من وحي إبداع تشكيليين سودانيين في الرياض.. اقتناص “المتعة والأمل” في زمنٍ صعب

 


 

 

أهدانا "ملتقى الحضارات" بالرياض أنواعًا من المتعة خلال أسبوع واحد، فقد جمع خلال هذه المدة الزمنية ثلاثة من التشكيليين السودانيين، وهم: د. طارق مصطفى، ووصال سعد الأمين، والجعلي حسن الملك.
وقدَّم كلٌّ منهم لوحات فنية تعبِّر عن رؤيته الفنية، وعن المدرسة التي ينتمي إليها، وعن الحالة المزاجية، وانعكس ذلك في المواد والأدوات المستخدمة، لتأتي الأعمال بنكهات، لكلٍّ منها مذاقٌ وطعم مختلف عن الآخر.
وكان من الممتع أن يلتقي السودانيون من متذوِّقي الفن في الرياض في هذا الوقت تحديدًا، الذي ينشغلون فيه بأزمة الوطن، وهذا ما أتاح لهم وقتًا جميلاً لا ليتخفَّفوا فيه من تداعيات الأزمة، وإنما ليتقاسموا همومها، ويستلهموا من هذا الإبداع المحيط بهم طاقةً إيجابيةً، من منطلق أنَّ الوطن سيظلُّ ويبقى ما دام فيه مثل هؤلاء المبدعين، الذين يقاومون عوادي الزمن بريشتهم، التي هي تشكِّل سلاحهم الأمضى في مواجهة طلقات البنادق والراجمات.
والحضور السعودي والعربي عموماً كان من أسباب المتعة، إذ عبَّر كثيرٌ منهم عن عشقه للسودان وأهله بالكلمات والعبرات، والتفاعل مع اللوحات الإبداعية، والأناشيد الوطنية، وصوت المغني.
وساح بنا الدكتور طارق مصطفى بحديثٍ شائق في فضاء الزمن وعلاقته بالتشكيل، فتفاعل معه الحضور، وأدلى كلٌّ منهم برأيٍ أسهم في إثراء المحاضرة.
أكد المحاضر أنه لا حاضر في العمل التشكيلي، الذي يصبح ماضيًا في لمح البصر، والزمن يتمظهر في العمل الفني من خلال الأدوات المستخدمة، والوقت الذي يعبّر عنه (أي وقت من اليوم)، والوقت الذي يستغرقه، ومن ثَمَّ يأتي الزمن المتعلِّق بالمتلقي، في وقت التلقي، وما يستغرقه من زمن في التحليل، وبؤرة التركيز في اللوحة الفنية، وغير ذلك من أشكال التمظهر.
وتناول السينمائي مبارك كنزي في تعليقه الفارق بين مفهوم الزمن في اللوحة التشكيلية والعمل السينمائي، مشيرًا إلى عنصر الحركة الذي يتميّز به الفن السابع، وأبدت الدكتورة عفاف أحمد يحيى الأمين العام للهلال الأحمر السوداني، سابقًا، سعادتها بوجودها في جمع سوداني يعكس الوطن بلغة الفن، التي تمثِّل خيرَ لغةٍ للتفاهم بين أبناء الوطن، وبينهم وبين الآخرين، واعترضت على تشبيه المحاضر الفنان بالسياسي، في بحثه عن عالم أفضل، مشيرةً إلى أنَّ الأخير لديه ممارسات تتنافى والقيم الإنسانية التي يتمسك بها الفنان الأصيل.

وعبَّر الفنان السعودي عبدالعزيز الدبل عن سعادته بهذه التظاهرة الفنية، مشيرًا إلى علاقاته الفنية والإنسانية مع التشكيليين السودانيين، الذين عبَّروا عن وطنهم خير تعبير.
وأكدت الدكتورة هيام دركل -التي مثَّلت وزارة الثقافة والإعلام السورية في احتفالية الخرطوم عاصمة للثقافة العربية 2005م-اعتزازها بالسودان وأهله، الذين تفاعلت معهم إبَّان الاحتفالية، فوجدت فيهم من الرُّقي والتحضُّر والخلق الكريم ما يبرهن على تميّزهم في مجالات الفنون المختلفة.
وأشاد الفنان التشكيلي إسماعيل عبدالحفيظ بالمعرض وبالفعاليات المصاحبة، مبينًا اعتزاز التشكيليين السودانيين بالعلاقات الثقافية والفنية مع الشقيقة المملكة العربية السعودية، وإصرارهم على مواصلة العطاء، مؤكدًا أنَّ الوطن سيتجاوز أزمته بإذن الله، وسيكون التشكيل أحد أدوات إضفاء الجمال والحيوية في المستقبل الواعد.
وكنتُ قد أشرتُ إلى اهتمام جمعية الصحفيين السودانيين بتعميق العلاقات الثقافية مع المبدعين السعوديين، بإقامة فعاليات مشتركة، والتعاون مع مؤسسات ثقافية سعودية في ذلك، مقدِّمًا الشكر إليها، ومشيدًا بالمعرض والمحاضرتين اللتين قدمهما الجعلي الملك ود. طارق مصطفى، ومحييّاً القائمين بالتنظيم، وعلى رأسهم الأساتذة: عليا الدقس، ومحمد العنزي، ومريم هزازي، ومنسق الاحتفال محمد بن دخيل المالكي، ومشيراً إلى الجهد المتميز لدينامو العمل العام في الرياض الأستاذ أسامة عبدالماجد (أبو لينة).
وختم التشكيلي المشارك في المعرض الجعلي حسن الملك بتقديم الشكر للمنظمين، وللمشاركين، وللسودانيين في الرياض، الذين احتضنوا معرضهم بكل حفاوة وترحاب، وشدَّد على أهمية تعميق الروابط الثقافية مع المبدعين السعوديين، وأكد امتنانه والزملاء لصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن ناصر بن عبدالعزيز راعي المناسبة، لتفضله بافتتاح المعرض، داعيًا أن يديم الله الأمن والاستقرار في ربوع المملكة، وأن يعيد العافية إلى السودان العزيز، ليسهم بكل عنفوان وحيوية في رفد الحركة الثقافية وفي نشر قيم الخير والجمال.
وبعد المحاضرة الثرَّة للدكتور طارق مصطفى والمداخلات القيمة، كان المجال لنوعٍ آخر من الإبداع الذي تميّز به أهل السودان، إلا وهو الشعر، الذي جاء معبرًا عن اللحظة من خلال صوت الكنداكة الصغيرة منة محمد حسن الشيخ، وقد صدحت بأشعار أبيها المحملة بشجون الوطن وأشواق أهله، وتطلُّعهم لوطن خيرٍ ديمقراطي.
وبقدر ما كان في القصائد التي ألقتها من أمل وتفاؤل، إلا أنّها أدمعت العيون، وألهبت المشاعر، وقد انسابت دموع الدكتورة عفاف ألمًا ووجعًا، لتحملها قدماها إلى حيث منة لتحتضنها بحنان الأم.

وصدح الفنان الجميل ياسر العيلفون بعيون الغناء الوطني السوداني، ليستحضر الجميع أصوات الفنانين وردي، وأحمد المصطفى، وسيد خليفة، والعطبراوي، وغيرهم ممن تغنُّوا بالوطن، وأسهموا في تشكيل وجدان السودانيين.
وشكَّل هذا التفاعل من الحضور الأنيق مع أنواع الفنون، والمشاعر الوطنية الفياضة، نسيجًا من المتعة الممزوجة بالوجع على وطنٍ جميل تهفو إليه النفوس، ليعود كما كان عزيزًا مرفوع الرأس، ليستأنف دوره في إثراء الحياة، ورفد الحركة الإبداعية بعطاء أبنائه المتميّز في مختلف دروب الفن والثقافة.

husseinwardi@gmail.com
///////////////////////////

 

آراء