موبقات المفاوضات مع الانقلابيين (1/2): مواقف الأطراف الإقليمية والدولية … المخاوف والرغبات
ماهر أبوجوخ
13 March, 2022
13 March, 2022
شهدت الساعات الـ48 الماضية تصاعد للأنباء لوساطات ومفاوضات جمعت بعض الأطراف السودانية مع قادة المكون العسكري لإنقلاب 25 أكتوبر 2021م في ما نشرت جهات أخرى التوصل لإتفاق عام. ورغم أن جميع تلك الأنباء لم تفصح عن تفاصيل محتويات تلك المباحثات إلا أن النقاط الواضحة حتى اللحظة تشير إلي أن القاسم المشترك بينها بأن رئيس الوزراء المستقيل دكتور عبدالله حمدوك سيكون ضمن العائدين للمشهد مجدداً مع وجود عدم إتفاق حول تموضعه الجديد هل سيترأس مجلس السيادة أم سيعود لموقعه السابق رئيساً للوزراء ومرة أخرى الوزراء؟. بغض النظر عن موقعه فإن القاسم المشترك هو التطابق في ما يتصل بعودة حمدوك مرة أخرى للواجهة ووجود مساعي إقليمية ودولية لإخراج البلاد من حالة الإنسداد السياسي.
حدوث تحركات دولية وإقليمية بين مجموعة إنقلاب 25 أكتوبر والمناهضين والمقاومين هو أمر مرجح حدوثه نظراً للعديد من المؤشرات أبرزها قرار المجتمعين الدولي والإقليمي العمل المشترك بين بعثة الأمم المتحدة الخاصة للسودان (يونتامس) والإتحاد الإفريقي عبر إعلانهما تجاوز التجاذب الذي نشب بينهما وقرارهما بالعمل سوياً من أجل حل ملف الأزمة السودانية وتدشين هذا التوجه بالمؤتمر الصحفي الذي عقد أواخر الأسبوع الماضي بين ممثلي الطرفين بالخرطوم.
ما قيل في ذلك المؤتمر الصحفي بوضوح أن الأوضاع في السودان وصلت لمرحلة تقارب الإنهيار، ولا يخفي تنامي مؤشرات إضافية تزيد من فرص حدوث هذا السيناريو فالعملة الوطنية فقدت ما يقارب العشرين في المائة من قيمتها خلال الأسبوع الأول من تحرير سعر الجنيه أمام العملات الأجنبية ويتوقع أن تفقد المزيد من قيمتها إذا ما إستمرت الحالة غير المتكافئة ما بين المؤسسات الرسمية للدولة والسوق الموازي في مجال تجارة العملات وخطورة هذا الأمر يتمثل في اثره المباشر على السلع والخدمات وتسببه في موجة غلاء متزايدة ستؤثر في حياة كل السودانيين.
تصاعدت وتيرة هذا الإنهيار جراء الإرتفاع العالمي للوقود وتقلص مخزونات الغذاء بالبلاد ونقصان الإمداد الكهربائي وتأكل الإحتياطي من النقد الأجنبي والذهب والمظاهر الواضحة للإنفلات الأمني في مناطق الحروب وحتى العاصمة، وشيخوخة الدولة المركزية التي باتت حدود سلطاتها لا يتجاوز العاصمة والمدن الرئيسية بالبلاد، بجانب تزايد نذر المواجهة المسلحة بين الأطراف الداعمة للإنقلاب والذي سيكون عند حدوثه المسمار الأول في نعش الدولة المركزية وبداية إنهيارها.
أضاف الإنقلاب لسجل فشله الإقتصادي والأمني جانب إضافي يتمثل في الفشل السياسي، فالمؤسسات الدستورية والعدلية التي وعد بتشكيلها قبل نهاية شهر أكتوبر أو بداية نوفمبر 2021م لا تزال حتى منتصف مارس 2022م غائبة، ومنذ إستقالة رئيس الوزراء السابق دكتور عبدالله حمدوك في بداية يناير الماضي لم يتم تسمية رئيس للوزراء بديل ومنح رئيس مجلس السيادة نفسه سلطات ضاهت حتى الممنوحة لرئيس للجمهورية في دستور 2005م عقب إستحوذه على كل السلطات المرتبطة بالتعيين والإعفاء والتشريع. عوضاً عن تحقيق الإنقلاب لتوسعة المشاركة انتهي لتقليص مشاركة المجموعات السياسية المتحالفة معه وزاد من عزلتها السياسية والإجتماعية، ولذلك تبدو القرارات المحدودة بتعينات دستورية في بعض الأقاليم والولايات مؤخراً لبعض أطراف إتفاق سلام جوبا بمثابة إرضاء لتلك الأطراف وتهدئتها بعد تنامي إحساسها بالتهميش عقب 25 أكتوبر بشكل أكبر من الفترة التي سبقت هذا الإنقلاب.
ظلت جميع الأطراف الداخلية والخارجية منذ الإعلان عن الإنقلاب فجر 25 أكتوبر ترصد وتحلل وتقييم وتتابع تصوراته لحل الأزمة والإحتقان السياسي بالبلاد سواء الناتجة عن الإنقلاب أو التي تم إعدادها لتهيئة المسرح للإنقلاب، نموذجاً الجوانب المرتبطة بقضية شرق السودان بشقها السياسي المتصل بمسار شرق السودان أو الإقتصادي بإغلاق ميناء بورتسودان وخروجه من دائرة العمل الإقتصادي، أو خلق السيولة الأمنية بالمدن الكبيرة أو مناطق إنتاج النفط ... كانت الحصيلة المدهشة والمفاجأة غير المتوقعة أن الإنقلاب عجر عن حل تلك الأزمات بما في ذلك التي قام بصناعتها بيده !!
لا تزال حركة مقاومة الإنقلاب بعد ما يقارب الخمسة أشهر قادرة على الصمود في مواجهة القمع والعنف المفرطين تجاهها منذ صبيحة الإنقلاب في 25 أكتوبر، ومن الواضح أن إجراءات الطوارئ والسلطات الإستثنائية للقوات النظامية في القبض والعنف والقتل باتت عاجزة عن إيقاف المقاومة رغم الكلفة العالية لهذا الصمود حسب ما أظهرته أرقام الشهداء والجرحي والمعتقلين طوال الشهور الماضية.
أفضي المراهنة على عامل الوقت لإنهاك وإضعاف الحراك الشعبي المناهض للإنقلاب لنتيجة عكسية فعوضاً عن أثره السلبي على المقاومين للإنقلاب فإن تطاول أمد المواجهة وضح على القوات النظامية وطال حتى إستراتيجيتها تجاه إحتواء والحد من أثر المقاومة والتي باتت مرتبكة غير تسقة، فتارة تفرط في العنف ومرات أخرى تستخدم أقل قدر من العنف، تقوم بتنظيم حملات منظمة تستهدف الناشطين وتقوم بإعتقالهم لفترات طويلة ثم تطلق سراحهم ثم تلجأ لفتح بلاغات في مواجهتهم وفي مرات أخرى تكتفي بضربهم وتطلق سراحهم.
خلاصة هذا الأمر يظهر فقدان أي تصورات إستراتيجية لكيفية التعامل مع الحراك الشعبي المقاوم للإنقلاب أمنياً أو سياسياً، وعلى العكس تماماً فإن تصرفات قوات الإنقلابيين على الأرض توسع دائرة العداء للإنقلاب وتحشد أعداء كثر في مواجهتها عبر إستهدافها لقطاعات مؤثرة كالشباب والنساء والإعلاميين والقانونيين والكوادر الطبية غيرهم الذين وضح أن ردة فعهلم كانت زيادة إصرارهم ومواجهة ومقاومة الإنقلاب.
من الضروري إستصحاب إقرار قادة الإنقلاب بتأثير فعاليات المقاومة على الأوضاع العامة بالبلاد سواء كان ذلك عن طريق سلوكهم عبر اللجوء لإغلاق الجسور وقطع خدمات الإتصالات والإنترنت أو إغلاق وسط الخرطوم وغيرها، أو من خلال أقوالهم بإعترافهم بالتأثير السيلسي والإقتصادي والدبلوماسي على إستمرار التظاهرات. عند مقارنة ذلك السلوك بحقبة النظام المباد نجد أن الرئيس المخلوع ظل حتى اللحظات ألأخيرة يزعم أن التظاهرات بدون اي تأثير يذكر وحرص إعلامه على إظهار الحياة العامة بالبلاد وكأنها تمضي بشكل طبيعي وعدم تأثرها بالحراك الشعبي. "
بجانب ما أشرنا إليه سابقاً فإن الإنقلاب وقادته إتخذوا خطوات سلطت الأضواء الدولية والإقليمية على توجهاتهم الحقيقية وجعلت بعض الأطراف تتوجس من التبعات الإستراتيجية الناتجة عن تلك الخطوات، فأول تلك الإجراءات هي المتصلة بالإستعانة بعناصر النظام المباد وإعادتهم لواجهة الأحداث مجدداً في المؤسسات الدبلوماسية والإعلامية والإقتصادية .. الخ بالتوازي مع إستهداف لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989م وإسترداد الأموال وقادتها والعاملين فيها.
قد يطرح البعض هنا إستفساراً حول اسباب إهتمام الأطراف والجهات الإقليمية بلجنة تفكيك التمكين وعملها للدرجة التي قد يصبح الموقف المناهض لها أحد بواعث قلقه ؟ فالمعلوم أن النظام المباد صاحب سجل طويل في زعزعة وتقويض الإستقرار الإقليمي للمنطقة والدول فإذا كان يُنظر للجنة التفكيك على المستوي المحلى بوصفها -بغض النظر عن الإتفاق أو الإختلاف حول عمل اللجنة ومنهجها هذا شأن أخر ليس هذا موضع نقاشه- المعبرة عن روح الثورة وأهدافها في تفكيك التمكين وإسترداد الثروات المستحوذ عليها بالتمكين والفساد خلال العقود الثلاثة الماضية. فإن التعاطي الإقليمي والدولي مع لجنة التفكيك وأنشطتها بوصفها المعبر الحقيقي والأكيد للقطيعة ما بين السودان وحقبة النظام المباد والقطيعة الكاملة لإرثه الداعم لعدم الإستقرار بالمنطقة، ويتم ترجمة هذا التوجه الجديدة بإبعاد مؤسسات الدولة العامة من هيمنة عناصر النظام المباد وتفكيك بنيته التحتية وواجهاته الحزبية والتنظيمية والإقتصادية والإعلامية وكل أذرعه الضالعة في أي نشاطات تهدد السلم والأمن لاي من الدول أو الإقليم.
يعد تقويض عمل لجنة التفكيك وإستهداف العاملين فيها وإلغاء قراراتها وعودة عناصر النظام المباد وسيطرتهم على مؤسسات البلاد مجدداً برضا ومباركة قادة الإنقلاب هو أمر مثير لقلق الأطراف الإقليمية والدولية، ومن المؤكد أن تلك الجهات لن تتحلى بالصبر لتعرف شكل الكائن الذي سيخرج لها من داخل بيض الثعابين وينتظروا صغار الأفعي تلك حتى تكبر وتلدغهم، من المؤكد أنهم لن ينقضوا عليها في جوحرها غداً ولكن سيقوموا اليوم بتهشيمها قبل أن تخرج للوجود !!
ستبقي القشة التي قصمت ظهر الإنقلاب هي زيارة روسيا الأخيرة والتصريحات التي أدلي بها قائد قوات الدعم السريع حول النزاع الروسي الأوكراني ثم تصريحاته الصحفية بعد عودته للخرطوم بعدم وجود ما يمنع من إنشاء قواعد أجنبية لأي دولة من الدول علي رأسها روسيا على طول الساحل السوداني. هذا التصريح في حد ذاته وفي حال حدوثه سيجعل منطقة أمن البحر الأحمر عرضه للخطر وعدم الإستقرار جراء سيادة منهجية تفكير تغفل المصالح الإستراتيجية المشتركة بين دول الإقليم، والصراع الدولي على النفوذ وتداعيات بإيجاد موطئ قدم لروسيا في منطقة البحر الأحمر وهو ما يعني عملياً نقل مهددات وتوترات الصراع الدولي وتدعياته لكل دول المنطقة.
لكن هل الجزئية الخاصة بإمكاينة إنشاء روسيا لقاعدة في البحر الأحمر هو الأمر الوحيد المثير للقلق في مجال العلاقات الإنقلابية الروسية أم توجد جوانب أخرى؟ توجد قضايا أخرى ذات إهتمام أطراف دولية أخرى مرتبطة بالتمدد الروسي في إفريقيا الوسطي عبر نافذة السودان، ومحاولة التوغل في تشاد بجانب تحركات أخرى في غرب إفريقيا خاصة في مالي والقاسم المشترك بين جميع تلك المناطق بأنها واقعة ضمن دائرة النفوذ الفرنسي بالقارة ألإفريقية.
الناظر للصراع في أوكرانيا يتوصل لنقطة مفادها أن موسكو بمعيار الحسابات العسكرية ستكون رغم التكلفة الإقتصادية والدبلوماسية لهذه الحرب قادرة على تحقيق جزء كبير من إستراتيجتها بالهجوم على أوكرانيا والمتمثلة في إبعاد شبح تمركز حلف الناتو جوار حدودها إما بإلزام أوكرانيا بالحياد وعدم الإنضمام للناتو أو الإعتراف باستقلال الجمهوريات الروسية الثلاثة بحيث تصبح بمثابة حائط صد فاصل بين روسيا وما مناطق تمركز الناتو في ما تبقي من أوكرانيا.
حصيلة هذا الأمر سيجعل الأطراف المساندة لأوكرانيا في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية حسب تقديري ستكون بحاجة لإنتصار على روسيا في ميدان أخر وفي تقديري أن أنسب ميدان لتحقيق هذا الإنتصار ورد الصاع هو (السودان) ومن ثم الإنتقال تقليم مواقع التمدد الروسي في أفريقيا في أبهي صور عودة اأجواء لحرب الباردة مجدداً.
من الواضح أن العديد من الأطراف الإقليمية باتت تعيد تقييم مواقفها من الأوضاع في السودان جراء النتائج المترتبة على إنقلاب 25 أكتوبر بإيصاله لأوضاع البلاد لإنسداد سياسي وإنهيار إقتصادي وسيولة أمنية باتت أكثر خطورة من تلك السائدة قبل 25 أكتوبر، وهو ما يمثل تهدييداً لوجود ومستقبل الدولة نفسها، ومع إستمرار المقاومة الرافضة للإنقلاب وتناميها بسبب نتائج المسلك الأمني والتدهور الإقتصادي، وتزايد مظاهر سيطرة عناصر النظام المباد على البلاد بجانب دخول السودان في لعبة الأمم دون مراعاة لمصالح ومخاوف الأطراف لإقليمية بالمنطقة بما في ذلك الحليفة أو التي تجمعه معها صلات جيدة.
مثلت جميع هذه المعطيات المحفز الأكبر للأطراف الإقليمية -حسب تقديري- لإعادة النظر وتقييم موقفها ورؤيتها حيال ما يحدث في السودان وتحالفاتها سيما أن سيناريوهات تطور الأحداث ستمضي في حالة إستقرار البلاد لعودة النظام القديم وعناصره، أو إنزلاق البلاد في أتون مواجهات وحرب داخلية ستكون ذات تداعيات أمنية وإنسانية وسياسية وإقتصادية وخيمة على كل دول الإقليم. ما أشرنا إليه سابقاً هو المحفز لتلك الأطراف ودافعها للتحرك السريع لتجاوز أي من هذه السيناريوهات. يتم هذا التحرك بدون إكتراث بعض الأطراف لتصوراتها لمعادلة وشكل حكم البلاد أو موقع الحلفاء مستقبل البلاد من خلال التركيز على أربعة قواعد متلازمة أولهما (إنهاء الإنسداد السياسي لحماية البلاد من الإنزلاق صوب الهاوية) وثانيهما (إستبعاد النظام المباد وعدم عودته للواجهة مرة أخرى) وثالثها (الإلتزام بالإستقرار الإقليمي بشكل مشترك مع كل الجيران) ورابعها (الإنفتاح والإنخراط مع المجتمع الدولي وتحصيل الفوائد بشكل مشترك).
ما ذكرناه سابقاً مثل الإطار النظرى لتفسير التحولات والتطورات الإقليمية والدولية مؤخراً تجاه الملف السوداني ومنظورها للحل بما في ذلك إمكانية تحقيق الحلول الوسطي وهو ما يستوجب على قوى الثورة ومناهضة الإنقلاب أن تستفيد من هذا التحول للإنفتاح خارجياً وتجريد الإنقلاب من أي تعاطف أو سند خارجي إقليمي أو دولي، وفي ذات الوقت على قوى الثورة المناهضة للإنقلاب المؤمنة بإستكمال الإنقتال أن تتجنب الوقوع في أي موبقات تفضي لإعادة إنشاء أوضاع مختلفة يصمد بعضها لسنوات كما حدث للإتفاق السياسي والوثيقة الدستورية، أو لأشهر كما حدث لإتفاق 21 نوفمبر 2021م.
لعل هذه الموبقات الواجب تجنبها من قبل دكتور عبدالله حمدوك ولجان المقاومة والأحزاب السياسية وقوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين بحيث تكون حصيلة ما يتم التوصل إليه ملبياً لتطلعات الشهداء الذين إرتقت أرواحهم ويكون بلسماً لجراج الجرحي ومعيناً على الصبر لحين عودة المفقودين أو معرفة مصيرهم ومتسقاً ومتوافقاً مع أحلام وأهداف ومطالب ثورة ديسمبر بشيبها وشبابها وأطفالها وصولاً لدولة مدنية ديمقراطية .. وهو ما سنقوم بطرحه في الحلقة الثانية من هذا المقال
(يتابع)
12 مارس 2022م
mahirsudan_000@yahoo.com
///////////////////////////
حدوث تحركات دولية وإقليمية بين مجموعة إنقلاب 25 أكتوبر والمناهضين والمقاومين هو أمر مرجح حدوثه نظراً للعديد من المؤشرات أبرزها قرار المجتمعين الدولي والإقليمي العمل المشترك بين بعثة الأمم المتحدة الخاصة للسودان (يونتامس) والإتحاد الإفريقي عبر إعلانهما تجاوز التجاذب الذي نشب بينهما وقرارهما بالعمل سوياً من أجل حل ملف الأزمة السودانية وتدشين هذا التوجه بالمؤتمر الصحفي الذي عقد أواخر الأسبوع الماضي بين ممثلي الطرفين بالخرطوم.
ما قيل في ذلك المؤتمر الصحفي بوضوح أن الأوضاع في السودان وصلت لمرحلة تقارب الإنهيار، ولا يخفي تنامي مؤشرات إضافية تزيد من فرص حدوث هذا السيناريو فالعملة الوطنية فقدت ما يقارب العشرين في المائة من قيمتها خلال الأسبوع الأول من تحرير سعر الجنيه أمام العملات الأجنبية ويتوقع أن تفقد المزيد من قيمتها إذا ما إستمرت الحالة غير المتكافئة ما بين المؤسسات الرسمية للدولة والسوق الموازي في مجال تجارة العملات وخطورة هذا الأمر يتمثل في اثره المباشر على السلع والخدمات وتسببه في موجة غلاء متزايدة ستؤثر في حياة كل السودانيين.
تصاعدت وتيرة هذا الإنهيار جراء الإرتفاع العالمي للوقود وتقلص مخزونات الغذاء بالبلاد ونقصان الإمداد الكهربائي وتأكل الإحتياطي من النقد الأجنبي والذهب والمظاهر الواضحة للإنفلات الأمني في مناطق الحروب وحتى العاصمة، وشيخوخة الدولة المركزية التي باتت حدود سلطاتها لا يتجاوز العاصمة والمدن الرئيسية بالبلاد، بجانب تزايد نذر المواجهة المسلحة بين الأطراف الداعمة للإنقلاب والذي سيكون عند حدوثه المسمار الأول في نعش الدولة المركزية وبداية إنهيارها.
أضاف الإنقلاب لسجل فشله الإقتصادي والأمني جانب إضافي يتمثل في الفشل السياسي، فالمؤسسات الدستورية والعدلية التي وعد بتشكيلها قبل نهاية شهر أكتوبر أو بداية نوفمبر 2021م لا تزال حتى منتصف مارس 2022م غائبة، ومنذ إستقالة رئيس الوزراء السابق دكتور عبدالله حمدوك في بداية يناير الماضي لم يتم تسمية رئيس للوزراء بديل ومنح رئيس مجلس السيادة نفسه سلطات ضاهت حتى الممنوحة لرئيس للجمهورية في دستور 2005م عقب إستحوذه على كل السلطات المرتبطة بالتعيين والإعفاء والتشريع. عوضاً عن تحقيق الإنقلاب لتوسعة المشاركة انتهي لتقليص مشاركة المجموعات السياسية المتحالفة معه وزاد من عزلتها السياسية والإجتماعية، ولذلك تبدو القرارات المحدودة بتعينات دستورية في بعض الأقاليم والولايات مؤخراً لبعض أطراف إتفاق سلام جوبا بمثابة إرضاء لتلك الأطراف وتهدئتها بعد تنامي إحساسها بالتهميش عقب 25 أكتوبر بشكل أكبر من الفترة التي سبقت هذا الإنقلاب.
ظلت جميع الأطراف الداخلية والخارجية منذ الإعلان عن الإنقلاب فجر 25 أكتوبر ترصد وتحلل وتقييم وتتابع تصوراته لحل الأزمة والإحتقان السياسي بالبلاد سواء الناتجة عن الإنقلاب أو التي تم إعدادها لتهيئة المسرح للإنقلاب، نموذجاً الجوانب المرتبطة بقضية شرق السودان بشقها السياسي المتصل بمسار شرق السودان أو الإقتصادي بإغلاق ميناء بورتسودان وخروجه من دائرة العمل الإقتصادي، أو خلق السيولة الأمنية بالمدن الكبيرة أو مناطق إنتاج النفط ... كانت الحصيلة المدهشة والمفاجأة غير المتوقعة أن الإنقلاب عجر عن حل تلك الأزمات بما في ذلك التي قام بصناعتها بيده !!
لا تزال حركة مقاومة الإنقلاب بعد ما يقارب الخمسة أشهر قادرة على الصمود في مواجهة القمع والعنف المفرطين تجاهها منذ صبيحة الإنقلاب في 25 أكتوبر، ومن الواضح أن إجراءات الطوارئ والسلطات الإستثنائية للقوات النظامية في القبض والعنف والقتل باتت عاجزة عن إيقاف المقاومة رغم الكلفة العالية لهذا الصمود حسب ما أظهرته أرقام الشهداء والجرحي والمعتقلين طوال الشهور الماضية.
أفضي المراهنة على عامل الوقت لإنهاك وإضعاف الحراك الشعبي المناهض للإنقلاب لنتيجة عكسية فعوضاً عن أثره السلبي على المقاومين للإنقلاب فإن تطاول أمد المواجهة وضح على القوات النظامية وطال حتى إستراتيجيتها تجاه إحتواء والحد من أثر المقاومة والتي باتت مرتبكة غير تسقة، فتارة تفرط في العنف ومرات أخرى تستخدم أقل قدر من العنف، تقوم بتنظيم حملات منظمة تستهدف الناشطين وتقوم بإعتقالهم لفترات طويلة ثم تطلق سراحهم ثم تلجأ لفتح بلاغات في مواجهتهم وفي مرات أخرى تكتفي بضربهم وتطلق سراحهم.
خلاصة هذا الأمر يظهر فقدان أي تصورات إستراتيجية لكيفية التعامل مع الحراك الشعبي المقاوم للإنقلاب أمنياً أو سياسياً، وعلى العكس تماماً فإن تصرفات قوات الإنقلابيين على الأرض توسع دائرة العداء للإنقلاب وتحشد أعداء كثر في مواجهتها عبر إستهدافها لقطاعات مؤثرة كالشباب والنساء والإعلاميين والقانونيين والكوادر الطبية غيرهم الذين وضح أن ردة فعهلم كانت زيادة إصرارهم ومواجهة ومقاومة الإنقلاب.
من الضروري إستصحاب إقرار قادة الإنقلاب بتأثير فعاليات المقاومة على الأوضاع العامة بالبلاد سواء كان ذلك عن طريق سلوكهم عبر اللجوء لإغلاق الجسور وقطع خدمات الإتصالات والإنترنت أو إغلاق وسط الخرطوم وغيرها، أو من خلال أقوالهم بإعترافهم بالتأثير السيلسي والإقتصادي والدبلوماسي على إستمرار التظاهرات. عند مقارنة ذلك السلوك بحقبة النظام المباد نجد أن الرئيس المخلوع ظل حتى اللحظات ألأخيرة يزعم أن التظاهرات بدون اي تأثير يذكر وحرص إعلامه على إظهار الحياة العامة بالبلاد وكأنها تمضي بشكل طبيعي وعدم تأثرها بالحراك الشعبي. "
بجانب ما أشرنا إليه سابقاً فإن الإنقلاب وقادته إتخذوا خطوات سلطت الأضواء الدولية والإقليمية على توجهاتهم الحقيقية وجعلت بعض الأطراف تتوجس من التبعات الإستراتيجية الناتجة عن تلك الخطوات، فأول تلك الإجراءات هي المتصلة بالإستعانة بعناصر النظام المباد وإعادتهم لواجهة الأحداث مجدداً في المؤسسات الدبلوماسية والإعلامية والإقتصادية .. الخ بالتوازي مع إستهداف لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989م وإسترداد الأموال وقادتها والعاملين فيها.
قد يطرح البعض هنا إستفساراً حول اسباب إهتمام الأطراف والجهات الإقليمية بلجنة تفكيك التمكين وعملها للدرجة التي قد يصبح الموقف المناهض لها أحد بواعث قلقه ؟ فالمعلوم أن النظام المباد صاحب سجل طويل في زعزعة وتقويض الإستقرار الإقليمي للمنطقة والدول فإذا كان يُنظر للجنة التفكيك على المستوي المحلى بوصفها -بغض النظر عن الإتفاق أو الإختلاف حول عمل اللجنة ومنهجها هذا شأن أخر ليس هذا موضع نقاشه- المعبرة عن روح الثورة وأهدافها في تفكيك التمكين وإسترداد الثروات المستحوذ عليها بالتمكين والفساد خلال العقود الثلاثة الماضية. فإن التعاطي الإقليمي والدولي مع لجنة التفكيك وأنشطتها بوصفها المعبر الحقيقي والأكيد للقطيعة ما بين السودان وحقبة النظام المباد والقطيعة الكاملة لإرثه الداعم لعدم الإستقرار بالمنطقة، ويتم ترجمة هذا التوجه الجديدة بإبعاد مؤسسات الدولة العامة من هيمنة عناصر النظام المباد وتفكيك بنيته التحتية وواجهاته الحزبية والتنظيمية والإقتصادية والإعلامية وكل أذرعه الضالعة في أي نشاطات تهدد السلم والأمن لاي من الدول أو الإقليم.
يعد تقويض عمل لجنة التفكيك وإستهداف العاملين فيها وإلغاء قراراتها وعودة عناصر النظام المباد وسيطرتهم على مؤسسات البلاد مجدداً برضا ومباركة قادة الإنقلاب هو أمر مثير لقلق الأطراف الإقليمية والدولية، ومن المؤكد أن تلك الجهات لن تتحلى بالصبر لتعرف شكل الكائن الذي سيخرج لها من داخل بيض الثعابين وينتظروا صغار الأفعي تلك حتى تكبر وتلدغهم، من المؤكد أنهم لن ينقضوا عليها في جوحرها غداً ولكن سيقوموا اليوم بتهشيمها قبل أن تخرج للوجود !!
ستبقي القشة التي قصمت ظهر الإنقلاب هي زيارة روسيا الأخيرة والتصريحات التي أدلي بها قائد قوات الدعم السريع حول النزاع الروسي الأوكراني ثم تصريحاته الصحفية بعد عودته للخرطوم بعدم وجود ما يمنع من إنشاء قواعد أجنبية لأي دولة من الدول علي رأسها روسيا على طول الساحل السوداني. هذا التصريح في حد ذاته وفي حال حدوثه سيجعل منطقة أمن البحر الأحمر عرضه للخطر وعدم الإستقرار جراء سيادة منهجية تفكير تغفل المصالح الإستراتيجية المشتركة بين دول الإقليم، والصراع الدولي على النفوذ وتداعيات بإيجاد موطئ قدم لروسيا في منطقة البحر الأحمر وهو ما يعني عملياً نقل مهددات وتوترات الصراع الدولي وتدعياته لكل دول المنطقة.
لكن هل الجزئية الخاصة بإمكاينة إنشاء روسيا لقاعدة في البحر الأحمر هو الأمر الوحيد المثير للقلق في مجال العلاقات الإنقلابية الروسية أم توجد جوانب أخرى؟ توجد قضايا أخرى ذات إهتمام أطراف دولية أخرى مرتبطة بالتمدد الروسي في إفريقيا الوسطي عبر نافذة السودان، ومحاولة التوغل في تشاد بجانب تحركات أخرى في غرب إفريقيا خاصة في مالي والقاسم المشترك بين جميع تلك المناطق بأنها واقعة ضمن دائرة النفوذ الفرنسي بالقارة ألإفريقية.
الناظر للصراع في أوكرانيا يتوصل لنقطة مفادها أن موسكو بمعيار الحسابات العسكرية ستكون رغم التكلفة الإقتصادية والدبلوماسية لهذه الحرب قادرة على تحقيق جزء كبير من إستراتيجتها بالهجوم على أوكرانيا والمتمثلة في إبعاد شبح تمركز حلف الناتو جوار حدودها إما بإلزام أوكرانيا بالحياد وعدم الإنضمام للناتو أو الإعتراف باستقلال الجمهوريات الروسية الثلاثة بحيث تصبح بمثابة حائط صد فاصل بين روسيا وما مناطق تمركز الناتو في ما تبقي من أوكرانيا.
حصيلة هذا الأمر سيجعل الأطراف المساندة لأوكرانيا في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية حسب تقديري ستكون بحاجة لإنتصار على روسيا في ميدان أخر وفي تقديري أن أنسب ميدان لتحقيق هذا الإنتصار ورد الصاع هو (السودان) ومن ثم الإنتقال تقليم مواقع التمدد الروسي في أفريقيا في أبهي صور عودة اأجواء لحرب الباردة مجدداً.
من الواضح أن العديد من الأطراف الإقليمية باتت تعيد تقييم مواقفها من الأوضاع في السودان جراء النتائج المترتبة على إنقلاب 25 أكتوبر بإيصاله لأوضاع البلاد لإنسداد سياسي وإنهيار إقتصادي وسيولة أمنية باتت أكثر خطورة من تلك السائدة قبل 25 أكتوبر، وهو ما يمثل تهدييداً لوجود ومستقبل الدولة نفسها، ومع إستمرار المقاومة الرافضة للإنقلاب وتناميها بسبب نتائج المسلك الأمني والتدهور الإقتصادي، وتزايد مظاهر سيطرة عناصر النظام المباد على البلاد بجانب دخول السودان في لعبة الأمم دون مراعاة لمصالح ومخاوف الأطراف لإقليمية بالمنطقة بما في ذلك الحليفة أو التي تجمعه معها صلات جيدة.
مثلت جميع هذه المعطيات المحفز الأكبر للأطراف الإقليمية -حسب تقديري- لإعادة النظر وتقييم موقفها ورؤيتها حيال ما يحدث في السودان وتحالفاتها سيما أن سيناريوهات تطور الأحداث ستمضي في حالة إستقرار البلاد لعودة النظام القديم وعناصره، أو إنزلاق البلاد في أتون مواجهات وحرب داخلية ستكون ذات تداعيات أمنية وإنسانية وسياسية وإقتصادية وخيمة على كل دول الإقليم. ما أشرنا إليه سابقاً هو المحفز لتلك الأطراف ودافعها للتحرك السريع لتجاوز أي من هذه السيناريوهات. يتم هذا التحرك بدون إكتراث بعض الأطراف لتصوراتها لمعادلة وشكل حكم البلاد أو موقع الحلفاء مستقبل البلاد من خلال التركيز على أربعة قواعد متلازمة أولهما (إنهاء الإنسداد السياسي لحماية البلاد من الإنزلاق صوب الهاوية) وثانيهما (إستبعاد النظام المباد وعدم عودته للواجهة مرة أخرى) وثالثها (الإلتزام بالإستقرار الإقليمي بشكل مشترك مع كل الجيران) ورابعها (الإنفتاح والإنخراط مع المجتمع الدولي وتحصيل الفوائد بشكل مشترك).
ما ذكرناه سابقاً مثل الإطار النظرى لتفسير التحولات والتطورات الإقليمية والدولية مؤخراً تجاه الملف السوداني ومنظورها للحل بما في ذلك إمكانية تحقيق الحلول الوسطي وهو ما يستوجب على قوى الثورة ومناهضة الإنقلاب أن تستفيد من هذا التحول للإنفتاح خارجياً وتجريد الإنقلاب من أي تعاطف أو سند خارجي إقليمي أو دولي، وفي ذات الوقت على قوى الثورة المناهضة للإنقلاب المؤمنة بإستكمال الإنقتال أن تتجنب الوقوع في أي موبقات تفضي لإعادة إنشاء أوضاع مختلفة يصمد بعضها لسنوات كما حدث للإتفاق السياسي والوثيقة الدستورية، أو لأشهر كما حدث لإتفاق 21 نوفمبر 2021م.
لعل هذه الموبقات الواجب تجنبها من قبل دكتور عبدالله حمدوك ولجان المقاومة والأحزاب السياسية وقوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين بحيث تكون حصيلة ما يتم التوصل إليه ملبياً لتطلعات الشهداء الذين إرتقت أرواحهم ويكون بلسماً لجراج الجرحي ومعيناً على الصبر لحين عودة المفقودين أو معرفة مصيرهم ومتسقاً ومتوافقاً مع أحلام وأهداف ومطالب ثورة ديسمبر بشيبها وشبابها وأطفالها وصولاً لدولة مدنية ديمقراطية .. وهو ما سنقوم بطرحه في الحلقة الثانية من هذا المقال
(يتابع)
12 مارس 2022م
mahirsudan_000@yahoo.com
///////////////////////////