موقف الأستاذ علي أحمد إبراهيم من د. النعيم (٢ – ٤)

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم.
((لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ))

*موقف الأستاذ علي أحمد إبراهيم من د. النعيم (٢ - ٤)*

*موقف د. النعيم من الله وفاعليته*

لقد رأينا في الحلقة الأولى أن د. النعيم في الإحتفال بذكرى الأستاذ دعانا إلى التخلّي عن الدولة الدينية، والتخلي عن الله ومرجعيته، والأخذ بالمنطق المدني!!

ولما كان المنطق المدني من صنع د. النعيم، فهذا يعني أنه دعانا إلى التخلي عن الفكرة الجمهورية والأخذ برأيه هو، علماً أنّه ليس له أي رأي محدد.. هو فقط ضد الدين.. والنعيم دائماً لا يورد أسباباً موضوعية لقضاياه، فهو فقط يقرر.. ونحن هنا نواصل، ونتحدث عن موقفه من الله.. يقول د. النعيم: "ولكن الأمر فيما يخصّني هو أن هذا هو موقفي! وهذه بالطبع هي عقيدتي في كيفية حدوث الأشياء في الكون.. فأنا لا أعتقد أن الله يفعل الأشياء في هذا الكون بطريقة متجاوزة للوجود المادي أو خارقة للطبيعة.. إن الله يفعل في الوجود عبر الواسطة البشرية.. فالبشر هم الذين يتصرفون ويتخذون المواقف.. اننا نحن البشر من نفعل أو نفشل في الفعل"(١)!!

فهو هنا يبعد فاعلية الله، ويقيده بالمادة!! هذا تفكير غير مستقيم.. فإذا كان الله هو من خلق المادة، فكيف يقيده خلقه؟! وما معنى (متجاوز للوجود المادي أو خارق للطبيعة)؟ المعنى الواضح هو أن الله تعالى تقيده قوانين الطبيعة التي خلقها، بحيث لا يستطيع أن يعمل إلا من خلالها!! هذا إله عاجز!! الله بحكم التعريف: كلّي الوجود، كلّي العلم، كلّي الإرادة، وكلّي القدرة، فهو لا يعجزه شيء، ولا يلحق به أي نقص.. وإذا كان الأمر خلاف ذلك، يكون ليس إلهاً.. فقول د. النعيم يناقض مجرد تعريف الإله.

الإنسان، خلي عنك الله، يتجاوز قوانين الطبيعة، وهذا أصبح أمر بداهة.. فالسفر إلى الفضاء، يقوم على تجاوز قانون الجاذبية، ولو لم يتم هذا التجاوز لأصبح السفر إلى الفضاء مستحيلاً.. ومعلوم خبر من لا تحرقهم النار، ومن يطيرون في الهواء دون واسطة.. ما هي الطبيعة المادية، أو قوانين الطبيعة التي يتحدث عنها د. النعيم.. بأي معنى هي قوانين؟ واضح أنّ د. النعيم يعتبرها قوانيناً حتمية، حتى أن الله تعالى نفسه لا يستطيع أن يخرج منها.. وهذا فهم حسب العلم المادي التجريبي نفسه خاطئ.. فقد أصبح محسوماً عدم الحتمية في السببية العلمية.. فاليوم لا يوجد أي عالم يقول أن هنالك سببية حتمية.. ثم ما هي قوانين الطبيعة في المفردة التي تمّ فيها الانفجار العظيم حسب النظرية؟ إنّ المفردة، حسب نظرية الانفجار العظيم، لا تخضع لقوانين كوننا، فهي قد كانت حارة لدرجة لا نهائية، وتتجاوز حرارتها (ثابت بلانك).. وثابت بلانك هو درجة الحرارة التي لا يمكن تجاوزها وفقاً لقوانين الفيزياء.
ويفترض في المفردة أنها أصغر من (طول بلانك).. وطول بلانك هو أصغر طول ممكن، في كوننا، وأي طول أقل منه يتحول إلى ثقب أسود يبتلع أي شيء يقترب منه، بما في ذلك الضوء.. أما الحد الثالث الذي لا يمكن فيزيائياً تجاوزه في كوننا فهو (سرعة الضوء).. وحسب النظرية، بعد الانفجار تمدد الكون بسرعة تفوق سرعة الضوء بمليارات المرات.

ثم ما هي قوانين الطبيعة في الثقب الأسود؟! إنّها لا وجود لها، هي لا تعمل!! والسببية في الفيزياء الحديثة، ليست أكثر من احتمال إحصائي.. يعني إذا حدث الحدث، يمكن أن تكون نتائجه بنسبة كذا، وبالطبع يمكن ألّا تكون.. وبعد نظرية عدم اليقين لهايزنبرج، ونظرية الكوانتم، أصبح معلوماً أنّ عالم الجزيئات دون الذرية لا يقوم على قوانين ثابتة.. فمثلاً الالكترون يقفز من مدار إلى مدار ولا توجد أي قاعدة ثابتة في تحول المدارات هذا.. ثم إنه من المستحيل معرفة وضع الالكترون وسرعته في نفس الوقت.. وهذا هو البناء الذي يقوم عليه كلّ العالم المادي.

واضح جداً أن معلومات د. النعيم العلمية قد توقفت عند نيوتن، وقد لا يكون قد سمع بالنسبية، والكوانتم.. ثم إن قوانين الطبيعة تحكم فقط الوجود المادي، ولكنها لا تحكم الوجود الروحي.. وقد أصبح هنالك تصوراً للكون يختلف اختلافاً كبيراً عن التصور القديم.. مثلاً، أصبح من المُسَّلَّم به أن أغلبية الكون هو مادة مظلمة!! إن جهله بالكون المادي لا يقل عن جهله بالله، وهذا الجهل هو السبب الأساسي في جرأته على الله، وعلى أنبياء الله ورسله.

ماذا يريد أن يقول د. النعيم بمقولته هذه المتحذلقة؟ هو يريد أن يقول أنه رجل علمي، بمقاييس العلم المادي التجريبي، ويخضع كل شيء للعلم، بما في ذلك الله نفسه.
يقول النعيم في النص أعلاه: "إن الله يفعل في الوجود عبر الواسطة البشرية.. فالبشر هم الذين يتصرفون ويتخذون المواقف.. إننا نحن البشر من نفعل او نفشل في الفعل".. هكذا أبعد د. النعيم فاعلية الله، ليجعل الفاعلية الحقيقية للبشر، وليست لله، وهذه مغالطة فجة فكيف يكون البشر واسطة ثم هم أصحاب الفاعلية الحقيقية؟! ويقول د. النعيم في نفس هذا المعنى: "بصورة أساسية، أود أن اختم بما يلي: إنّ واسطتنا البشرية، ومسؤوليتنا كبشر، هي الفاعل الوحيد والحاسم!! وأشرح هذا كما يلي: ليس هناك أي خير أو شر يحدث إلا عبر واسطتنا كبشر!! لا خير أو شر يحدث إلا عبر واسطتنا كبشر!!"(٢) في التفكير المستقيم مجرّد كلمة (عبر)، وكلمة (واسطة) تدحض قولك: "هي الفاعل الوحيد والحاسم".. حسب التصور في التفكير العلمي التجريبي لقد أتى البشر مؤخراً جداً للوجود.. ففي الوقت الذي كان فيه البشر غير موجودين ما الذي كان يُسيِّر الكون؟! لاحظ (الفاعل الوحيد والحاسم)، بهذا النص يعطي د. النعيم أهم خصائص الألوهية للبشر.. فالله تعالى في الحقيقة هو الفاعل الوحيد في الوجود، وكل فاعل سواه محاط بفعله من قبل الله، فلا يوجد أي فاعل مع الله، وكل فاعل آخر إنما هو فاعل به تعالى.. فالنعيم يعكس الوضع فيعطي ما لله للإنسان، وما للإنسان لله.. معلوم في الدين أنّ كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) تعني لا فاعل لكبير الأشياء ولا صغيرها إلا الله.. فالنعيم بقوله أعلاه هو يعارض أو في الحقيقة يناقض كلمة التوحيد كما هي في الدين.

يتناول د. النعيم قضية الجبر والاختيار، وهي أخطر قضية واجهت الفكر البشري عبر جميع العصور، يتناولها بخفة عقل محيرة، فهو يقرر أن الإنسان مخيَّر، وبذلك يتجاوز كل مشكلات القضية وكأنها غير موجودة.. يقول د. النعيم: "وعلى هذا أقول: البشر مخيرون! هم من يختار! ولهذا أنا أقول أن الدين هو ما يقرره الفرد لنفسه! وما ذلك إلا لأن البشر هم من يختار ويحدد معنى الدين، وتوجيهات الدين بخصوص أي موضوع هام معين"(٣).. وقد رأينا قبل قليل أنه يقول: "إنّ واسطتنا البشرية، ومسؤوليتنا كبشر، هي الفاعل الوحيد والحاسم!!".. لاحظ (الوحيد)!! و(الحاسم)، يعني ما يقرره لا بدَّ نافذ.. وهذا كله ضد البداهة المعاشة.. فالإنسان لم يختر وجوده، ولا حتى استشير فيه.. وهو عندما يخرج من هذه الحياة يخرج دون اختياره ورغبته.. فالموت، يكذب دعاوى النعيم هذه الفارغة.. فهل يستطيع د. النعيم أن يمدد في أجله حتى ليوم واحد؟! أقوال النعيم هذه لا علاقة لها بالفكر، هي مجرد تقريرات لا تقوم على أي شيء موضوعي، والواقع يكذبها.. وكل هذا لا يعني النعيم، فهو فقط يقول ما يعتقد أنه ضد الدين، وضد الفكرة الجمهورية بالذات، فإذا تحدثت الفكرة عن التسيير في الحقيقة، ناقضها هو وقال أن الإنسان مخير، دون أي دليل، او مجرد محاولة لايجاد دليل.

نواصل الحديث عن تصور د. النعيم لله تعالى.. فهو أسوأ من حديثه عن عجز الله، وقصوره تعالى، يقول: "ليس هناك من سبيل لفهم ومعرفة الله إلا من خلال الواسطة البشرية.. ولكن الله لا يبقى هو الله عندما يدخل في عقل وتجربة البشر"(٤).. هذا قول، لا يقول به عاقل.. فبداهة الله لا يتغير.. فهو الثابت الوجودي الوحيد.. فهو تعالى لا يتغير، وينتهي إليه تغير كل متغير!! فبهذه العبارة القبيحة جعل د. النعيم الله تعالى نفسه يتغير!! أسمعه يقول: "ولكن الله لا يبقى هو الله عندما يدخل في عقل وتجربة البشر"!! بالطبع الله لا يتغير، وإذا تغير تصور البشر له فهذا لا يعني تغيره هو، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.. والله تعالى في ذاته لا يخضع لتصور البشر وتجربتهم، فهو مطلق، وفي الدين منهي عن التفكير في ذاته، يقول المعصوم: "تفكروا في مخلوقات الله، ولا تفكروا في ذاته، فتهلكوا".

*الذاتية:*
د. النعيم بعيد جداً من الموضوعية، هو في الواقع لا يهتم بأن تكون أقواله موضوعية، ويمكن أن يدخل في مغالطات يختلف فيها مع كل البشر، ومع الواقع، ولا يهتم بذلك.. كنموذج لذلك حديثه عن الدولة الدينية، ومنطقه فيه، فكما ذكرنا هو يقول أن الدولة الدينية مستحيلة لأن الدولة لا يمكن أن تعتقد في الدين!! وهو بصورة مبدئية يزعم أنه ذاتي.. ود. النعيم رغم نقضه للإسلام في جميع أساسياته، هو يقول أنه مسلم!! ولكن ما هو إسلام د. النعيم؟ اسمعه يقول: "عندما أقول ديني، وهو الإسلام، فإنني لا أتحدث عن الإسلام بصورة عامة، أو الإسلام بالنسبة للمسلمين الآخرين، إنما أتحدث عن الإسلام الشخصي، ذلك أنه بالنسبة لي الدين يجب أن يكون ذاتياً، لا يمكن أن يكون غير ذاتي.. لا يمكن للدين أبداً أن يكون غير التجربة الفردية والشخصية للإنسان"(٥).. فإسلام النعيم ليس هو إسلام عامة المسلمين وإنما هو إسلام ذاتي.. وعنده الدين لا يمكن أن يكون إلا ذاتياً، يعني لا يمكن أن يكون هنالك دين موضوعي!! وهذه مغالطة ربما أغرب من مغالطته في الدولة الدينية.. وتدليله، هو نفس التدليل في موضوع الدولة الدينية.. فهو يقول: "بالنسبة لي الدين يجب أن يكون ذاتياً، لا يمكن أن يكون غير ذاتي.. لا يمكن في الدين أبداً أن يكون غير التجربة الفردية والشخصية للإنسان".. بالطبع، بداهةً التجربة الفردية ليست الدين، وإنما هي التدين، وهذا أمر في اللغة لا يمكن أن يختلف فيه اثنان.. وصاحبنا بروفيسور!! فهو لا يجهل الموضوع، ولكنه يصر على المغالطة، وبكل أسف تأثر به في هذا الجانب تابعه د. علي أحمد إبراهيم..

د. النعيم يقول أنه لا يمكن للدين أن يكون غير ذاتي!! لماذا؟ هو لا يورد أي سبب.. لا اعتقد أن موضوع الذاتية والموضوعية في الدين يحتاج إلى مناقشة، فهو أمر بداهة.. فجميع الأديان هي أمر خارج الأفراد، أمر موضوعي.. الأنبياء والرسل والكتب جميعها أمور موضوعية، ولا مجال للاختلاف في ذلك.. فالدين موضوعي، ومن المستحيل أن يكون خلاف ذلك.. وقد جعل د. النعيم الأخلاق نفسها ذاتية!! يقول في ذلك: "باختصار فإن النسبوية الاخلاقية تعني أن (الأحكام تنبني على التجربة، فالتجربة يفسرها كل شخص حسب تربيته أو تربيتها الثقافية).."(٦).. سنرجع إلى هذا الموضوع عندما نتحدث عن الأخلاق.. المهم أن موضوع الذاتية بالنسبة للدين هو إلغاء تام للدين، فهي تجعل لكل شخص دين خاص به، ولكل شخص أخلاقه الخاصة به ولا يوجد دين عام ولا أخلاق عامة.. وهذا القول لا يلتزمه د. النعيم.. فهو يناقش دين الآخرين ليهدمه على أسس بطبيعتها موضوعية.. إذا كان الدين كله ذاتي، فلا مجال لمناقشة أي فرد آخر في دينه.

أسئلتنا في الحلقة السابقة للأستاذ علي أحمد إبراهيم محوَّلة، ونضيف إليها هنا السؤال: يا أستاذ علي: هل تؤمن بتصور النعيم لله، وهل ترى معه أن الفاعل الحقيقي هو الواسطة البشرية؟ هل عندك الدين بصورة عامة ذاتي ولا يمكن أن يكون خلاف ذلك؟

*المراجع:*
(١) من محاضرة عنوانها (من هو الإنسان في حقوق الإنسان) ألقاها النعيم في المؤتمر الذي انعقد في جامعة هارفارد بعنوان (Rethinking the secular) في شهر أكتوبر 2007
(٢) من شريحة فيديو بعنوان: أثر الأستاذ محمود محمد طه على مشروع النعيم (مايو 2008 - جامعة أوهايو).. على الرابط التالي:
http://www.youtube.com/watch?v=Qrq1Y34NjBs
(٣) مقتطف بعنوان (الواسطة البشرية في الشريعة) مأخوذ من محاضرة للنعيم وموضوع على الرابط التالي في يوتيوب:
http://www.youtube.com/watch?v=Hor1dlHLaLo
(٤) مقتطفات من محاضرة النعيم بعنوان:
Religion in the Changing World: Ancient and Modern
على الرابط التالي:
http://www.youtube.com/watch?v=NKpLc450rZk
(٥) نفس المرجع في (1) أعلاه..
(٦) من دراسة للنعيم بعنوان: (الأقليات الدينية في ظل القانون الاسلامي وحدود النسبوية الثقافية) نشرت في دورية (هيومان رايتس كوارترلي) إصدارة فبراير ١٩٨٧ - العدد ٩، الصادرة عن دار نشر جامعة جونس هوبكنز، وعنوانها بالإنجليزي:
Religious minorities under Islamic Law and the Limits of Cultural Relativism
عنوان الدورية بالانجليزي:
Human Rights Quarterly: A Comparative and International Journal of the social Sciences, Humanities and Law, Volume 9, Number 1, February 1987
تصدر الدورية في فبراير، مايو، أغسطس ونوفمبر من كل عام عن:
The Johns Hopkins University Press
الدراسة على الرابط أدناه:
http://www.law.emory.edu/aannaim/pdfiles/dwnld18.pdf

خالد الحاج عبدالمحمود
رفاعة
٣٠ سبتمبر ٢٠٢٣

يتبع..

 

آراء