موقف الحركة الشعبية من إيصال الاغاثة: نفس الملامح والشبه!

 


 

د. الواثق كمير
10 February, 2018

 

 

 

kameir@yahoo.com

1/ في 19 يناير 2017، نشرت على نطاق واسع مقالا بعنوان (الكفاح المسلح والنضال المدني: هل يلتقيان؟(، قدمت له بالسطور التالية (اقتباس مطول من i إلي iii):

(أصدرت الحركة الشعبية-شمال بيانا، فى 17 يناير، عرضت فيه موقفها الرافض للمبادرة الأمريكية (التي اطلعت عليها كاملة) لنقل وتوزيع الإغاثة، والمطالبة بتضمين ستة شروط أخرى، بحسب خطاب رئيس الحركة إلى المبعوث الأميركي، دونالد بوث، 12 يناير 2017. ومع ذلك، لم تعد قيادة الحركة موقفها هذا رفضا للمقترح الأمريكي، بل ترى أنها قدمت تحفظات قابلة للنقاش. أيضا، عبرت الحركة عن موقفها هذا خلال اجتماع ضم بعض قياداتها مع المبعوثين الدوليين، الأمريكي والبريطاني والفرنسي والنروجي، وممثلين لهيئة المعونة الأمريكية، باريس، 17 يناير.

فى رأيي، أخطأت قيادة الحركة الشعبية التقدير فى عدم القبول، منذ أن أرجأت الإعلان عن موقفها إلى 13 يناير، وهو الموعد الذي قطعت فيه الإدارة الأمريكية بصدور قرارها الخاص بشأن العقوبات على السودان. وربما كانت القيادة تحسب أن إدارة أوباما على وشك الانتهاء، ولذلك لن تجرؤ على رفع العقوبات، بل ستترك الأمر برمته لإدارة الرئيس المنتخب، دونالد ترمب، مما يسمح للحركة بهامش كبير للمناورة وتعطيل العملية التفاوضية، عسى ولعل أن تتفجر الانتفاضة أو يبدل المجتمع الدولي قناعاته لصالح المعارضة. إضافة، إلى قرار رئيس الجمهورية، فى الأول من يناير، بوقف إطلاق النار لمدة شهر، الذي تبعه قرار مجلس الوزراء بتمديده لستة شهور أخري اعتبارا من 30 يناير الجاري، قد أربك حسابات الحركة الشعبية شمال، خاصة وأن الحكومة ستجد تقريظا من المجتمع الدولي لموافقتها على المبادرة الأمريكية لنقل الإغاثة، مما يضيق خيارات الحركة خارج سياق المفاوضات.

حقيقة، يثير هذا الرفض العديد من التساؤلات المشروعة حيال موقف الحركة من مواطني المنطقتين، خاصة وأن المساعدات الإنسانية هي عبارة عن أدوية ومعدات طبية. إضافة إلى أن، المقترح ألزم الحكومة الأمريكية بتحديد المسار المناسب لتجميع ونقل الإغاثة من إلى مناطق الحركة، بعد خضوعها للتفتيش الجمركي داخل الحدود السودانية). إنتهى الاقتباس.

2/ تدفقت مياه كثيرة تحت الجسر منذ إعلان قيادة الحركة "الثلاثية" لهذا الموقف من توصيل الإغاثة الى مناطق سيطرة الحركة. فمع توقف المفاوضات التي ترعاها الآلية الأفريقية رفيعة المستوى، برئاسة ثابو امبيكي رئيس جنوب افريقيا السابق، لم تعد قيادة الحركة هي نفس القيادة بعد قرارات مجلس تحرير اقليم جبال النوبة، ولاحقا رصيفه فى النيل الأزرق، والتي اعتمدها المؤتمر العام الاستثنائي للحركة الشعبية شمال تحت قيادة الفريق عبد العزيز الحلو، في كاودة، 8-12 اكتوبر 2017.

3/ لم تستانف المفاوضات إلا فى الأول من فبراير 2018 تلبية لدعوة من الآلية الأفريقية رفيعة للمستوى، إذ انعقدت أول جلسة مفاوضات بين حكومة السودان والحركة الشعبية، تحت القيادة الجديدة، وأيضا بوفد جديد، بأديس أبابا، بهدف الاتفاق على وقف العدائيات، وإيصال المساعدات الإنسانية إلى مناطق سيطرة الحركة. بعد جلسات ثنائية، بين الوساطة وكل وفد مفاوض على حدة، وجلسات عامة، استمرت لأربعة أيام، 1-4 فبراير، قرر رئيس الآلية الأفريفية تعليق المفاوضات إلى أجل غير مسمى، بعد أن فشل الوفدان في التوصل لإتفاق.

4/ في هذه الجولة الأولى من المفاوضات، تقدمت القيادة الجديدة للحركة الشعبية شمال بنفس الموقف القديم، خاصة ما تضمنه من شروط أو تحفظات حتى يتم الاتفاق على إيصال المساعدات الإنسانية. أولها، ضرورة المعبر الخارجي لإخلاء المرضى والجرحى، ونظرا لعدم الثقة في الإغاثات الصادرة من مناطق الحكومة، وثانيها، تحديد مواقع نقاط التفتيش والإجراءات الجمركية خارج مناطق سيطرة الحركة، وثالثها، إجراءات عملية الكشف عن أماكن تواجد وتجمع القوات. للمفارقة، هذه هي نفس التحفظات، ضمن شروط أخرى، التي طرحها الفريق مالك، رئيس الحركة آنذاك، فى رسالته إلى المبعوث الأمريكي، في 12 يناير 2017، كما أشرت في بداية هذه المساهمة.

حقيقة، لا أدري إن تمت إثارة المقترح الأمريكي خلال هذه المفاوضات، أم لا، بالرغم من أن ذلك لا يفرق كثيرا، إذ أن التحفظات هي نفسها والموقف نفسه، بذات الملامح والشبه!

5/ وإن كان رايي فى يناير من العام الماضي أن قيادة للحركة "الثلاثية" أخطأت قيادة الحركة الشعبية التقدير فى عدم القبول بالمبادرة الأمريكية، التي تخاطب تخوفات الحركة، فهاهي القيادة الجديدة ترتكب نفس الخطأ فى فبراير 2018. لا أملك إلا أن أعيد نص ما قلته حينها، وبالحرف، "على هذه الخلفية، وما لم تطرأ تغييرات دراماتيكية، فى رأيي أن قيادة الحركة الشعبية شمال مسئولة عن مصير مئات الآلاف من المواطنين، وتعرضهم إلى أوضاع إنسانية مزرية. ومن ناحية أخرى، فإيصال الإغاثة إلى المواطنين المتأثرين بالحرب هي ليست مسؤولية الحكومة أو المجتمع الدولي، بل تقع المسؤولية، بنص القانون الدولي، على عاتق قيادة الحركة الشعبية.

هذه المسؤولية، السياسية والأخلاقية، تملي على هذه القيادة الموافقة على الاقتراح الأمريكي، طالما قبلته الحكومة، والتوصل على أساسه إلى اتفاق لوقف العدائيات. هذه خطوة هامة لكي تتم استعادة العملية السياسية ووضعها على المسار الصحيح"، (الواثق كمير، الكفاح المسلح والنضال المدني: هل يلتقيان؟ سودانتربيون، 19 يناير 2017).

6/ من جهة، لا شك إن الفشل في التوصل إلى اتفاق لإيصال الإغاثة إلى مناطق سيطرة الحركة قد خيب ظن مواطني جنوب كردفان والنيل الأزرق، المتضررين الحقيقيين، وقود وضحايا الحرب، مما يطيل معاناتهم ويحرم أطفالهم من التعليم والصحة والحلم بمستقبل آمن. حقا، فقد اشرأبت أعناق أهالي جنوب كردفان والنيل الأزرق صوب أديس أبابا، التي تستضيف المفاوضين بشأن مصيرهم ومستقبل أبنائهم وبناتهم، فى انتظار أن تنشرح صدورهم وتبل أشواقهم أخبار سارة قادمة من هناك تخالف تلك النتلئج المحزنة التي لازمت أكثر من أربعة عشر جولة سابقة، امتدت لسبع سنوات عجاف.

7/ ومن جهة أخرى، لن يلقى موقف الحركة من التأجيل المتواصل للبت فى أمر إيصال المساعدات الإنسانية تعاطفا من الاتحاد الأفريقي، بصفته راعي للمفاوضات، ولا المجتمع الدولي، على حد سواء. ففي عشية نشر مقالي، المذكور أعلاه، وفي محاضرة له بمعهد السلام الأمريكي، بواشنطون، فى 18 يناير 2017، قال المبعوث الأمريكي للسودان، دونالد بووث، "وجدت أن بعض زعماء المعارضة السودانية -خاصة المسلحة منها- على أتم الاستعداد لتجاهل مصالح ومنافع المواطن العادي من أجل مطامحهم السياسية الطويلة.“ وأضاف، إن رفض الحركة الشعبية للمقترح الأمريكي، الذي قدم خلال مباحثات باريس ”إهدارا لفرصة كبيرة لإحداث تقدم في مفاوضات السلام ومساعدة الناس الذين يزعمون أنهم يقدمون لهم يد العون.“ وتابع المبعوث حديثه أنه، ”حتى ونحن نطالب الحكومة بالوفاء بالتزاماتها إزاء السلام علينا أيضا أن نطالب المعارضة".

8/ وفي نفس التوقيت، أصدرت دول "الترويكا" (النرويج والمملكة المتحدة وأمريكا) بيانا يحث الحركة الشعبية على "قبول هذا الاقتراح بسرعة وتسهيل إيصال المساعدات المنقذة للحياة إلى المحتاجين في المنطقتين" .وقال البيان إن "الاقتراح الامريكى يهدف الى تسهيل المساعدات الانسانية للسكان المتضررين فى المنطقتين بما يتماشى مع جهود الاتحاد الافريقى الافريقى للتوصل الى مساعدات انسانية متفاوض عليها على نطاق اوسع". ولا أظن أن هذه الدول ستغير موقفها الداعم للمبادرة الأمريكية، طالما لم يستجد في الأمر شيئا خلال العام المنصرم، فيما عدا التطورات الداخلية الخاصة بالحركة الشعبية، مما قد يفضي إلي اضعاف قيادة الحركة وإحكام عزلة إقليمية ودولية عليها.

9/ ولعل خيبة الظن في الحركة ستمتد لتصيب كثيرين ممن توقعوا، ومن بينهم الحكومة نفسها، والموالين لها، أن يتم التوصل بسرعة إلى اتفاق لإيصال المساعدات الإنسانية مع القيادة الجديدة، هكذا دون عقبات تذكر. وهذا توقع ينبغي قراءته في إطار أوسع يشمل اعتقاد الحكومة، وتعليق البعض آماله، على فهم أن إبعاد رئيس الحركة، وبالذات أمينها العام، يعني بالضرورة استبعاد القضايا القومية من أجندة الحركة. وذلك، بحسب هذا الفهم، يسهل عملية التفاوض وييسر التوصل إلى اتفاق سلام، طالما اقتصرت أجندة التفاوض على قضايا المنطقتين، جنوب كردفان والنيل الأزرق. ولعل جولات المفاوضات القادمة تأتي بما يبشر العاقدين الآمال على التوصل إلى اتفاق يوقف الحرب بأسرع فرصة!

10/ والأهم، فإن عدم قبول المقترح الأمريكي، فى يناير 2017، في ظل القيادة القديمة، وتأخير إيصال المساعدات الإنسانية بعد فشل جولة المفاوضات الأخيرة، فى فبراير 2018، في ظل القيادة الجديدة، يطعن في مصداقيتها تجاه دعواتها هي نفسها لمخاطبة كارثة الوضع الإنساني فى مناطق سيطرة الحركة. إضافة، فلا شك أن هذا الموقف يثير العديد من التساؤلات المشروعة حيال هكذا موقف من مخاطبة مطالب وتطلعات مواطني المنطقتين. وذلك، على شاكلة: هل للقيادة أغراض خفية من الأصرار على الممر الخارجي من إثيوبيا؟ وهل تراهن قيادة الحركة على تفجر الانتفاضة الشعبية، على خلفية الاحتجاجات الأخيرة على الأوضاع الاقتصادية؟ هل تتوقع أن يغير الاتحاد الأفريقي جلده أو أن يبدل المجتمع الدولي قناعاته لصالح قوى المعارضة؟ هل ترغب القيادة الجديدة في إبلاغ رسالة مبطنة للقيادة السابقة أن لا مجال للمزايدة فى موقفهم من إيصال الإغاثة، فلم يقدموا تنازلا، بل رفعوا سقوف التحفظات؟ أم هل تعيد القيادة الجديدة اختراع العجلة بالسعي لإعادة إحياء تحالف الجبهة الثورية الذي أكدت التجربة هشاشته وعدم قدرته على الصمود طويلا، مع ضآلة حصاده سياسيا وضعف مساهمته في الدفع بعملية التغيير إلى الأمام (بيان مشترك/ الجبهة الثورية والحركة الشعبية شمال، 4 فبراير 2018). مهما كان الأمر، ففي رأيي أنه ليس بصحيح سياسيا أن تغلق الحركة الشعبية الباب أمام تدفق المساعدات الإنسانية للمحتاجين، ووضع العصي فى دواليب وقف العدائيات وانطلاق العملية السياسية السلمية.

تورونتو 7 فبراير 2018
kameir@yahoo.com

 

آراء