى ليل السابع والعشرين من نوفمبر ،واستطاع الهرب الى مصر رغم رصد الف جنيه لمن يقبض عليه .وابدل حكم الاعدام الصادر ضد على البنا بالسجن مدى الحياة لان رجال المخابرات قرروا انه كان يمدهم بمعلومات عن الحوادث التى وقعت فى ملاكال،وحوكم احمد سعد بالسجن لمدة خمسة عشر عاما ، وتردد اسم كل من زين العابددين عبد التام وعبد الله خليل فى تقارير المخابرات باعتبارهما المحرضين الاساسيين على التمرد، وارتبط اسم زين العابدين باحداث ملكال وتلودى ،وارتبط اسم عبدالله خليل بثورة الخرطوم ، وبحلول اول ديسمبركانت ثورة الجيش قد اخمدت تماما،وجاءت التعليمات من وزارة الحربية المصرية بوجوب مغادرة الضباط والجنود المصريين،ومن ثم سيطرت القوات البريطانية على الموقف .وعلى ذلك تم اجلاء جميع الضباط والجنود المصريين عن السودان نهائيا.واعزى فشل ثورة الجيش فى عام 1924 الى عجز القوات المصرية فى معاضدة الجنود والضباط السودانيين وفشلها فى امدادهم بالعون العسكرى اللازم
ومن الجائز ان ذلك كان احد الاسباب ولكن من الصحيح ايضا ان تدخل القوات المصرية بالخرطوم لمساندة الضباط والجنود السودانيين لم يكن وحده كافيا لزيادة فرص النجاح امام الثورة السودانية ،ذلك ان القوات البريطانية وان كانت اقل عددا ، الا انها اقوى وامضى سلاحا كما كان بوسعها تلقى الامدادات فى اقصر وقت ممكن
وبالمقارنة بين الماضى والحاضر فقد سيطر على الجيش فئة قائدها مجرم دولى مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية هو عمر احمد البشير جراء الجرائم البشعة التى ارتكبها بحق مواطنيه ، وقد ا فرغ الجيش من الضباط وصف الضباط والجنود من الرجال الوطنيين بفصلهم او احالتهم للمعاش ،واحال جيشنا القومى الى جيش لحزب المؤتمر الوطنى ليدافع عن نظامه الممعن فى الظلم والمتعطن فى الفساد والبالغ الوحشية ، وبدلا من الدفاع عن حياض الوطن ممن غزوا اطرافه واحتلوا بعض اراضيه اعلنها حربا شعواء
وعلى من ؟ ! على المدنيين الابرياء من النساء والاطفال والمسنين العجزة . بقذفهم بقنابل الطائرات من الجو وبقنابل المدفعية من الارض ،ولكنهم فشلوا واندحروا على الارض امام الحركات المسلحة من الثوار . واضحى الجيش الذى كنا نفاخر به مثار للسخط والعار
Hilal Elsadati [helalzaher@hotmail.com]