“مهمة عسيرة تتطلب صبرا لا حدود له”: تأسيس النقابات العمالية وصراعات التنمية بالسودان (1946 – 1952م) (1/2) .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

"مهمة عسيرة تتطلب صبرا لا حدود له"

تأسيس النقابات العمالية وصراعات التنمية بالسودان (1946 – 1952م) 1/2
An Uphill Job Demanding Limitless Patience. “The Establishment of Trade Unions and the Conflicts of Development in Sudan, 1946 -1952.
Elena Vezzadini الينا فيزاديني
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص للجزء الأول من بعض ما ورد في مقال للدكتور الينا فيزاديني نُشر عام 2017م بالعدد الثامن من دورية "سياسة التنمية الدولية International Development Policy" . وتعمل كاتبة المقال أستاذة بمعهد العالم الأفريقي بجامعة السوربون. وقد حصلت عام 2008م على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة بيرجن النرويجية بأطروحة عن حركة 1924م، وأستلت منها عددا من الأوراق من بينها ورقة تمت ترجمتها للعربية بعنوان "برقيات وطنية: الكتابات السياسية ومقاومة الاستعمار في السودان بين عامي 1920 – 1924م".
أوردت الكاتبة في مقالها الكثير من المصادر السودانية والأجنبية عن تاريخ الحركة النقابية السودانية منها على سبيل المثال كتاب لسعد الدين فوزي (1957م) ومحمد عمر بشير (1974م) وأحمد سيكنجا (1996م).
المترجم
********** *********** **********
تقديم:
جاء في تقرير لممثل وزير الخارجية البريطانية المقيم بالقاهرة صدر عام 1944م وتناول أوضاع العاملين بالسودان أنه "ليس كافيا أن نقول إن السودان ليس بقادر على القيام بتنمية صناعية حديثة، ولذا يجب أن يترك على حاله". وورد في سجلات الوثائق البريطانية ما علق به السيد ج. د. روبرتسون، السكرتير الإداري لحكومة السودان على تقرير السيد م. ت. اودسيلي (الذي عينته وزارة الخارجية البريطانية مستشارا لشؤون العمل في السفارة البريطانية بالقاهرة في عام 1945م، وبُعث به للسودان في العام التالي لبحث شؤون العمل والعمال بالبلاد وكتابة توصيات عن إمكانية قيام نقابات عمالية به). كتب السيد روبرتسون بما يفيد أن "قيام نقابات عمالية أمر سابق لأوانه في السودان، إذ أنه بلد زراعي ... ولن يغير قيام نقابات عمالية من الاحتقار (العربي) التقليدي للعمل اليدوي، ولن يكون اختيار ممثلين للعمال ولجانهم أمرا معقولا تحت الظروف الحالية المسموح بها، والمتوافقة مع الرأي العام وتعاليم الإسلام". توضح هذه المقتطفات بجلاء الاختلافات في الآراء حول دور الدولة الاستعمارية. فهنالك من المسؤولين البريطانيين من كان يرى أن تعمل الدولة على توفير الرفاهية والتقدم للكل، وهناك أيضا دعاة الحكم غير المباشر الذين يرون ضرورة عدم تدخل الدولة في شؤون الأهالي إلا في أضيق الحدود، إذ أنه من الخير للأهالي أن يُحكموا بحسب "تقاليدهم" التي ألفوها، وألا يقيموا مؤسسات خارجية (دخيلة؟) مثل النقابات العمالية. وعلى الرغم من هذا، فإنه بعد مرور ست سنوات من مقولة روبرتسون المذكورة أعلاه (أي في عام 1952م) كانت هنالك بالسودان 99 نقابة عمالية مسجلة، تمثل نحو 100,000 عضوا.
وسيتعرض هذا المقال لبعض جوانب الصراعات التي أحدثها صدور تشريعات جديدة للعمل في أخريات سنوات الأربعينات. وهنالك دراسات سابقة عن تلك الصراعات التي وقعت قبيل الاستقلال نشرها فوزي (1957م) وسيكنجا (1996م و2002م) وعلي طه (1970م) وكروس (1997م) وكيرليس (2013م)، وكلها تتناول العلاقات بين العمل والسياسة والدولة الاستعمارية. واعتمدت جميع تلك الدراسات على أرشيف الوثائق الاستعمارية. ولم يكن هذا بسبب غياب البدائل، فالبدائل موجودة بكثرة، مثل شهادات الأحياء من الذين شهدوا تلك الأحداث، والصحف المتعاطفة مع الحركة العمالية (مثل جريدتي "الصراحة" و"الشعب")، التي ظلت لعقود تنشر الأنباء المتعلقة بالعمل والعمال. ويمكن الاطلاع على أرشيف تلك الصحف في دار الوثائق بالخرطوم.
وسأبدأ هذا المقال باستعراض سريع للكيفية التي تبنت وشجعت بها سياسة الاستعمار البريطاني للتنمية إنشاء نقابات عمالية في مستعمراتها، وقصة الذيوع والانتشار والتعلم المتبادل بين الحركات العمالية الراديكالية، خاصة تلك الموجودة في مصر وفي السودان.
العمل في السودان، من الحكم غير المباشر إلى قانون الرفاهية والتنمية الاستعماري لعام 1940م
كان وصول حزب العمال للحكم أهم حدث في التاريخ السياسي لبريطانيا في النصف الأول من القرن العشرين. ولم يحدث هذا الا بعد مرور قرن كامل من عملية صراعات مجتمعية حادة حول مسائل العمل والعمال. ومنذ نهاية القرن التاسع عشر ارتضت الجماعات الراديكالية المختلفة المشارب أخيرا بالمشاركة في السياسة المؤسسية، وتم استيعابها ضمن تحالف عمالي نشأ منه لاحقا حزب العمال (في فبراير 1900م). وصار ذلك الحزب هو المنافس الأول لحزب المحافظين، ووصل للسلطة لأول مرة في 1924م، ومرة أخرى في أعوام 1929 – 1931م. وأصدر حزب العمال في عام 1929م أول تشريع لتطوير المستعمرات (اسموه قانون الرفاهية والتنمية الاستعماري البريطاني) يلزم الحكومة البريطانية بتطوير مستعمراتها، ليس فقط اقتصاديا، بل اجتماعيا وسياسيا أيضا. غير أنه لم يتم تنفيذ ما جاء في ذلك التشريع بسبب أزمة 1929م، ولم يبدأ تنفيذه إلا بعد صدوره بعقد كامل.
وشهدت الثلاثينات إضرابات وصدامات مع العمال في بعض المستعمرات البريطانية مثل روديسيا الشمالية وجزر الهند الغربية البريطانية. وحفزت تلك الأحداث ظهور انتقادات حادة وشجب واستنكار لاستغلال الاستعمار للعمال، وذلك ما أبقى مسألة رفاهية عمال المستعمرات في دائرة الضوء.
وظهر عامل ثالث في خضم الصراع بين حزبي المحافظين والعمال ألا وهو ظهور الحزب الشيوعي البريطاني وخشية حزب العمال من انشقاق بعض أعضائه الراديكاليين والانضمام لذلك الحزب، حيث أنه ساد وقتها افتنان شديد بروسيا السوفيتية في أوساط الدوائر اليسارية ببريطانيا. ولما عاد حزب العمال للسلطة مرة أخرى بين عامي 1946 و1951م قام برفع كل القيود التي كانت مفروضة على الرفاه (الاجتماعي) والنقابات العمالية في محاولة منه لمجابهة المد الشيوعي. وأدخلت الحكومة أيضا في مستعمراتها قوانين عمالية لذات الغرض (أي لنزع فتيل التوجه نحو الشيوعية والعداء الراديكالي للاستعمار). وصدر في عام 1940م قانون الرفاهية والتنمية الاستعماري، قُصد منه تطوير المُسْتَعْمَرين وتحسين أحوال معيشتهم، ومنع الانزلاق و"الانحراف" نحو عداء راديكالي للاستعمار. وتم تكليف السلطات الاستعمارية ووزارة الخارجية بمراقبة تطبيق ذلك القانون في البلاد المُسْتَعْمَرة.
وتلقت حكومة السودان توجيهات الحكومة البريطانية ولكنها تلكأت في وضعها موضع التنفيذ حتى عام 1946م، حين وضعت خطة خماسية للتنمية والتطوير، أعقبتها بخطة أكبر وأشد طِمَاحا في عام 1951م. ونصت الخطة الأولى على ما جاء في توجيه الحكومة البريطانية من ضرورة "رفع مستويات معيشة السكان عن طريق زيادة الدخل القومي، وتقديم المزيد من الخدمات الاجتماعية لهم، خاصة في مجال التعليم". وكان هذا توجها مغايرا لسياسة حكومة السودان حيال الأهالي فيما قبل 1940م. إذ أن الحكومة كانت عقب فشل حركة 1924م الوطنية قد غيرت من سياستها الداعمة للمتعلمين السودانيين، ومضت في سياسة جديدة تعتمد على مبدأ "الحكم غير المباشر"، الذي تشكل فيه الثقافة والتقاليد المحلية الاحتياجات الاقتصادية للمنطقة المعينة. وهذا ما حد من التنمية والتقدم إذ أن السودانيين لم يكونوا معتادين على الاقتصاد العالمي (هذا على الرغم من قيام مشروع حكومي شديد التنظيم في الجزيرة لزراعة القطن المعد للتصدير، وإشراف الحكومة أيضا على تصدير محاصيل زراعية مثل الصمغ العربي والسمسم والدخن). وكانت غالب إيرادات الدولة تأتي من الصادرات الزراعية المعتمدة على عمالة تتلقى دخلها من الحكومة (تشمل الزراع والعاملين في الموانئ والسكة حديد). وكانت لقلة العاملين الذين يتلقون مرتبات من الحكومة هي سبب تلقي هؤلاء لمرتبات عالية نسبية (مقارنة مع تكاليف المعيشة) في غضون غالب سنوات حكم الاستعمار. ولعل هذا ما جعل هؤلاء العاملين مجموعة نشطة وحازمة أثبتت وجودها (assertive group)، والدليل على ذلك هو عدد وتواتر الإضرابات التي قاموا بها بثقة كبيرة في غضون سنوات ذلك الحكم. فعلى سبيل المثال قام العاملون بالحكومة في عام 1908م بإضراب طالبوا فيه برفع اجورهم (كان ذلك هو إضراب عمال مناشير الغابات للمطالبة بتحسين بيئة العمل وظروفها. المترجم). وأضرب في العالم التالي العاملون في مشروعين زراعيين بالكاملبن والفاضلاب. وفي عام 1910م رفض عمال عرض العمل الذي قدمه لهم "مكتب العمل المركزي" لعدم رضاهم عن الأجور المقدمة. وشهد عام 1912م سلسلة من الإضرابات في ميناء بورتسودان للمطالبة بتحسين ظروف العمل. واتخذت بعض الإضرابات اللاحقة شكلا سياسيا واضحا. ففي عام 1919م أضرب عمال السكة حديد بأتبرا (وكان معظمهم من المصريين الذين كانوا يعملون كعسكريين فيما عرف بـ "كتيبة السكة حديد) تضامنا مع الثورة في مصر. وحدثت أيضا بعض الإضرابات بالخرطوم وأتبرا وبورتسودان في غضون أيام حركة 1924م احتجاجا على اعتقال قادة تلك الحركة. وارتفعت وتيرة الإضرابات في سنوات الركود الاقتصادي في الثلاثينيات. وشهدت غالب سنوات الحكم الاستعماري إضرابا واحد على الأقل في كل عام. وتنوعت أعمال وأماكن المضربين، فقد أضرب من قبل عمال محالج القطن في سنكات، وعمال ميناء بورتسودان، وسُوَّاق الترام في الخرطوم، وعمال لقيط القطن، وغيرهم كثير. غير أن كل تلك الإضرابات كانت محلية الطابع، ولم تثر الكثير من الاهتمام والنقاش على مستوى البلاد. وعدتها الإدارات المحلية ظواهر عفوية حركتها أيادٍ خفية في السوق، إضافة لـ "كسل" السودانيين. وكانت الإدارة قد حاولت إجبار فئات معينة من السودانيين للعمل دون جدوى (وكان معظم هؤلاء من المسترقين السابقين).
ويمكن القول بأنه في الفترة التي سبقت الأربعينيات من القرن الماضي لم يكن العمال يشكلون في نظر الحكومة قوة سياسية أو اقتصادية يؤبه لها. ففي أيام حركة 1924م مثلا، كان البريطانيون يشيعون أن العمال لم يكن يرغبون حقيقةً في التظاهر ضد الحكومة، ولم يفعلوا ذلك إلا لأن هنالك جهات معينة شجعت أو دفعت أموالا لهم كي يتظاهروا. غير أن تلك النظرة تغيرت تماما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وتم في عام 1946م توجيه "مجلس العمل" (الذي غُير اسمه إلى "فرع العمل" عام 1949م) للعمل بتنسيق كامل مع السكرتير الإداري، وعين إيدوارد ماكنتوش (المفتش البريطاني السابق) رئيسا لذلك الفرع. وبالإضافة لذلك بعثت الحكومة البريطانية للخرطوم بخبير في شؤون العمل والعمال هو ام. تي. براون، لسابق معرفته بالإضرابات التي حدثت في جزر الهند الغربية البريطانية. وأتى بعده في عام 1948م أم . تي. كوان، الذي كان من قبل مسؤولا عن العمل والعمال في جامايكا. وفي عام 1949م أرسلت لندن للخرطوم بريطانيا محاديا هو دي. نيومان بصفته صاحب خبرة في حل المنازعات العمالية. وقدم إلى السودان من القاهرة م. ت. اودسيلي (الذي ورد ذكره في مقدمة هذا المقال) على الأقل ثلاث مرات. وشكلت مذكرات وتقارير اودسيلي مصدرا مهما لكل المعلومات الأساس عن تاريخ نقابات العمال بالسودان. وكان اودسيلي يسعى دوما لخلق "حركة نقابية عمالية غير سياسية" بحسب ما جاء في كتاب باينين ولوكمان المعنون (Workers on the Nile). وكان ذلك العدد الكبير من خبراء العمل والعمال الذين بعثت بهم الحكومة البريطانية للخرطوم يؤكد إصرار لندن على الاشراف على المسألة العمالية بالسودان. ومثل "تدخل" الحكومة البريطانية في الشأن السوداني الداخلي تغيرا جذريا في سياستها التي كانت تنحو إعطاء حكومة السودان حرية تامة في إدارة شؤون البلاد الداخلية.
أما النقطة الثانية التي أود التعرض لها باختصار فهي عن الحركة العمالية بالسودان ودور النضال (العالمي) للعمال في المستعمرات وحركة الطبقة العاملة المصرية فيها. وفي سنوات الحرب العالمية الثانية (خاصة في شمال أفريقيا) أتت للسودان معلومات عن فكرة إنشاء نقابات عمالية بالبلاد عن طريق قنوات متنوعة. وكما أورد سعد الدين فوزي (مؤلف "كتاب الحركة العمالية في السودان") فإن الناس كانوا قد بدأوا يعرفون عن مفهوم النقابات العمالية من "النشرات الدعائية عن الحرب التي كانت توزعها وزارة الاعلام البريطانية، والتي كان ترد فيها معلومات عن نمط الحياة البريطانية، التي كان من ضمنها (الحق في) إنشاء نقابات عمالية. وكان ذلك موضوعا للنقاش العام في نادي مدرسة أتبرا الفنية". وكما ذكرنا من قبل، ظلت صحيفتا "الصراحة" و"الشعب" تورد بعض الأخبار عن تطورات الحركة العمالية العالمية، وملأت بذلك فراغا في الأخبار التي لم تكن ترد في صحف كبيرة مثل "الرأي العام" و"النيل". ولا بد أن السودانيين كانوا يقرأون من قبل ذلك عن نضال العمال فيما يُذكر في الصحف والمجلات المصرية.
وظلت صحيفتا "الصراحة" و"الشعب" تراقبان عن كثب الحركة العمالية بمصر، وتلفت القراء إلى لغتها الشيوعية المضادة للإمبريالية. واحتدمت صراعات العمال المصريين، وهزت تلك الصراعات مصر في الفترة من أخريات أعوام الثلاثينيات إلى نهايات الأربعينات، بإضرابات متصلة وإضراب لقادة الحركة العمالية عن الطعام (استمر لثلاثة أيام) شغل الرأي العام. ورضخت الحكومة المصرية أخيرا في عام مارس من عام 1942م واعترفت رسميا بنقابات العمال المصرية، وأصدرت لها قانونا ينظم أعمالها. إلا أن الإضرابات تواصلت بمصر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. فعلى سبيل المثال قام عمال النسيج والغزل في مختلف المصانع بإضراب، وتلاهم عمال الترام بإضراب آخر. بل إن رجال الشرطة بالقاهرة والإسكندرية دخلوا في إضراب في عام 1948م (نشير هنا إلى أن الشرطة بالخرطوم قد دخلت أيضا في إضراب عن العمل في تلك الفترة، ويمكن قراءة مقال مترجم عنه بعنوان: "إضراب شرطة الخرطوم عام 1951م والنزاع حول السيطرة الإدارية https://www.sudaress.com/alrakoba/1064514". المترجم).
ولا ينبغي أن نغفل تأثير الدور السياسي لنضال الحركة العمالية المصرية على السودان. وكما هو الحال في الكثير من المنعطفات الأخرى في تاريخ السودان في غضون سنوات الاستعمار، فقد كانت الوطنية المصرية المعادية للاستعمار مصدرا قويا من مصادر الالهام عند السودانيين. فقد كانت مصر – كما ذهب كثير من المؤرخين السودانيين – تؤدي دورا فاعلا في موازنة نفوذ المستعمر البريطاني. وقبل أن يرتبط بطائفة الختمية، كان حزب الأشقاء (أهم الأحزاب السودانية الموالية لمصر) يعد الوحدة مع مصر مرادفة بل مطابقة للتحرر من الاستعمار. غير أنه كان للعمال السودانيين أسبابا أخرى للقرب من مصر، فقد كان العمال المصريون يناضلون ضد الطبقات المهيمنة، تماما كما يناضلون ضد الاستعمار الاقتصادي البريطاني. وكان السودانيون مثلهم يخضون حربا مزدوجة ضد البريطانيين، أولا بحسبانهم مُستعمِرين، وثانيا كرؤساء لهم في العمل. وفي الواقع كانت الحكومة الاستعمارية هي أكبر مخدم بالبلاد، وتعد هي "مديرة" النظام الاقتصادي.
هيئة شؤون العمال وبداية عمل نقابات العمال
سبق أن ذكرنا في مقدمة هذا المقال أن السكرتير الإداري روبرتسون كان لا يرى (في يونيو 1946م) أنه لا مجال لقيام نقابات عمالية بالسودان. غير أنه بعد شهر واحد مما ذكره السكرتير الإداري كونت مجموعة من خريجي مدرسة الصنائِع بأتبرا لجنة تمهيدية لـ "هيئة شؤون العمال". وترأس تلك الهيئة سليمان موسى والطيب حسن الطيب. ولم يكن الرجلان من المتعجلين المتهورين hotheads، بل على العكس، كانا من ضمن العمال المهرة "الصنايعية" الذين عملوا بمصلحة السكة حديدة منذ سنوات طويلة. وبحسب ما ذكره سعد الدين فوزي فقد كان هدف إنشاء تلك الهيئة في البدء هو إِشاعة التضامن الاجتماعي بين العمال. وذكر كروس أن لائحة نظام تلك الهيئة لم تذكر شيئا البتة عن استخدام الاضراب كسلاح، ونفى عن الهيئة أي نوع من الأهداف السياسية، بل وذكر ما يفيد بأن الهيئة ستعمل جاهدةً لتتحاشى القيام أي عمل قد يكون من شأنه أن يسبب للإدارة أي إزعاج أو مضايقة أو مشكلة. وفي تلك الأيام كانت السلطات الاستعمارية (ممثلة في مجلس العمل بالسودان) تحاول أن تقيم "لجان عمل" لتؤدي دور الصلة بين أصحاب العمل والعمال. غير أنه لم تلك لتلك اللجان صلاحية التدخل لحل المشاكل التي قد تطرأ بين الطرفين حول أمور مثل الأجور وشروط الخدمة (وهي أمور كانت الهيئة ترغب في بحثها مع المصلحة). وفي أغسطس من عام 1946م تقدمت هيئة شؤون العمال بطلب للاعتراف بها، غير أن الحكومة رفضت ذلك الطلب بدعوى أن تلك الهيئة ليست مؤهلة لأداء الدور الذي تريد القيام به. ولم تستسلم الهيئة بعد ذلك الرفض، بل واصلت محادثاتها مع السلطات لعام كامل ولكن دون جدوى. حينها دعت الهيئة كل عمال السكة حديد للتوقف عن العمل. ونجح ذلك الاضراب (الذي استمر من 17 إلى 23 يوليو) نجاحا كبيرا، فقد ألح في شل حركة السكة حديد تماما. وعَضَدَ السودانيون في كل أرجاء البلاد العمال المضربين بوسائل مختلفة منها تزويدهم بالطعام. وأخيرا اعترفت السلطة بالهيئة بحسبانها الصوت الذي يمثل عمال السكة حديد. والتفت الهيئة بعد هذا الاعتراف إلى العمل على تحسين أحوال العمال وشروط وظروف خدمتهم، فصاغوا مطالب محددة شملت زيادة الأجور والعطلات السنوية لكل فئات العمال وتقليل ساعات العمل. وطلبت الهيئة من رئاسة المصلحة بأتبرا تحويل تلك المطالب إلى الخرطوم (في إشارة إلى أن المفاوضات مع العمال يجب أن تكون مسؤولية الحكومة). غير أن الحكومة عدت بعض تلك المطالب (مثل زيادة المرتبات بين 25% و40%) "مطالب باهظة"، ولكنها وافقت على رفع الحد الأدنى للأجور، ووعدت بتكوين لجنة من خبراء بريطانيين وسودانيين لبحث أحوال عمال السكة حديد. ولم تقم تلك اللجنة بأي عمل حتى يناير 1948م، فقررت الهيئة القيام بإضراب آخر (بين 27 – 28 يناير)، ثم أعلنت عن إضراب مفتوح في 16 مارس (وكان سببه هو عدم احترام الحكومة لوعدها نشر نتائج اللجنة المستقلة التي كُلفت بدراسة أحوال العمال). وتم اعتقال سليمان موسى في الرابع من إبريل وأتهم بتقديم "خطاب تحريضي للغاية" في جامع أتبرا. ودفع الحكم الذي صدر على سليمان موسى لمد الإضراب حتى يشمل الأسبوعين الأولين من أبريل. وأخيرا تم الحكم على سليمان موسى بغرامة مالية، وأطلق سراحه في 17 أبريل. وتم رفع الإضراب في اليوم التالي بناءً على طلب منه.
وكان مَرَدُّ سرعة موافقة حكومة السودان على قيام "هيئة شؤون العمال" هو إدراكها لسوء أحوال العمال وضعف مرتباتهم، وأيضا استجابة لطلب الحكومة البريطانية لها بضرورة العمل على تنظيم العمال بالبلاد. وكان السودان يمر بمرحلة ازدهار اقتصادي عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية واندلاع الحرب الكورية التي أخرجت القطن الكوري من السوق، ورفعت بذلك من أسعار القطن السوداني. وتضاعفت إيرادات الحكومة عشر مرات بين عامي 1939 و1951م، وزادت مع ذلك كمية النقد بالبلاد. وأفضى ذلك إلى ارتفاع مستوى التضخم بصورة كبيرة. وأضاف الجفاف الذي ضرب مناطق السودان الشمالية إلى معاناة السكان وأحدث مجاعات في بعض المناطق مما دعا الحكومة لاستيراد الذرة من الخارج. غير أن اللجنة المحايدة المكونة عام 1948 لبحث مشاكل عمال السكة حديد أوردت في تقريرها أنها لم تجد أدلة مقنعة على وجود سوء تغذية أو أمراض في أوساط عائلات العمال، ولكنها أقرت بأن أحوالهم تماثل في السوء أحوال بقية سكان البلاد، وأن العمال يفتقرون – حتى في المناطق الحضرية – لأبسط مقومات الصحة العامة. وحاولت الحكومة حماية العاملين بها من غوائل التضخم بمنحهم ما سُمي بـ "علاوات غلاء / تكلفة المعيشة"، كانت تزاد سنويا. وبلغت تلك العلاوة في عام 1947م 40% من الراتب. غير أن "هيئة شؤون العمال" كانت تصر على أن تلك العلاوات (والمرتبات) لا تكافئ الغلاء الحادث بالبلاد.
لقد كانت هنالك اختلافات أساسية بين موقف الحكومة البريطانية وموقف حكومة السودان، إذ أن الأولى كانت ترى أن الثانية لا تخلو من "رجعية" برفضها أو تَلكُئِها في تنفيذ ما طلبته منها من إصلاحات اجتماعية واقتصادية للعاملين فيها. ووقع على ممثل الحكومة البريطانية (اودسيلي، الذي سبقت الإشارة إليه في مقدمة المقال) عبء التوفيق بين آراء الحكومتين. وألقى اودسيلي بعض اللوم على قيادة "هيئة شؤون العمال" في مواقفها المتشددة، وردها إلى "جهلهم أو قلة خبرتهم بمهارات التفاوض على الأجور وشروط العمل (collective bargaining)"، وإلى "غياب اللباقة والهدوء والتعقل في النقاش والجدل عندهم"، وعزا كل ذلك إلى "التفكير والممارسة السياسية الشرقية عندهم، في مقابل ما نعده نحن سلوكا وممارسة نقابية عمالية معتادة". لذا شملت توصيات اودسيلي أن تقوم حكومة السودان ليس فقط بالإسراع في إصدار قوانين ولوائح عمالية جديدة، بل أن تقوم بتدريب العمال على فن التفاوض. ونصح اودسيلي المفتشين البريطانيين بالتخفيف من حدة عواطفهم، وأن يعاملوا ممثلي نقابة العمال بـ "الصبر والتشجيع المفيد". ولام ممثل آخر للحكومة البريطانية المفتشين البريطانيين وطالبهم بضرورة "رعاية نبتة الثقة المتبادلة الصغيرة"، وذكرهم بأن ذلك الأمر سيكون "مهمة عسيرة تتطلب صبرا لا حدود له من جانب كل المسؤولين البريطانيين، الذين ينبغي تذكيرهم دوما بأنهم يمثلون حكومة أجنبية".
وصاغ البريطاني براون قانونا جديدا للنقابات في عام 1948م، كان نسخة أخرى من قانون النقابات البريطاني الصادر في القرن التاسع عشر، مع اختلاف واحد هو ضرورة أن تقدم النقابة (في السودان) طلبا إلى مسجل النقابات ليتم تسجيلها رسميا. ولكي تُسجل ينبغي عليها أن تضع لها نظاما أساسيا يوافق عليه مسجل النقابات. وكان براون أكثر تعاطفا مع عمال السودان من غيره من البريطانيين، وبذل جهدا كبيرا لإقناع السلطات بقبول هذه القانون.
ورغم أن السلطات الحكومية كانت توافق – من ناحية المبدأ – على أن مطالب العمال هي مطالب عادلة ومعقولة، وأنه يجب عليها العمل على إصلاح أحوالهم، إلا أن قادة الحركة العمالية – مثل سليمان موسى، ولاحقا قادة مشهورين آخرين مثل الشفيع أحمد الشيخ ومحمد السيد سلام – كانوا يتعرضون للمضايقة بصورة منهجية، وكان كل ما يصدرونه من بيانات يُعد جريمة تستحق المحاكمة والعقاب. وقضى الكثيرون منهم فترات في السجن، وصوروا على أنهم انتهازيين ليس لهم من مقصد سوى الكسب الشخصي. وعند صدور قانون جديد للنقابات في أواخر عام 1948م انتقده قادة العمل النقابي. غير أن كوان (في رسالة منه إلى السكرتير الإداري لحكومة السودان) أَرْجَع تلكَ الانتقادات إلى "أجندة خاصة" بقادة هيئة شؤون العمال، وذكر أنهم ينتقدون القانون لأنه يحد من حريتهم في التصرف في إدارة الهيئة، وأن القانون الجديد يلزمهم بتوضيح ميزانيتهم وإخضاعها للمراجعة عن طريق مراجع مؤهل مسؤول، وأشار أيضا إلى اختفاء آلاف الجنيهات المرسلة من مصر للهيئة في العام السابق. وكان هذا يعني أن كوان كان يتهم قادة الهيئة بالفساد وحب السلطة. وكال لهم كوان اتهاما آخر وهو أن هؤلاء تلقوا "جرعات تطعيم" شيوعية، وأنه تأكد من ذلك بعد اجتماعه بهم، ومن الدعايات التي كانوا يبثونها (في أوساط العمال).
وكانت المظاهرات التي تعقب الإضرابات تتعرض لأشد أنواع القمع، ويصاب فيها المتظاهرون بأذى بالغ. فقد واجهت الشرطة (والجيش) بعنف شديد العمال الذين تظاهروا أمام مكتب مدير مصلحة السكة حديد عقب اضراب يوليو 1947م. وأرسل جنود من الشرطة لمجابهة المتظاهرين بالغاز المسيل للدموع والهروات في إضراب مارس – أبريل 1948م. وأعتقل في أيام ذلك الإضراب سليمان موسى، وكان ذلك مما دعا عمال الخرطوم وبورتسودان وأتبرا للتظاهر عدة مرات احتجاجا. وكانت مظاهرة الخرطوم أكبرها، إذ شارك فيها نحو ستة آلاف من العمال.


alibadreldin@hotmail.com

 

آراء