.. يكفى أن أول وظيفة شغلها فى حياته هي رئيس تحرير. بعد أن كان يغازل دثار الخز فى سوق ام درمان . هو ذلك المزيج المدهش من سليم اللوزي صاحب (الحوادث) اللبنانية، ومحمد جلال كشك ذلك العائد من اشتات الماركسية الي رحاب الاسلام. أخذ من الأول الجرأة والتحقق والرصانة الصحفية، وأخذ من الثانى تأملاته العرفانية فى السياسة والمجتمع والثقافة، والحس النقدي العميق للظواهر ومغالبة الذهن الإذعاني التسليمى. يغمس ريشته فى سبائك الكلم والنظم والبلاغة فلا يصطاد الا الجوهر. يستصفى الماء من غرابيل العكر ويترك لغيره الوحل. اخذ من الفلسفة توليد الاسئلة، والعرض والجوهر، لم يشتر من سوقها صخب السفسطة، بل اخذ منها حوافز الخير، والتصافات الجمال ورواق الحكمة. تجد فى اثر نعله حوافر خيل المتنبيء، وهو يهجو كافور او يمدح سيف الدولة الحمدانى، ويغترف من ضبة اذا واهنه غريم و ساقته الحتوف لمواجهة فاتك الاسدى حتى يقول انك قاتلى يا محسد فى زمهرير الشتاء وأستار الليل ومعرفة البيداء وشهود القرطاس والقلم. شفرته البلاغية فى الحد الفاصل بين قوافى المتنبيء ونثر كتاب (نهج البلاغة) لباب مدينة العلم وسيد البلاغاء والفصحاء علي بن أبي طالب. يكفى أن كتب فى عمر النبوة أبلغ مقالاته واعترافاته الجهيرة عن سيرته الجمالية.. إذ دانت له الحشود فى سوح الخطابة، وانطلت حنجرته ببعض النغم فأستحلى التطريب، و استمزج القوافى فلانت عريكتها واستخذي رديئها واستعلي جيدها فأستنكف وابى. ناداه التشبيب والغزل وهو فتى ام درمان السمهري فأستعصم حتى قد جيبه من دبر. فترك الهوى والنغم والقوافى و محافل الخطابة وجحافل الحشود وقسطل المعارك، وانحاز إلي حبر المطابع وعطر الصحافة و بقايا مداد لذاكرة شرود. واختار أن يصنع الوعي والجمال.. اخذ من العقاد شكيمة المعارك القلمية وقوة الحجة فى المنازلات الفكرية، ومن طه حسين عبقرية النثر وعمق الكلمة وسحر البلاغة ودقة التوصيف. كان الطريق له ممهدا اذا اختار أن يمضي علي ارث أسرته وهو ممزوج بنقيع الدم و معارك التحرر والثورة المهدية. لكنه اختار الطريق الصعب، اختار أن يناجى ظلام الليل فيستخرج معنى يشتفي منه اللبيب، و يعجز عن مداوته الطبيب. اختار طريق الابتلاءات والتهجد والدموع كأنه علي موعد مع القدر، فاصطفي الله من أسرته عبدالاله خوجلي شهيدا...فجعل من سيرته رمزا للحياة ومقياسا للتضحية ومعبرا نحو الحقائق الكبري. كان يمكن أن يخاتل لكنه اختار أن يجادل كان يمكن أن يغتال لكنه اختار أن يقاتل كان يمكن أن يتعلم خائنة الاعين.. فأستعصم بما تخفى الصدور ، وزاده الله بصيرة وعافاه فى بصره. كان يمكن أن ينحنى قليلا.. كما قال عبدالله شابو.. لكنه استطال كالبانة تقاوم هوج الرياح ثم تعاود تغري الظل بالاستدارة ممشوقة القوام ..و كلما تجمل بالصبر ازداد تجمرا بالاصطبار. اختار أن يبنى حزبا رحيبا للسودانيين، دستوره فضائل الأخلاق والمثل، والمنافستو هو ديالكتيك الجمال دون تمييز باللون أو الاثنية أو الدين أو اللغة نعى كل قطار كان شيله ثقيلا..ورزم عجلاته وببلا.. من لدن صلاح أحمد ابراهيم حتى ابو آمنة حامد اترع أمسيات اهل السودان بألوان من الادب والنغم والحكى الجميل.. فتح حقيبة الذكريات، ووثق لتاريخ الجمال والنغم والشعر فى السودان. كانت حلقاته المشهودة مع كابلي وتوثيقاته لصلاح احمد ابراهيم فتحا فى فن الحوار والتثاقف الجميل الذي جمع بين المتعة والفائدة. وثق لزعماء الحياة السياسية عبر تلاميذهم ، وأخرج شهادات تاريخية عن الأزهري والمحجوب والهندى تكاد تكون من النوادر. اخذ من صلاح اجمل قناديل شعره ، اذ لم يحتفى بالانانسى من أجل مكايدة اليسار ، لكنه ظل يردد حومى يا منايانا حول الحمى فاستعرضينا واصطفى ..ويكاد يشرق بالدمع حين يبلغ ...كفن من طرف السوق وشبر فى المقابر ....وسارت فى حديثه كلمة صلاح مثلا فى تخطى الموعد عند هفهفة الشباب .. لم يعد في العمر بقية من اجل بدايات جديدة.. كما اهتم بالتاريخ الاجتماعي والفلكور و الشعر الشعبي والدوبيت لانه مستودع الحكمة والشهامة والاخلاق السودانية. تعجبه فروسية الحاردلو، ومعانى ود دوقة، ويطرب للعبادى يعتبر حسين خوجلي فى مدرسته الصحفية والتوثيقية أقرب للجاحظ عثمان بن بحر الذى كان يمثل دور الصحفي بلغة العصر كما وصفه البروف الفطحل الراحل عبد الله الطيب. اذ وثق للحياة الأدبية والاجتماعية والثقافية خاصة لنخبة ومثقفي ام درمان وشعراء النجوع. وثق مثل الجاحظ لبخلاء السياسة الذين يجودون باطايب الكلام ويمنعون جميل الفعال.. وكذلك وثق لفصحاء بلادى دون ان يسمى كتابه الشعبي ( البيان والتبيين) كانت له آراء فى السياسة لا يكتمها بداعى التحذلق أو مراعاة الشعور العام ومنها أن السلطة أليق بأبناء القبائل لأنهم يعرفون الناس وينزلونهم منازلهم اتباعا لمقولة بن خلدون، والبعض يتهمه بالعنصرية أثر هذه المقولة.. لكن العبرة أنه جهير الصوت برأيه وافقه الناس ام اختلفوا معه. وهو فى حسه العام أبعد الناس عن العنصرية كان فى حسه الأدبي متفاعلا مع الحداثة رغم حرصه علي الأصالة والجذور، حفيا بتجربة نزار قباني كمشروع جمالي لا يهمه معاركه حول الخبز والحشيش والقمر، أو طفولة نهد. ربما يقبل زعم قبانى ان شعره هو تحرير للمرأة العربية من ثقافة الحريم والحبس والتقييد لترتاد آفاقا رحيبة من الحرية المسئولة. ويقتسم فقها جريئا مع شيخه حسن الترابي في نظرته عن المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع. لا يساوم علي ثوابت الثقافة العربية والإسلامية فى السودان مع احترام للتنوع والتعدد والتباين اللغوى والثقافي. وهى حالة سودانية خاصة. لا يقاوم إغراء الشعر وان جاء فى مدح السلطان كما فعل عبدالرزاق عبدالواحد رغم صابئته مع صدام حسين حتى اشعل له سجارة ترتعش بين شفتيه. كان حسين يحاور عبدالرزاق فى مدارج الشعر المفتوحة علي ضفاف النيل الأزرق كأنه يرشف من دجلة ويسهر فى الاعظمية ويتسوق فى شارع المتنبيء. رماه البعض أنه قاد تجربة صحفية شوهت الديمقراطية وافشلتها فى الحقبة الحزبية الثالثة فى عقد الثمانينات من القرن المنصرم. وأن تجربته سارت علي نهج الصحافة الصفراء وصحف التابلويد الفضائحية. لكن حسين لم يكن يحمل سوى الكلمة ، منها النقد الرصين والشعر والكاريكاتور لكن ضاقت فضاءات الديمقراطية المزعومة علي موهبته النقدية المتفتقة. كانت عندما تدلهم الخطوب ، لا يمسك قلمه من بعض الرفث ، اذ لا يحب الله الجهر من السوء من القول الا من ظلم. كان ينتقد الزعماء لكنه يحترمهم لزلزلة السواد.. امتلك قلما بريعا فى صوغ السرديات الساخرة ..سيما وان أولاد سيدى ما بيلعبوا بالطين. وقد كان مولانا الميرغني يحتفظ بإعداد الوان كاملة فى غرفته الخاصة. وخرجت دراسات اكاديمية تدين تجربة حسين الصحفية فى وأد الديمقراطية كما فعل بروف محمود قلندر فى كتابه ( مهنة فى محنة). ناعيا أن الوان كانت من الصحف الأقمار التى تدور فلك خطاب الجبهة الإسلامية الايدلوجى. وأنها ازهدت الناس فى الديمقراطية بتعظيم الفشل وتصغير النجاح. ولعل كل طالب فى ابجديات العلوم السياسية يدرك ان الديمقراطية لا تسقطها المقالات، لكن تسقط عندما تتهافت النخب علي الغنائم ، وتغرق فى التيه وتفشل فى بناء المؤسسات وتنشغل بالصراعات ، وعقد التحالفات الفاسدة، وتغرق فى المكاجرات وعندما تفقد الفواعل السياسية الديمقراطية فى فكرها وممارستها ..أو كما قال هنتغتون عندما تتكاثف المشاركة السياسية علي حساب بناء المؤسسات الديمقراطية فى العالم الثالث.. لم يسقط حسين الديمقراطية ولكنه عري بقلمه الممارسة السياسية. وتجاهل بعض الباحثين أن حسينا كان متمردا على الاطر التنظيمية ، لأنه يحمل روح الفنان وهى أكبر من ان تحاط بها قبضة التنظيمات الحديدية ألقا وتجريبا. وكان متمردا علي توجيهات قياداته السياسية ورفض أن يتلقى أي تمويل من اي جهة رسمية لان توزيع الوان وصل حينها إلي أكثر من ١٠٠ الف نسخة يومية فى الداخل وعشرات الالاف من النسخ كانت توزع فى دول الخليج. لم يتساءل هؤلاء الأكاديميون عن سر تأثير حسين خوجلي فى الرأي العام. هل بسحر المفردة ام قوة الموقف؟ هل بإصالة النقد وقوة العارضة ام مجاراة ساذجة لسوق السياسية؟. كانت الوان أكثر الصحف تأثيرا علي توجهات الرأي العام، وكان قلم حسين خوجلي فى بحثه وتساؤلاته يمثل حالة خاصة من الإشارات الذكية وأكثر الأقلام تأثيرا علي الواقع السياسي فى وقتها..كانت له فراسة فى اكتشاف المواهب التى منحها حق الشخبطة والتجريب على حوائط ألوان.حتى نهضت زاهية بثمار تميزها. وتتلمذ علي يديه مئات الصحفيين يحفظون له الود ومقام الأستاذية وبعض اللمم حول العطايا و زمزمة الملاليم.. لم يحظ حسين بموقع هيكل فى نظام عبدالناصر، ولا بموقع أنيس منصور مع السادات. بل كان يغمس قلمه ليعبر عن وجدان وتطلعات الجماهير فتجد عنده فتوة الموقف وصدق التعبير وجماليات التوصيف و ذكاء التحشيد. كان اقرب لموقف توفيق الحكيم من التمسح ببلاط السلاطين لأنه معتز بموقفه كمثقف عضوى فى المجتمع. وان تشابه ذلك مع حكمة ودتكتوك ..يا واقفا بابواب السلاطين..ارفق بنفسك هم وتحزين. رفض حسين المساومات الكبري عندما كان الناس يهرعون إلي ذهب المعز وسيفه ويصلون خفية وتقية خلف شيخهم. فقال أنها وصية شهيد..عندما كان عبد الإله خوجلي يقول أن الترابي رجل صالح فتحلقوا حوله الا اذا مرق من الدين. دفع ثمن مواقفه سجنا وحبسا وتشريدا فى مختلف العهود. جعل للعمود الصحفي عبقا ورونقا وفكرة وجمالا. كان يستقى تلك الروح المرفرفة والمتمردة فى نفس الوقت من تجربة روز اليوسف ومجلة صباح الخير مع قدرة مهولة علي استنساخ (نادية عابد ) فى الصحافة السودانية. وجعل للحوارات التلفزيونية مع الأدباء والمثقفين والمغنواتية طقوسا من الإبداع المقيم و التلقائية المدهشة والموهبة المشتعلة..وجعل من الانس والسمر عنوانا ماتعا لامسياتنا الجميلة. لا يتفوق علي حسين فى تاريخ الصحافة الا أحمد يوسف هاشم و إسماعيل العتبانى ومحمود ابو العزائم و آخرون فى المتن والخامس. اما بعض القامات الصحفية التى تحمل الموقف ونقيضه فى سوق الحرية من لدن محجوب محمد صالح الذي قاد التأميم والتكميم فى مايو. أو حتى عبد الله رجب صاحب الصراحة الذي أرتهن مصداقيته لمساومات مع طلعت فريد او عبدالرحمن مختار مؤسس الصحافة، واسرار ( خريف الفرح) . أو حتى أول صحافي سوداني حسين شريف الذى وقع فى مستنقع العنصرية وزعم أن ثورة ٢٤ منبتة الجذور من المجتمع السوداني لان من قام بها رقعاء لا اصلاء فى المجتمع وليسوا من اهل الصولة والجولة والدولة. اسس حسين خوجلي الوان فى عام ٨٣ من حر ماله، واحلامه وتطلعات حياته الجامعية، ومن تساؤلات مدرجات الفلسفة وهرج اركان النقاش وسوق الخطابة، ومفاصلات سوق القماش بأم درمان دون رافعة حزبية، بل كانت حينها احلام شاب غض الاهاب وذكى الفؤاد، امتلك الرؤية واراد أن يسهم فى التغيير بطريقته الخاصة. لكنه طريق طويل من المواجع والرهق والنجاحات والدموع والسجون. ولم يكن حسين خوجلى يوما عضوا فى لجنة لتأميم الصحافة أو مصادرتها...لم يحمل بندقية ضد احد..لم يشغل وظيفة رسمية أو منصبا وزاريا.. فقد قاتل من صفوف الشعب ومن بين تدافعات الجماهير، وهو لا يحمل سوى قلما فصيحا وفكرا مستنيرا ولسانا ذربا وحجة دامغة. أسس وطنا جماليا فى المخيال والذاكرة الشعبية. مرحبا بك اخى حسين فى فضاءات الحرية فقد كان فى حبسك عظة لمعانى التضحية والفدا وفى اعتقالك ترهيب لكيد العدا. ومكانك شاغر بين الجماهير التى ما سئمت يوما الكفاح، رغم هوج الرياح وانت تقود مشاعل الوعى وتضوع بين يديك مجامر الابداع وانت تحملها بين وهج الصحاري وطين الحواشات. وحتما سينجلي الصباح تحت رايات العدل والحرية ، وان استطالت عتمة الليل فى التناوش والتهارش واسقام التشفى والاغتيالات المعنوية ، وأقوال شاهد إثبات ، دون اورنيك ٨.. ولن يكون للجمال موقف حينها الا ان يرتقي طائعا مختارا إلي آلاء الجلال.