موسم الهجرة الى ارض المحس والسكوت وحلفا

 


 

 

يحيط بنا الضياع والفاقه والحسرة من كل جانب على وطن أصبح يتسرب الآن كحبات الرمل من بين فرجات الأصابع ..وطن مأزوم منكوب بأبنائه كلما لاحت حفنة ضوء في آخر النفق المظلم يتسابقون ويتقاتلون لاطفائه ..فدعونا نقتفي آثار اسحاق الحلنقي لنردد معه ..
يلاك بعيد نرحل
لدنيا حنية
نعيش لوحدينا
سيرتنا منسية
(2)
تعتز هذه القبائل الضاربة جذورها في عمق التأريخ كثيرا بتراثها وأعرافها ولكن (يا ويلك وسهر ليلك) أن تجلس وسطها لأنهم يحرصون كل الحرص على الحديث بلغاتهم الخاصة وهم يعلمون تماما أنك انت الجالس وسطهم لا تفقه شيئا مما يقولون وهم هنا يختلفون تماما عن رطانة آخرين منهم أهلنا البجا فهؤلاء يتحسسون ويعملون ألف حساب للجالس وسطهم خاصة اذا كان لايفهم البداويت ..ولكن الذي يلفت النظر هنا وأنت تجلس وسطهم كالأطرش في الزفة أن يلتفتك اليك أحدهم من حين لآخر معتذرا..(معليش يالأخو سرحنا شوية) ..هنا تبتهج وتقول الآن جائت البشارة ..هؤلاء القوم اعترفوا انهم سرحوا وبالتالي سيتحدثون بلغة تفهمها ..ولكنهم سرعان ما يعودون الى الرطانة وكأن شيئا لم يكن . ورغم ذلك اعجبت بهم واعجابي هذا بدأ أثناء الدراسة في مدرسة سلوم الأولية في ذلك الزمان .
(3)
كان نقلنا الى سلوم نقلة حضارية ونقطة تحول كبرى في حياتنا نحن البدو الذي كنا نعيش في بر قريتنا الوادعة كلعناييب على مشارف بورتسودان ..كنا نسرح وراء قطعان الضأن الى فضاءات لا حدود لها ..لم نكن نتقيد بوقت فقد كنا نرعى هذه الحيوانات حتى تكتفي ثم نعود بها الى مضارب العشيرة ..كنا نستمتع كثيرا بطقوس حياتنا في البر وسط سحر الطبيعة وجمال مشاهدها رغم طغيان الوجه الصحراوي عليها.. هكذا كانت حياتنا وهكذا كنا متعلقين بها كتعلق احمد شوقي بها..
وطني لو شغلت بالخلد عنها ...نازعتني اليه في الخلد نفسي .
(5)
لكن المشكلة أطلت برأسها في سلوم حيث قوانين الانضباط والدراسة والنوم والمذاكرة بالتوقيت ..كانت تلك بيئة غريبة علينا بعد أن تم اقتلاعنا عن بيئتنا البدوية التي ولدنا وترعرعنا فيها والتي كانت مزروعة في وجداننا
Deeply rooted
ولذلك كنا نحاول أنا وزميلي الراحل ادم اركاب تطويع هذه الغربة بفتح ملف حياتنا في كلعناييب مع التعليق على المفارقات التي نراها امامنا في الفصول وفي عنابر الداخلية وكل حديثنا بالطبع ونحن متكآن على الجدار الشرقي للمدرسة كان بالرطانة وهو شيء كان (يغيظ ) مدرس اللغة العربية الذي كثيرا ماكان يهددنا ( أسمعوا انتو الجوز ديل والله تاني بجلدكم اذا رطنتوا ..الرطانة ممنوعة اتكلموا عربي ) وهو شيء يتناقض تماما مع قناعات مدرس الجغرافيا وكان حلفاويا فلوسمع تهديدات مدرس اللغة العربية لنا لأمرنا بعدم الالتفات له ومواصلة الحديث بالرطانة والدليل على ذلك ان زميلا لنا عجز تماما ترجمة خف جمل جاء في لوحة الى اللغة العربية وحينما جلس محتارا يضرب أخماسا في أسداس مر عليه المدرس الحلفاوي وسأله عن أسباب شروده وحيرته فقال له صاحبنا الأدروب ( يأأستاذ ماعرفنا رجل الجمل دا فسأله هل تعرفها بلغة أهلك البجا فتهللت أساريره وقال له نعم وكتبها (دنبيت ) وهي كلمة البداويت المرادفة لكلمة (خف) فأثني عليه وبشره بالنجاح ..ولكن الذي يشفع ان كل هذا يحدث ووزير المعارف ماعارف كما يقول زميلنا محمود دليل الذي كان يقلب حصة المطالعة في مدرسة تهاميام الأولية الى رطانة لتقريب المعاني الى الطلاب .
(6)
أعود الى الحديث بعد هذه التخريمة وأقول ان رطانة الشمال هم أهل الابداع في السودان فاذا تحدثنا عن الشعر والادب فمن الذي يجهل خليل فرح (الأيقونة) التي تصدرت قائمة الشعر الغنائي في السوداني وهو في ميعة الشباب .جاء الخليل الى امدرمان في سن العاشرة وكان رطانيا لا يجيد الحديث باللغة العربية وهناك تعلمها وأصيح القمة التي تعلو ولايعلى عليها يروائعه المحفورة بماء الذهب في وجدان السودان ,,عازة في هواك ..في الضواحي وطرف المدائن ..الفجر الباذخ ..ماهو عارف قدمه المفارق التي نعى فيها نفسه وهو يغادرمودعا السودان للعلاج من المرض اللعين الذي كتب نهايته في القاهرة وعمره لا يتجاوز الثلاثون
من علايل ابو روف للمزالق
من فتيح للخور للمغالق
قدلة يامولاي حافي حالق
بالطريق الشاقي الترام
(7)
هناك في الأدب جمال محمد احمد وكان اديبا وبلوماسيا بارعا وهناك أيضا كوكبة أخرى منها جيلي عبد الرحمن ومحي الدين صابر ومحي الدين فارس صاحب القصيدة الاسطورة (لن أحيد) التي تغنى بها العطبراوي وهناك شاعر اذا لم يقل شيئا تكفيه فقط قصيدة (يقظة شعب) وهو مرسي صالح سراج (هام ذاك النهر يستلهم حسنا) وقائمة المبدعين طويلة وهي في كل المجالات ويصعب حصرها ولكن لا نستنطيع مهما اختصرنا هذه الكواكب المتلألئة في سماء السودان أن نتجاهل فنان افريقيا الاول العملاق محمد عثمان وردي فجائت البلابل بتكملة هذه اللوحة الخلابة .
(8)
اضافة الى ذلك فان رطانة الشمال هم ملوك النكتة والكتابة الساخرة في السودان .على صدارتهم بالطبع جعفر عباس (ابو الجعافر) وهو الرجل الذي قال انه حفظ الملعقات السبعة بالكفوف والشلاليت وقد كتب مرة يقول نحن في السودان نسلم باليد ولا نعرف حكاية القبل و(البوس) فرد عليه الدبلوماسي والشاعر السعودي الراحل غازي القصيبي قائلا : جعفر عباس الذي لا يبوس ولا يتباس .وهناك ايضا قرناص وياسرعبد الفتاح ودهب أحمد خيري . اذا نسيت لا أنسى مقالا كتبه قرناص يقول فيه ان امام قريتهم فسرالأية التي تقول و(العاديات ضبحا) ان الله يأمركم بقتل الذئاب والسبب ان (عادي) وجمعها عاديات تعني الضبع في لغتهم أما (ضبحا) فهي تعني الذبح ) . الحق سبحانه وتعالي يقول ان (العاديات) هي الخيل أما (ضبحا) فهي الهمهمة التي تصدر من الخيل أثناء الركض ولكن صاحبنا هذا فسرها كما تقول لغته ويقول قرناص ان ذئبا تعيس الحظ تسلل الى قريتهم فهجموا عليه هجمة رجل واحد ولكنه تمكن من الافلات باعجوبة الا انه لقي حتفه في القرية المجاورة اذ ان فتوى الشيخ كانت قد سبقته الى هناك .
(9)
ويحكي آخر من هؤلاء الرطانة فيقول انه أحدهم تخصص في السخرية والهزأ به فكلما تحدث الناس عن الأدب والفن يقول له .. انت طبعا طالع كيت من الكلام دا لأنك من العجم ..ويقول لان كلامه كان يشعره بالاحراج فقد بدأ بالبحث عن قصيدة أو حتى معلومة لينتقم منه وجاء الفرج بعثوره على قصيدة لابونواس الشاعر العباسي الماجن يقول في احد بيوتها
وصرت الى الحانوت يتبعني ..مشل شلول شوشل شول
والشوشلة في القصيدة تعني ان الصبي الذي كان يسير وراء أبونواس كان يرتدي صيغة (ذهب) كانت تصدر صوت شوشلة حينما ترتطم ببعضها . يقول صاحبنا المحسي انه بالطبع لم يفهم معنى بيت الشعر ولكنه تمكن من حفظه بعد يومين من التكرار وتوعد الرجل الذي يسخر منه بالانتقام قائلا :الليلة وين تروح منى .. الليلة أ ظهر لي لو ما نجمتك ..وبالفعل عثر عليه بعد بحث دؤوب وطلب منه شرحا لبيت الشعر فبعد أن سمعه صمت لحظة قال له ..الله يسألني دي خلى بالك رطانة !
(10)
مع عودة الدكتور حسن أبوعائشة الى السودان نهائيا أقمنا حفل وداع له في استراحة بالرياض وقدمنا دعوات للأخوة في كسلا والقضارف وخشم القربة وقد لبى الدعوة محسي كان يعمل اخصائي كومبيوتر كان ايضا مغادرا الى السودان ..ومع القاء كلمات الوداع وقف الرجل المحسي وقال لنا ..ان البجا كرماء وشهمين وطيبين ولكن لديهم طقوس غريبة في شراب القهوة وهي ان لكل فنجانه و لا أحد يشرب من فنجان الآخرين ..وقال انه لم يكن يعرف هذه المعلومة فطلب فنجانا من احد الادروبات وكان يجهز لتناول القهوة وكان ذلك في بداية الستينات. يقول ان الرجل سأله ان كان يملك فنجانا فأجابه بالنفي فرفض وطلب منه احضار فنجان خاص به حتى يصب له القهوة ..يقول صاحبنا المحسي منذ ذلك اليوم والى يومنا هذا لازلت احمل فنجاني معي .
(11)
أخيرا كنت أشاهد حلقة في فضائية كسلا وكان الضيف حلفاويا تحدث عن معاناتهم مع التهجير اذ لم يجدوا بابا الا طرقوه من المظاهرات الى الاضرابات الى الشكاوي وكلها انتهت الى لا شيء ..وحينما علم ان الصادق المهدي تولى رئاسة الوزراء ركب القطار من كسلا ذهب اليه في الخرطوم يحدثه ليس عن حقوقهم المادية التي ضاعت فحسب بل عن التراث والتاريخ الذي يرجع لآلاف السنين والذى أصبح أثرا بعد عين .. وفجأة سأل رئيس الوزراء (ألا تدري كيف ان الرسول (صلعم) قد آخى بينهما فسأله الصادق كيف فأجابه انتم الأنصار ونحن المهاجرون ) !.

hassan.abozinab4@gmail.com
///////////////////////////////

 

آراء