مقدمة في تقريظ المركزية الديمقراطية (1/3)

 


 

 

إن أنصاف الحقائق (حتى عندما تُقال بأمانة مطلقة) خطيرة لأنها، كما قال أوسكار وايلد، فإنك تخاطر بالتقاط النصف الخطأ...

*تاتى هذه الكتابة في تعقيب على صديق الزيلعى في مقاله " مقدمة في نقد المركزية الديمقراطية " . وكتابتي تأتي كمقدمة لموضوع سبق نشره بعنوان "مفهوم المركزية الديمقراطية ونظرية التنظيم" ، ارغب الآن في إعادة نشره. وفى هذا التعقيب سنتناول نقاش بعض القضايا التي أثارها صديق في مقاله. واطرح الملاحظة العامة أن صديق الزيلعى نشط في كتابة مجموعة من المقالات الصحفية تناولت- بشكل مختصر- قضايا أساسية مرتبطة ببنية وجود الحزب الشيوعي ، و قضايا مثل الخط ألسياسي وما يستند عليه من بنية فكرية وأيديولوجية ، وتناقضات أو مفارقات المنهج في فهم وممارسة الحزب لمرجعيته الماركسية (سماها صديق بالسلفية الماركسية) ، والفهم المتخلف للمركزية الديمقراطية . ادعى صديق في كتاب حرره بعنوان "هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني؟" أن " أي محاولة جادة وجهد أصيل لتجديد الشيوعي السوداني وتطويره وجعله أكثر ديموقراطية لا يواجه السلفية الماركسية وينهي المركزية الديموقراطية ويستبدلها بشكل تنظيمي أكثر مواكبة للعصر والخبرات المكتسبة... مصيره الفشل التام" ، فقناعة صديق تقوم على فكرتين أولهما: أن الحزب يسعى منطلقا من ماركسية سلفية ، وثانيهما أن الديمقراطية المركزية بنية سيئة يجب التخلص منها، لاستقبال ما يعتقده نجاح عملية تجديد الحزب . وفى كتاباته الصحفية اللاحقة يقوم صديق بمهاجمة ( لنقل تجاوزا نقد) الخط ألسياسي ، يرغب في تغيره ، ورصد معالجة سلبية ضد المركزية الديمقراطية يرغب في إلغائها أو إلقائها على قارعة الطريق. وهنا أعالج هذه الدعوى الأخيرة ، التي تطرح مقدمة نقدية للمركزية الديمقراطية بغرض تقديم " بديل أكثر تقدما منها".

ابتدأ صديق بإيراد نص يحدد مفهوم الحزب الشيوعي السوفيتي في مؤتمره العام المنعقد في 1986 للمركزية الديمقراطية . ويبدو إيراد النص الانجليزي غير مرتبط بمناقشة صديق، ذلك المؤتمر المشار إليه هو المؤتمر السابع والعشرين للحزب السوفيتي ، وبالطبع عقد قبله (ستة وعشرون ) مؤتمرا ، فهل هذا النص ، والمفهوم المسجل فيه للمركزية الديمقراطية ظل ثابتا طوال هذه السنين ؟ طوال هذه المؤتمرات ؟ هل هو نفس النص ونفس المفهوم الذي أجازه المؤتمر في 1906 . ويبقى السؤال المنطقي لماذا لم يورد نصا يخص الحزب الشيوعي السوداني وهو المقصود والمطالب بالتخلص من المركزية الديمقراطية ؟

تاريخ و حقيقة المفهوم في التجربة الروسية
يقول صديق أن الحزب وفى نقاشه لمسالة المركزية الديمقراطية في المؤتمر الثالث تأثر بمناخ الحريات الذي حققته ثورة 1905 ومارس الحزب ديمقراطية واسعة في حياته الداخلية ، على عكس ظروف الحياة السياسية عندما كتب “ما العمل؟“ في 1902. فقد اتسمت تلك السنين بالقمع المفرط ، ويستنتج صديق: "وقد انعكس ذلك الواقع المفرط في قمعه على الكتاب وعلى أطروحاته التي دعمت المقولات الأساسية للكتاب" ، وهذه جملة مطلوقة على عَواهِنِهِا تضيع منها الإبانة ، لا يظهر الربط بينها والمركزية الديمقراطية ، إلا إذا رغب في ربط " ما العمل؟" بالمركزية الديمقراطية ( وهى الخرافة الواسعة الانتشار) ، والذهاب إلى الاستنتاج أن ظروف القمع التي انعكست على المقولات الأساسية ، قلصت مساحة الديمقراطية في الحياة الداخلية للحزب . وهذه مسالة أخري غير صحيحة يذكرها صديق بتساهل ، فلم يذكر كتيب " ما العمل؟" موضوعة المركزية الديمقراطية بأي درجة من التناول على الإطلاق .
.

كذلك لم يذكر "ما العمل؟" اللجنة المركزية إلا لكى يحدد إنها لم تخلق بعد فقد ذكر في الكتيب " وتصوروا من ناحية أخرى الانتفاضة الشعبية. يتراءى لنا أن الجميع يوافقون اليوم على ضرورة التفكير بها والاستعداد لها. ولكن كيف نستعد؟ أترى يجب أن تعين اللجنة المركزية عملاء في جميع النواحي لتحضير الانتفاض؟! ولكن اللجنة المركزية، إن كانت موجودة عندنا، لا تستطيع أن تبلغ شيئا في الظروف الروسية الراهنة عن طريق مثل هذا التعيين. وعلى عكس ذلك شبكة العملاء التي تتألف من تلقاء نفسها في العمل على تنظيم وتوزيع الجريدة العامة، فهي لن «تنتظر مكتوفة الأيدي» شعار الانتفاضة، بل ستقوم على وجه التحقيق بعمل منتظم يضمن لها أكبر إمكانيات النجاح في حالة الانتفاض.” ( لينين ، ما العمل ، ص 101) . ليس لكتاب ما العمل أي صلة بمصطلح المركزية الديمقراطية ولا باللجنة المركزية !

موقف لينين من المركزية الديمقراطية
في العنوان الجانبي "تحليل المركزية الديمقراطية" يكتب صديق في خلاصته :” المركزية الديمقراطية هي جزء أصيل وأساسي من الإسهامات التي أضافها لينين للماركسية حول نظرية الحزب وتنظيمه. ونبعت وتطورت من خلال الممارسة النضالية (...) في مقاومة الحكم القيصري المطلق" . ويقول : “ لكل ذلك أصبحت المركزية الديمقراطية، كما نعرفها ومارسناها، نبتا سوفيتيا ترعرع مع تطور الحزب والدولة واختراعا لينينيا أصيلا. ويجب النظر لها بهذا الفهم وفي سياقه التاريخي.” . وهذا تقرير يخالف الحقيقة التاريخية بشكل صارخ ومن عدة وجوه.

فقد دخلت عبارة 'المركزية الديمقراطية' إلى قاموس الحزب في نهاية عام 1905 وليس قبل ذلك، فقد تأسس الحزب الديمقراطي الاشتراكي الروسي في 1890 ـ وكان ألمناشفه أول من عبر عن عن ذلك في قرار اتخذه مؤتمر عقد في بتروغراد في نوفمبر. وشدد القرار على ما يلي:يجب تنظيم حزب العمال الديمقراطي الاشتراكي الروسي وفقًا لمبدأ المركزية الديمقراطية. وبعدها في ديسمبر في نفس السنة عقد ألبلشفيك مؤتمرهم في مدينة تمبرى ( فلندا) واتخذوا قرارا مماثلا، لينص نص القرار على الأتي : "وإذ يدرك المؤتمر أن مبدأ المركزية الديمقراطية لا يقبل الجدل، فإنه يرى أن التنفيذ الواسع النطاق للمبدأ الانتخابي ضروري؛ ومع منح المراكز المنتخبة صلاحيات كاملة في مسائل القيادة الأيديولوجية والعملية، فإنها في الوقت نفسه عرضة للعزل، ويجب أن تحظى أعمالها بدعاية واسعة النطاق، ويجب أن تخضع للمساءلة الصارمة عن هذه الأنشطة.” ثم وجدت كنص في دستور الحزب بعد مؤتمر الوحدة بين المنشيفيك والبولشيفيك في ابريل 1906، فهي ليست "هي جزء أصيل وأساسي من الإسهامات التي أضافها لينين للماركسية حول نظرية الحزب وتنظيمه" كما كتب صديق ، ولعله كان سيكون مصيبا( نوعا ما) لو نسب فضل إضافتها في الدستور للسيد جوليوس مارتوف ، زعيم ألمنشفيك .

لم يخترع لينين المركزية الديمقراطية.
تجدر الإشارة إلى أنه إذا ولد الاسم (المركزية الديمقراطية) في عام 1905 ، فإن هذا الشيء (المفهوم السياسي التنظيمي) كان موجودا بالفعل في القرن الماضي. لقد كان ، في الواقع ، مفهوما قدمه ماركس وإنجلز في الأممية الأولى ، في المعركة ضد باكونين وفيدرالية الأناركيين ، عندما تمكنوا ، بعد كوميونة باريس (و شكرا لدروسهم التي انتجتها هزيمتهم) ، من إنهاء المعركة الطويلة حول رسم حدود الماركسية التي انخرطوا فيها ضد جميع التيارات الأخرى للأممية و "وضع حد لاتفاقات ساذجة لجميع التيارات" فى محاولة - وأخيرا - لبناء أممية "شيوعية بحتة" قائمة على الماركسية [8]. كان مفهوم حزب العمال المركزي ديمقراطيا ، وهو أداة لا غنى عنها للاستيلاء على السلطة ، في الواقع نقطة ارتكاز لجميع القرارات التي تمت الموافقة عليها في مؤتمر لندن (سبتمبر 1871) وفي مؤتمر لاهاي الذي أثبت ، بعد عام ، الحاجة إلى أممية مركزية ، تقوم على أساس الانضباط الصارم واحترام مبدأ الأغلبية. أثارت هذه القضايا القطيعة مع الأناركيين الذين جادلوا ضد "استبداد" ماركس ، ليس فقط لأنهم رفضوا برنامج ديكتاتورية البروليتاريا (شئ في الواقع "استبدادي" جدا لأنه تم الفوز به بالحراب والمدافع ، كما قال إنجلز مازحا) ، ولكن أيضا بسبب رفضهم (مع بعض الاتساق الذي يجب الاعتراف به) الحزب المركزي الذي كان (ولا يزال) الفرضية التي لا غنى عنها.اللمصدر

وتجربة لينين مع المركزية الديمقراطية إنه استخدم المفهوم وليس المصطلح وصقله داخل الحزب البلشفي. المركزية الديمقراطية مبدأ يجمع بين المناقشة الديمقراطية ومركزية صنع القرار، كانت موجودة في وقت سابق داخل الفكر الاشتراكي – كما توضح الفقرة السابقة- والأحزاب الديمقراطية الاشتراكية الأخري في أوروبا، وبالذات في تجربة الحزب الألماني. وشدد لينين على تطبيقه لكنه لم يخلقه. وتركزت مساهمته وتركيزه على قيادة مركزية تحكم حياتها ممارسة ديمقراطية داخلية راسخة .

وشدد لينين على الحاجة إلى هيكل حزبي مركزي ومنضبط، لكنه دعم أيضًا النقاش الداخلي والنقد، وهو ما كان واضحًا في الفكر الماركسي والتجربة التي سبقته ، ومنها تجربة التنظمات الحزبية التي تأثرت به. و قد تركزت مساهمته على استهداف تحقيق وضمان الوحدة في العمل مع السماح – بل توقع - تنوع الآراء داخل الحزب. جمعت المركزية الديمقراطية كمفهوم ، وبعدها كنص، في عهد لينين في ممارستها ، بين عناصر المناقشة المفتوحة والوحدة في تنفيذ القرارات. لقد رأى لينين صبح الثورة يلوح ، سعى – مع رفقته النضيرة - لإنجاز ذلك الهدف النبيل، ولم تكن وسائلهم وضيعة ، فهي لا تنجز الأهداف النبيلة ، لا تنجز الثورة.
يعلق المؤرخ الكندي كارتر إلوود قائلاً: “ربما كان القرار الأكثر إثارة للاهتمام من بين القرارات المنشفية [في نوفمبر 1905] يتعلق بـ”المركزية الديمقراطية”. وهذا المصطلح الذي يرتبط عادة بمبادئ لينين التنظيمية المتأصلة في كتاب ما العمل؟ (1902) ويعتبر مساهمته الرئيسية في النظرية التنظيمية للحزب، ولم يستخدم في الواقع من قبل لينين نفسه أو من قبل البلاشفة في قراراتهم الخاصة قبل هذا المؤتمر [ألمناشفي]”. المصدر

في المرجع أعلاه ، يحدد الكاتب انه بحث في استخدامات لينين لصيغة المركزية الديمقراطية بعد مؤتمر تيمبرى في 1905 . وحدد فترتين باستشارة الأعمال الكاملة للينين، الفترة الأولي 6–1907 والثانية 20-1921. بين هاتين النقطتين، وجدت مثالًا واحدًا بالضبط (في سياق غريب ورائع موضح أدناه). في كل من هاتين الفترتين، كان استخدام لينين لهذا المصطلح مدفوعًا بالمجموعات التي كان يعارضها: المناشفة في 1906-1907 ومجموعة (تكتل) المركزية الديمقراطية في عام 1920. ولم نجد في أي من الفترتين أي تناول منهجي لمعنى المصطلح. فقد استخدمها لينين بشكل عابر لتوضيح نقاط معينة. وبين الفترتين وجد الكاتب أن لينين استخدمها مرة واحدة فقط في خطاب كتبه لينين بالانجليزية ، موجها لمنظمة أمريكية ، وفى الخطاب وردت المركزية الديمقراطية كاستخدام وحيد لها في الفترة بين 1907 و1920 .(…) بعد صيف عام 1920، استخدم لينين هذا المصطلح في العديد من المناقشات والمناظرات التي نشأت استجابة للتحديات الجديدة وغير المتوقعة للعمل كحزب حاكم.( المرجع السابق)
فكرة أن لينين اخترع فلسفة تنظيمية لبناء الحزب ( أي المركزية الديمقراطية) هي مجرد ميثولوجيا ، لا زالت تجد من يرددها ، مثلما يفعل صديق الزيلعى هنا. يفيدنا في حسم هذه الموضوعة هنريك كانرى ( Henrique Canary) حيث يكتب أن أول استخدام للمصطلح من قبل ظهر في كتابته لورقة" البرنامج التكتيكي لحزب العمال الديمقراطي الاشتراكي الروسي ". ويرد : " ويبدو أن هذه كانت اللحظة التي أثبت فيها المفهوم نفسه بشكل نهائي باعتباره التوليف الجدلي بين العناصر المركزية والديمقراطية في الحزب. حتى ذلك الحين، ظهرت هذه المبادئ الأولية للنظام البلشفي بمعزل عن بعضها البعض، وفي مواد مختلفة، مع التركيز في كل حالة على جانب واحد أو آخر من جوانب النظام، دون أن تشكل بعد تركيبًا أعلى. عند تحليل المواد قبل عام 1906، نجد مصطلحات مثل 'المركزية'، و'الانضباط'، و'المبدأ الاختياري'، و'المبدأ الديمقراطي'، و'المركزية البيروقراطية'، و'المركزية الصارمة'، و'الديمقراطية'، وما إلى ذلك، استخدمها لينين، ولكن لم يستخدم أبدًا مصطلح المركزية الديمقراطية. و 'المركزية الديمقراطية' في استخدامه عند لينين تبدو أنها تشير إلى تطور ليس فقط في المصطلحات ولكن أيضًا في محتوى المفهوم ذاته. لقد كان مختبر لينين الدماغي يعمل بكامل طاقته!”. وكما قلت أن ربط لينين بالمركزية الديمقراطية في طرح صديق اتى على سبيل التكرار السهل لفكرة مشهورة خاطئة ، بدون حذر وانتباه نقدي مطلوب .

ويؤكد الكاتب في المرجع نفسه : "يجب علينا أن لا ننظر في "ما العمل" ؟، ولكن في كتاب آخر للينين ، للوقوف على الجدل حول مسألة التنظيم الحزبي: وهو كتاب "خطوة إلى الأمام ، خطوتين إلى الوراء”. صدر عام 1904 ، وفيه يلخص لينين نتائج مؤتمر عام 1903 الشهير الذي انتهى بالانقسام بين البلاشفة والمناشفة ، كان ذلك (وفقا لكلمات لينين وكانون ، في خلاف مع بوشيوني) الولادة الحقيقية للحزب البلشفي.

في هذا الكتاب المهم ، الذي هو للأسف غير معروف جيدا ، هناك مساحة واسعة للجدال في الدفاع عن نظام مركزي صارم ، و عن الانضباط ، ومبدأ الأغلبية ، وخضوع الجزء للكل ، أي القسم المحلي للأقسام الوسطى وللهيئات المنتخبة من قبل المؤتمر العام ، كل مناضل فردي للحزب ككل ، والأقلية للأغلبية.

كان لينين متصلبا ضد "العقلية الفردية والفوضوية" النموذجية للبرجوازية الصغيرة: العمال ، كما يؤكد ، ليسوا خائفين من انضباط المنظمة. بالنسبة لأولئك الذين يتهموه بتصور للحزب "كمدير لمصنع تمثله اللجنة المركزية" ، يجيب لينين، " المصنع ، الذي يبدو بالنسبة لبعض الناس أنه مجرد فزاعة ، يمثل أعلى شكل من أشكال التنظيم الرأسمالي الذي وحد البروليتاريا و حقق انضباطها ، والذي علمها تنظيم نفسها."يتابع: بالنسبة للبعض ،" التنظيم الحزبي الذي نرغب فيه هو "مصنع وحشي" في تصورهم ; يبدو فيه خضوع الجزء إلى الكل والأقلية إلى الأغلبية يبدو لهم 'كعبودية.’” المصدر هنا

isamabd.halim@gmail.com

 

آراء