لا يعتبر قسم الموضة في صحيفة "النيويورك تايمز" من المنصات الاعلامية التي يتم اللجوء اليها عادة بحثا عن أخبار السودان. فهذا عالم مختلف تماما شكلا وموضوعا. لكن فانيسيا فريدمان محررة قسم الازياء في الصحيفة وجدت في صورة الشابة الاء صلاح، التي أعتبرت أيقونة للثورة بصورتها التي انتشرت وهي تهتف، انها من نوع الصور التي تختزل التاريخ في لحظة مفعمة بالمعاني. وكان أن تناولت قرط الاذن والثوب الذي كانت تلبسه مستخدمة كلمة "ثوب" باللغة الانجليزية مع وضع لخلفية استخدام الثوب في السودان خاصة بين العاملات والطالبات والاسر، وان في عودته بعد أختفاءه في عهد الانقاذ مؤشر الى بداية جديدة .
ذلك المقال لم يكن الوحيد الذي فرض على بعض وسائل الاعلام الغربية المؤثرة التعاطي مع الشأن السوداني. فالقائمة تتمدد شاملة مواقع ومطبوعات عامة ومتخصصة، من أصدرات محلية الى أخرى دولية مرتبطة بمراكز أبحاث وأهتمامات بالشؤون الخارجية والاستراتيجية بل وحتى مقدمي البرامج الكوميدية أمثال تريفور نوح وحسن منهاج كانت لهما مشاركتهما. هذه الوسائل الاعلامية لم تبخل بفتح مختلف أقسامها من صفحات الرأي الى الاخبار والمقابلات والتحقيقات الصحافية المعمقة، بل ان الامر وصل الى تخصيص أفتتاحية بأسم بعض الصحف لتناول قضايا الثورة السودانية مثل صحيفة "الواشنطون بوست" التي نشرت أفتتاحية بأسم هيئة التحرير، وهو ما يعطيها ثقلا اضافيا عقب ازاحة الرئيس السابق عمر البشير عن السلطة. ويلفت النظر في تلك الافتتاحية انها أختتمت بنصيحة للرئيس دونالد ترمب قائلة: "يجب أن يتعلم الرئيس ترامب درسًا أيضًا. إن ما حدث في الجزائر والسودان يدل على أن دعم إدارته الأعمى للمستبدين العرب الآخرين، بمن فيهم عبد الفتاح السيسي في مصر ومحمد بن سلمان في السعودية، هو رهان سيء" كما يلفت النظر انها نشرت ترجمة عربية لتلك الافتتاحية مما يشير الى اهتمامها بأيصال صوتها الى قطاع أكبر من الناطقين باللغة العربية. وعادت بعد فض الاعتصام لتتحدث في أفتتاحية أخرى عن أختطاف فرصة بدء بدء المسار الديمقراطي في السودان وتلقي باللائمة على الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة التي أثرت الاكتفاء باصدار البيانات فقط.
وهناك أيضا جانب التحقيقات والتغطيات الاخبارية التي غطت وبعمق مختلف جوانب الثورة السودانية ويمكن الاشارة تحديدا الى ثلاثة جوانب لقيت أهتماما متزايدا: تناول الدور المتعاظم الذي تلعبه السعودية والامارات ومصر وغض ادارة ترمب النظر عن تحركاتها تلك رغم استهدافها لأي تحول تحول ديمقراطي في المنطقة. ويرد هنا ما نشره موقع "دايلي بيست" في الخامس من يونيو وتحدث فيه عن أجتماع في واشنطون لبحث الوضع في السودان حضره القائم بالأعمال الامريكي في الخرطوم ديفيد كوتسيس الذي اعطى اشارات متناقضة عما يحدث وان المجلس العسكري لا يمكنه تسليم السلطة ببساطة الى المدنيين، كما لم يخف حقيقة مشاعره بالقول ان على واشنطون ان تتحالف مع ثلاثي الرياض وأبوظبي والقاهرة في الشأن السوداني وتساءل أمام المجتمعين اذا كانت لواشنطون مصالح مختلفة عما لدى الثلاثي. وقالت الصحيفة ان الصمت ران على المجتمعين في القاعة قليلا ثم رد جوني كارسون الذي عمل من قبل مساعدا لوزير الخارجية للشؤون الافريقية ان مصالح الولايات المتحدة تتمثل في الديمقراطية، وحقوق الانسان والحكم الرشيد وسيادة القانون.
وهناك أيضا جانب التحولات الاجتماعية الذي أبرزته الثورة وحظي بتغطيات عديدة مثل الدور الرئيسي للشباب والمرأة وذلك في أنعكاس لحالة انسداد الافق أمام هاتين الفئتين أبان عهد الانقاذ من خلال ضيق فرص العمل والقيود التي تحد من الحركة خارجيا بسبب صعوبة الحصول على تأشيرات للهجرة وقانون النظام العام الذي أستهدف النساء بصورة خاصة.
مجلة مثل "الايكونومست" أو تلفزيون "البي.بي.سي" بخدمتيه باللغتين العربية والانجليزية وجداها فرصة سانحة لتغطية الجانب الفني في الاعتصام من خلال الحديث عن وعرض اللوحات والجداريات التي رسمها بعض الفنانين من المعتصمين توثيقا وتخليدا للحدث.
من الاستعراض السابق يتضح بصورة جلية أن ثورة ديسمبر- أبريل لقيت تغطية أعلامية عالمية لم تتهيأ للسودان من قبل وكانت في مجملها تغطية أيجابية. وهذا ما يؤكد على بعض النتائج الاساسية لهذه الثورة: ان الفعل داخل السودان هو الذي يلفت الانظار. واذا كان أحد أهداف العمل السياسي كشف النظام وتحديه فأن العمل في الداخل يمكنه تحقيق نتائج أفضل وأسرع وأشمل كما هو واضح في التغطية الاعلامية المكثفة للثورة.
الخلاصة الرئيسية الثانية انه مع التفهم لخيار حمل السلاح الذي لجأت اليه بعض المجموعات المعارضة ودوره في أجهاد نظام الانقاذ في فترة ما، الا انه من الواضح أن الحراك السلمي كان له القدح المعلى في التغيير الذي حدث مؤخرا، وأن التأكيد على هذه الحقيقة جاء عبر توقيع كلا من الحركة الشعبية – شمال – جناح عقار وحركتا دارفور بقيادة جبريل أبراهيم ومني مناوي على اعلان الحرية والتغيير الذي يعلي من خيار العمل السلمي.
وهذا الاعلاء لشأن الخيار السلمي للمعارضة على حساب اللجوء الى البندقية يصب في صالح المستقبل الديمقراطي للتجربة. فالعنف قد يقضي على أي نظام قمعي لكنه قطعا ليس الطريق الافضل لبناء مؤسسات ديمقراطية.
أسهمت هذه التغطية الاعلامية في اعادة تعيين دونالد بووث مبعوثا الى السودان، وهي خطوة موفقة لآن واشنطون فضلت أيكال الملف الى شخص يعرف دقائقه ولا يحتاج الى دراسته من البداية، اذ كان بووث من مسؤولي مكتب السودان أبان انتفاضة 1985 كما عمل سفيرا في ليبيريا في الفترة الصعبة التي شهدت انتقال البلاد من الحرب الاهلية الى السلام والتحول الديمقراطي كما عمل في أثيوبيا المهتمة بما يجري في السودان بحكم جيرتها ورئاستها لمنطمة الايقاد التي تتولى الوساطة في القضية السودانية. وبووث لا يتردد في طرح رأيه بصراحة كما فعل في أخر لقاء له في معهد السلام الامريكي قبيل مغادرته منصبه اذ أنتقد الحركة الشعبية على تعطيلها لمشروع ايصال الاغاثة الى المناطق التي تسيطر عليها لخلافات حول بعض الشروط مع الخرطوم .
على ان أهم من ذلك ان تعيين بووث مؤشر الى متغيرات في نظرة واشنطون الى السودان. فلفترة طويلة ظلت الادارات الامريكية المتعاقبة تتعامل مع السودان وكأنه قضية داخلية وذلك بسبب طغيان ثلاث مجموعات من اللوبيات: تلك المهتمة بحقوق الانسان، والمسيحيين الجدد والامريكان من ذوي الاصول الافريقية اذ ظلت مشغولة باستمرار الحرب الاهلية وتداعياتها. فعقب دخول جورج بوش الابن البيت الابيض ببضعة أسابيع التقى وفد من المسيحيين بمستشار بوش السياسي كارل روف وطلب منه العمل على الاهتمام بالمسيحيين في جنوب السودان. روف الذي يعرف أهمية الصوت الانتخابي للمجموعات المسيحية وعدهم خيرا. أهتمت الادارة بالامر وقامت بالاتصال بالديبلوماسي المخضرم شستر كروكر لتولي مهمة المبعوث الخاص للسلام، لكنه أشترط حمايته من ضغوط اللوبيات ولم يوافق بوش، وكان ان ذهب المنصب الى جون دانفورث الذي دفع بأتجاه تحقيق تسوية من خلال اتفاقية السلام الشامل، كما حافظت أدارة أوباما على نفس الزخم حتى تحقق انفصال جنوب السودان ثم أنزلقت الدولة الجديدة الى مشكلات بلغت قمتها بالحرب الاهلية، الامر الذي خفف من الاهتمام الامريكي بما يجري في البلدين، وهو ما بنت عليه أدارة ترمب وقامت بأطلاق يد القوى الاقليمية خاصة الامارات والسعودية ومصر في تناول الملف السوداني، وذلك في أطار ميل أدارة ترمب العام الى التعامل مع أنظمة لا تأبه كثيرا لقضايا حقوق الانسان والديمقراطية.
على ان أستمرار الثورة سلمية خلال فترتي الاعتصام والمجزرة التي تمت لفضه دفعت بالكثيرين الى العمل على العودة الى منصة القيم الامريكية من أحترام لحقوق الانسان، والتحول الديمقراطي وهو المجال الذي يمكن لوزارة الخارجية العمل فيه وأن يصبح صوتها مسموعا بصورة أفضل مما كان الامر عليه أبان فترة سطوة اللوبيات التي كانت تركز على تحقيق أنفصال جنوب السودان، رغم ان الديبلوماسيين المحترفين كانوا يرون ان الجنوب بتركيبته الاجتماعية والاقتصادية يبدو قابلا أكثر ليصبح دولة فاشلة اذا انفصل، وانه من الافضل للمصالح الامريكية دفع الحركة الشعبية الى تبني خيار الوحدة، الذي يمكنها من الحفاظ على سيطرتها على كل الجنوب والمشاركة في حكم الشمال وتخفيف غلواء الاتجاهات الاسلامية المتشددة لدى المؤتمر الوطني الى جانب أن واشنطون لن تكون مطالبة أخلاقيا بدعم الدولة الجديدة كما هو الحال مع الانفصال. لكن صوت اللوبيات وبكل تبعاته الانتخابية كان أعلى، وبالتالي جعل دور الخارجية هو الاضعف.
هناك بعض الكروت المهمة التي تملكها واشنطون خاصة تجاه السودان على رأسها موضوع الرفع من قائمة الدول الراعية للأرهاب ، الذي يمكن أن يفتح الباب أمام تطورات أقتصادية أيجابية مثل فتح الطريق أمام أعفاء الديون وأحتمال التفاعل مع جهود أثيوبيا الرامية الى تحقيق قدر من السلام في المنطقة. لكن في المقابل هناك أيضا الوضع الجيوستراتيجي للسودان الذي أبرزته الاحداث الاخيرة والعمل على تحقيق الاستقرار فيه ويمثل مصلحة أقليمية وأمريكية مباشرة خاصة في منطقة تشهد بروز بعض التيارات المتطرفة.
من ناحية أخرى فأن قدرات وزارة الخارجية تبدو محدودة في التأثير الفعال على محور الثلاثي السعودي، الاماراتي المصري لتواصلة مباشرة مع ترمب علما أن موقع بووث الجديد أقل وظيفيا من موقعه السابق اذ يتبع لمساعد الوزير للشؤون الافريقية تيبور ناجي، بينما كان منصب المبعوث سابقا يتبع لوزير الخارجية ويتم تعيينه بواسطة الرئيس. ثم ان وزارة الخارجية تعيش واحدا من أسوأ عهودها اذ تم تخفيض ميزانيتها بمقدار الثلث وتعاني الكثير في مواقعها القيادية والوسيطة من الفراغ لعدم قدرة أو رغبة أدارة ترمب في ملئها كما تشهد هجرة للكوادر المحترفة بسبب السياسات التي تتبناها الادارة الحالية و لا تلقى قبولا لدى العديدين، هذا الى جانب الضعف في قدرة الوزارة على جذب المؤهلين في سوق التنافس مع مؤسسات الدولة الاخرى مثل البنتاجون ووكالة الاستخبارات والقطاع الخاص، الامر الذي يجعل من الحكمة عدم وضع كل البيض في السلة الامريكية والعمل على الاستفادة من الوجود السوداني على الساحة الامريكية الذي يقدر عدده بنحو 44 ألفا، وفق تقديرات مجلس الاطلنطي، من خلال خطة راشدة للتعاطي مع سودانيي المهاجر.
وهذا ما ينقل النقاش الى عنصر التأثير الثاني وهو السعودية. فغداة غزوة الرئيس العراقي الاسبق صدام حسين الكويت أرسل الرئيس الامريكي جورج بوش الاب وفدا برئاسة وزير الدفاع ديك تشيني الى الرياض لاقناعهم بضرورة القبول بقوات أمريكية لحماية السعودية التي تشكل الهدف الثاني لحملة صدام. الوفد التقى الملك فهد وولي عهده الامير عبدالله وبعد ان شرح الامريكان الموقف أقترح الامير عبدالله على الملك فهد أن ياخذوا وقتا للتشاور، فأجابه فهد ان الكويتيين الذين أخذوا وقتا للتشاور يقيمون الان عندنا في الطائف ثم طلب من المترجم أن يشكر الوفد الزائر وانه سيتم الاتصال بهم لاحقا.
السفير الامريكي وقتها في الرياض شاس فريمان الذي يتقن العربية فهم من حديث فهد انه سيقبل باستدعاء القوات الامريكية وأبلغ تشيني بذلك، وهو ما حصل فعلا. فريمان من العروبيين القليلين في الخارجية الامريكية والتقيته في حوارات صحافية عديدة خلال فترته تلك ومما ذكره مرة انه سعى جاهدا الى لفت نظر السعوديين الى الاهتمام بما يجري عبر البحر الاحمر خاصة السودان، اذ تبدو جبهتهم الغربية مكشوفة، وانه رجع الى التاريخ ليشير الى حملة أبرهة على الكعبة والطير الابابيل وكذلك حملة ابراهيم باشا التي قامت بتحطيم الدولة السعودية الاولى. ومع بدايات عهد الانقاذ أغرت الخرطوم أسامة بن لادن بالهجرة اليها كما هرب أحد الطيارين بطيارته الى السودان. وأشتكي فريمان من انه ليست هناك جهة محددة للتعامل مع السودان وغيره وانه قام بأستقدام أحد كبار موظفي الشؤون الافريقية في الخارجية الامريكية للتباحث مع السعوديين، لكن كل ذلك لم يسهم في تغيير التركيز بالانشغال بالخليج والمشرق العربي خاصة القضية الفسطينية.
على غير العادة تحركت الرياض بسرعة للأعتراف بالتغيير السياسي الذي شهده السودان أخيرا. فبعد يومين فقط من أزاحة عمر البشير اصدرت السعودية بيانا يؤيد التغيير كما نسقت مع الامارات على تقديم دعم عاجل في حدود ثلاثة مليارات دولار تغطي أحتياجات أساسية من الوقود والقمح والادوية متضمنا مبلغ 500 مليون دولار توضع وديعة لدى بنك السودان.
أخيرا يبدو أن السعودية بدأت تلتفت للأهتمام بجبهتها الغربية ومن اشارات هذا الاهتمام تعيين الديبلوماسي أحمد القطان وزير دولة للشؤون الافريقية في مطلع العام الماضي، وهو منصب يستحدث لآول مرة. وفيما يتعلق بالسودان فأن للسعودية أربعة مشاغل أساسية: مساندتها في سياستها الحالية القائمة على مواجهة مفتوحة مع أيران وأستمرار السودان في توفير قوات برية للقتال في اليمن، الا يصبح السودان ملجأ لجماعات أسلامية متطرفة مضادة للسعودية خاصة في ضوء التحولات الاجتماعية والتحديثية الجارية هناك وتتصادم مع قناعات الكثيرين، الحفاظ على الاستثمارات السعودية خاصة في المجال الزراعي وفي جانبي الحكومة والقطاع الخاص مثل اتفاقية تخصيص مليون فدان في شرق السودان لمدة 99 عاما فرض البشير على البرلمان اجازتها بدون الكشف عن تفاصيلها. وبالنسبة للأمارات فأن السودان يوفر لها أكثر من ثلث احتياجاتها من العلف وازالة حكم الاسلاميين. وأخيرا هناك الانشغال بأحتمال أن ينجح السودان في أقامة نظام تعددي، برلماني يحترم حقوق الانسان ويسعى الى التحول الديمقراطي المؤسسي، الامر الذي يمكن أن يشكل نموذجا خطرا وضعا في الاعتبار حالة الاحتقان السياسي التي تعيشها السعودية وبقية الدول الخليجية.
ومن هنا التخوف من أن تلعب الرياض دورا سلبيا فيما يتعلق بالتحولات الجارية، وهي تخوفات مشروعة لكن ينبغي النظر اليها في اطارها الطبيعي وأن قدرة السعودية على الحركة تظل محكومة أيضا بظروفها الخاصة وأن الانشغالات المذكورة عليه يمكن تحييدها على الاقل أن لم يمكن تحويلها الى كروت لصالح السودان.
فالسعودية تعيش في واحدة من أكثر فترات حياتها عرضة للتقلبات والتحديات بسبب ثلاثة تطورات أساسية: أولها يتعلق بالسوق النفطية التي تلعب فيها الرياض دور البنك المركزي وبسبب دورها المحوري المتمثل في الاحتفاظ بطاقة انتاجية اضافية تتراوح بين مليون الى مليوني برميل يوميا تستخدم في حالة حدوث أي انقطاع في الامدادات، وهو ما أكسب السعودية مكانة استراتيجية. على ان السوق النفطية تمر بمرحلة تحولات هيكلية على رأسها أنتقال تقنية التكسير الهيدروليكي الى الميدان التجاري، الامر الذي مكن الولايات المتحدة من أنتاج النفط الصخري مما ساعدها على الوصول بأنتاجها الى نحو 12.5 مليون برميل يوميا متجاوزة بذلك كلا من السعودية وروسيا. وكانت الرياض تعتمد استراتيجية المنافسة مع كل من كندا وفنزويلا على احتلال مرتبة الدولة الاكثر تصديرا للنفط ومشتقاته الى السوق الامريكية وأن تسعى جاهدة الا تقل صادراتها تلك عن المليون برميل يوميا، لكن بسبب زيادة الانتاج المحلي من النفط وتقليص الواردات تراجعت الصادرات النفطية السعودية الى أمريكا الى 346 ألف برميل يوميا وفق أخر الارقام المتاحة.
ثم ان عائدات النفط تمثل نحو 90 في المائة من ايرادات الحكومة التي تنفق منها على مختلف البرامج الاجتماعية في بلد يتجاوز عدد سكانه 32 مليونا، حوالي 70 في المائة منهم أعمارهم أقل من 30 عاما ونسبة العطالة الرسمية بينهم في حدود 13 في المائة.
ولكسر هذا الافق المسدود تسعى السعودية من خلال رؤية 2030 لولي العهد الامير محمد بن سلمان الى تنويع القاعدة الاقتصادية، لكن هذه المحاولات تصطدم بالممارسات الامنية الخشنة للسلطات وعدم السماح بأي هامش للحريات السياسية، وهو ما عبر عن نفسه بتزايد عمليات هروب رؤوس الاموال الى الخارج. ومع صعوبة توفر أرقام دقيقة الا ان التقديرات تضعها في خانة عشرات المليارات من الدولارات وقد تصل الى 10 في المائة من الناتج المحلي الاجمالي.
وهذا ما ينقل النقاش الى النقطة الثالثة المتعلقة بقدرة وفاعلية مستقبل ترتيب القيادة الحالي في الاستمرار في السيطرة على الاوضاع في ضوء هذه التحديات المرشحة للنمو على ضوء تزايد حضور الجيل الشاب في الساحة سياسيا وأجتماعيا وتنامي ثورة الاتصالات، التي توفر منصات مختلفة ومستقلة عن الهيمنة الحكومية. هذا بالاضافة الى التساؤلات التي طالت صيغة حكم العائلة الملكية قد تم تعديلها الى حد بعيد لتقتصر على بيت الملك سلمان فقط.
هذه قضايا داخلية تخص السعوديين وعليهم التعامل معها، لكن الهدف من ايرادها الاشارة الى ان يد الرياض ليست مطلقة للتعامل مع ما يجري في السودان كما تحب بسبب مشاغلها الاخرى، وان هناك مجالا لتعاون على أسس مرضية للطرفين بعد مراجعة نقدية للوضع الحالي والاستفادة من موارد السودان الطبيعية التي يمكن أن تسهم في سد فجوة في مجال الامن الغذائي للسعودية. وعليه فبدلا من الانشغال بالنوايا السعودية الاماراتية تجاه السودان ينبغي ان يكون السؤال والانشغال بماذا يريد السودان وكيف له أن يخدم مصالحه.