من الذي اختطف المسجد؟

 


 

فتحي الضو
19 July, 2017

 


دأب المدعو محمد علي الجزولي، الترويج لخطبة الجمعة التي يُلقيها أسبوعياً على مسامع المُصلين، في أحد مساجد ضاحية (الجريف شرق) بالإشارة مسبقاً إلى عنوانها ومضمونها عبر الوسائط الإعلامية المختلفة، والذي غالباً ما يكون موضوعاً سياسياً. فعلى سبيل المثال كان عنوان خطبة الجمعة الماضية (العالم دون أمريكا الفرعونية أكثر أمناً وكرامة) وعلى نسق هذه الشاكلة من الأحاجي، بات يتمادى في إلقاء ترهاته، دون رقيب أو عتيد في الدولة الفالتة. ولكن يجدر بنا قبل الخوض في متن هذا المقال، أن نعرِّفه للذين لا يعرفونه. فقد درج البعض على مناداته بالشيخ تبركاً وبالدكتور افتراءً. لكنه في تقديرنا - وكما سيعلم من لم يعلموا لاحقاً دون تجنٍ – أنه أحد ظواهر عصر الانحطاط الأخلاقي والديني، الذي رُزئنا بها في العقود الثلاثة الحالكات، من حكم العصبة ذوي البأس المتسلطة على رقاب أهل السودان.
(2)
الجزولي ظاهرة برمائية كما بعض الزواحف، ظهر بغتةً في الدولة السائبة مع تصاعد فورة الهوس الديني في العراق والشام (داعش) كما يسمونها، أخذته العزة بالإثم فلم يكتف بمساندتها قولاً، بل مضى فعلاً في استغلال منابر المساجد التي يخطب فيها، بإعلان مبايعته لموتور ادّعى الخلافة واسمه أبو بكر البغدادي. ونصَّب الجزولي نفسه بعدئذٍ أميراً ضمن منظومة سدنتها. وإمعاناً في إيذاء أبصار وبصائر الخلق، اعتمر العمامة السوداء التي سودت على الناس دينهم وديناهم. ثمَّ شرع يتباهى بها من فوق تلك المنابر المخطوفة، وطفق يلقي عليهم قولاً ثقيلاً، يتعمد فيه استدرار العاطفة السودانية ممزوجة بخزعبلات، لا أرضاً قطعت ولا ظهراً أبقت منذ أفول دولة القرن الرابع الهجري.
(3)
عندما سالت الدماء مدراراً في تلك البقعة الجغرافية من العراق والشام، والتي كانت تمظهراً لالتئام التاريخ في ما حدث إبان الدولة الأموية والعباسية، بدأ الناس الطيبون يتحسسون رقاب أبنائهم وبناتهم من الشباب اليفع، الذين هَرَبوا أو هُرِّبوا إلى الجحيم. والمُوسي أنه بعد أن استبان الناس ضحى الغد، باتوا في حيرة من أمرهم، وكأنهم لا يعلمون أن ضحاياهم هم ضحايا السلطة الغاشمة والماثلة بين ظهرانيهم، وأنها أول من دشن وتفنن في تصدير الإرهاب منذ زمن مبكر. ليس هذا فحسب بكل ظلَّت تعمل جاهدة وعلى مدى وجودها في السلطة، على إنتاج شذاذ آفاق أمثال محمد علي الجزولي وصحبه. وهل في ذلك قسم لذي حجر يا قوم؟ ألم يصوغوا الأشعار والأهازيج التي تُمني النفس، بما لعين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
(4)
السلطة الفاجرة والسادرة في غيها وجبروتها والمجبولة أصلاً على ترويج الأكاذيب، باتت تلقي باللائمة على الآخرين، لكي تصرف الأنظار عن فسادها الذي أزكم الأنوف، وعن استبدادها الذي طغى في البلاد، ولكي تقول لهم أيضاً، إن هذا وذاك هو محض تخيلات المتربصين والذين في قلوبهم مرض. ولكن عندما اشتد وثاق الأنشوطة حول رقبتها بالأدلة والبراهين، بدأت تتصنع البراءة بالتبروء من الجزولي وصحبه درءاً للشبهات. وحتى تستقيم أحابيلها، ألقت به في المعتقل. ظناً منها أن هذا المَكر، يمكن أن يصرف الأنظار عن سوء ما زرعته في الأرض الطاهرة. ولكن ما عسانا نفعل في زمن الأنبياء الكذبة وبهلوانات عصور التردي الأخلاقي، فقد عاد الجزولي وصحبه إلى شباك الغرفة التي تصنعوا مغادرتها بالباب، فتامل!
(5)
في واحدة من خُطب الجزولي المبثوثة على اليوتيوب جزافاً، والتي يُساند فيها عصبة (داعش) كفاحاً. ذرف دمعتين من على المنبر – كشأن رفاقه – حينما يزمعون استدرار عطف المُصلين الصابرين على الأذى والذين يستمعون جبراً لأوهام لا سبيل للرد عليها، نظراً للديكتاتورية التي يمارسها الجزولي ورهطه على منابر المساجد. في تلك الخطبة البتراء استَّل المذكور حديثاً دموياً من بطون الكتب الصفراء، وقال إنه يمثل لديه فتوى، أي على الناس اتّباعها. وفحواه أن الرسول الكريم قال لمن سأله عن قتل من سماهم الكفار، أجاب ليسوا وحدهم بل يجوز قتل نسائهم وذراريهم. والذراري لمن لا يعلمون هم الأطفال، الذين يوردون حياتنا ببراءتهم ويلونونها بجمال نفوسهم. أصدقكم القول يا قرائي الكرام، إنني كل ما شاهدت هذا الفيديو، تواردت لمخيلتي صورة (دراكولا) أو مصاص الدماء، التي شاهدناها كثيراً في دور السينما، وبات عليّ عصياً أن أفرق بين المشبه والمشبه به. وإلا فقل لي بربك الذي خلقك فسواك فعدلك، أي دين هذا الذي يدعو لامتصاص دماء البشر؟
(6)
حينما تململ المغلوبون على أمرهم، ورفعوا حواجب الدهشة جراء ما صنع الجزولي وأعوانه، اهتدوا إلى أن ثمة منظمة تقوم بتحشيد وتجنيد وتسفير الشباب اليفع لمناطق الحرب، وأن تلك المنظمة يقف على رأسها المدعو الجزولي نفسه. ليس هذا فحسب، ولكنها تنشط في أروقة جامعة العلوم الطبية لصاحبها مأمون حميدة، أحد دهاقنة المرابين الكبار في منظومة الدولة السنية. وحينما تواترت الأخبار وعمّتَ البوادي والحضرـ ادّعت سلطة (الثلاثة ورقات) اعتقال الجزولي، ريثما تهدأ خواطر المكلومين. وهنيهة ظهر المُعتَقل مرة أخرى وهو يمارس ادّعاءاته التي يفترض أنه سُجن بسببها، ولا عزاء لأسر الشباب اليفع الذين راحت دمائهم هدراً!
(7)
إن استغلال الجزولي ومن شايعه، منابر المساجد للحديث فيها عن مواضيع سياسية جدلية، يعد انتهاكاً صريحاً وتغولاً مريعاً على حرية الإنسان السوداني في الرأي والتعبير، وهم لا يستطيعون الرد من على ذات المنابر. وتبعاً للواقع السياسي السوداني فهي تعضد الدعوة لضرورة فصل الدين عن السياسة، وطبقاً للتعدد الثقافي السوداني أيضاً، فإن التمادي فيها يضعها في مصاف الفتنة الدينية التي لن تبقي ولن تذر. ونحن على الرغم من قتامة الصورة التي نراها جميعنا، فما نزال نؤمن بيقظة الحادبين والحريصين على تخليص هذا الوطن من براثن الهلاك التي يقوده إليه الجزولي وقومه. ففي ظل الغيبوبة الدينية التي أطبقت على خناقنا - ذلك بالطبع ما جنيناه من الدولة الغاصبة - التي لم تنتهك الحريات فحسب، وإنما افترى سدنتها على الله كذباً، فسرقوا مساجده، وادّعوا أنهم مبعوثو العناية الإلهية لإخراجنا من الظلمات إلى النور. وكأنهم لا يعلمون أنهم الكاذبون والمنافقون والفاسدون والآمرون بالمكروه والناهون عن المعروف.
(8)

إن السياسة في واحدة من مفاهيمها التجريدية، تعني الحوار الذي يفضي إلى ما ينفع الناس في دنياهم، لكن ما يفعله الجزولي وقومه هو خلط للسياسة بالدين، وهو خلط لا يؤذي السياسة وحدها بالافتئات على حرية الرأي التعبير في ظل ديكتاتورية المنابر، ولكنه يؤذي الدين نفسه. إذ كلنا يعلم أن العقائد مقدسة، والخوض بها في بحور السياسة لن يوفر لها القداسة والاحترام المطلوبين. فالسياسة لا تعرف التابوهات ولا الخطوط الحمراء ولا الممنوع والمرغوب، في حين أن الدين كله عظات وعبر، وعبادات مفروضة، يتبعها حساب وعقاب. ثمَّ من ذا الذي يعطي الحق للجزولي أو أي خطيب يعتلي المنابر، ليتحدث في شئون الناس السياسية ويلقي عليهم كوارثه وهم صاغرون، في الوقت الذي قد يكون بين المستمعين أنفسهم، من هو أجدر وأكفأ منه، بل قد يكون أفضله علماً وفهماً لقضايا السياسة.
(9)
أيضاً، إذا كان الحديث حديث سياسة كما يسرح ويمرح الجزولي وغيره، فأي دين هذا الذي يجعلك تتحدث عن الخطأ والخطايا في بلدان الغير، وتغض الطرف عما يجري من حولك. حيث أصبح القتل هواية الحاكمين، وحيث صار الفساد دينهم القويم، وحيث باتت الانتهاكات الصارخة لكل حقوق الإنسان تجري على قدم وساق. أليس هذا هو الدين الذي يأمر الناس بالجهر بكلمة الحق في وجه السلطان الجائر؟ أليس هذا هو الدين الذي يدعو الناس لإعلاء قيم التسامح وأنتم تأججون الفتنة؟ أليس هو الدين الذي يحض على العدل والمساواة بين الناس وأنتم تفرقون بينهم طمعاً في دراهم الحكام؟ لقد أقبل السودانيون على دين الله أفواجاً بفطرة جُبلوا عليها، اعتنقوه رضىً ومحبة وقناعة، لم يبعث الله لهم رسولاً ولا نبياً، فما بال الهولاكيون الجدد الذين هبطوا علينا في القرن الحادي والعشرين، يريدون أن يرجعوا بنا القهقري؟
(10)
نعم لقد اختطف الجزولي وعصبته المساجد وانتهكوا حرمات المنابر، تعالوا نتواصى من أجل هذا الوطن الرؤوم ومستقبله، فينبغي أن تكون الدعوة إلى فصل الدين عن السياسة هي بوابة الخلاص من براثن الوحوش المتربصة به. وهي دعوة حق يسندها المنطق القوي والحجج الدامغة. ولتكن خطوة أيضاً من أجل إدراك الدين نفسه من الذين نصبوا أنفسهم أوصياء عليه. وكأنهم لا يعلمون أن أباطليهم وافتراءاتهم، جعلت الكثيرين يفرون منه فرار الصحيح من الأجرب. فمن ذا الذي يمكن أن يقبل عليه حكماً بعد هذه التجربة المريرة؟ يا هؤلاء.. من أجل مساجدنا التي اختطفت، ومن أجل أخلاقنا التي انتهكت، ومن أجل كرامتنا التي سلبت، ومن أجل وطن كاد يتسرب من بين أيدينا كما الماء من بين ألاصابع... حلِّوا عن سمائنا.
فلكم دينكم ولنا دين!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر
faldaw@hotmail.com

 

آراء