مٌقدِّمَة لترجمة إنجليزيَّة لرواية “الأبله” لفيودور دوستويفسكي*
آغنيس كاردينال .. ترجمة: إبراهيم جعفر
13 June, 2022
13 June, 2022
بقلم: آغنيس كاردينال Agnes Cardinal
ترجمة: إبراهيم جعفر
كان فيودور دوستويفسكي مقامراً عظيمَاً إذ هو قد خاطرَ، بين الآنِ والآنِ الآخر، بشرفه ومعاشه مقابل استثارة حسِّ الخطر وإمكان الظَّفرِ بمكسبٍ عندَ طاولاتِ المقامرة. هو، كذلكَ، لم يكن أقَلَّ استعداداً لمغازلةِ الخطر في فنِّهِ، سَيَّمَا وأَنَّهُ في روايتِهِ المُسمَّاة "الأبله" قد أقدمَ على مقامرةٍ تقطَعُ الأنفاس. كُلُّ تآليفِ فيودور دوستويفسكي التَّخيِيلِيَّة هي، جوهريَّاً، سرديَّات فكريَّة، أي روايات أفكار. والرِّواية التي شرع في التخطيط لهيئتها، فيما كان هو على فقرٍ مُدقَعٍ وبمنفىً فعليٍّ في جنيف آناءَ شتاء العام 1867م، لم تكن استثناءً إذ هو قد قرَّرَ أن يَسْتَطْلِعَ، في تلكَ الرِّوايَة الجَّديدة، مِعْضَلَةً فلسفِيَّةً شَديدَةَ التَّمَلُّصَ من الفِكْرِ على نحوٍ مُغِيْظٍ. وواصفَاً مشروعَهُ لصديقه ميكوف Maykov كتب فيودور دوستويفسكي: "الفكرةُ هي رسمُ هيئةِ شخْصٍ رائعٍ على نحوٍ مُطْلَقْ. لا أظُنُّ أنَّهُ بالإمكانِ وجُودُ أَيِّ شيءٍ أَشَقَّ من ذلك، خاصَّةً في زمانِنَا هذَا [...]. قد غامرتُ بالمُخَاطَرَة، كما في لُعبَةِ رولَيْتْ: رُبَّمَا ستَنْمُو تلكَ الرِّوايَةِ تحتَ سِنِّ قَلَمِيْ" (رسالة رقم "330، إلى أبولو مايكوف، جنيف، 31 ديسمبر، 1867م [12 يناير، 1868م]. بَيْدَ أنَّ العَمَلَ الذي أَسْفَرَتْ عنهُ تلكَ "الفِكْرَةُ" قد أضحَىْ، بالفِعْلِ، واحدَاً من أعظَمِ إبداعاتِ الرُّوائِيِّ فيدور دوستويفسكي وأكثَرَهَا إِفْعَامَاً برُوحِ التَّحَدِّي.
***
ولد فيودور مايكلوفتش دوستويفسكي في موسكو في العام 1821م، الثاني من بين ستَّة أطفال. كانت أمُّهُ امرأةً وديعَةً أنِيْسَةً لكنَّ أباه، الذي عَمِلَ طبيبَاً بمستشفىً للفقراء، كان غضُوبَاً ومولعاً بالشُّربْ. وكانت عائلة دوستويفسكي تُقيمُ بمسكنٍ مُلحقٍ بالمستشفى وقد تركت، لذلكَ، آلام وصور شقاء الفقراء، المرضى وذوي لوثات الجنون، التي شهدها دوستويفسكي في طفولته، انطباعاً، في حساسيَّتِهِ، غيرَ قابلِ للإمِّحَاء.
أنفق دوستويفسكي سنين حياتِهِ الباكرة مُطالِعَاً لكتاباتٍ من الإنجيلِ، من الأدب الرُّوسِي ومن الدوريات التعليميَّة التي كان أبوه يجلبها معه من محلِّ عَمَلِهِ. وفي العام 1837م تُوُفِّيَتْ والدتُهُ بعِلَّةِ السُّلِّ، ثُمَّ اغتِيْلَ والدُهُ من بعد عامينَ من ذَلكَ وزُعِمَ أنَّ من اغتالُوهُ كانُوا فلاحينَ مُوتُورينْ. أُرسِلَ الصَّبِيُّ فيودور، وأخوهُ ميخائيل، إلى معهد الهندسة العسكريَّة في سينت بيترسبيرق St. Petersburg. هُناكَ أُتِيْحَ لفيودورد وستويفسكي وقتٌ يُؤالفُ فيه نفسه وكلاسيكيَّات الأدب الأوربِّي فَنَمَّى عِنْدَهُ، بذلَكَ، اهتماماً خاصَّاً بالغُوطيَّة/الوحشيَّة المُثيرة thrilling Gothicism المُتَّسِمَةَ بها الأعمال الأدبيَّة للسَّير والتر اسكوتSir Walter Scot، إ. ت. أ. هوفمان E.T.A. Hoffman وتوماس دي كوينسي Thomas de Quincy.
ما أن تَخَرَّجَ في العام 1842م ابتدر فيودور دوستويفسكي، لنفسه، مسيرةً أدبيَّةً فترجمَ رواية بلزاك المسمَّاة "إيوجيني قِراندَيتْ Eugenie Grandet، ثُمَّ نشر، في العام 1845م، روايته الافتتاحيَّة التي حازت على تقديرٍ كبيرٍ والمُسمَّاة "قومٌ فقراء". غير أن روايته الثانية، "القرين “The Double، لَمْ تُقَدَّرْ بمثلِ ما قُدِّرَتْ بهِ روايتُهُ الأولى. وفي العام 1849م اعتُقِلَ فيودور دوستويفسكي وسُجِنَ وأصدر ضده حكمٌ بعقوبة الإعدام بمُوجبِ حيثيَّاتِ وَرَدَ فيها أنّهُ قد قرأَ، جَهْرَةً، عِنْدَ تَجمُّعٍ سياسيٍّ، رسالة الناقد الأدبي الليبرالي بيلينسكِي Belinsky الشَّهيرة المُسمَّاة "رسالة إلى غوغول" التي زَعَمَ فيها بيلينسكي أنَّ الشَّعبَ الرُّوسِيَّ قد كانَ، جوهَرِيَّاً، شعبَاً مُلْحِدَاً.
وفي الثامنة من صباح يوم 22 من شهر ديسمبر من العام 1849م وقف فيودور دوستويفسكي، وثُلَّةٌ من رفاقه السُّجَنَاء، عِنْدَ قَارِعَةِ الجَّلِيْدِ وقُبَالَةِ فِرقَةِ إعدامٍ مُتهيِّئَةٍ لإطلاقِ النَّارْ. غيرَ أنَّ فَرَجٌ وَافَىْ، عِنْدَ اللَّحظَةِ الأخيرَةِ، وأُصْدِرَ أمرٌ بتخفيف عقوبة فيودور دوستويفسكِي إلى أربعِ سنينٍ من النَّفْيِ إلى أَوْمْسِكْ بسيبيريا، مع الأشغال الشَّاقَّةْ. ثُمَّ اقتضَىْ مِنْهُ إطلاقُ سِرَاحِهِ في العام 1854م أداءَ خِدْمَةٍ عَسكريَّةٍ عِنْدَ الجَّيْشِ الرُّوسِيِّ لأربعِ سَنَواتٍ أُخرَيَاتْ. تَزَوَّجَ فيُودور دوستويفسكي ماريا دميتريفنا إساييفَا Marya Dmitrievna Isayeva في ذاتِ العام، لكنَّه لم يتمكَّنْ من استئنافِ مُضِيِّهِ الحَثِيْثِ على سبيلِ الأدبِ قبل العام 1858م.
لا يمكن أن يَكُنْ هُنالِكَ رَيبٌ في أنَّ تجربة دوستويفسكي كرجلٍ مُدانٍ وسجينٍ في سيبيريا قَدْ بَدَّلت وجهة نظره الفكرية والحياتيَّة على نحوٍ أصلِيٍّ إذ هو قد شَرَعَ، من بعدِ تلكَ التجربة، فيما يَخُصُّ الدِّيانَة المسيحيَّة والإيمان الدِّينِيِّ، عمومَاً، في المُضيِّ بعيداً عن العقلانيَّة الغربيَّةَ المَنْحَىْ لصالح موقفٍ فكريٍّ سُلافيٍّ ذي قاعدةٍ أرثوذوكسيَّة أُصُوليَّة. وذلكَ بَيِّنٌ في رسالةٍ له، في شهر فبراير من العام 1854م، إلى ن. ف. فون-فيزينا. "لئن برهنَ لي أحدٌ ما"، يقول فيُودورد وستويفسكي في تلك الرِّسالة، "أن المسيحَ كائنَ خارج نطاق الحقيقة، وأنَّ الحقيقة قد كانت كائنةً خارج المسيح قد أظلُّ، مع ذلكَ، مُفضِّلاً البقاءَ مع المسيح على البقاء مع الحقيقية".
من هُناكَ، فصاعِدَاً، بدا افتتانٌ بالغٌ باستسرار الفكر الصُّوفِي والتجربة الصُّوفيَّة بارزاً في جِمَاعِ كتاباتِ دوستويفسكي التَّخييليَّة. وهُناكَ، في سينت بيتر اسبيرق، تعاون دوستويفسكي، في البدء، مع أخيه ميخائيل، في كتابة يوميَّات، ثُمَّ شَرَعَ، في العام 1859م، في نشر سلسلة قصص وروايات قصيرة كانت من بينها روايته المسمَّاة "مذكِّراتٌ من منزل الموتى" التي نُشرَتْ في العام 1862م وكانت قائِمَةً على تجاربه في السجن. تَرَحَّل فيودور دوستويفسكي، في ذاتِ العامِ، عبر أوربا الغربيَّة ودخل في علاقةٍ غراميَّةٍ، كانت جَدَّ جارِحَةٍ بالنِّسْبَةِ لهُ، مع بولينا سَسْلُوفَا Polina Suslova، تلكَ "الأُنْثَى الفاتِكَةfeme fatal" التي أضحت، من بعد ذلكَ، أُنمُوذَجَ شخصيَّة بولينا في رواية "المقامر" وشخصيَّة ناستاسيا في رواية "الأبله". نشر دوستويفسكي، من بعد مُضِيِّ عامٍ من ذلك الزَّمان، روايته القصيرة المسمَّاة "مُذكِّرَاتٌ من العالم السُّفلي" التي تحكي قصة شابٍّ يكتشفُ الجّانب المُظلم من الطبيعة الإنسانيَّة فيصيرُ عَدَمِيَّاً. وفي العام 1864م رحلت زوجته وشقيقه ميخائيل، معاً، عن هذه الدُّنْيَا ووجد فيودور دوستويفسكي نفسه مُثْقَلاً بالدِّيُونِ، جُزئيَّاً بسبب أنه كان قد تَحَمَّلَ مسؤوليَّات ماليَّة خاصَّة بأقربائه وجوهريَّاً بسبب كونه قد كان مُقامِرَاً قَهْرِيَّاً. ومُجَابِهَاً إمكانَ خرابٍ ماليٍّ جَدَّ حقيقِي، ومن ثَمَّ خزيٍ اجتماعيٍّ عامٍّ، سعى فيودور دوستويفسكي نحو تأليف روايتين، في تلاحقٍ سريع، أولهما كانت هي روايته المُسَمَّاة "الجريمة والعقاب"، التي قد يُمكن القول عنها إنها قد كانت أفضل رواياته، وثانيهما كانت هي روايتُهُ المُسمَّاة "المقامر" التي-بعون المُخْتَزِلَة ذات الثمانية عشرة ربيعاً، آنا غريغورييفنا اسنتكينا Anna Grigorievna Snitkina، التي أضحت، في العام التالي، زوجته الثَّانِيَةْ- كانت قد كُتُبِتْ، وطُبِعَتْ، بسُرعةٍ فائقةٍ. في ذاتِ الوقتِ ما انفكَّتْ الدِّيُونُ تتراكم حتى بلغت الأحوالُ حدَّاً أرغِمَ معه فيودور دوستويفسكي، وزوجته الجديدة، في أبريل من العام 1867م، على الهربِ من رُوسيا اتِّقَاءً لملاحقة الدائنين.
وبعدَ رِحلَةٍ مُضَّطَرِبَةٍ أخذَتْهُم عبر ألمانيا من دريسدن إلى بادن-بادن، كما وعبر بازل في سويسرا، وكانت موشُومَةً بتصاعدِ وانخفاض وتائر إدمان دوستويفسكي للمقامرة، استقرَّ الزَّوجانُ، لحينٍ من الزَّمانِ، في جنيف. هناك بدأ فيودور دوستويفسكي، في شهرِ سبتمبر من العام 1867م، في رسم الخطط الأولية لروايتِهِ المُسمَّاة "الأبله". ولأنَّ الزَّوجين كانا، آنذاكَ، على فقرٍ مُدقعٍ أقاما في بيتِ إيجارٍ وعاشا على بِضْعَةِ أموالٍ مدفُوعَةً مُقدَّمَاً من قِبَلِ النَّاشِرْ، قروض صغيرة من أصدقاء وتذاكر رهن. لم يتوافَق مُناخُ سويسرا العاصف مع دوستويفسكي. ومقهُورَاً بشِدَّةِ الحنينِ إلى بلاده بدأ دوستويفسكي يُعانِي من نوباتِ صَرَعٍ مُنهِكَة على نحوٍ متزايد. كانت آنا، حينذَاكَ، حُبْلَىْ وكان على دوستويفسكي تسليم الجُّزء الأول من الرواية الجديدة إلى النَّاشر كي بدأ في نشرها، على حلقاتٍ متسلسلةٍ، في صحيفةِ "الهيرالد" الرُّوسيَّة بحلول شهرِ يناير من العام 1868م.
كان دوستويفسكي يُدرِكُ جيِّدَاً أنَّ مفهوم "الشَّخص التامَّ الرَّوعة" أو "الشَّخص المثالي" ما كان له، في غالب الظّن، أن يَفْلَحَ في أن يكُنْ موضُوعَاً لعملٍ تخييليٍّ ذي أثرٍ فعَّال، شأنهُ في ذلكَ شأن موشولسكي Mochulsky الذي يُلاحظُ أنَّ "القَدَاسَةَ ليست موضوعاً أدبيَّاً". والصُّعُوبَةُ هًنَا لا تكمُن فقط، أو على الأقل، في حقيقة أنَّ أيَّةَ قصَّةٍ جيِّدَةٍ تستمِدُّ، في غالبِ أحوالِهَا، كثيراً من قُوَّتِهَا من تصويرِ التَّعَدِّي وكيفيَّات تجاوز التَّعَدِّي نحو حلولٍ حياتيَّة ("واقعيَّة") مُعيَّنَة فدوستويفسكي كان قد تَمكَّنَ، بالفِعلِ، في رواياتٍ أخرى له، من ابتِداعِ بعضِ شخصياتِ أوغادٍ روائيَّةٍ شديدةَ الفتنةِ، بدءَاً من راسكولنكوف في "الجريمة والعقاب" وانتهاءً بأليكسي إيفافوفيتش في "المقامر" واستافروجين في "الشياطين".
شَكَّلَ المفهوم الرئيس الذي تَقُم عليه رواية "الأبله"، إذاً، تحدِّيَاً غيرَ عادِيٍّ لقوى دوستويفسكي الإبداعية. هو كذلكَ سبَّبَ لهُ قلقَاً صَعُبَ وصفُهُ. وخلال تلك الأشهر الشَّقِيَّة في جنيف رسم دوستويفسكي خُطَطَاً لما لا يقلُّ عن ثمانيةِ تصوُّراتٍ للرواية، كلٌّ منها مُفتَرِقٌ عن سابقِهِ، على نحوٍ جذريٍّ، ثُمَّ بَرزَتْ عِنْدَهُ، أخيرَاً، في ديسمبر من العام 1867م، وقبل شهرين فقط من موعد تسليمِهِ مسودة الحلقة الأولى من الرِّواية للنَّاشر، نُسْخَةٌ من رواية "الأبله" شَعَرَ بأنَّهَا قد تَشْتَمِل على مُجمَلِ التَّعقيداتِ التي كان يُنَازِعُ على سبيلِ الإحاطةِ بها في تلكَ الرِّوَايَةْ.
الشَّخصيَّةُ المِحوَرِيَّةُ في الرِّوايَةِ إِيَّاهَا هي شخصيَّةُ الأمير مِيشكِين Myshkin الذي كان هو "شخصَاً مُطلقَ الرَّوعَة" بيد أنَّهُ، وِفْقَ ما يقترح عنوان الرِّوايَة، كان أيضاً "أَبْلَهَاً". وإذ نلتقِي به، في بدءِ الرِّواية، نلتقي شخصاً أشْقَراً، أزرق العينين، بريئاً وذا ثقةٍ في النَّاس، عِندَ قِطارٍ مُتَّجِهٍ نحو مدينة سينت بيترسبيرقْ. هُنَاكَ، في القِطار، يلقى الأمير مِيشكين نفسَهُ، وجهاً لوجه، مع نقيضِهِ في هيئة رَوقوزهِنْ Rogozhin، ذلكَ الشاب الدَّاكن اللَّون، ذو العينين المكتئبتين و"الابتسامة الفَظَّة" (الأبله، ص. 2). ونرى روقوزهن، آناءَ اللّقاء، مُشْتَمِلاً بِمِعطَفٍ من جلد الخِراف فيما يرتعشُ مِيشكِين في داخلِ معطفِهِ السِّويسرِيِّ غير الكافي للوقايةِ من قَرِّ البردْ. كلاهُمَا، روقوزهِن ومِيشْكِيْنْ، كانا عَلِيْلَيْنْ. ومِيْشْكِيْنْ، شاحباً ومُسترخِيَاً، سُرعانَ ما حَدَّثَ، من تِلقَائِهِ، الجَّميعَ بأنَّهُ يُعاني من داءٍ عصبيٍّ فيما بدا روقوزهِنْ مُتَهَيِّجَاً على نحوٍ غريبٍ، كما ومحمُومَاً، الشَّيءُ الذي لا يُصَيِّرُ عسيراً، على مُرَاقِبِ ذاكَ المشهد الافتِتَاحِيِّ من الرِّواية، رُؤيةَ أنَّ دوستويفسكي إنَّمَا يَسْتَبِقُ سردَهُ الرِّوائِيَّ بوضع شخصيّتين متضادَّتين ومتنازعتَين إزاءَ بعضهما البعض. وذاكَ التَّوَتُّرُ، فيما بين ذَيْنَكْ الشَّخصين، سَيَنْفُذُ في جِمَاعِ حبكَةِ الرِّوَايَةِ حتَّى مشهدَها الاستثنائيَّ النِّهائِيْ.
أما مسرح النِّزاعِ الرَّئيسِ بين ذَيْنَكْ القُوَّتين المتضادَّتين فهو الموطنُ الرُّوسيُّ الأنمُوذَجِيُّ. وبشأن أحداثِ الرِّوَايَةِ، مُجابَهاتِهَا وحِوارَاتِهَا، نَلْفَى أنَّ غالبَهَا يدُورُ في داخلِ البيوتِ، في الدَّواوينِ، حجراتِ الاستقبالِ، عِنْدَ التَّجَمُّعاتِ العائليَّةِ والحَفَلاتْ.
وفي الرِّوايَةِ إِيَّاهَا عائلتَان، على وجهِ التَّعيِين، مُنخَرِطَتَانِ في أشغالِ الرِّوايَةِ حتَّى غايتَها القُصوىْ: عائلة إِبَانْشِنْ Epanchin وعائلة إِفَولْجِنْ Evolgin. تتشابه العائلتان إيَّاهُمَا في أنَّ رَبَّيْهُمَا جنرالان. غير أنه فيما ما تزال العائلة الأولى تُحظَى بالتقدير الاجتماعي ما تَنفَكُّ العائلةُ الثَّانية تَنزلُ درجتُها، بوضوحٍ، من عِندَ جهةِ التقدير الاجتماعي.
أسباب ذاك النِّزُول مُعقَّدَة ومُركَّبَة، بيد أنه بالمُستَطاع، جزئيَّاً، على الأقل، إرجاعها إلى "مَعَايبٍ" اجتماعيَّةٍ بعينها في شخصيَّات القائِمِينَ على رأسي العائلتين إيَّاهُمَا منها، بلا ريب، المُكابَرَة المُتَعَمَّدَة، خاصَّةً من قِبَلِ الأبوين. فالجَّنرال العجوز إِفولجِنْ سِكِّير ومُدَّعٍ يتسبَّبُ سُلُوكُهُ غير اللائق، اجتماعيَّاً، في إحراجِ زوجته وأطفاله. هو، كذلك، عائلٌ سيِّئٌ وله، بجانب عائلته الشَّرعيَّة، عائلة ثانية تعيش في ظروف مُقلقَة وحَرجَة حيثُ إِبَولِتْ Ippolit، الذي رُبَّمَا يكُن هو ابناً طبيعيَّاً للجَّنرال العجوز إفولجِنْ، يُحتَضَرُ بداءِ السُّلْ. أيضَاً هو يُهدرُ، سريَّاً، الموارد الزَّمنيَّة والعاطفيَّة والماليَّة للعائلة. وبفعلِ شِدَّة أُخذة الجَّنرال إِبَانْشِنْ بجمال ناستاسيا فيلوبوفنا يشترى لها طاقمَاً من لآلئٍ غاليَةَ الثَّمَنِ جِدَّاً، بمالٍ ينبغي له أن يُدَّخَرَ بُغْيَةَ التَّمَكُّنِ من دفعِ مهورِ زِيجاتِ بناتِهِ. إنَّ جميعَ صُورِ الآباءِ، في تلكَ الرِّوايةِ، لمُوغِلَةً عميقَاً في اختلالِهَا. ونحنُ نُدرِكُ منها أنَّ أبَ روقوزهِن قد كانَ مُبتَغِيَاً قَتْلِ ابنِهِ فيما اختفى أب ميشكين دُونَ أن يُخلِّفَ وراءهُ أيَّةَ أثَرْ. ذاكَ يجعلُ بطليَّ الرِّوايةِ، إذاً، وارِثَيْنَ لتِرْكَةٍ أَبَوِيَّةٍ إشكاليَّة. ومن ضحايا الفشل العائليِّ الأبَوِيِّ، في الرِّواية، كذلك، الصبيَّة ناستاسيا التي، بدلاً من أن تُدعَمَ وتُحْمَىْ من قبَلِ وَصِيِّهَا ووليِّ أمرها أفاناسي إيفانوفتش توتسكي Afanasy Ivanovitch Tostsky الذي كان من الحَرِيِّ منهُ اتِّخاذُ موقفِ وليِّ الأمرِ منها، تُغْوَىْ، من قِبَلِهِ، ومن ثَمَّ تُواجهُ الهوانَ الاجتماعيَّ والمَذَلَّة. أمَّا ربُّ العائلة الثالثةِ الرئيسةِ في الرّواية، وهو ليبيدييف Lebedyev، فمن الإنصاف القول عنه إنَّهُ يُحاوِلُ، على الأقلِّ، أن يكُنْ ربَّاً حَسَنَاً لعائلتِهِ. غيرَ أنَّ ليبيدييف، ذاكَ الأَرمَلُ الأبَدِيُّ القلق، مُنشَغِلٌ على سبيلِ توفيرِ لقمةِ العيشِ لأهلِهِ، الشَّيءُ الذي يضطرُّهُ إلى تركِ مهمَّة العناية اليوميَّة بأطفالِهِ العديدين لابنته الكُبرَىْ، فيرا لوكيانوفنا Vera Lukyanovna.
تُعاودُ "ثِيمةُ" العلاقة المضَّطَرِبَة بين الآباء والأطفال في الظِّهور في كلِّ أعمال دوستويفسكي التخييليَّة. وهي تَلقَى، في آخرِ روايات دوستويفسكي، "الإخوة كارامازوف"، المنشورة في العام 1880م، أكثر الاستكشافات السَّرديَّة الدّوستويفسكيَّةِ نفاذَاً. وفي رواية "الأبله" تُغزلُ تلكَ "الثِّيمَةُ" سبيلَ نَسْجِهَا، بثباتٍ، خَلَلَ السَّردْ. وتحلُّ، في هذا السِّياق، لحظةٌ مِحوريَّةٌ في الجزء الثاني، الفصل الرابع، من الرِّواية، حينما يزور ميشكين روقوزهِن في منزله. يلحظُ الأميرُ، آناءَ الزِّيارة، وفوقَ بابِ حجرةٍ كئيبةٍ، ما يبدو له نُسخَةٌ من لوحة هانز هولبايِنْ Hans Holbein، الموشُومَةُ بواقعيَّةٍ مُثيرةٍ وصادمةٍ، للمسيح الميِّت وهو راقدٌ، مُنطرِحَاً في الأرض. ليس هنالك من رجاء في ذاك الرّسم لابن الله. وفيما هُمَا ناظِرَينَ إلى اللَّوحةِ إِيَّاهَا يتَّفقُ ميشكين وروقوزهِنْ على أنَّ تلك اللَّوحة "قد تجعل بعض الناس يفقدون إيمانهم" (ص. 202). ويستعيدُ إبَّولِتْ Ippolit، ذلك الصَّبِيُّ المُحْتَضَرَ بداءِ السُّلِّ، كذلكَ، لاحقاً، الرِّواية، من خيالِهِ، تلك اللَّوحة الصَّادمةَ الإثارة والرُّعب الذي قَذَفَتْهُ في نفسهِ. "تلكَ اللَّوحةُ"، يقول إبَّولِتْ مُوضِّحَاً، "تُعبِّرُ، على لا نحوٍ لا واعٍ شعوريَّاً، لمُطالِعِهَا، عن قُوَّةٍ خارجيَّةٍ شديدةَ الظَّلامِيَّة، وقحةً وصَمَّاء يَخضَعُ لها كُلُّ شيْ" (ص. 381). الذي صُوِّرَ هُنا هو ابنُ الله مهجُورٌ من قِبَلِ أبيهِ الكُلِّيَّ القُدرة. وذاكَ يُصيِّرُ لوحةَ هولباين نَصْبَاً لنَفْسٍ قُلَّبٍ على نحوٍ فُجائيٍّ وعصيٍّ على الفهم (بمعنىً سلبِيٍّ) تَتَّسٍمُ بها، في رؤيةِ اللَّوحةِ إيَّاهَا، القُوَّةُ الغامضة، والقُوَّةُ الإلهيَّة، على وجهِ التَّعيين.
إنَّ الرُّعبَ الوِجُودِيِّ الذي تختبرُهُ الكائناتُ الإنسانيَّةَ كمُتَرَتَّبٍ على ذلكَ لَوَاسِمٌ لكُلِّ أبطالِ دوستويفسكي الرِّوائِيِّيْن وذلكُم يُّصيِّرُ موقِفَ الرُّعْبِ إزاءَ معرفةِ حقيقيَّةِ وحتميَّةِ الموتِ مَغْزَىً مُتَخَلِّلاً لكُلِّ جُوَاءِ هذه الرِّواية. ومن شَواهِدِ ذاكَ التَّخَلُّلِ أنه مُنْذُ الفصلِ الثَّاني من الجزء الأوَّل من الرِّوايَةِ إِيَّاهَا، حيثُ يلتقي مِيشكِين بمدام إِبَانْشِنْ وبناتِها للمرَّةِ الأولى، ينعَطِفُ الحديثُ، على سَبِيْلٍ جَدِّ عاجِلٍ، نحو موقف الرعب إزاء معرفةِ حقيقيَّةِ وحَتْمِيَّةِ الموتِ، كما وشأن عقوبة الإعدام، فيبتَعِثُ مِيشكِين، آناءَ ذاكَ الحديث، صورة وضعيَّة القلق الرَّهيب التي اعتَوَرَتْهُ حينما رأى، في آنِ إنفَاذِ حُكمِ إعدامٍ بقطعِ الرَّأسِ كان قد شَهِدَهُ بمدينة ليون Leon، الخَوفَ المُؤْسِي الذي كان قد تَشَنَّجَ به، جسديَّاً ونفسيَّاً، الرَّجُلُ المُدَانْ. ومرَّةً إثرَ أخرى تستدعي شخصيات روايات فيودور دوستويفسكي، كذلك، "ثِيمَةْ" الإعدامات الشهيرة، اغتيالات وميتات من كلِّ نوعٍ كما يُجري، مثلاً، في الجزء الأول من الفصل الخامس من الرواية التي نحنُ معنيُّون بشأنِهَا هُنَا حيثُ يُقدِّمُ مِيشكِين سرداً قصصيَّاً شبيهَاً بسيرة فيودور دوستويفسكي نفسه حينما نفذت فيه عملية إعدام صُورِيَّة شُبِّهَ له، آناءَها، أنَّهَا حقيقيَّة.
تبدو مسألة هشاشة الحياة الإنسانيَّة، تلكَ الهشَاشَةُ التي كثيرَاً ما تُجْلَىْ في آنِ المرض، مَشْغَلَةً مُهِمَّةً وبائِنَةً في رواية "الأبله". فَمِيشْكين يُعاني من داءِ الصَّرَع. وذاكَ داءٌ يُصيِّرُهُ عُرْضَةً للانتِهَاكِ، نفسيَّاً، واستثنائِيَّاً، في ذاتِ الوقت. إنَّهُ داءٌ يُقلِبُهُ إنسَانَاً مُفرطَ الحساسِيَّةِ، ضعيفَاً، بل عاجِزَاً حتَّى، غير أنَّهُ أيضَاً يُنقِذُهُ، عِندَ اللَّحظَةِ الفاصلة، من خِنجَر روقوزهِنْ. وفوقَ كُلِّ ذَلِكَ يَهَبْهُ ذاكَ الدَّاءُ بآناتِ كشفٍ رُوحيَّةٍ epiphanies لحظيَّةٍ، غيرَ أَنَّها نفيسَةٌ، تُغْمَرُ خِلالها رُوحُهُ بـ"ضُوءٍ داخليٍّ كثيفْ" (ص. 218). فِكرةُ المَرض كقناةٍ وسيطَةٍ للإدراكِ المُتَسَامِي heightened awareness تَحْدُثُ الأوبَةُ إليها في مونولوغ إِبَّولِتْ الاستثنائيِّ المحموم في الفصل الثالث، الفصل الخامس، من الرِّواية، ص. 363-4، حيث يَرغي إبَّوْلِتْ ويزبد هائجاً ضد قدره ويُصيِّرُهُ ذاك، في غايتِهِ، إلى استدعاء حُلُمِ مَوْتٍ يَحُوزُ آناءَهُ حيوانٌ زاحفٌ، شبيهٌ بالعقربِ ومقيتٌ، بِبُطْءٍ، الغَلَبَةَ عليهِ. ذاكَ المَخْلُوقُ ينبغِي لهُ أن يكُنْ واحداً من أكثرِ التَّصاوِيْرِ فظَاعَةً للخوفِ من الموت حَدَثَ، أَبَدَاً، أن تَمَّ تَصَوُّرُهُ في الأدب، سَيَّمَا وأَنَّهُ يَكادُ أن يَجْعَلَ من إِبَّوْلِتْ مجنُونَاً خالِصَاً بِرُعْبِهِ إلى الحَدِّ الَّذِي يُصَيِّرُهُ، على نَحِوٍ مُتَنَاقِضٍ داخِلِيَّاً، يَتَدَبَّرُ في أَمرِ ارتِكَابِ فِعلَ الانتِحَارْ. لم يكُنْ إِبَّوْلِتْ وَحْدَهُ في ذلِكْ فَرَوقَوْزْهِنْ يكُنْ، من ناحيتِهِ، مُسْتَغْرَقَاً، كُلِّيَّةً، في عاطِفَةٍ مُدَمِّرَةٍ "مَوْضُوعُهَا" ناستاسيا فيليبوفنا: نلكَ المرأة الشَّابَّة التي تُغازِلُ، هي الأُخْرَىْ، المَحْقَ الذَّاتِيَّ عِنْدَ كُلٍّ مُسْتَوَىً من مستوياتِ مَعَاشِهَا. إنَّ حفلات ناستاسيا فيليبوفنا الصَّاخِبَة واستعراضِهَا التَّظَاهُرِيِّ لثروتِهَا تَجْعَلُهَا عُرْضَةً لمِجْهَرِ الرَّقَابَةِ الاجتماعيَّةِ العَامَّة أكثَرَ من حَتَّىْ وضعِيَّتِهَا المُحّْرِجَةَ، اجْتِمَاعِيَّاً، المُتَمَثِّلَةِ في كونِهَا عَشِيْقَةً تَوْتَسْكِيْ السَّابِقَة. وبِسُلُوكِهَا العُصَابِيِّ والقاسي، في كَثِيْرٍ من الحالات، تبدُو ناستاسيا فيليبوفنا ذَاتَ قَصْدٍ مُبَيَّتَ النِّيَّةِ في إذلالِهَا وتَغْرِيْبِهَا، لأصدِقَائِهَا وخُطَّابِهَا، على حَدٍّ سِوَاءْ، عَنْهَا لذا لم يأْتِ قَرارَهَا الفِعلِيِّ بالزَّواجِ من روقَوزْهِنْ الاستغلاليِّ على نَحْوٍ هَمَجِيْ بَدَلاً عن مِيشكِين اللَّطِيْفَ الطَّبْعْ.
حينَمَا تَشَكَّى ماكس برود، ذاتَ مَرَّةٍ، إلى كافكا، من أنَّ هُنالِكَ كَثَرَةً غَيْرَ لازِمَةٍ من الأبطال المجانين في روايات دوستويفسكِي اختلفَ كافكا معه بِشِدَّةٍ بِشَأْنِ ذَلِكَ إذْ هُوَ قد احْتَجَّ عليهِ، حِيْنَذَاكَ، بِأَنَّ عِلَلَ أُولئِكَ الأبطَال الدَّوستويَفِسْكِيِّين لم تَكُنْ غَيْرَ طَرائِقٍ في جَعْلِ الدَّاخِلِيِّ عَمِيْقَاً. وذَاكَ يَنْزَعُ بنا نحو القَولِ إِنَّ الكَثِيْرَاتِ من شَخْصِيَّات دوستويفسكِي قد تَكُنْ، بالفِعْل، إِمَّا مُخْتَلَّةً نفسيَّاً أو مَريضَةً، غَيرَ أنَّ "انتِفَاءَ يُسْرِهَا" ذَاكَ يَنبَغِي له أن يُفهَمَ على أنَّهُ مُتَرَتِّبٌ على حساسيَّتِهَا إزاءَ عَبَثِيَّةِ وقِلَّةِ حِيْلَةِ الوجُود الإنساني.
إِنَّ الرُّعْبَ إِزَاءَ الشِّعُورِ بالهُجْرَانِ في كَونٍ لا معنى لهُ الَّذِي يُعبَّرُ عنهُ من قِبَلِ إِبَّوْلِتْ المُحْتَضَرْ تَتِمُّ مُشَاطَرَتُهُ فيهِ من قِبَلِ مِيشكِين الَّذِي يُصْغِيْ إلى الرَّجُلِ المُحِتَضَرِ بتعاطُفْ. لئِنْ يُشَكِّلُ مِيشكِين، كما حَاجَّ كثيرُونَ من النُّقَّاد، بالفِعْلِ، تَمثُّلاً من تَمثُّلاتِ صُورَةِ المسيح- ويحضُرُنِي هُنَا أن دوستويفسكي يُشيرُ، في الحَقِّ، في "مُلاحَظَاتِهِ" بشأنِ رِوايَةِ "الأبلَهْ" بين الفَيْنَةِ والأُخْرَىْ، إلى بطلِهِ الرِّوَائِيِّ ذَاكَ بوصفِهِ "الأمير المسيح"- سَيَتَوَجَّبُ على مِيشكِينْ أن يَكُنْ، حِيْنَذَاكَ، هو المسيحُ المَيِّتُ المَهْجُورُ في يَومِ "الجُّمْعَةِ الطَّيِّبَةْ"، تَمَامَاً كَمَا صَوَّرَهُ هولبَايِنْ Holbein، وليس المَسيح الَّذِي تُقَامُ قِيَامَتُهُ في يَومِ عِيْدِ الفُصْحْ. إنَّ عطفَ مِيشكِين، نيَّتُهُ الطَّيِّبَة وكرمه الهميم تجاه جميع النَّاس إنَّمَا تنبُع جميعاً، على الأقل جُزئيَّاً، من إحساسه بالوحدة، من توقِهِ إلى الانتماء. وكيتيمٍ ومنفِيٍّ يدخُلُ ميشكين المجتمع الرُّوسي كلا مُنْتَمٍ يجلِبُ معهُ رؤياهُ الخاصة، الفريدة/الفردانيَّة، على نحوٍ مؤلمٍ، للعالم. إنَّ الجذر الاشتقاقي للمقطع ‘idio’ يعني ‘مختلف’، ‘شخصي’، أو ‘مُتمَيِّز/مُمَيَّز’، الشيء الذي يُؤشِّرُ، في حدِّ ذاتِهِ، إلى الافتراقِ الأساسي في موقف ميشكين من شؤون الدُّنيا. وذلكُم يتبدَّى، منذ بدءِ الرِّوايَة، وحينما يصلُ إلى مقَرِّ إقامةِ عائلة إبانشِن، في إظهارِهِ اهتمامَاً واحترامَاً زائدين، وفي "غير محلِّهِمَا"، متجاهلاً بذلكَ، بحبورٍ تلقائِي، قواعد السلوك الاجتماعي التي كانت مُعاصِرَة في ذاك الأوان، الشَّيءُ الذي يُدخِلُ "الخادم الثَّانِي" في تلك العائلة في حَرَجٍ بسبب معاملتِهِ لهُ كإنسانٍ مساوٍ له وبفِعلِ إبدائِهِ لُطفَاً زائِدَاً معهُ وإنبائِهِ لهُ بأكثر مما ينبغي له أن يَعْلَمْ. لم يكُن ميشكِين على إدراكٍ بالحدود والحواجز الاجتماعية، أو هو لم يكن على رغبةٍ في الإقرارِ بها، لذا هو لم يَرَ فرقَاً بين سيِّدٍ وخادمٍ أو، لاحقَاً، فيما بين "المحترمين" والمُهمَّشِين في المُجتمع، أو حتَّى بين الخَيِّرِينَ، والخير، والشِّرِّيرِينَ، والشَّرِّ، فيهِ. وهو على قِبُولٍ، بذَاتِ القدرِ، لعائلة إبانْشِنْ الممسوسَ جميعُ أفرادِهَا بِجِنٍّ خفيف، ولعائلةِ إفولجِن الفوضويَّة والجَّمهَرَة المُريبَة، بما فيها رَوقَوزْهِنْ، التي يلتقيها عِندَ مَنْزِلِ ناستاسيا فيليبوفنا. هو يسمعُ المَديحَ بذاتِ التَّواضُعِ الذي يسمعُ به الإهانات والتَّعبيرات من كُلِّ نَوعٍ وشَاكِلَة. وذلكَ يُصَيِّرُهُ، بَدءَاً أو على التَّوِّ، جَذَّابَاً على نحوٍ رَومانسِيٍّ، والشَّاهِدُ على ذلكَ حالة أقلايا Aglaia، على الأخَصِّ، التي تُفْتَنُ بهِ، بَيدَ أنَّهُ حَتَّى هِيَ تُدرِكُ، تَدريجِيَّاً، أنَّهُ لا يصلحُ، بالمعنى الاجتماعي، لأن يَكُنْ، بالفِعْلِ، زَوجَاً دُنيَوِيَّاً أَنِيْقَاً.
وقليلاً، قليلاً، يكشِفُ سِلُوكُ مِيْشْكِين القِدِّيْسِيِّ عن نفسِهِ، في الرِّوَايَةْ، عن أنَّهُ سُلُوكٌ إنسَانٍ سَاذَجٍ ومن ثَمَّ يَنْتَهِيْ إلى أن يُدْعَىْ "أَبْلَهَاً"من قِبَلِ الجَّمِيعِ، ولا سيَّمَا ناستاسيا فيليبوفنا، على الأخصِّ، إذ أنَّهَا تُبْدِي تَضَجُّرَاً من عرضِهِ الزَّواجَ عليها فهي تُدرِكُ، غريزِيَّاً، أنَّ ذاكَ العرضَ ناشِئٌ عن تعاطُفٍ سَاذَجٍ أكثرَ من كونِهِ آتِيَاً من دَافِعِ عاطِفَةٍ حقِيْقِيَّةٍ خَالِصَةْ. وتكمُنُ مُفارَقَةُ الرِّوايَةِ الكُبرَى في حقيقةِ أنَّ طِيْبَةِ مِيشكين وكونِهِ قِدِّيْسَاً لا يَتَأَتَّى مِنهَا ما قد يَكُنْ حَرِيَّاً بِهَا من خَلاصٍ نفسِيٍّ أو رُوحِيٍّ وإِنَّمَا، بخلافِ ذلكَ تمامَاً، هي لا تُودِي إلى شيءٍ، في الرِّوَايَة، سِوَى الاختلاط والفوضَىْ، بل هي تُوْدِيْ، في مُنتَهَى الرِّوَايَة، إلى خَاتَمَةٍ تراجيديَّةْ.
***
تَكَبَّد فيودور دوستويفسكي، شأنُهُ في ذلكَ شأنُ كُلِّ كُتَّابِ الأَدبِ الواقعي، عَناءَ إرساءِ رواياتِهِ في حادِثَاتِ الحياةِ المُعاصِرَة لعهدِهِ. وقد حكت زوجتُهُ عنه أنَّهُ، آَنَاءَ انشغالِهِ بكتابةِ المُسوَّدَات الأولى لرواية "الأبله" كان اهتمامُهُ مُتَصَاعِدَاً بتقاريرِ الصُّحُفِ عن قضيَّةِ شَابَّةٍ يَافِعَةٍ، اسمُها أولقَا أوميتسكايَا، أُخْضِعَتْ لمَحكمَةٍ في سبتمبر من العام 1867م بسببِ محاولتِهَا هدم منزل والديهَا حََرْقَاً. كانت تلكَ إحدى أوائل المحاكمات في روسيا التي يَصدُرُ حُكمُ الإدانةِ فيها عن هيئةِ مُحلَّفِيْنْ. وقد بَرَّأَتْ تلكَ الهيئة، بالفِغْلْ، الفتاةَ إِيَّاهَا ومِنْ ثَمَّ قُضِيَ بإِخلاءِ سبيلِهَا بِحُجَّةِ إِثبَاتِ أنها وعيالُهَا قد أُهْمِلُوا بقَسوَةٍ وأُسيئَتْ مُعاملتُهُم مِن قِبَلِ أبيها وأمِّها منذ منذ لحظاتِ ميلادهم. وفي خطَّة دوستويفسكي غدت أولقا أوميتيسكايا الآنَ ناستاسييا فيليبوفنا، امرأةٌ شابَّةٌ تَأَذَّتْ نفسًهَا كثيراً وجُرِحَتْ عميقَاً بفِعْلِ سُوءِ السِّلُوكِ الأَبَوِيِّ فغدت تنشُدُ الانتقامَ إلى حدِّ التَّدميرِ الذَّاتِيْ. وقد تَدَاخَلَ دوستويفسكي، كَذَلِكَ، في سردِهِ الأَدَبِيِّ، مع وقائِعِ مُحَاكَمَاتٍ أُخرَىْ خاصَّة بجرائم قتل كانت ذائعَةَ الصَّيْتِ في عَصرِهِ منها مُحاكمَة الطَّالب دانيلوف Danilov، في العام 1866م، الذي اتُّهِمَ بقتل أحد الدَّائنين المُرابِين؛ قضيَّة مازورين Mazurin الذي طعنَ في مَقتَلٍ جَواهِرجِيَّاً؛ أو ارتكاب المدرس البولندي فيتولد قورسكيVitold Gorsky، في العام 1867م، لسِتَِّةِ جرائم قتل كان ضحاياها أفرادُ من عائلةِ زِيمارين Zhemarin. أمثالُ تلك الإشارات إلى أحداثٍ حقيقيَّةٍ قد تَكُنْ إِثَاريَّةَ الطَّابع (ويبدو أن دوستويفسكي قد كان شغُوفَاً بالسِّيَرِ الفضائِحِيَّة)، غير أنَّها تُوْسِمُ، مع ذلكَ، السَّردَ القَصَصِيَّ بِحِسٍّ من الحقيقيَّةِ والواقعيَّةْ. ورُغم النَّزعةِ الميلودراميَّةِ الواسمةَ لكثيرٍ من الحادثَاتِ المَحكيَّةِ في رواية "الأبله" تبقى تلك الرِّوايَةُ مُرسَاةً، برُسُوخٍ، في التَّقليدِ الواقعِيٍّ للقرنِ التَّاسع عشر. والمُجتمع المُصوَّر في ذاتِ الرِّوايةِ لا تستغلقُ، أبداً، معرفتُهُ، على التَّوِّ، على من يقرؤونها. ليس ذلكَ فقط لتركيزِ كاتبِهَا على حادثاتٍ واقعيَّةٍ وإنَّمَا كذلكَ لاستدعائِهِ تفاصيلَ خارجيَّة مثل شِكُولِ الملبس، المنازل وشؤون المال. إنَّها- الرِّوايَة- تَتَّخِذُ لها أمكنَةً حقيقيَّةً لوقائِعِهَا وهُنَالِكَ رُسُوخٌ فيها للونٍ مَحَلِّيٍّ مُقنِعٍ، الشَّيُ الذي يُصيِّرُهَا، في جُملَةِ القولِ، لوحةً واقعيَّةً لمجتمع القرن الناسع عشر الرُّوسي في عهدِ اضِّطرابٍ. إن الإشاراتَ للظَّرْفِ التَّاريخِيِّ تُضفِي بُعدَاً إضافيَّاً مُهِمَّاً للخلفيَّةِ التي تَتَكشَّفُ إزَاءَهَا وقائعُ الرِّوايةِ حيثُ الثَّورةُ الفِرنسِيَّة والغزو النَّابوليوني، خاصَّةً، وكذلكَ أيضَاً حرب شِبه جزيرةِ القرم، فيما بين عامي 1853م و1856، تتواتَرُ الأحاديثُ عنها في غُرفِ جلوسِ الرِّوايةِ. ذلكُم فيما يتفاخرُ الجَّنرال إفَولْقِنْ، تَيَّاهَاً، بشأنِ التقائِهِ بالإمبراطور الفِرنسي آنَ ما كان صبيَّاً، الشَّيُ الذي يُبَيِّنُ المَوقفَ المُفْعَمَ بالتَّناقُضَاتِ العاطفيَّةِ تجاه الغازي مِن قِبَلِ الأُرستقراطِيِّين الرُّوس الذين يَعِدُّونَ أنفُسَهُم على صِلَةٍ وُثْقَىْ بثقافةِ النُّخْبَةِ الفِرنسِيَّة. حقَّاً، ينيغي علينا القولُ هنا إنَّ اللُّغَةَ الفِرنسيَّةَ، كما قد تَبَدَّى في إيلاجِ مُنتقياتِ كلماتٍ وتعابيرٍ فِرنسيَّةٍ في العديدِ من المحادثات، قد بقيت هي لغة المجنمع الراقي في موسكو وسينت بيترسبيرق Saint Petersburg لعهدٍ طويلٍ من بعدِ الاحترابِ الرُّوسي مع فرنسا. وما ينمازُ خارجَاً من كُلِّ ذلكَ هو صورةٌ مُفصِحَةٌ عن الاضِّطَرابِ العميقِ الذي كابَدَهُ المجتمع الرُّوسِي، خاصَّةً الأُرستُقراطِيَّة الرُّوسيَّة، في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. حينَذَاكَ كانت جاريَةً تبُدُّلاتٌ عظيمةٌ عِندَ كُلِّ مَحَلٍّ بالبلادْ. خَدمُ السُّخْرَةِ كانُوا قد حُرِّرُوا في العام 1861م بمرسُومٍ من القيصر أليكساندر الثاني الذي كانت له حُجَّةٌ شهيرَةٌ في هذا المُتَّصَل مُؤدَّاهَا أنَّهُ قد كانَ من الأفضل منح الحُرِّيَّة من الأعلى بدلاً عن تركِهَا تُؤخَذْ من الأدنى كما كان الحال في فرنسا. غير أنَّهُ تَبْقَىْ، مع ذلكَ، حقيقةُ أنَّ خدم السُّخرَةِ قد أضحُوا آنذَاكَ، سيَّمَا وأَنَّهُم كانُوا قد فقدُوا الأمنَ المَعاشِيَّ الذي كان يُوفِّرُهُ لهم الإقطاعيُّون من مُلاكِ الأراضي، في حالٍ معاشيٍّ أسوأَ ممَّا قد كانُوا هم عليهِ، الشَّيُ الذي دفع كُثُرَاً من المُتفكِّرين الرُّوس، حينذاكَ، إلى مُسَاءَلَةِ حكمةِ تلك الخطوة. ثُمَّ شهِدَ العام 1866م محاولةً لاغتيال القيصر مِمَّا جعل الجميع يعلمونَ أنَّ الثَّورِيِّين، بل أسوأ من ذلكَ، الفوضويِّين، قد كانُوا، حينَذاكَ، على حَِرَاكْ. وقد كانت أكثر الأشياءِ الباعثَةِ على القلق، في ذلكَ الحين، هي، بالتَّأكيد، جاذِبِيَّةُ الفِكرِ العَدَمِيِّ للشَّباب الرُّوس المُتعلِّمِيْنْ. وقد كانت تلك الجَّاذبيَّةُ موضُوعَاً سبقَ وأن استكشفَهُ تورجنيف Turgenev في روايته الإشكالية المُسمَّاة "آباء وأبناء" المنشُورة في العام 1863م.
كان العدميُّون في روسيا يَحاجُّونَ بأنَّهُ من الضَّرُورِيِّ تحطيم كلِّ أوجهِ الثَّقافَةِ التَّقليديَّة الرُّوسيَّةِ بلاهوادة إنْ يَكُنْ لمُجتَمَعٍ جديدٍ وأكثرَ عدلاً أن يَنهَضَ في العهدِ الحديثْ. قد شعر دوستويفسكي، بدورهِ، أنَّهُ مُسْتَوجَبَةً مِنهُ مُجابَهَةُ ظاهرةِ النَّزعةِ العدميَّةِ الرُّوسيَّةِ تِلكْ. وذلكُم قد تبيَّنَ، بجَلاءٍ، في الجُّزءِ الثاني، الفصل الثَّامن، من رواية "الأبله" حيثُ يَغزُو مجمُوعةٌ من الرَّاديكالِيِّين الشَّباب حُجراتِ ميشكين ويبقرؤونَ عليهِ هُنَاكَ، جَهْرَاً، مقالاً بإحدى الصُّحفِ الرُّوسيَّةِ يبدأ بالإِشارةِ إلى المظالمِ الفظيعةِ المُلِمَّةِ بالمُجتَمَعِ الرُّوسِيْ. ويُمضِي ذاكَ المقالُ الصَّحَفِيُّ على سبيلِهِ التَّحريضِيِّ فيتحدَّى حقَّ الأميرَ مِيشكين في ميراثِهِ. من الجَّلِيِّ أنَّ فيودور دوستويفسكي لم يَكُنْ مُتَعَاطِفَاً، على أيِّ نَحوٍ خاصٍّ ما أو آخَرٍ، في روايتِهِ تِلْكْ، مع أولئكَ الرِّجالِ اليُفَّعِ الغَاضبين إذ هو يُصوِّرُهُم فيها على أنَّهُم ثُلَّةٌ صَفِيْقَةٌ ويصفُ فيها كيف أنَّهُم ما ينفكُّونَ يَتَحَاوَمُونَ في منزِلِهِ، يشربُونَ نبيذَهُ، يَتَحاجُّونَ باَصواتٍ فَجَّةٍ عاليَةٍ ويتجاهلُونَ حقيقَةَ أنَّ مُضيْفَهُم القَسْرِيَّ لم يكُنْ يشعُرُ، حينَذَاكَ، بأنَّهُ على ما يُرامُ من الصِّحَّةْ. ويكشِفُ فلاديمير دوكترينكُو، آناءَ ذلكَ، عن نفسه بوصفِهِ راديكاليَّاً ذا حماسَةٍ سياسيَّة ضَاجَّةَ الصَّوتِ فيمَا المُحْتَضَرُ إِبَّوْلْتْ، الذي ليست السِّياسةُ في الواقع من ضمنِ اهتِماماتِهِ الحقيقيَّة، يشكُو، بصُورةٍ رئيسةٍ، من شَقائِهِ الشَّخصيِّ الخاص. أمَّا كاتبُ ذاكَ المقال، كيلر، فيغدُو، في الرِّوَايَةِ، مَزهُوَّاً بنفسهِ من أَثَرِ الانتباه الذي يجذبُهُ مقالُهُ الملحمِيْ. وفي تعارُضٍ مع ذلكَ يسفَحُ الصَّبِيُّ كوليا Kolya دموعَ الخَجَلِ لِكَونِهِ قد سمح لنفسِهِ بأن يُسْتَمَالَ إلى قراءةِ ذاكَ المقالِ، جَهْرَةً. ونلحظُ هُنَا أنَّ أولئكَ الشَّبَابُ جميعَاً لا يُشكِّلُونَ، على أيَّةِ حالٍ، مجمُوعةً متناسقَةً ومُنسجمَةً من المُثَقَّفِينَ من ذوي الفِكرِ وإنَّمَا بالأحرى يَجلبُ كُلٌّ منهُم إلى النِّقَاشَاتِ المفتُوحَةِ نَوعيَّتَهُ الخَاصَّةَ من الخُيِّلاءِ والسَّخطِ الأنانِيْ.
يَكشِفُ مشهدَاً كالمشهَدِ الآنِفَةَ الإشَارَةُ إليهِ عن رَيبَةِ دوستويفسكي بشأنِ الحُججِ الدِّيمقراطيَّةِ المُنشَأَةِ مِن قِبَلِ الفلسفة العقلانيَّة الغربيَّةْ. هو قد خَشِيَ من الطَّرِيقَةِ التي قادت بها أمثَالُ تلكَ الحُجج، والأفكار، إلى عَدَمِيَّةٍ واستهزاءٍ بالقيمِ الكلاسيكيَّةِ كانا قد بدآ يفعلان فعل الصَّدأ في الثَّقافة الرُّوسيَّة التَّقليدِيَّة. لذا لم يكُنْ جَعْلُ كلماتِ رواية "الأبله" الخاتمة من نصيب مدام إِبَانْشِنْ مُجرَّدَ شيءٍ اعتياطيٍّ مِنهُ وذلكُم لأنَّ مدام إِبَانْشِنْ لا تَكُنْ، حينما هي تشكُو من أنَّ المرءَ ليس له أن يجِدَ خُبزَاً صَلِدَاً أو جيِّدَاً في أيِّ مكانٍ من أمكنةِ أورُوبَّا الغربيَّة وأنَّهُ عند الموطِنِ يًُمكنُ للمرءِ، على الأقَلِّ، أن يُبكِي على راحتِهِ ومَلاءِ رُوحِهِ، سوى مُتَحَدِّثَةً، على طريقَتِهَا المُفاجئَةِ والتلقائيَّةِ على نحوٍ مُحبَّبٍ، كمَا والعميقَةَ العاطفة، بلسانِ "رُوسيَا الأُم" القديمة.
ورُغمَ أنَّ دوستويفسكِي قد أضحى، في أواسطِ سنينِ عُمرِهِ، أشَدَّ انجذَابَاً نحوَ حركةِ "الوحدة السُّلافيَّة" التي تستشرفُ مُستقبلاً تأتِي فيهِ جميعُ الأمم السُّلافيَّةُ إلى مُلتقَىً واحدٍ بُغيَةَ التَّصَدِّي لنُفوذِ النَّزعَةِ التَّقَدُّمِيَّةِ الأوروبيَّةِ يظلُّ من الحقِّ إثباتُ أنَّهُ قد كان، كذلكَ، مُتذوِّقَاً ومُقدِّرَاً عظيمَاً لقيمةِ الفَنِّ والأدبِ الغربيِّ، الشَّيءُ الذي يشهدُ عليهِ الدَّورُ المركَزِيُّ الذي تؤدِّيهِ، في رواية "الأبله"، لوحةُ هولبايِنْ المُسمَّاة "المسيح الميِّت"، كما والمزيدُ من الإشاراتِ إلى ثُلَّةٍ مُعتَبَرَةٍ من لوحاتٍ فنِّيَّةٍ أُخرَىْ رآهَا آنَاءَ أسفارِهِ. وحينَ، في الجُّزءِ الأوَّل، الفصل الخامس، من الرِّواية، ص. 56، لا تجد أديلايْدَا Adelaida موضُوعَاً مُناسبَاً لرسمِهَا يقتَرِحُ عليها مِيشكين، على نحوٍ حَرِيٍّ بهِ، رسمَ وجهٍ إنسانيٍّ بسيطٍ وغَيرِ مُزَوَّقٍ مثلما في لوحةٍ أُعجِبَ بها من بعدِ أن رآهَا بمُتْحَفٍ ببازِلْ. وفيما وراءَ الرَّسْمِ يَنْسِجُ دوستويفسكي طَيَّ سَردِهِ إشاراتٍ مُتواتِرَةَ إلى أعمالٍ أدبيَّةٍ مثل، من بين عِدَّةٍ أُخَرْ، "أوثَيْلُّوْ"، "دون كيشوت" أو مدام بوفاري. تلك الأعمال الأدبيَّة تُوسِمُ همومَ روايةِ "الأبله" بكثَافَةٍ إضافيَّةٍ، سيَّمَا وأنَّ قتل أوثيلُّو للمرأةِ التي يُحبُّ لها صدىً مُتردِّدٌ في مأساةِ روقوزهِنْ فيما يُحاكي دون كيشوت مِيشكِين في كفاحِهِ النَّبيل، غير أنَّهُ أبله، ضدَّ طواحين الهواء، ثُمَّ إنَّهُ ليس من قُبَيلِ المُصادَفَةِ أو الاتِّفاقِ، فحسبْ، كون أنَّ آخرَ كتابٍ تقرؤه ناستاسيا فيليبوفنا قبل مقتَلِهَا هو رواية جوستاف فلوبيرت عن امرأةٍ أسيرَةَ زواجٍ غيرِ سعيد.
بخلافِ نلك الإشاراتِ إلى أعمالٍ أدبيَّةٍ بارزَةٍ في التَّقليدِ الغربيِّ يؤدِّي الفنُّ الرُّوسيُّ، من جهتِهِ، دورَاً مُهِمَّاً في الحياتين الخاصَّة والعامَّة، معاً، لشخصيَّاتِ نلكَ الرِّواية. ففي صالوناتُ الرِّوايَةِ إِيَّاهَا ثَمَّةُ إشاراتٌ مُتواتِرَةٌ لخُرافاتِ كريلوف ذائعةَ الصَّيت ولتمثِيليَّاتٍ لتشيرنيشيفسكي، مارلينسكي أو غريبوييديف كانت ذاتَ رَوَاجٍ في ذلك الزَّمان إذ قد مضى لمشاهدتها الجميع. أهَمَّ من ذلكَ، على كُلٍّ، هو هيئةُ بوشكين المُهيمِنَةَ في الرِّواية فبوشكين، باعتبارُهُ مُقَرَّاً بهِ كمؤسِّسٍ للأدبِ الرُّوسيِّ الحديث وعلمانيَّتِهِ المرافقةَ لهُ في القرن التاسع عشر الميلادي، كان يلقَى، حينذَاكَ، إعجابَاً عظيمَاً من الشَّبابِ الرُّوسْ، غير أنَّهُ يبقَى شخصيَّةً خِلافيَّةً في عيونِ التَّقليديِّينَ من الرُّوسْ. وشاهدُ ذلك أنَّ مدام إِبَانْشِنْ ما تنفَكُّ، من جِهَتِهَا، رافضةً، ببساطةٍ، للإقرارِ بمعرفتِهَا لبوشكين ومن ثَمَّ هي تتظاهرُ بأنَّهَا لا تُدرِكُ أيَّ شيءٍ من شأنِهِ. وإلقاءُ أقلاياAglaia الشَّابَّة، في الرِّوايَةِ إِيَّاهَا، لقصيدة بوشكين المُسمَّاة "الفارسُ المسكين"، التي تحتفي بتقوى العصور الوسطى المسيحيَّة، واستخدامُها لها، المشُوبَ، بدءَاً، بما يُشبِهُ الحقد، على سبيلِ الهُزءِ على حسابِ مِيشكين، يَنِمُّ، طبقَ الأصلِ، عن موقفها المُضَّطَربِ الكائنِ في فسحَةٍ ما فيما بين رُوسيا القديمة ورُوسيا الجَّديدةْ.
***
تحفلُ روايَةُ "الأبله" بالاستطرادات. إنَّهَا شَغُوفَةٌ بالثَّرثَرَاتِ الاجتماعيَّةِ، بقَصِّ الحكاياتِ الفرعيَّةِ وبتَدخُّلاتٍ من شَتَّى الشِّكُولِ، على نحوٍ فيه مُفَارَقَةٌ، ثُمَّ إنَّ عِدَّةً من تِلكَ التَّدَخُّلاتِ تُحيلُ إلى ذاتِهَا، عِنْدَ حدِّ ذاتِهَا نَفْسِهِ أو عِنْدَ حَدِّ الرَّاوِي أو، في غَايَةِ الأمرِ، عِنْدَ حَدِّ الكاتِبِ نفسِهِ. هي، بعبارةٍ أُخْرَىْ، روايةٌ ذاتُ شَخصيَّاتٍ ثرثَارةٍ، بما فيها شخصيَّةُ الرَّاوي نفسُهَا، إلى حدِّ أنَّهَا كثيرَاً ما تُوغِلُ في كلامِهَا حتَّى تبلُغُ مَدَىً كثيرَاً ما تَكادُ تَتِمٌّ عِنْدَهُ المُساوَمَةُ بسيرُورَةِ حَبكَةِ الرِّوايَةِ الأَساسِيَّةِ ذَاتِهَا. وفي بعضِ آنَاتِ تلكَ التَّدَخُّلاتِ تبدُو بعضُ الحكاياتِ الجَّانِبِيَّةِ، المُوْلَجَةَ طَيَّ سردِهَا، مثلُ حكاية فيرويشتشينكو Feroyshtchenko غيرَ الظَّريفَةِ، في الجزء الأول من الرواية، الفصل 14، ص. 135-6، عن سرقَتِهِ لبَعْضِ مالٍ وإلقائِهِ لتِبعَةِ جِنايَتِهِ تِلْكَ على إحدى الخادمات، ليست سوى بهلوانيَّات فنيَّة صغيرَةْ.
حكاية فيرويشتشينكو تلكَ قد كانتْ، بالطَّبْعِ، قصَّةً صغيرَةً شَهيرَةً رواهَا، في الأصل، جان جاك روسو في "اعترافاتِهِ". ولا مَرِيَّةَ في أنَّهُ بسبب توقُّعِهِ اتِّهاماتَ بالانتحال يتعاملُ دوستويفسكي، بدهاءٍ، مع إشكالِ الانتحالِ ذاكَ في الجُّزءِ الأوَّل، الفصل التَّاسع، ص. 100، من الرِّواية، حيثُ يتبَاهى الجَّنرال إِفولقِنْ Evolgin، الذي هو (فِي الرِّوايَةِ) كبيرُ المُنتَحِلِيْنَ جميعَاً، بكيفَ أنَّهُ قد قذَفَ، ذاتَ مَرَّةٍ، كلبَاً صغيرَاً مُدلَّلاً lapdog من نافذَةِ قِطارٍ مُتَحرِّكٍ في ردِّ فعلٍ انتقاميٍّ على قيامِ سيَّدةٍ من المسافرين بقذف سيجارَهُ من نافذَةِ ذاتِ القِطارْ. وحين تُشيرُ ناستاسيا فيليبوفنا إلى أنَّ ذاتَ القِصَّةِ كانت قد نُشرَتْ، مُؤخَّرَاً، في إحدى الصُّحف يشعر الجنرال بالخجل وكذا ابنُهُ قانيا Ganya الذي يرتَسِمُ، حينذَاكَ، "وميضٌ من كراهيَّةٍ لا نهائيَّةٍ في عينيْهِ" (ص. 102 من الرِّوايَةْ). مع ذلكَ، استقبل عموم المستمعين إلى الجنرال حكايته تلكَ باستمتاعٍ ولم يُزعِجُوا أنفُسَهُمْ، بأقلَّ مِقدارٍ، بشأنِ كونه "بطلُهَا" الحقيقيُّ أم لا.
غَيرَ أنَّ تلكَ الاستطرادات المُتكرِّرَة، في رواية "الأبله"، تُضْفِيْ، مع ذَلِكَ، في مُجْمَلِهَا، عُمقَاً إضافيَّاً للانشغالات الطَّاغيَة على الرِّوايَةْ. ومن شواهدِ ذلكَ أنَّ حكايتَي مِيشكين التَّوأمتَين عن رؤيتِهِ لرَجُلٍ تُنَفَّذُ فيهِ عُقوبَةُ الإعدام في فرنسا وعن إنقاذِ فتاةٍ اسمُها "مَيرِي" في سويسرا يُشكِّلان استكشافَينَ مُتضادَّينَ لعاطفتي الانتقام والتَّعاطُف، لنَزعتَيْ التَّدمير وحماية الحياة المتعايشتين، معَاً، في داخل الإنسانْ. لكنَّهُ ينبغي التَّأكيدُ هُنَا على أنَّ الإشاراتِ إلى الإعداماتِ، القتلِ والقُسْوَةِ، من كُلِّ ضَرْبٍ، تفوقُ مُوازِيَاتَها، في الرِّوايةِ، من الحكاياتِ الطَّارئَةِ عن العطف الإنسانِيْ. وتهبُنَا حكايةُ إِبَّولتْ، في هذا المُتَّصَلِ، عن فعلٍ خَيِّرٍ مُفْرَدٍ لهُ يتمثَّلُ في محاولتِهِ- دون أن يدرِيْ لماذا على وجهِ التَّعيين- عَونَ طبيبٍ مُدقَعَ الفَقْرِ، شُعْلَةَ ضُوءٍ صغيرَةً واحِدَةً إزَاءَ خلفيَّةٍ كئيبَةٍ مِن هَرَجٍ سَاخِطٍ ومُمْتَلِئٍ بالشَّفَقَةِ الذَّاتِيَّةِ ضِدَّ حِقدِ القَدَرْ. ذلك اللا توازُن يُعْكَسُ، في جِمَاعِ الرِّوَايَةِ ويَجِدُ تَمثِيلَهُ الأكثَرَ أسىً وتجريحَاً في مأساةِ ميشكين نفسِهِ. ومثلُ إِناءُ الزِّيْنَةِ الذي لا يُقدَّرُ بثَمَنٍ الذي يكسرُهُ مِيشكين عِندَ الحفلِ لا يَكُنْ بالمُستطاعِ استعادة الإيمان بالجُّودِ الإلهِيِّ إثْرَ مُساءَلَتِهِ.
ذلكَ الخاطِرُ المَركَزِيُّ يَجِدُ تعبيرَهُ الأكثَرَ إِيْحَاءً في التَّقنياتِ السَّرديَّة التي يستخدِمُهَا دوستويفسكي في رواية "الأبله". وإنَّهُ لَمِنْ الحقِّ أنَّ هُنَالِكَ بَعضُ عناصرِ تَدبيرٍ مِفَنٍّ هُنَا من نماذجِهَا صورةُ المسيح الميِّتْ. ثُمَّ إنَّ اللَّعِبَ بالضُّوءِ والعتمة و، على الأَخَصِّ، ثِيمتَا العينين المُحدِّقتَين والسَّكِّين غير المُتجسِّدَة التَّوأمتَان يُشكِّلان علامتين فنيَّتين إضافيَّتَين في الرِّوايَةْ. غيرَ أنَّهُ يظَلُّ استخدام تلك الثِّيمات والإشارات، في الرِّوايةْ، على كُلٍّ، ليس مُتواتِرَاً واتِّفاقِيَّاً، فيما يبدُو، إلى حدِّ أنَّ القارئ قد لا يَستَطِعْ أن يَكُنْ مُتَأَكِّدَاً من مغازيها الحقيقيَّة أو من فعاليَّتِهَا. إنَّ تقنيةَ التَّعْمِيَةْ العَمَدِيَّة تُشَكِّلُ مَلمَحَاً رئيسَاً من رواية "الأبله". فالفصلُ الخامسُ من الجُّزءِ الثَّانِي، من تِلكَ الرِّوَاية، على سبيلِ المِثال، يبدأُ على نحوٍ واقعيٍّ عاديٍّ حيثُ يُطلعُنَا راوٍ عليمٍ على قرارِ ميشكين ألَّا يذهبُ إلى بافلوفسك Pavlovsk. ثُمَّ يَنْزَعُ الحَكْيُ، من بعدِ ذلكَ، إلى لَحظَاتٍ مِن أسلُوبِ السَّردِ الحُرِّ غيرِ المُباشِرِ تُنقَلُ إلينَا آناءَهَا خَطَرَاتُ الأميرِ الفِعليَّةِ، لكن بِصيغَةِ حَدِيْثِ الفَرْدِ الغائبِ third person دون أن يُمَيَّزَ ذاكَ الحَدِيثُ بأيَّةِ علاماتِ تَنصِيصٍ كما يَجِيءُ، على سبيلِ المِثَالِ، في هذا المُجْتَزَأٍ مِن الرِّواية: "لكنَّ هُنَاكَ المَتُجَرْ. قد وجدهُ في غايةِ الأمر!" ثُمَّ، إثْرَ سطرينَ لاحقين، تُرْجَعُ بِنَا الكَرَّةُ إلى الرَّاوي الكُليَّ العِلم وتُوضَعُ خَطَ رَاتُ بطلِ الرَّوَايَةِ بينَ علاماتِ تَنصِيص: "ثُمَّ هنالك "الشَّيءُ" الذي لا يستحق أن يُدفعَ ثمناً له أكثر من ستِّينَ كوبيكَاً". "قد يَكُنْ ثَمَنُهُ، بالتَّأكيد، ستُّون كوبيكَاً إذ أنَّهُ ليس حرِيٌّ به أن يَزِدْ ثمنُهُ على ذلكْ"، كرَّرَ القولْ" (ص. 109). إنَّ تلكَ الانتقالات والانزلاقات القَلِقَة فيما بينَ أنماطِ سَردٍ مختلفَة مُمَيِّزَة لرواية "الأبله" على نحوٍ واسعْ. ومن أمثلة ذلك أنَّ ميشكِين وحده هو من يُلاحظ عينين تُحدِّقَانَ إليهِ، كما ومن يشعُرُ بنفسِهِ مجذُوبَاً، على نحوٍ غامضٍ، إلى ذاكَ "الشَّيء"، في مَحلِّ المَبيعَاتِ، "الذي لهُ مقبضٌ على هيئةِ قَرنِ أيْلٍ (ص. 215). ليس هُنالِكَ صوتُ راويةٍ في تلكُمَا الحالتين، على وجهِ التَّخصيص، كي يُوضِّحَ ما الذي يجري لبطل الرَّواية وما يحدُثُ فيها فعليَّاً. غَيْرَ أنَّ ذَاكَ الزَّوغَانَ مِن قِبَلِ الرَّاويَةِ ليس هو، على كُلِّ حالٍ، مُجَرَّدُ شيءٍ طارئٍ في الرِّواية إذ أنَّهُ يُشَكِّلُ وَجهَاً جَوهِريَّاً لاستراتيجيَّةِ سَرْدٍ مُصَمَّمَةً بِغَايَةِ خَلخَلَةِ سيادةِ صوتِ الرَّاوِيَةِ العارفِ ومن ثَمَّ، بالتَّرابُطِ، يقينيَّات التَّأويلِ عِنْدَ كُلِّ المُستَوَيَاتْ.
حقَّاً إنَّ الرِّواية تبدأ بطريقةٍ واقعيَّةٍ تقليديَّةٍ يصفُ، وفقَهَا، راوٍ كُلِّيَّ العِلم لقاء ميشكين وروقوزهِنْ في القطار. غيرَ أنَّ المُفارَقَة في أسلوبِ السَّرد سُرعانَ ما تبدأ، من بعدِ ذلكَ، في البِرُوزِ فيهَا ومِن ثَمَّ تعكيرِ صَفْوِ المشهَدِ السَّردِيِّ التَّقليدِيِّ حيثُ يتدخَّلُ الرَّاوي بتعليقاتٍ ساخرة حول التَّمَكُّنِ العلميِّ المَزعُومَ امتلاكُهُ من قِبَلِ "سيِّدٍ مُتَزلِّفٍ" مثل ليبيديف. مع ذلكَ، يضع الرَّاوِي نَفسَهُ، بهجُومِه السَّيِّئَ الطَّبعِ أو الحادَّ المِزَاجِ ضد فكرةِ كونِ ليبيديف حكيمَاً، ضِمنِيَّاً، زعمَهُ كُليَّةَ العِلْمِ في مَحَلِّ شَكٍّ وتساؤُلٍ فتَسْبِقُ، بذلكَ، المساومةُ بسُلطَةِ صَوتِ الرَّاوِيْ. ومن دلائِلِ ذلكَ أنَّهُ في الجُّزءِ الثَّانِي، الفصل الأوَّل، مِن الرِّوَايَة، يَقِرُّ الرَّاوي بأنَّهُ لَيْسَتْ لديهِ فِكرَةٌ عَمَّا ينوي مِيشكين فعلَهُ في سينت بيترسبيرق وعمَّا قد تغدُو عليهِ، لاحقَاً، علاقتُهُ مع ناستاسيا فيليبوفنا. ثُمَّ إنَّهُ يبدُو أنَّ الرَّاوِي يفقِدُ، في الفصل الأوَّل من الجُّزء الثَّالث من الرِّوايَة، جِمَاعَ تَحَكُّمِهِ في قصَّتِهِ إذ هُوَ يُوغِلُ في هَرجٍ حولَ الأوضاعِ في رُوسيَا في ذلكَ الزَّمانِ ثُمَّ، إثرَ جَذْبِهِ لِنَفَسِهِ، يَقِرُّ بأنَّ قِصَّتَهُ فِي غِنَىً عن كثيرٍ من ذلكَ الذي هَرَجَ بهِ (ص. 303).
ويبداُ الفصلُ الأَوَّلُ من الجُّزءِ الرَّابِعِ من الرِّوَايَةِ بِمَقَالٍ عن مشكلةِ كاتبٍ روائيٍّ مُتَّصِلَةٍ بالتَّوَتُّرِ، في كتَابَتِهِ الرِّوائيَّةِ، فيما بين الشَّخصيَّاتِ العاديَّةِ العامرةَ بها الحَيَاةُ الحَقِيقِيَّةُ والمبالغاتِ الضَّرُوريَّةِ لإنشاءِ القَصِّ الخيالي. وخَلَلَ تلكَ الرِّوايةِ جميعِهَا يَجرِي تَمثِيلُ فُقدانِ التَّحَكُّمِ الرِّوَائِيِّ، إلى حدٍّ كثيرَاً ما يَكُنْ لهُ أَثَرٌ كوميدِيٌّ، في تَولِيْفَاتِ تصانيفٍ من أصواتٍ تُثرثِرُ، تَتَحَاجُّ، تَعِظُ أو تَتَنَاقَشُ دونَ أن تَصَلَ، أَبَدَاً، إلى أيَّةِ توافُقْ. ويُتَوَّجُ جِمَاعُ ذلكَ، على صُورةِ قد تَكْمُنُ كثيرَاً في التَّذَكُّر، في الجُّزء الخامس، الفصل التَّاسِع، من الرِّواية، وفي ذلكَ الصَّخَبُ من الشَّائِعَاتِ، أنصَافِ الحقائِقِ والنَّمِيْمَةِ، الخَبيثَةُ مِنهَا والحَميدَةُ، بخُصُوصِ الحادثَاتِ المُحيطَةِ بزَفَافِ ناستاسيا. مع ذَلِكَ، تنتَهِي الرِّوَايَةُ بعَودةِ الرَّاوِي كُلِّيَّ العِلْمِ إلى مركزِ السَّردِ ومن ثَمَّ وَصْفِهِ للمُوَجَهَةِ الرَّهيبَةِ الأخِيْرَةِ فيما بين رَوقوزهِنْ والأمير وما انشَقَّ عَنْ ذلكَ من انحَدارٍ فِي تصاريفِ أحوالِ مِيشكِين وعائلةِ إِبانْشِنْ.
قَدْ زَعَمَ البَعضُ أنَّ رِواية "الأبلَهْ" رِوايَةٌ مُختَلَّةَ التَّركيب، ليس فقط بِفِعْلِ طبيعتِهَا الاستطراديَّة أو فُقدَانِهَا للرُّؤْيَةِ المُوَحِّدَةِ وإنَّمَا كذلكَ لكونِ أنَّهُ، في غَايَةِ الأَمْرِ، يبقَىْ الاختلاطُ الذي صَوَّرَتْهُ إِشكَالَاً بَعِيْدَاً عن الحَلْ. بَلَى، هُنالِكَ، في تِلْكَ الرِّوَايَةِ، عالَمٌ يُمكِنُ للوَرِثَةِ فيهِ أن تُفقَدَ أو تُكْسَبَ دُونَ سبٍبٍ ظاهِرٍ، للجَّرائمِ والأفعَالِ الخَيِّرَةِ أنْ تُرتَكَبَ وكأنَّهَا تَجِيءُ بلا مُسَوِّغَاتْ، للحُبِّ والكَرَاهِيَّةِ أنْ يُصِيْرَا غَيْرَ مُتَمَايِزَيْنَ تمامَاً
عن بعضِهِمَا البعض، وللقَدَاسَةِ أن تَجلِبُ معهَا كارثَةً على إِثْرِهَا. ويَشْكُو ليبيديف، الذي كثِيرَاً ما يبدُو عَاكِسَاً لوِجهَاتِ نَظَرِ مُؤَلِّفِ الرَّوَايَةِ، في الرَّوَايَةِ، مِن أنَّ الانسجَامَ القَدِيْمَ للعالمِ قد فُقِدَ وأنَّهُ "ليسَتْ هُنَالِكَ فِكْرَةٌ مُوَحِّدَةٌ" كائِنَةٌ وَرَاءَ الإنجَازَاتِ المُعتَبَرَةِ لعصْرِنَا الحَدِيْثْ (ص. 382). غَيْرَ أنَّ ذَلِكَ التَّوَتُّرُ الأَصْلِيُّ الكائِنَ عِنْدَ قَلْبِ تِلْكَ الرِّوَايَةِ هُوَ، في ذَاتِ الوَقْتِ، سَبَبُ نجَاحِهَا الكَبيرْ. إنَّ مُقَامَرةَ دوستويفسكِي تِلْكَ قَدْ أَثْمَرتْ كَسْبَا. ونحنُ نعلمُ، الآنَ، أنَّ رواية "الأبله" قد كانت هي المُفضَّلَة من بينَ أعماله القَصَصِيَّة الأُخرَىْ وأنَّهَا بالتَّأكيدِ أكثَرَ رِوايَاتِهِ جُرأَةً فِكريَّةً وثَقَافِيَّةً، كما وهِيَ كذلِكَ أكثَرَ إِنشَاءِاتِهِ الرِّوائيَّةِ عَصْرِيَّةً. ونَعْزُو هُنَا نَجاحُ الرِّوَايَةِ إِيَّاهَا، على وجهِ التَّعيين، إلى تَجنُّبِهَا الكِلَيْشِيْهَاتِ المُبسَّطَةِ عنِ الخَيْرِ والشَّرِّ والحُبِّ الرَّومانسِيِّ، إلى رَسْمِهَا صُوَرَاً نَفَّاذَةً لِتعقِيْدَاتٍ وتناقُضَاتٍ سايكُولَوْجِيَّة، ثُمَّ، الأَهَمَّ من ذَلِكَ، إلى استِراتِيجِيَّتِهَا السَّرْدِيَّةِ البَارِعَةِ المُتَمَثِّلَةَ فِي خَلْخَلَةِ وِجْهَةِ نَظَرٍ مألُوفَةْ. وفِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَسْتَبِقُ رِوايَةُ "الأَبلَهْ" ليسَ فَقَطْ اهتِمَامات الفِكرِ الوِجُودِيِّ في القَرْنِ العِشْرِين وإنَّمَا هِيَ تَسْتَبِقُ، أَيْضَاً، هِمُومَ عَصْرِنَا الحَدِيْثِ
في جِمَاعِهَا.
هامش:
* Dostoevsky, Feodor, The Idiot, Introduction and Notes by Agnes Cardinal, Wordsworth Editions Limited, 1996. New Introduction and Notes added in 2010.
[اكتملت هذه التَّرجمة في أبريل من العام 2016م]
khalifa618@yahoo.co.uk
///////////////////////////
ترجمة: إبراهيم جعفر
كان فيودور دوستويفسكي مقامراً عظيمَاً إذ هو قد خاطرَ، بين الآنِ والآنِ الآخر، بشرفه ومعاشه مقابل استثارة حسِّ الخطر وإمكان الظَّفرِ بمكسبٍ عندَ طاولاتِ المقامرة. هو، كذلكَ، لم يكن أقَلَّ استعداداً لمغازلةِ الخطر في فنِّهِ، سَيَّمَا وأَنَّهُ في روايتِهِ المُسمَّاة "الأبله" قد أقدمَ على مقامرةٍ تقطَعُ الأنفاس. كُلُّ تآليفِ فيودور دوستويفسكي التَّخيِيلِيَّة هي، جوهريَّاً، سرديَّات فكريَّة، أي روايات أفكار. والرِّواية التي شرع في التخطيط لهيئتها، فيما كان هو على فقرٍ مُدقَعٍ وبمنفىً فعليٍّ في جنيف آناءَ شتاء العام 1867م، لم تكن استثناءً إذ هو قد قرَّرَ أن يَسْتَطْلِعَ، في تلكَ الرِّوايَة الجَّديدة، مِعْضَلَةً فلسفِيَّةً شَديدَةَ التَّمَلُّصَ من الفِكْرِ على نحوٍ مُغِيْظٍ. وواصفَاً مشروعَهُ لصديقه ميكوف Maykov كتب فيودور دوستويفسكي: "الفكرةُ هي رسمُ هيئةِ شخْصٍ رائعٍ على نحوٍ مُطْلَقْ. لا أظُنُّ أنَّهُ بالإمكانِ وجُودُ أَيِّ شيءٍ أَشَقَّ من ذلك، خاصَّةً في زمانِنَا هذَا [...]. قد غامرتُ بالمُخَاطَرَة، كما في لُعبَةِ رولَيْتْ: رُبَّمَا ستَنْمُو تلكَ الرِّوايَةِ تحتَ سِنِّ قَلَمِيْ" (رسالة رقم "330، إلى أبولو مايكوف، جنيف، 31 ديسمبر، 1867م [12 يناير، 1868م]. بَيْدَ أنَّ العَمَلَ الذي أَسْفَرَتْ عنهُ تلكَ "الفِكْرَةُ" قد أضحَىْ، بالفِعْلِ، واحدَاً من أعظَمِ إبداعاتِ الرُّوائِيِّ فيدور دوستويفسكي وأكثَرَهَا إِفْعَامَاً برُوحِ التَّحَدِّي.
***
ولد فيودور مايكلوفتش دوستويفسكي في موسكو في العام 1821م، الثاني من بين ستَّة أطفال. كانت أمُّهُ امرأةً وديعَةً أنِيْسَةً لكنَّ أباه، الذي عَمِلَ طبيبَاً بمستشفىً للفقراء، كان غضُوبَاً ومولعاً بالشُّربْ. وكانت عائلة دوستويفسكي تُقيمُ بمسكنٍ مُلحقٍ بالمستشفى وقد تركت، لذلكَ، آلام وصور شقاء الفقراء، المرضى وذوي لوثات الجنون، التي شهدها دوستويفسكي في طفولته، انطباعاً، في حساسيَّتِهِ، غيرَ قابلِ للإمِّحَاء.
أنفق دوستويفسكي سنين حياتِهِ الباكرة مُطالِعَاً لكتاباتٍ من الإنجيلِ، من الأدب الرُّوسِي ومن الدوريات التعليميَّة التي كان أبوه يجلبها معه من محلِّ عَمَلِهِ. وفي العام 1837م تُوُفِّيَتْ والدتُهُ بعِلَّةِ السُّلِّ، ثُمَّ اغتِيْلَ والدُهُ من بعد عامينَ من ذَلكَ وزُعِمَ أنَّ من اغتالُوهُ كانُوا فلاحينَ مُوتُورينْ. أُرسِلَ الصَّبِيُّ فيودور، وأخوهُ ميخائيل، إلى معهد الهندسة العسكريَّة في سينت بيترسبيرق St. Petersburg. هُناكَ أُتِيْحَ لفيودورد وستويفسكي وقتٌ يُؤالفُ فيه نفسه وكلاسيكيَّات الأدب الأوربِّي فَنَمَّى عِنْدَهُ، بذلَكَ، اهتماماً خاصَّاً بالغُوطيَّة/الوحشيَّة المُثيرة thrilling Gothicism المُتَّسِمَةَ بها الأعمال الأدبيَّة للسَّير والتر اسكوتSir Walter Scot، إ. ت. أ. هوفمان E.T.A. Hoffman وتوماس دي كوينسي Thomas de Quincy.
ما أن تَخَرَّجَ في العام 1842م ابتدر فيودور دوستويفسكي، لنفسه، مسيرةً أدبيَّةً فترجمَ رواية بلزاك المسمَّاة "إيوجيني قِراندَيتْ Eugenie Grandet، ثُمَّ نشر، في العام 1845م، روايته الافتتاحيَّة التي حازت على تقديرٍ كبيرٍ والمُسمَّاة "قومٌ فقراء". غير أن روايته الثانية، "القرين “The Double، لَمْ تُقَدَّرْ بمثلِ ما قُدِّرَتْ بهِ روايتُهُ الأولى. وفي العام 1849م اعتُقِلَ فيودور دوستويفسكي وسُجِنَ وأصدر ضده حكمٌ بعقوبة الإعدام بمُوجبِ حيثيَّاتِ وَرَدَ فيها أنّهُ قد قرأَ، جَهْرَةً، عِنْدَ تَجمُّعٍ سياسيٍّ، رسالة الناقد الأدبي الليبرالي بيلينسكِي Belinsky الشَّهيرة المُسمَّاة "رسالة إلى غوغول" التي زَعَمَ فيها بيلينسكي أنَّ الشَّعبَ الرُّوسِيَّ قد كانَ، جوهَرِيَّاً، شعبَاً مُلْحِدَاً.
وفي الثامنة من صباح يوم 22 من شهر ديسمبر من العام 1849م وقف فيودور دوستويفسكي، وثُلَّةٌ من رفاقه السُّجَنَاء، عِنْدَ قَارِعَةِ الجَّلِيْدِ وقُبَالَةِ فِرقَةِ إعدامٍ مُتهيِّئَةٍ لإطلاقِ النَّارْ. غيرَ أنَّ فَرَجٌ وَافَىْ، عِنْدَ اللَّحظَةِ الأخيرَةِ، وأُصْدِرَ أمرٌ بتخفيف عقوبة فيودور دوستويفسكِي إلى أربعِ سنينٍ من النَّفْيِ إلى أَوْمْسِكْ بسيبيريا، مع الأشغال الشَّاقَّةْ. ثُمَّ اقتضَىْ مِنْهُ إطلاقُ سِرَاحِهِ في العام 1854م أداءَ خِدْمَةٍ عَسكريَّةٍ عِنْدَ الجَّيْشِ الرُّوسِيِّ لأربعِ سَنَواتٍ أُخرَيَاتْ. تَزَوَّجَ فيُودور دوستويفسكي ماريا دميتريفنا إساييفَا Marya Dmitrievna Isayeva في ذاتِ العام، لكنَّه لم يتمكَّنْ من استئنافِ مُضِيِّهِ الحَثِيْثِ على سبيلِ الأدبِ قبل العام 1858م.
لا يمكن أن يَكُنْ هُنالِكَ رَيبٌ في أنَّ تجربة دوستويفسكي كرجلٍ مُدانٍ وسجينٍ في سيبيريا قَدْ بَدَّلت وجهة نظره الفكرية والحياتيَّة على نحوٍ أصلِيٍّ إذ هو قد شَرَعَ، من بعدِ تلكَ التجربة، فيما يَخُصُّ الدِّيانَة المسيحيَّة والإيمان الدِّينِيِّ، عمومَاً، في المُضيِّ بعيداً عن العقلانيَّة الغربيَّةَ المَنْحَىْ لصالح موقفٍ فكريٍّ سُلافيٍّ ذي قاعدةٍ أرثوذوكسيَّة أُصُوليَّة. وذلكَ بَيِّنٌ في رسالةٍ له، في شهر فبراير من العام 1854م، إلى ن. ف. فون-فيزينا. "لئن برهنَ لي أحدٌ ما"، يقول فيُودورد وستويفسكي في تلك الرِّسالة، "أن المسيحَ كائنَ خارج نطاق الحقيقة، وأنَّ الحقيقة قد كانت كائنةً خارج المسيح قد أظلُّ، مع ذلكَ، مُفضِّلاً البقاءَ مع المسيح على البقاء مع الحقيقية".
من هُناكَ، فصاعِدَاً، بدا افتتانٌ بالغٌ باستسرار الفكر الصُّوفِي والتجربة الصُّوفيَّة بارزاً في جِمَاعِ كتاباتِ دوستويفسكي التَّخييليَّة. وهُناكَ، في سينت بيتر اسبيرق، تعاون دوستويفسكي، في البدء، مع أخيه ميخائيل، في كتابة يوميَّات، ثُمَّ شَرَعَ، في العام 1859م، في نشر سلسلة قصص وروايات قصيرة كانت من بينها روايته المسمَّاة "مذكِّراتٌ من منزل الموتى" التي نُشرَتْ في العام 1862م وكانت قائِمَةً على تجاربه في السجن. تَرَحَّل فيودور دوستويفسكي، في ذاتِ العامِ، عبر أوربا الغربيَّة ودخل في علاقةٍ غراميَّةٍ، كانت جَدَّ جارِحَةٍ بالنِّسْبَةِ لهُ، مع بولينا سَسْلُوفَا Polina Suslova، تلكَ "الأُنْثَى الفاتِكَةfeme fatal" التي أضحت، من بعد ذلكَ، أُنمُوذَجَ شخصيَّة بولينا في رواية "المقامر" وشخصيَّة ناستاسيا في رواية "الأبله". نشر دوستويفسكي، من بعد مُضِيِّ عامٍ من ذلك الزَّمان، روايته القصيرة المسمَّاة "مُذكِّرَاتٌ من العالم السُّفلي" التي تحكي قصة شابٍّ يكتشفُ الجّانب المُظلم من الطبيعة الإنسانيَّة فيصيرُ عَدَمِيَّاً. وفي العام 1864م رحلت زوجته وشقيقه ميخائيل، معاً، عن هذه الدُّنْيَا ووجد فيودور دوستويفسكي نفسه مُثْقَلاً بالدِّيُونِ، جُزئيَّاً بسبب أنه كان قد تَحَمَّلَ مسؤوليَّات ماليَّة خاصَّة بأقربائه وجوهريَّاً بسبب كونه قد كان مُقامِرَاً قَهْرِيَّاً. ومُجَابِهَاً إمكانَ خرابٍ ماليٍّ جَدَّ حقيقِي، ومن ثَمَّ خزيٍ اجتماعيٍّ عامٍّ، سعى فيودور دوستويفسكي نحو تأليف روايتين، في تلاحقٍ سريع، أولهما كانت هي روايته المُسَمَّاة "الجريمة والعقاب"، التي قد يُمكن القول عنها إنها قد كانت أفضل رواياته، وثانيهما كانت هي روايتُهُ المُسمَّاة "المقامر" التي-بعون المُخْتَزِلَة ذات الثمانية عشرة ربيعاً، آنا غريغورييفنا اسنتكينا Anna Grigorievna Snitkina، التي أضحت، في العام التالي، زوجته الثَّانِيَةْ- كانت قد كُتُبِتْ، وطُبِعَتْ، بسُرعةٍ فائقةٍ. في ذاتِ الوقتِ ما انفكَّتْ الدِّيُونُ تتراكم حتى بلغت الأحوالُ حدَّاً أرغِمَ معه فيودور دوستويفسكي، وزوجته الجديدة، في أبريل من العام 1867م، على الهربِ من رُوسيا اتِّقَاءً لملاحقة الدائنين.
وبعدَ رِحلَةٍ مُضَّطَرِبَةٍ أخذَتْهُم عبر ألمانيا من دريسدن إلى بادن-بادن، كما وعبر بازل في سويسرا، وكانت موشُومَةً بتصاعدِ وانخفاض وتائر إدمان دوستويفسكي للمقامرة، استقرَّ الزَّوجانُ، لحينٍ من الزَّمانِ، في جنيف. هناك بدأ فيودور دوستويفسكي، في شهرِ سبتمبر من العام 1867م، في رسم الخطط الأولية لروايتِهِ المُسمَّاة "الأبله". ولأنَّ الزَّوجين كانا، آنذاكَ، على فقرٍ مُدقعٍ أقاما في بيتِ إيجارٍ وعاشا على بِضْعَةِ أموالٍ مدفُوعَةً مُقدَّمَاً من قِبَلِ النَّاشِرْ، قروض صغيرة من أصدقاء وتذاكر رهن. لم يتوافَق مُناخُ سويسرا العاصف مع دوستويفسكي. ومقهُورَاً بشِدَّةِ الحنينِ إلى بلاده بدأ دوستويفسكي يُعانِي من نوباتِ صَرَعٍ مُنهِكَة على نحوٍ متزايد. كانت آنا، حينذَاكَ، حُبْلَىْ وكان على دوستويفسكي تسليم الجُّزء الأول من الرواية الجديدة إلى النَّاشر كي بدأ في نشرها، على حلقاتٍ متسلسلةٍ، في صحيفةِ "الهيرالد" الرُّوسيَّة بحلول شهرِ يناير من العام 1868م.
كان دوستويفسكي يُدرِكُ جيِّدَاً أنَّ مفهوم "الشَّخص التامَّ الرَّوعة" أو "الشَّخص المثالي" ما كان له، في غالب الظّن، أن يَفْلَحَ في أن يكُنْ موضُوعَاً لعملٍ تخييليٍّ ذي أثرٍ فعَّال، شأنهُ في ذلكَ شأن موشولسكي Mochulsky الذي يُلاحظُ أنَّ "القَدَاسَةَ ليست موضوعاً أدبيَّاً". والصُّعُوبَةُ هًنَا لا تكمُن فقط، أو على الأقل، في حقيقة أنَّ أيَّةَ قصَّةٍ جيِّدَةٍ تستمِدُّ، في غالبِ أحوالِهَا، كثيراً من قُوَّتِهَا من تصويرِ التَّعَدِّي وكيفيَّات تجاوز التَّعَدِّي نحو حلولٍ حياتيَّة ("واقعيَّة") مُعيَّنَة فدوستويفسكي كان قد تَمكَّنَ، بالفِعلِ، في رواياتٍ أخرى له، من ابتِداعِ بعضِ شخصياتِ أوغادٍ روائيَّةٍ شديدةَ الفتنةِ، بدءَاً من راسكولنكوف في "الجريمة والعقاب" وانتهاءً بأليكسي إيفافوفيتش في "المقامر" واستافروجين في "الشياطين".
شَكَّلَ المفهوم الرئيس الذي تَقُم عليه رواية "الأبله"، إذاً، تحدِّيَاً غيرَ عادِيٍّ لقوى دوستويفسكي الإبداعية. هو كذلكَ سبَّبَ لهُ قلقَاً صَعُبَ وصفُهُ. وخلال تلك الأشهر الشَّقِيَّة في جنيف رسم دوستويفسكي خُطَطَاً لما لا يقلُّ عن ثمانيةِ تصوُّراتٍ للرواية، كلٌّ منها مُفتَرِقٌ عن سابقِهِ، على نحوٍ جذريٍّ، ثُمَّ بَرزَتْ عِنْدَهُ، أخيرَاً، في ديسمبر من العام 1867م، وقبل شهرين فقط من موعد تسليمِهِ مسودة الحلقة الأولى من الرِّواية للنَّاشر، نُسْخَةٌ من رواية "الأبله" شَعَرَ بأنَّهَا قد تَشْتَمِل على مُجمَلِ التَّعقيداتِ التي كان يُنَازِعُ على سبيلِ الإحاطةِ بها في تلكَ الرِّوَايَةْ.
الشَّخصيَّةُ المِحوَرِيَّةُ في الرِّوايَةِ إِيَّاهَا هي شخصيَّةُ الأمير مِيشكِين Myshkin الذي كان هو "شخصَاً مُطلقَ الرَّوعَة" بيد أنَّهُ، وِفْقَ ما يقترح عنوان الرِّوايَة، كان أيضاً "أَبْلَهَاً". وإذ نلتقِي به، في بدءِ الرِّواية، نلتقي شخصاً أشْقَراً، أزرق العينين، بريئاً وذا ثقةٍ في النَّاس، عِندَ قِطارٍ مُتَّجِهٍ نحو مدينة سينت بيترسبيرقْ. هُنَاكَ، في القِطار، يلقى الأمير مِيشكين نفسَهُ، وجهاً لوجه، مع نقيضِهِ في هيئة رَوقوزهِنْ Rogozhin، ذلكَ الشاب الدَّاكن اللَّون، ذو العينين المكتئبتين و"الابتسامة الفَظَّة" (الأبله، ص. 2). ونرى روقوزهن، آناءَ اللّقاء، مُشْتَمِلاً بِمِعطَفٍ من جلد الخِراف فيما يرتعشُ مِيشكِين في داخلِ معطفِهِ السِّويسرِيِّ غير الكافي للوقايةِ من قَرِّ البردْ. كلاهُمَا، روقوزهِن ومِيشْكِيْنْ، كانا عَلِيْلَيْنْ. ومِيْشْكِيْنْ، شاحباً ومُسترخِيَاً، سُرعانَ ما حَدَّثَ، من تِلقَائِهِ، الجَّميعَ بأنَّهُ يُعاني من داءٍ عصبيٍّ فيما بدا روقوزهِنْ مُتَهَيِّجَاً على نحوٍ غريبٍ، كما ومحمُومَاً، الشَّيءُ الذي لا يُصَيِّرُ عسيراً، على مُرَاقِبِ ذاكَ المشهد الافتِتَاحِيِّ من الرِّواية، رُؤيةَ أنَّ دوستويفسكي إنَّمَا يَسْتَبِقُ سردَهُ الرِّوائِيَّ بوضع شخصيّتين متضادَّتين ومتنازعتَين إزاءَ بعضهما البعض. وذاكَ التَّوَتُّرُ، فيما بين ذَيْنَكْ الشَّخصين، سَيَنْفُذُ في جِمَاعِ حبكَةِ الرِّوَايَةِ حتَّى مشهدَها الاستثنائيَّ النِّهائِيْ.
أما مسرح النِّزاعِ الرَّئيسِ بين ذَيْنَكْ القُوَّتين المتضادَّتين فهو الموطنُ الرُّوسيُّ الأنمُوذَجِيُّ. وبشأن أحداثِ الرِّوَايَةِ، مُجابَهاتِهَا وحِوارَاتِهَا، نَلْفَى أنَّ غالبَهَا يدُورُ في داخلِ البيوتِ، في الدَّواوينِ، حجراتِ الاستقبالِ، عِنْدَ التَّجَمُّعاتِ العائليَّةِ والحَفَلاتْ.
وفي الرِّوايَةِ إِيَّاهَا عائلتَان، على وجهِ التَّعيِين، مُنخَرِطَتَانِ في أشغالِ الرِّوايَةِ حتَّى غايتَها القُصوىْ: عائلة إِبَانْشِنْ Epanchin وعائلة إِفَولْجِنْ Evolgin. تتشابه العائلتان إيَّاهُمَا في أنَّ رَبَّيْهُمَا جنرالان. غير أنه فيما ما تزال العائلة الأولى تُحظَى بالتقدير الاجتماعي ما تَنفَكُّ العائلةُ الثَّانية تَنزلُ درجتُها، بوضوحٍ، من عِندَ جهةِ التقدير الاجتماعي.
أسباب ذاك النِّزُول مُعقَّدَة ومُركَّبَة، بيد أنه بالمُستَطاع، جزئيَّاً، على الأقل، إرجاعها إلى "مَعَايبٍ" اجتماعيَّةٍ بعينها في شخصيَّات القائِمِينَ على رأسي العائلتين إيَّاهُمَا منها، بلا ريب، المُكابَرَة المُتَعَمَّدَة، خاصَّةً من قِبَلِ الأبوين. فالجَّنرال العجوز إِفولجِنْ سِكِّير ومُدَّعٍ يتسبَّبُ سُلُوكُهُ غير اللائق، اجتماعيَّاً، في إحراجِ زوجته وأطفاله. هو، كذلك، عائلٌ سيِّئٌ وله، بجانب عائلته الشَّرعيَّة، عائلة ثانية تعيش في ظروف مُقلقَة وحَرجَة حيثُ إِبَولِتْ Ippolit، الذي رُبَّمَا يكُن هو ابناً طبيعيَّاً للجَّنرال العجوز إفولجِنْ، يُحتَضَرُ بداءِ السُّلْ. أيضَاً هو يُهدرُ، سريَّاً، الموارد الزَّمنيَّة والعاطفيَّة والماليَّة للعائلة. وبفعلِ شِدَّة أُخذة الجَّنرال إِبَانْشِنْ بجمال ناستاسيا فيلوبوفنا يشترى لها طاقمَاً من لآلئٍ غاليَةَ الثَّمَنِ جِدَّاً، بمالٍ ينبغي له أن يُدَّخَرَ بُغْيَةَ التَّمَكُّنِ من دفعِ مهورِ زِيجاتِ بناتِهِ. إنَّ جميعَ صُورِ الآباءِ، في تلكَ الرِّوايةِ، لمُوغِلَةً عميقَاً في اختلالِهَا. ونحنُ نُدرِكُ منها أنَّ أبَ روقوزهِن قد كانَ مُبتَغِيَاً قَتْلِ ابنِهِ فيما اختفى أب ميشكين دُونَ أن يُخلِّفَ وراءهُ أيَّةَ أثَرْ. ذاكَ يجعلُ بطليَّ الرِّوايةِ، إذاً، وارِثَيْنَ لتِرْكَةٍ أَبَوِيَّةٍ إشكاليَّة. ومن ضحايا الفشل العائليِّ الأبَوِيِّ، في الرِّواية، كذلك، الصبيَّة ناستاسيا التي، بدلاً من أن تُدعَمَ وتُحْمَىْ من قبَلِ وَصِيِّهَا ووليِّ أمرها أفاناسي إيفانوفتش توتسكي Afanasy Ivanovitch Tostsky الذي كان من الحَرِيِّ منهُ اتِّخاذُ موقفِ وليِّ الأمرِ منها، تُغْوَىْ، من قِبَلِهِ، ومن ثَمَّ تُواجهُ الهوانَ الاجتماعيَّ والمَذَلَّة. أمَّا ربُّ العائلة الثالثةِ الرئيسةِ في الرّواية، وهو ليبيدييف Lebedyev، فمن الإنصاف القول عنه إنَّهُ يُحاوِلُ، على الأقلِّ، أن يكُنْ ربَّاً حَسَنَاً لعائلتِهِ. غيرَ أنَّ ليبيدييف، ذاكَ الأَرمَلُ الأبَدِيُّ القلق، مُنشَغِلٌ على سبيلِ توفيرِ لقمةِ العيشِ لأهلِهِ، الشَّيءُ الذي يضطرُّهُ إلى تركِ مهمَّة العناية اليوميَّة بأطفالِهِ العديدين لابنته الكُبرَىْ، فيرا لوكيانوفنا Vera Lukyanovna.
تُعاودُ "ثِيمةُ" العلاقة المضَّطَرِبَة بين الآباء والأطفال في الظِّهور في كلِّ أعمال دوستويفسكي التخييليَّة. وهي تَلقَى، في آخرِ روايات دوستويفسكي، "الإخوة كارامازوف"، المنشورة في العام 1880م، أكثر الاستكشافات السَّرديَّة الدّوستويفسكيَّةِ نفاذَاً. وفي رواية "الأبله" تُغزلُ تلكَ "الثِّيمَةُ" سبيلَ نَسْجِهَا، بثباتٍ، خَلَلَ السَّردْ. وتحلُّ، في هذا السِّياق، لحظةٌ مِحوريَّةٌ في الجزء الثاني، الفصل الرابع، من الرِّواية، حينما يزور ميشكين روقوزهِن في منزله. يلحظُ الأميرُ، آناءَ الزِّيارة، وفوقَ بابِ حجرةٍ كئيبةٍ، ما يبدو له نُسخَةٌ من لوحة هانز هولبايِنْ Hans Holbein، الموشُومَةُ بواقعيَّةٍ مُثيرةٍ وصادمةٍ، للمسيح الميِّت وهو راقدٌ، مُنطرِحَاً في الأرض. ليس هنالك من رجاء في ذاك الرّسم لابن الله. وفيما هُمَا ناظِرَينَ إلى اللَّوحةِ إِيَّاهَا يتَّفقُ ميشكين وروقوزهِنْ على أنَّ تلك اللَّوحة "قد تجعل بعض الناس يفقدون إيمانهم" (ص. 202). ويستعيدُ إبَّولِتْ Ippolit، ذلك الصَّبِيُّ المُحْتَضَرَ بداءِ السُّلِّ، كذلكَ، لاحقاً، الرِّواية، من خيالِهِ، تلك اللَّوحة الصَّادمةَ الإثارة والرُّعب الذي قَذَفَتْهُ في نفسهِ. "تلكَ اللَّوحةُ"، يقول إبَّولِتْ مُوضِّحَاً، "تُعبِّرُ، على لا نحوٍ لا واعٍ شعوريَّاً، لمُطالِعِهَا، عن قُوَّةٍ خارجيَّةٍ شديدةَ الظَّلامِيَّة، وقحةً وصَمَّاء يَخضَعُ لها كُلُّ شيْ" (ص. 381). الذي صُوِّرَ هُنا هو ابنُ الله مهجُورٌ من قِبَلِ أبيهِ الكُلِّيَّ القُدرة. وذاكَ يُصيِّرُ لوحةَ هولباين نَصْبَاً لنَفْسٍ قُلَّبٍ على نحوٍ فُجائيٍّ وعصيٍّ على الفهم (بمعنىً سلبِيٍّ) تَتَّسٍمُ بها، في رؤيةِ اللَّوحةِ إيَّاهَا، القُوَّةُ الغامضة، والقُوَّةُ الإلهيَّة، على وجهِ التَّعيين.
إنَّ الرُّعبَ الوِجُودِيِّ الذي تختبرُهُ الكائناتُ الإنسانيَّةَ كمُتَرَتَّبٍ على ذلكَ لَوَاسِمٌ لكُلِّ أبطالِ دوستويفسكي الرِّوائِيِّيْن وذلكُم يُّصيِّرُ موقِفَ الرُّعْبِ إزاءَ معرفةِ حقيقيَّةِ وحتميَّةِ الموتِ مَغْزَىً مُتَخَلِّلاً لكُلِّ جُوَاءِ هذه الرِّواية. ومن شَواهِدِ ذاكَ التَّخَلُّلِ أنه مُنْذُ الفصلِ الثَّاني من الجزء الأوَّل من الرِّوايَةِ إِيَّاهَا، حيثُ يلتقي مِيشكِين بمدام إِبَانْشِنْ وبناتِها للمرَّةِ الأولى، ينعَطِفُ الحديثُ، على سَبِيْلٍ جَدِّ عاجِلٍ، نحو موقف الرعب إزاء معرفةِ حقيقيَّةِ وحَتْمِيَّةِ الموتِ، كما وشأن عقوبة الإعدام، فيبتَعِثُ مِيشكِين، آناءَ ذاكَ الحديث، صورة وضعيَّة القلق الرَّهيب التي اعتَوَرَتْهُ حينما رأى، في آنِ إنفَاذِ حُكمِ إعدامٍ بقطعِ الرَّأسِ كان قد شَهِدَهُ بمدينة ليون Leon، الخَوفَ المُؤْسِي الذي كان قد تَشَنَّجَ به، جسديَّاً ونفسيَّاً، الرَّجُلُ المُدَانْ. ومرَّةً إثرَ أخرى تستدعي شخصيات روايات فيودور دوستويفسكي، كذلك، "ثِيمَةْ" الإعدامات الشهيرة، اغتيالات وميتات من كلِّ نوعٍ كما يُجري، مثلاً، في الجزء الأول من الفصل الخامس من الرواية التي نحنُ معنيُّون بشأنِهَا هُنَا حيثُ يُقدِّمُ مِيشكِين سرداً قصصيَّاً شبيهَاً بسيرة فيودور دوستويفسكي نفسه حينما نفذت فيه عملية إعدام صُورِيَّة شُبِّهَ له، آناءَها، أنَّهَا حقيقيَّة.
تبدو مسألة هشاشة الحياة الإنسانيَّة، تلكَ الهشَاشَةُ التي كثيرَاً ما تُجْلَىْ في آنِ المرض، مَشْغَلَةً مُهِمَّةً وبائِنَةً في رواية "الأبله". فَمِيشْكين يُعاني من داءِ الصَّرَع. وذاكَ داءٌ يُصيِّرُهُ عُرْضَةً للانتِهَاكِ، نفسيَّاً، واستثنائِيَّاً، في ذاتِ الوقت. إنَّهُ داءٌ يُقلِبُهُ إنسَانَاً مُفرطَ الحساسِيَّةِ، ضعيفَاً، بل عاجِزَاً حتَّى، غير أنَّهُ أيضَاً يُنقِذُهُ، عِندَ اللَّحظَةِ الفاصلة، من خِنجَر روقوزهِنْ. وفوقَ كُلِّ ذَلِكَ يَهَبْهُ ذاكَ الدَّاءُ بآناتِ كشفٍ رُوحيَّةٍ epiphanies لحظيَّةٍ، غيرَ أَنَّها نفيسَةٌ، تُغْمَرُ خِلالها رُوحُهُ بـ"ضُوءٍ داخليٍّ كثيفْ" (ص. 218). فِكرةُ المَرض كقناةٍ وسيطَةٍ للإدراكِ المُتَسَامِي heightened awareness تَحْدُثُ الأوبَةُ إليها في مونولوغ إِبَّولِتْ الاستثنائيِّ المحموم في الفصل الثالث، الفصل الخامس، من الرِّواية، ص. 363-4، حيث يَرغي إبَّوْلِتْ ويزبد هائجاً ضد قدره ويُصيِّرُهُ ذاك، في غايتِهِ، إلى استدعاء حُلُمِ مَوْتٍ يَحُوزُ آناءَهُ حيوانٌ زاحفٌ، شبيهٌ بالعقربِ ومقيتٌ، بِبُطْءٍ، الغَلَبَةَ عليهِ. ذاكَ المَخْلُوقُ ينبغِي لهُ أن يكُنْ واحداً من أكثرِ التَّصاوِيْرِ فظَاعَةً للخوفِ من الموت حَدَثَ، أَبَدَاً، أن تَمَّ تَصَوُّرُهُ في الأدب، سَيَّمَا وأَنَّهُ يَكادُ أن يَجْعَلَ من إِبَّوْلِتْ مجنُونَاً خالِصَاً بِرُعْبِهِ إلى الحَدِّ الَّذِي يُصَيِّرُهُ، على نَحِوٍ مُتَنَاقِضٍ داخِلِيَّاً، يَتَدَبَّرُ في أَمرِ ارتِكَابِ فِعلَ الانتِحَارْ. لم يكُنْ إِبَّوْلِتْ وَحْدَهُ في ذلِكْ فَرَوقَوْزْهِنْ يكُنْ، من ناحيتِهِ، مُسْتَغْرَقَاً، كُلِّيَّةً، في عاطِفَةٍ مُدَمِّرَةٍ "مَوْضُوعُهَا" ناستاسيا فيليبوفنا: نلكَ المرأة الشَّابَّة التي تُغازِلُ، هي الأُخْرَىْ، المَحْقَ الذَّاتِيَّ عِنْدَ كُلٍّ مُسْتَوَىً من مستوياتِ مَعَاشِهَا. إنَّ حفلات ناستاسيا فيليبوفنا الصَّاخِبَة واستعراضِهَا التَّظَاهُرِيِّ لثروتِهَا تَجْعَلُهَا عُرْضَةً لمِجْهَرِ الرَّقَابَةِ الاجتماعيَّةِ العَامَّة أكثَرَ من حَتَّىْ وضعِيَّتِهَا المُحّْرِجَةَ، اجْتِمَاعِيَّاً، المُتَمَثِّلَةِ في كونِهَا عَشِيْقَةً تَوْتَسْكِيْ السَّابِقَة. وبِسُلُوكِهَا العُصَابِيِّ والقاسي، في كَثِيْرٍ من الحالات، تبدُو ناستاسيا فيليبوفنا ذَاتَ قَصْدٍ مُبَيَّتَ النِّيَّةِ في إذلالِهَا وتَغْرِيْبِهَا، لأصدِقَائِهَا وخُطَّابِهَا، على حَدٍّ سِوَاءْ، عَنْهَا لذا لم يأْتِ قَرارَهَا الفِعلِيِّ بالزَّواجِ من روقَوزْهِنْ الاستغلاليِّ على نَحْوٍ هَمَجِيْ بَدَلاً عن مِيشكِين اللَّطِيْفَ الطَّبْعْ.
حينَمَا تَشَكَّى ماكس برود، ذاتَ مَرَّةٍ، إلى كافكا، من أنَّ هُنالِكَ كَثَرَةً غَيْرَ لازِمَةٍ من الأبطال المجانين في روايات دوستويفسكِي اختلفَ كافكا معه بِشِدَّةٍ بِشَأْنِ ذَلِكَ إذْ هُوَ قد احْتَجَّ عليهِ، حِيْنَذَاكَ، بِأَنَّ عِلَلَ أُولئِكَ الأبطَال الدَّوستويَفِسْكِيِّين لم تَكُنْ غَيْرَ طَرائِقٍ في جَعْلِ الدَّاخِلِيِّ عَمِيْقَاً. وذَاكَ يَنْزَعُ بنا نحو القَولِ إِنَّ الكَثِيْرَاتِ من شَخْصِيَّات دوستويفسكِي قد تَكُنْ، بالفِعْل، إِمَّا مُخْتَلَّةً نفسيَّاً أو مَريضَةً، غَيرَ أنَّ "انتِفَاءَ يُسْرِهَا" ذَاكَ يَنبَغِي له أن يُفهَمَ على أنَّهُ مُتَرَتِّبٌ على حساسيَّتِهَا إزاءَ عَبَثِيَّةِ وقِلَّةِ حِيْلَةِ الوجُود الإنساني.
إِنَّ الرُّعْبَ إِزَاءَ الشِّعُورِ بالهُجْرَانِ في كَونٍ لا معنى لهُ الَّذِي يُعبَّرُ عنهُ من قِبَلِ إِبَّوْلِتْ المُحْتَضَرْ تَتِمُّ مُشَاطَرَتُهُ فيهِ من قِبَلِ مِيشكِين الَّذِي يُصْغِيْ إلى الرَّجُلِ المُحِتَضَرِ بتعاطُفْ. لئِنْ يُشَكِّلُ مِيشكِين، كما حَاجَّ كثيرُونَ من النُّقَّاد، بالفِعْلِ، تَمثُّلاً من تَمثُّلاتِ صُورَةِ المسيح- ويحضُرُنِي هُنَا أن دوستويفسكي يُشيرُ، في الحَقِّ، في "مُلاحَظَاتِهِ" بشأنِ رِوايَةِ "الأبلَهْ" بين الفَيْنَةِ والأُخْرَىْ، إلى بطلِهِ الرِّوَائِيِّ ذَاكَ بوصفِهِ "الأمير المسيح"- سَيَتَوَجَّبُ على مِيشكِينْ أن يَكُنْ، حِيْنَذَاكَ، هو المسيحُ المَيِّتُ المَهْجُورُ في يَومِ "الجُّمْعَةِ الطَّيِّبَةْ"، تَمَامَاً كَمَا صَوَّرَهُ هولبَايِنْ Holbein، وليس المَسيح الَّذِي تُقَامُ قِيَامَتُهُ في يَومِ عِيْدِ الفُصْحْ. إنَّ عطفَ مِيشكِين، نيَّتُهُ الطَّيِّبَة وكرمه الهميم تجاه جميع النَّاس إنَّمَا تنبُع جميعاً، على الأقل جُزئيَّاً، من إحساسه بالوحدة، من توقِهِ إلى الانتماء. وكيتيمٍ ومنفِيٍّ يدخُلُ ميشكين المجتمع الرُّوسي كلا مُنْتَمٍ يجلِبُ معهُ رؤياهُ الخاصة، الفريدة/الفردانيَّة، على نحوٍ مؤلمٍ، للعالم. إنَّ الجذر الاشتقاقي للمقطع ‘idio’ يعني ‘مختلف’، ‘شخصي’، أو ‘مُتمَيِّز/مُمَيَّز’، الشيء الذي يُؤشِّرُ، في حدِّ ذاتِهِ، إلى الافتراقِ الأساسي في موقف ميشكين من شؤون الدُّنيا. وذلكُم يتبدَّى، منذ بدءِ الرِّوايَة، وحينما يصلُ إلى مقَرِّ إقامةِ عائلة إبانشِن، في إظهارِهِ اهتمامَاً واحترامَاً زائدين، وفي "غير محلِّهِمَا"، متجاهلاً بذلكَ، بحبورٍ تلقائِي، قواعد السلوك الاجتماعي التي كانت مُعاصِرَة في ذاك الأوان، الشَّيءُ الذي يُدخِلُ "الخادم الثَّانِي" في تلك العائلة في حَرَجٍ بسبب معاملتِهِ لهُ كإنسانٍ مساوٍ له وبفِعلِ إبدائِهِ لُطفَاً زائِدَاً معهُ وإنبائِهِ لهُ بأكثر مما ينبغي له أن يَعْلَمْ. لم يكُن ميشكِين على إدراكٍ بالحدود والحواجز الاجتماعية، أو هو لم يكن على رغبةٍ في الإقرارِ بها، لذا هو لم يَرَ فرقَاً بين سيِّدٍ وخادمٍ أو، لاحقَاً، فيما بين "المحترمين" والمُهمَّشِين في المُجتمع، أو حتَّى بين الخَيِّرِينَ، والخير، والشِّرِّيرِينَ، والشَّرِّ، فيهِ. وهو على قِبُولٍ، بذَاتِ القدرِ، لعائلة إبانْشِنْ الممسوسَ جميعُ أفرادِهَا بِجِنٍّ خفيف، ولعائلةِ إفولجِن الفوضويَّة والجَّمهَرَة المُريبَة، بما فيها رَوقَوزْهِنْ، التي يلتقيها عِندَ مَنْزِلِ ناستاسيا فيليبوفنا. هو يسمعُ المَديحَ بذاتِ التَّواضُعِ الذي يسمعُ به الإهانات والتَّعبيرات من كُلِّ نَوعٍ وشَاكِلَة. وذلكَ يُصَيِّرُهُ، بَدءَاً أو على التَّوِّ، جَذَّابَاً على نحوٍ رَومانسِيٍّ، والشَّاهِدُ على ذلكَ حالة أقلايا Aglaia، على الأخَصِّ، التي تُفْتَنُ بهِ، بَيدَ أنَّهُ حَتَّى هِيَ تُدرِكُ، تَدريجِيَّاً، أنَّهُ لا يصلحُ، بالمعنى الاجتماعي، لأن يَكُنْ، بالفِعْلِ، زَوجَاً دُنيَوِيَّاً أَنِيْقَاً.
وقليلاً، قليلاً، يكشِفُ سِلُوكُ مِيْشْكِين القِدِّيْسِيِّ عن نفسِهِ، في الرِّوَايَةْ، عن أنَّهُ سُلُوكٌ إنسَانٍ سَاذَجٍ ومن ثَمَّ يَنْتَهِيْ إلى أن يُدْعَىْ "أَبْلَهَاً"من قِبَلِ الجَّمِيعِ، ولا سيَّمَا ناستاسيا فيليبوفنا، على الأخصِّ، إذ أنَّهَا تُبْدِي تَضَجُّرَاً من عرضِهِ الزَّواجَ عليها فهي تُدرِكُ، غريزِيَّاً، أنَّ ذاكَ العرضَ ناشِئٌ عن تعاطُفٍ سَاذَجٍ أكثرَ من كونِهِ آتِيَاً من دَافِعِ عاطِفَةٍ حقِيْقِيَّةٍ خَالِصَةْ. وتكمُنُ مُفارَقَةُ الرِّوايَةِ الكُبرَى في حقيقةِ أنَّ طِيْبَةِ مِيشكين وكونِهِ قِدِّيْسَاً لا يَتَأَتَّى مِنهَا ما قد يَكُنْ حَرِيَّاً بِهَا من خَلاصٍ نفسِيٍّ أو رُوحِيٍّ وإِنَّمَا، بخلافِ ذلكَ تمامَاً، هي لا تُودِي إلى شيءٍ، في الرِّوَايَة، سِوَى الاختلاط والفوضَىْ، بل هي تُوْدِيْ، في مُنتَهَى الرِّوَايَة، إلى خَاتَمَةٍ تراجيديَّةْ.
***
تَكَبَّد فيودور دوستويفسكي، شأنُهُ في ذلكَ شأنُ كُلِّ كُتَّابِ الأَدبِ الواقعي، عَناءَ إرساءِ رواياتِهِ في حادِثَاتِ الحياةِ المُعاصِرَة لعهدِهِ. وقد حكت زوجتُهُ عنه أنَّهُ، آَنَاءَ انشغالِهِ بكتابةِ المُسوَّدَات الأولى لرواية "الأبله" كان اهتمامُهُ مُتَصَاعِدَاً بتقاريرِ الصُّحُفِ عن قضيَّةِ شَابَّةٍ يَافِعَةٍ، اسمُها أولقَا أوميتسكايَا، أُخْضِعَتْ لمَحكمَةٍ في سبتمبر من العام 1867م بسببِ محاولتِهَا هدم منزل والديهَا حََرْقَاً. كانت تلكَ إحدى أوائل المحاكمات في روسيا التي يَصدُرُ حُكمُ الإدانةِ فيها عن هيئةِ مُحلَّفِيْنْ. وقد بَرَّأَتْ تلكَ الهيئة، بالفِغْلْ، الفتاةَ إِيَّاهَا ومِنْ ثَمَّ قُضِيَ بإِخلاءِ سبيلِهَا بِحُجَّةِ إِثبَاتِ أنها وعيالُهَا قد أُهْمِلُوا بقَسوَةٍ وأُسيئَتْ مُعاملتُهُم مِن قِبَلِ أبيها وأمِّها منذ منذ لحظاتِ ميلادهم. وفي خطَّة دوستويفسكي غدت أولقا أوميتيسكايا الآنَ ناستاسييا فيليبوفنا، امرأةٌ شابَّةٌ تَأَذَّتْ نفسًهَا كثيراً وجُرِحَتْ عميقَاً بفِعْلِ سُوءِ السِّلُوكِ الأَبَوِيِّ فغدت تنشُدُ الانتقامَ إلى حدِّ التَّدميرِ الذَّاتِيْ. وقد تَدَاخَلَ دوستويفسكي، كَذَلِكَ، في سردِهِ الأَدَبِيِّ، مع وقائِعِ مُحَاكَمَاتٍ أُخرَىْ خاصَّة بجرائم قتل كانت ذائعَةَ الصَّيْتِ في عَصرِهِ منها مُحاكمَة الطَّالب دانيلوف Danilov، في العام 1866م، الذي اتُّهِمَ بقتل أحد الدَّائنين المُرابِين؛ قضيَّة مازورين Mazurin الذي طعنَ في مَقتَلٍ جَواهِرجِيَّاً؛ أو ارتكاب المدرس البولندي فيتولد قورسكيVitold Gorsky، في العام 1867م، لسِتَِّةِ جرائم قتل كان ضحاياها أفرادُ من عائلةِ زِيمارين Zhemarin. أمثالُ تلك الإشارات إلى أحداثٍ حقيقيَّةٍ قد تَكُنْ إِثَاريَّةَ الطَّابع (ويبدو أن دوستويفسكي قد كان شغُوفَاً بالسِّيَرِ الفضائِحِيَّة)، غير أنَّها تُوْسِمُ، مع ذلكَ، السَّردَ القَصَصِيَّ بِحِسٍّ من الحقيقيَّةِ والواقعيَّةْ. ورُغم النَّزعةِ الميلودراميَّةِ الواسمةَ لكثيرٍ من الحادثَاتِ المَحكيَّةِ في رواية "الأبله" تبقى تلك الرِّوايَةُ مُرسَاةً، برُسُوخٍ، في التَّقليدِ الواقعِيٍّ للقرنِ التَّاسع عشر. والمُجتمع المُصوَّر في ذاتِ الرِّوايةِ لا تستغلقُ، أبداً، معرفتُهُ، على التَّوِّ، على من يقرؤونها. ليس ذلكَ فقط لتركيزِ كاتبِهَا على حادثاتٍ واقعيَّةٍ وإنَّمَا كذلكَ لاستدعائِهِ تفاصيلَ خارجيَّة مثل شِكُولِ الملبس، المنازل وشؤون المال. إنَّها- الرِّوايَة- تَتَّخِذُ لها أمكنَةً حقيقيَّةً لوقائِعِهَا وهُنَالِكَ رُسُوخٌ فيها للونٍ مَحَلِّيٍّ مُقنِعٍ، الشَّيُ الذي يُصيِّرُهَا، في جُملَةِ القولِ، لوحةً واقعيَّةً لمجتمع القرن الناسع عشر الرُّوسي في عهدِ اضِّطرابٍ. إن الإشاراتَ للظَّرْفِ التَّاريخِيِّ تُضفِي بُعدَاً إضافيَّاً مُهِمَّاً للخلفيَّةِ التي تَتَكشَّفُ إزَاءَهَا وقائعُ الرِّوايةِ حيثُ الثَّورةُ الفِرنسِيَّة والغزو النَّابوليوني، خاصَّةً، وكذلكَ أيضَاً حرب شِبه جزيرةِ القرم، فيما بين عامي 1853م و1856، تتواتَرُ الأحاديثُ عنها في غُرفِ جلوسِ الرِّوايةِ. ذلكُم فيما يتفاخرُ الجَّنرال إفَولْقِنْ، تَيَّاهَاً، بشأنِ التقائِهِ بالإمبراطور الفِرنسي آنَ ما كان صبيَّاً، الشَّيُ الذي يُبَيِّنُ المَوقفَ المُفْعَمَ بالتَّناقُضَاتِ العاطفيَّةِ تجاه الغازي مِن قِبَلِ الأُرستقراطِيِّين الرُّوس الذين يَعِدُّونَ أنفُسَهُم على صِلَةٍ وُثْقَىْ بثقافةِ النُّخْبَةِ الفِرنسِيَّة. حقَّاً، ينيغي علينا القولُ هنا إنَّ اللُّغَةَ الفِرنسيَّةَ، كما قد تَبَدَّى في إيلاجِ مُنتقياتِ كلماتٍ وتعابيرٍ فِرنسيَّةٍ في العديدِ من المحادثات، قد بقيت هي لغة المجنمع الراقي في موسكو وسينت بيترسبيرق Saint Petersburg لعهدٍ طويلٍ من بعدِ الاحترابِ الرُّوسي مع فرنسا. وما ينمازُ خارجَاً من كُلِّ ذلكَ هو صورةٌ مُفصِحَةٌ عن الاضِّطَرابِ العميقِ الذي كابَدَهُ المجتمع الرُّوسِي، خاصَّةً الأُرستُقراطِيَّة الرُّوسيَّة، في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. حينَذَاكَ كانت جاريَةً تبُدُّلاتٌ عظيمةٌ عِندَ كُلِّ مَحَلٍّ بالبلادْ. خَدمُ السُّخْرَةِ كانُوا قد حُرِّرُوا في العام 1861م بمرسُومٍ من القيصر أليكساندر الثاني الذي كانت له حُجَّةٌ شهيرَةٌ في هذا المُتَّصَل مُؤدَّاهَا أنَّهُ قد كانَ من الأفضل منح الحُرِّيَّة من الأعلى بدلاً عن تركِهَا تُؤخَذْ من الأدنى كما كان الحال في فرنسا. غير أنَّهُ تَبْقَىْ، مع ذلكَ، حقيقةُ أنَّ خدم السُّخرَةِ قد أضحُوا آنذَاكَ، سيَّمَا وأَنَّهُم كانُوا قد فقدُوا الأمنَ المَعاشِيَّ الذي كان يُوفِّرُهُ لهم الإقطاعيُّون من مُلاكِ الأراضي، في حالٍ معاشيٍّ أسوأَ ممَّا قد كانُوا هم عليهِ، الشَّيُ الذي دفع كُثُرَاً من المُتفكِّرين الرُّوس، حينذاكَ، إلى مُسَاءَلَةِ حكمةِ تلك الخطوة. ثُمَّ شهِدَ العام 1866م محاولةً لاغتيال القيصر مِمَّا جعل الجميع يعلمونَ أنَّ الثَّورِيِّين، بل أسوأ من ذلكَ، الفوضويِّين، قد كانُوا، حينَذاكَ، على حَِرَاكْ. وقد كانت أكثر الأشياءِ الباعثَةِ على القلق، في ذلكَ الحين، هي، بالتَّأكيد، جاذِبِيَّةُ الفِكرِ العَدَمِيِّ للشَّباب الرُّوس المُتعلِّمِيْنْ. وقد كانت تلك الجَّاذبيَّةُ موضُوعَاً سبقَ وأن استكشفَهُ تورجنيف Turgenev في روايته الإشكالية المُسمَّاة "آباء وأبناء" المنشُورة في العام 1863م.
كان العدميُّون في روسيا يَحاجُّونَ بأنَّهُ من الضَّرُورِيِّ تحطيم كلِّ أوجهِ الثَّقافَةِ التَّقليديَّة الرُّوسيَّةِ بلاهوادة إنْ يَكُنْ لمُجتَمَعٍ جديدٍ وأكثرَ عدلاً أن يَنهَضَ في العهدِ الحديثْ. قد شعر دوستويفسكي، بدورهِ، أنَّهُ مُسْتَوجَبَةً مِنهُ مُجابَهَةُ ظاهرةِ النَّزعةِ العدميَّةِ الرُّوسيَّةِ تِلكْ. وذلكُم قد تبيَّنَ، بجَلاءٍ، في الجُّزءِ الثاني، الفصل الثَّامن، من رواية "الأبله" حيثُ يَغزُو مجمُوعةٌ من الرَّاديكالِيِّين الشَّباب حُجراتِ ميشكين ويبقرؤونَ عليهِ هُنَاكَ، جَهْرَاً، مقالاً بإحدى الصُّحفِ الرُّوسيَّةِ يبدأ بالإِشارةِ إلى المظالمِ الفظيعةِ المُلِمَّةِ بالمُجتَمَعِ الرُّوسِيْ. ويُمضِي ذاكَ المقالُ الصَّحَفِيُّ على سبيلِهِ التَّحريضِيِّ فيتحدَّى حقَّ الأميرَ مِيشكين في ميراثِهِ. من الجَّلِيِّ أنَّ فيودور دوستويفسكي لم يَكُنْ مُتَعَاطِفَاً، على أيِّ نَحوٍ خاصٍّ ما أو آخَرٍ، في روايتِهِ تِلْكْ، مع أولئكَ الرِّجالِ اليُفَّعِ الغَاضبين إذ هو يُصوِّرُهُم فيها على أنَّهُم ثُلَّةٌ صَفِيْقَةٌ ويصفُ فيها كيف أنَّهُم ما ينفكُّونَ يَتَحَاوَمُونَ في منزِلِهِ، يشربُونَ نبيذَهُ، يَتَحاجُّونَ باَصواتٍ فَجَّةٍ عاليَةٍ ويتجاهلُونَ حقيقَةَ أنَّ مُضيْفَهُم القَسْرِيَّ لم يكُنْ يشعُرُ، حينَذَاكَ، بأنَّهُ على ما يُرامُ من الصِّحَّةْ. ويكشِفُ فلاديمير دوكترينكُو، آناءَ ذلكَ، عن نفسه بوصفِهِ راديكاليَّاً ذا حماسَةٍ سياسيَّة ضَاجَّةَ الصَّوتِ فيمَا المُحْتَضَرُ إِبَّوْلْتْ، الذي ليست السِّياسةُ في الواقع من ضمنِ اهتِماماتِهِ الحقيقيَّة، يشكُو، بصُورةٍ رئيسةٍ، من شَقائِهِ الشَّخصيِّ الخاص. أمَّا كاتبُ ذاكَ المقال، كيلر، فيغدُو، في الرِّوَايَةِ، مَزهُوَّاً بنفسهِ من أَثَرِ الانتباه الذي يجذبُهُ مقالُهُ الملحمِيْ. وفي تعارُضٍ مع ذلكَ يسفَحُ الصَّبِيُّ كوليا Kolya دموعَ الخَجَلِ لِكَونِهِ قد سمح لنفسِهِ بأن يُسْتَمَالَ إلى قراءةِ ذاكَ المقالِ، جَهْرَةً. ونلحظُ هُنَا أنَّ أولئكَ الشَّبَابُ جميعَاً لا يُشكِّلُونَ، على أيَّةِ حالٍ، مجمُوعةً متناسقَةً ومُنسجمَةً من المُثَقَّفِينَ من ذوي الفِكرِ وإنَّمَا بالأحرى يَجلبُ كُلٌّ منهُم إلى النِّقَاشَاتِ المفتُوحَةِ نَوعيَّتَهُ الخَاصَّةَ من الخُيِّلاءِ والسَّخطِ الأنانِيْ.
يَكشِفُ مشهدَاً كالمشهَدِ الآنِفَةَ الإشَارَةُ إليهِ عن رَيبَةِ دوستويفسكي بشأنِ الحُججِ الدِّيمقراطيَّةِ المُنشَأَةِ مِن قِبَلِ الفلسفة العقلانيَّة الغربيَّةْ. هو قد خَشِيَ من الطَّرِيقَةِ التي قادت بها أمثَالُ تلكَ الحُجج، والأفكار، إلى عَدَمِيَّةٍ واستهزاءٍ بالقيمِ الكلاسيكيَّةِ كانا قد بدآ يفعلان فعل الصَّدأ في الثَّقافة الرُّوسيَّة التَّقليدِيَّة. لذا لم يكُنْ جَعْلُ كلماتِ رواية "الأبله" الخاتمة من نصيب مدام إِبَانْشِنْ مُجرَّدَ شيءٍ اعتياطيٍّ مِنهُ وذلكُم لأنَّ مدام إِبَانْشِنْ لا تَكُنْ، حينما هي تشكُو من أنَّ المرءَ ليس له أن يجِدَ خُبزَاً صَلِدَاً أو جيِّدَاً في أيِّ مكانٍ من أمكنةِ أورُوبَّا الغربيَّة وأنَّهُ عند الموطِنِ يًُمكنُ للمرءِ، على الأقَلِّ، أن يُبكِي على راحتِهِ ومَلاءِ رُوحِهِ، سوى مُتَحَدِّثَةً، على طريقَتِهَا المُفاجئَةِ والتلقائيَّةِ على نحوٍ مُحبَّبٍ، كمَا والعميقَةَ العاطفة، بلسانِ "رُوسيَا الأُم" القديمة.
ورُغمَ أنَّ دوستويفسكِي قد أضحى، في أواسطِ سنينِ عُمرِهِ، أشَدَّ انجذَابَاً نحوَ حركةِ "الوحدة السُّلافيَّة" التي تستشرفُ مُستقبلاً تأتِي فيهِ جميعُ الأمم السُّلافيَّةُ إلى مُلتقَىً واحدٍ بُغيَةَ التَّصَدِّي لنُفوذِ النَّزعَةِ التَّقَدُّمِيَّةِ الأوروبيَّةِ يظلُّ من الحقِّ إثباتُ أنَّهُ قد كان، كذلكَ، مُتذوِّقَاً ومُقدِّرَاً عظيمَاً لقيمةِ الفَنِّ والأدبِ الغربيِّ، الشَّيءُ الذي يشهدُ عليهِ الدَّورُ المركَزِيُّ الذي تؤدِّيهِ، في رواية "الأبله"، لوحةُ هولبايِنْ المُسمَّاة "المسيح الميِّت"، كما والمزيدُ من الإشاراتِ إلى ثُلَّةٍ مُعتَبَرَةٍ من لوحاتٍ فنِّيَّةٍ أُخرَىْ رآهَا آنَاءَ أسفارِهِ. وحينَ، في الجُّزءِ الأوَّل، الفصل الخامس، من الرِّواية، ص. 56، لا تجد أديلايْدَا Adelaida موضُوعَاً مُناسبَاً لرسمِهَا يقتَرِحُ عليها مِيشكين، على نحوٍ حَرِيٍّ بهِ، رسمَ وجهٍ إنسانيٍّ بسيطٍ وغَيرِ مُزَوَّقٍ مثلما في لوحةٍ أُعجِبَ بها من بعدِ أن رآهَا بمُتْحَفٍ ببازِلْ. وفيما وراءَ الرَّسْمِ يَنْسِجُ دوستويفسكي طَيَّ سَردِهِ إشاراتٍ مُتواتِرَةَ إلى أعمالٍ أدبيَّةٍ مثل، من بين عِدَّةٍ أُخَرْ، "أوثَيْلُّوْ"، "دون كيشوت" أو مدام بوفاري. تلك الأعمال الأدبيَّة تُوسِمُ همومَ روايةِ "الأبله" بكثَافَةٍ إضافيَّةٍ، سيَّمَا وأنَّ قتل أوثيلُّو للمرأةِ التي يُحبُّ لها صدىً مُتردِّدٌ في مأساةِ روقوزهِنْ فيما يُحاكي دون كيشوت مِيشكِين في كفاحِهِ النَّبيل، غير أنَّهُ أبله، ضدَّ طواحين الهواء، ثُمَّ إنَّهُ ليس من قُبَيلِ المُصادَفَةِ أو الاتِّفاقِ، فحسبْ، كون أنَّ آخرَ كتابٍ تقرؤه ناستاسيا فيليبوفنا قبل مقتَلِهَا هو رواية جوستاف فلوبيرت عن امرأةٍ أسيرَةَ زواجٍ غيرِ سعيد.
بخلافِ نلك الإشاراتِ إلى أعمالٍ أدبيَّةٍ بارزَةٍ في التَّقليدِ الغربيِّ يؤدِّي الفنُّ الرُّوسيُّ، من جهتِهِ، دورَاً مُهِمَّاً في الحياتين الخاصَّة والعامَّة، معاً، لشخصيَّاتِ نلكَ الرِّواية. ففي صالوناتُ الرِّوايَةِ إِيَّاهَا ثَمَّةُ إشاراتٌ مُتواتِرَةٌ لخُرافاتِ كريلوف ذائعةَ الصَّيت ولتمثِيليَّاتٍ لتشيرنيشيفسكي، مارلينسكي أو غريبوييديف كانت ذاتَ رَوَاجٍ في ذلك الزَّمان إذ قد مضى لمشاهدتها الجميع. أهَمَّ من ذلكَ، على كُلٍّ، هو هيئةُ بوشكين المُهيمِنَةَ في الرِّواية فبوشكين، باعتبارُهُ مُقَرَّاً بهِ كمؤسِّسٍ للأدبِ الرُّوسيِّ الحديث وعلمانيَّتِهِ المرافقةَ لهُ في القرن التاسع عشر الميلادي، كان يلقَى، حينذَاكَ، إعجابَاً عظيمَاً من الشَّبابِ الرُّوسْ، غير أنَّهُ يبقَى شخصيَّةً خِلافيَّةً في عيونِ التَّقليديِّينَ من الرُّوسْ. وشاهدُ ذلك أنَّ مدام إِبَانْشِنْ ما تنفَكُّ، من جِهَتِهَا، رافضةً، ببساطةٍ، للإقرارِ بمعرفتِهَا لبوشكين ومن ثَمَّ هي تتظاهرُ بأنَّهَا لا تُدرِكُ أيَّ شيءٍ من شأنِهِ. وإلقاءُ أقلاياAglaia الشَّابَّة، في الرِّوايَةِ إِيَّاهَا، لقصيدة بوشكين المُسمَّاة "الفارسُ المسكين"، التي تحتفي بتقوى العصور الوسطى المسيحيَّة، واستخدامُها لها، المشُوبَ، بدءَاً، بما يُشبِهُ الحقد، على سبيلِ الهُزءِ على حسابِ مِيشكين، يَنِمُّ، طبقَ الأصلِ، عن موقفها المُضَّطَربِ الكائنِ في فسحَةٍ ما فيما بين رُوسيا القديمة ورُوسيا الجَّديدةْ.
***
تحفلُ روايَةُ "الأبله" بالاستطرادات. إنَّهَا شَغُوفَةٌ بالثَّرثَرَاتِ الاجتماعيَّةِ، بقَصِّ الحكاياتِ الفرعيَّةِ وبتَدخُّلاتٍ من شَتَّى الشِّكُولِ، على نحوٍ فيه مُفَارَقَةٌ، ثُمَّ إنَّ عِدَّةً من تِلكَ التَّدَخُّلاتِ تُحيلُ إلى ذاتِهَا، عِنْدَ حدِّ ذاتِهَا نَفْسِهِ أو عِنْدَ حَدِّ الرَّاوِي أو، في غَايَةِ الأمرِ، عِنْدَ حَدِّ الكاتِبِ نفسِهِ. هي، بعبارةٍ أُخْرَىْ، روايةٌ ذاتُ شَخصيَّاتٍ ثرثَارةٍ، بما فيها شخصيَّةُ الرَّاوي نفسُهَا، إلى حدِّ أنَّهَا كثيرَاً ما تُوغِلُ في كلامِهَا حتَّى تبلُغُ مَدَىً كثيرَاً ما تَكادُ تَتِمٌّ عِنْدَهُ المُساوَمَةُ بسيرُورَةِ حَبكَةِ الرِّوايَةِ الأَساسِيَّةِ ذَاتِهَا. وفي بعضِ آنَاتِ تلكَ التَّدَخُّلاتِ تبدُو بعضُ الحكاياتِ الجَّانِبِيَّةِ، المُوْلَجَةَ طَيَّ سردِهَا، مثلُ حكاية فيرويشتشينكو Feroyshtchenko غيرَ الظَّريفَةِ، في الجزء الأول من الرواية، الفصل 14، ص. 135-6، عن سرقَتِهِ لبَعْضِ مالٍ وإلقائِهِ لتِبعَةِ جِنايَتِهِ تِلْكَ على إحدى الخادمات، ليست سوى بهلوانيَّات فنيَّة صغيرَةْ.
حكاية فيرويشتشينكو تلكَ قد كانتْ، بالطَّبْعِ، قصَّةً صغيرَةً شَهيرَةً رواهَا، في الأصل، جان جاك روسو في "اعترافاتِهِ". ولا مَرِيَّةَ في أنَّهُ بسبب توقُّعِهِ اتِّهاماتَ بالانتحال يتعاملُ دوستويفسكي، بدهاءٍ، مع إشكالِ الانتحالِ ذاكَ في الجُّزءِ الأوَّل، الفصل التَّاسع، ص. 100، من الرِّواية، حيثُ يتبَاهى الجَّنرال إِفولقِنْ Evolgin، الذي هو (فِي الرِّوايَةِ) كبيرُ المُنتَحِلِيْنَ جميعَاً، بكيفَ أنَّهُ قد قذَفَ، ذاتَ مَرَّةٍ، كلبَاً صغيرَاً مُدلَّلاً lapdog من نافذَةِ قِطارٍ مُتَحرِّكٍ في ردِّ فعلٍ انتقاميٍّ على قيامِ سيَّدةٍ من المسافرين بقذف سيجارَهُ من نافذَةِ ذاتِ القِطارْ. وحين تُشيرُ ناستاسيا فيليبوفنا إلى أنَّ ذاتَ القِصَّةِ كانت قد نُشرَتْ، مُؤخَّرَاً، في إحدى الصُّحف يشعر الجنرال بالخجل وكذا ابنُهُ قانيا Ganya الذي يرتَسِمُ، حينذَاكَ، "وميضٌ من كراهيَّةٍ لا نهائيَّةٍ في عينيْهِ" (ص. 102 من الرِّوايَةْ). مع ذلكَ، استقبل عموم المستمعين إلى الجنرال حكايته تلكَ باستمتاعٍ ولم يُزعِجُوا أنفُسَهُمْ، بأقلَّ مِقدارٍ، بشأنِ كونه "بطلُهَا" الحقيقيُّ أم لا.
غَيرَ أنَّ تلكَ الاستطرادات المُتكرِّرَة، في رواية "الأبله"، تُضْفِيْ، مع ذَلِكَ، في مُجْمَلِهَا، عُمقَاً إضافيَّاً للانشغالات الطَّاغيَة على الرِّوايَةْ. ومن شواهدِ ذلكَ أنَّ حكايتَي مِيشكين التَّوأمتَين عن رؤيتِهِ لرَجُلٍ تُنَفَّذُ فيهِ عُقوبَةُ الإعدام في فرنسا وعن إنقاذِ فتاةٍ اسمُها "مَيرِي" في سويسرا يُشكِّلان استكشافَينَ مُتضادَّينَ لعاطفتي الانتقام والتَّعاطُف، لنَزعتَيْ التَّدمير وحماية الحياة المتعايشتين، معَاً، في داخل الإنسانْ. لكنَّهُ ينبغي التَّأكيدُ هُنَا على أنَّ الإشاراتِ إلى الإعداماتِ، القتلِ والقُسْوَةِ، من كُلِّ ضَرْبٍ، تفوقُ مُوازِيَاتَها، في الرِّوايةِ، من الحكاياتِ الطَّارئَةِ عن العطف الإنسانِيْ. وتهبُنَا حكايةُ إِبَّولتْ، في هذا المُتَّصَلِ، عن فعلٍ خَيِّرٍ مُفْرَدٍ لهُ يتمثَّلُ في محاولتِهِ- دون أن يدرِيْ لماذا على وجهِ التَّعيين- عَونَ طبيبٍ مُدقَعَ الفَقْرِ، شُعْلَةَ ضُوءٍ صغيرَةً واحِدَةً إزَاءَ خلفيَّةٍ كئيبَةٍ مِن هَرَجٍ سَاخِطٍ ومُمْتَلِئٍ بالشَّفَقَةِ الذَّاتِيَّةِ ضِدَّ حِقدِ القَدَرْ. ذلك اللا توازُن يُعْكَسُ، في جِمَاعِ الرِّوَايَةِ ويَجِدُ تَمثِيلَهُ الأكثَرَ أسىً وتجريحَاً في مأساةِ ميشكين نفسِهِ. ومثلُ إِناءُ الزِّيْنَةِ الذي لا يُقدَّرُ بثَمَنٍ الذي يكسرُهُ مِيشكين عِندَ الحفلِ لا يَكُنْ بالمُستطاعِ استعادة الإيمان بالجُّودِ الإلهِيِّ إثْرَ مُساءَلَتِهِ.
ذلكَ الخاطِرُ المَركَزِيُّ يَجِدُ تعبيرَهُ الأكثَرَ إِيْحَاءً في التَّقنياتِ السَّرديَّة التي يستخدِمُهَا دوستويفسكي في رواية "الأبله". وإنَّهُ لَمِنْ الحقِّ أنَّ هُنَالِكَ بَعضُ عناصرِ تَدبيرٍ مِفَنٍّ هُنَا من نماذجِهَا صورةُ المسيح الميِّتْ. ثُمَّ إنَّ اللَّعِبَ بالضُّوءِ والعتمة و، على الأَخَصِّ، ثِيمتَا العينين المُحدِّقتَين والسَّكِّين غير المُتجسِّدَة التَّوأمتَان يُشكِّلان علامتين فنيَّتين إضافيَّتَين في الرِّوايَةْ. غيرَ أنَّهُ يظَلُّ استخدام تلك الثِّيمات والإشارات، في الرِّوايةْ، على كُلٍّ، ليس مُتواتِرَاً واتِّفاقِيَّاً، فيما يبدُو، إلى حدِّ أنَّ القارئ قد لا يَستَطِعْ أن يَكُنْ مُتَأَكِّدَاً من مغازيها الحقيقيَّة أو من فعاليَّتِهَا. إنَّ تقنيةَ التَّعْمِيَةْ العَمَدِيَّة تُشَكِّلُ مَلمَحَاً رئيسَاً من رواية "الأبله". فالفصلُ الخامسُ من الجُّزءِ الثَّانِي، من تِلكَ الرِّوَاية، على سبيلِ المِثال، يبدأُ على نحوٍ واقعيٍّ عاديٍّ حيثُ يُطلعُنَا راوٍ عليمٍ على قرارِ ميشكين ألَّا يذهبُ إلى بافلوفسك Pavlovsk. ثُمَّ يَنْزَعُ الحَكْيُ، من بعدِ ذلكَ، إلى لَحظَاتٍ مِن أسلُوبِ السَّردِ الحُرِّ غيرِ المُباشِرِ تُنقَلُ إلينَا آناءَهَا خَطَرَاتُ الأميرِ الفِعليَّةِ، لكن بِصيغَةِ حَدِيْثِ الفَرْدِ الغائبِ third person دون أن يُمَيَّزَ ذاكَ الحَدِيثُ بأيَّةِ علاماتِ تَنصِيصٍ كما يَجِيءُ، على سبيلِ المِثَالِ، في هذا المُجْتَزَأٍ مِن الرِّواية: "لكنَّ هُنَاكَ المَتُجَرْ. قد وجدهُ في غايةِ الأمر!" ثُمَّ، إثْرَ سطرينَ لاحقين، تُرْجَعُ بِنَا الكَرَّةُ إلى الرَّاوي الكُليَّ العِلم وتُوضَعُ خَطَ رَاتُ بطلِ الرَّوَايَةِ بينَ علاماتِ تَنصِيص: "ثُمَّ هنالك "الشَّيءُ" الذي لا يستحق أن يُدفعَ ثمناً له أكثر من ستِّينَ كوبيكَاً". "قد يَكُنْ ثَمَنُهُ، بالتَّأكيد، ستُّون كوبيكَاً إذ أنَّهُ ليس حرِيٌّ به أن يَزِدْ ثمنُهُ على ذلكْ"، كرَّرَ القولْ" (ص. 109). إنَّ تلكَ الانتقالات والانزلاقات القَلِقَة فيما بينَ أنماطِ سَردٍ مختلفَة مُمَيِّزَة لرواية "الأبله" على نحوٍ واسعْ. ومن أمثلة ذلك أنَّ ميشكِين وحده هو من يُلاحظ عينين تُحدِّقَانَ إليهِ، كما ومن يشعُرُ بنفسِهِ مجذُوبَاً، على نحوٍ غامضٍ، إلى ذاكَ "الشَّيء"، في مَحلِّ المَبيعَاتِ، "الذي لهُ مقبضٌ على هيئةِ قَرنِ أيْلٍ (ص. 215). ليس هُنالِكَ صوتُ راويةٍ في تلكُمَا الحالتين، على وجهِ التَّخصيص، كي يُوضِّحَ ما الذي يجري لبطل الرَّواية وما يحدُثُ فيها فعليَّاً. غَيْرَ أنَّ ذَاكَ الزَّوغَانَ مِن قِبَلِ الرَّاويَةِ ليس هو، على كُلِّ حالٍ، مُجَرَّدُ شيءٍ طارئٍ في الرِّواية إذ أنَّهُ يُشَكِّلُ وَجهَاً جَوهِريَّاً لاستراتيجيَّةِ سَرْدٍ مُصَمَّمَةً بِغَايَةِ خَلخَلَةِ سيادةِ صوتِ الرَّاوِيَةِ العارفِ ومن ثَمَّ، بالتَّرابُطِ، يقينيَّات التَّأويلِ عِنْدَ كُلِّ المُستَوَيَاتْ.
حقَّاً إنَّ الرِّواية تبدأ بطريقةٍ واقعيَّةٍ تقليديَّةٍ يصفُ، وفقَهَا، راوٍ كُلِّيَّ العِلم لقاء ميشكين وروقوزهِنْ في القطار. غيرَ أنَّ المُفارَقَة في أسلوبِ السَّرد سُرعانَ ما تبدأ، من بعدِ ذلكَ، في البِرُوزِ فيهَا ومِن ثَمَّ تعكيرِ صَفْوِ المشهَدِ السَّردِيِّ التَّقليدِيِّ حيثُ يتدخَّلُ الرَّاوي بتعليقاتٍ ساخرة حول التَّمَكُّنِ العلميِّ المَزعُومَ امتلاكُهُ من قِبَلِ "سيِّدٍ مُتَزلِّفٍ" مثل ليبيديف. مع ذلكَ، يضع الرَّاوِي نَفسَهُ، بهجُومِه السَّيِّئَ الطَّبعِ أو الحادَّ المِزَاجِ ضد فكرةِ كونِ ليبيديف حكيمَاً، ضِمنِيَّاً، زعمَهُ كُليَّةَ العِلْمِ في مَحَلِّ شَكٍّ وتساؤُلٍ فتَسْبِقُ، بذلكَ، المساومةُ بسُلطَةِ صَوتِ الرَّاوِيْ. ومن دلائِلِ ذلكَ أنَّهُ في الجُّزءِ الثَّانِي، الفصل الأوَّل، مِن الرِّوَايَة، يَقِرُّ الرَّاوي بأنَّهُ لَيْسَتْ لديهِ فِكرَةٌ عَمَّا ينوي مِيشكين فعلَهُ في سينت بيترسبيرق وعمَّا قد تغدُو عليهِ، لاحقَاً، علاقتُهُ مع ناستاسيا فيليبوفنا. ثُمَّ إنَّهُ يبدُو أنَّ الرَّاوِي يفقِدُ، في الفصل الأوَّل من الجُّزء الثَّالث من الرِّوايَة، جِمَاعَ تَحَكُّمِهِ في قصَّتِهِ إذ هُوَ يُوغِلُ في هَرجٍ حولَ الأوضاعِ في رُوسيَا في ذلكَ الزَّمانِ ثُمَّ، إثرَ جَذْبِهِ لِنَفَسِهِ، يَقِرُّ بأنَّ قِصَّتَهُ فِي غِنَىً عن كثيرٍ من ذلكَ الذي هَرَجَ بهِ (ص. 303).
ويبداُ الفصلُ الأَوَّلُ من الجُّزءِ الرَّابِعِ من الرِّوَايَةِ بِمَقَالٍ عن مشكلةِ كاتبٍ روائيٍّ مُتَّصِلَةٍ بالتَّوَتُّرِ، في كتَابَتِهِ الرِّوائيَّةِ، فيما بين الشَّخصيَّاتِ العاديَّةِ العامرةَ بها الحَيَاةُ الحَقِيقِيَّةُ والمبالغاتِ الضَّرُوريَّةِ لإنشاءِ القَصِّ الخيالي. وخَلَلَ تلكَ الرِّوايةِ جميعِهَا يَجرِي تَمثِيلُ فُقدانِ التَّحَكُّمِ الرِّوَائِيِّ، إلى حدٍّ كثيرَاً ما يَكُنْ لهُ أَثَرٌ كوميدِيٌّ، في تَولِيْفَاتِ تصانيفٍ من أصواتٍ تُثرثِرُ، تَتَحَاجُّ، تَعِظُ أو تَتَنَاقَشُ دونَ أن تَصَلَ، أَبَدَاً، إلى أيَّةِ توافُقْ. ويُتَوَّجُ جِمَاعُ ذلكَ، على صُورةِ قد تَكْمُنُ كثيرَاً في التَّذَكُّر، في الجُّزء الخامس، الفصل التَّاسِع، من الرِّواية، وفي ذلكَ الصَّخَبُ من الشَّائِعَاتِ، أنصَافِ الحقائِقِ والنَّمِيْمَةِ، الخَبيثَةُ مِنهَا والحَميدَةُ، بخُصُوصِ الحادثَاتِ المُحيطَةِ بزَفَافِ ناستاسيا. مع ذَلِكَ، تنتَهِي الرِّوَايَةُ بعَودةِ الرَّاوِي كُلِّيَّ العِلْمِ إلى مركزِ السَّردِ ومن ثَمَّ وَصْفِهِ للمُوَجَهَةِ الرَّهيبَةِ الأخِيْرَةِ فيما بين رَوقوزهِنْ والأمير وما انشَقَّ عَنْ ذلكَ من انحَدارٍ فِي تصاريفِ أحوالِ مِيشكِين وعائلةِ إِبانْشِنْ.
قَدْ زَعَمَ البَعضُ أنَّ رِواية "الأبلَهْ" رِوايَةٌ مُختَلَّةَ التَّركيب، ليس فقط بِفِعْلِ طبيعتِهَا الاستطراديَّة أو فُقدَانِهَا للرُّؤْيَةِ المُوَحِّدَةِ وإنَّمَا كذلكَ لكونِ أنَّهُ، في غَايَةِ الأَمْرِ، يبقَىْ الاختلاطُ الذي صَوَّرَتْهُ إِشكَالَاً بَعِيْدَاً عن الحَلْ. بَلَى، هُنالِكَ، في تِلْكَ الرِّوَايَةِ، عالَمٌ يُمكِنُ للوَرِثَةِ فيهِ أن تُفقَدَ أو تُكْسَبَ دُونَ سبٍبٍ ظاهِرٍ، للجَّرائمِ والأفعَالِ الخَيِّرَةِ أنْ تُرتَكَبَ وكأنَّهَا تَجِيءُ بلا مُسَوِّغَاتْ، للحُبِّ والكَرَاهِيَّةِ أنْ يُصِيْرَا غَيْرَ مُتَمَايِزَيْنَ تمامَاً
عن بعضِهِمَا البعض، وللقَدَاسَةِ أن تَجلِبُ معهَا كارثَةً على إِثْرِهَا. ويَشْكُو ليبيديف، الذي كثِيرَاً ما يبدُو عَاكِسَاً لوِجهَاتِ نَظَرِ مُؤَلِّفِ الرَّوَايَةِ، في الرَّوَايَةِ، مِن أنَّ الانسجَامَ القَدِيْمَ للعالمِ قد فُقِدَ وأنَّهُ "ليسَتْ هُنَالِكَ فِكْرَةٌ مُوَحِّدَةٌ" كائِنَةٌ وَرَاءَ الإنجَازَاتِ المُعتَبَرَةِ لعصْرِنَا الحَدِيْثْ (ص. 382). غَيْرَ أنَّ ذَلِكَ التَّوَتُّرُ الأَصْلِيُّ الكائِنَ عِنْدَ قَلْبِ تِلْكَ الرِّوَايَةِ هُوَ، في ذَاتِ الوَقْتِ، سَبَبُ نجَاحِهَا الكَبيرْ. إنَّ مُقَامَرةَ دوستويفسكِي تِلْكَ قَدْ أَثْمَرتْ كَسْبَا. ونحنُ نعلمُ، الآنَ، أنَّ رواية "الأبله" قد كانت هي المُفضَّلَة من بينَ أعماله القَصَصِيَّة الأُخرَىْ وأنَّهَا بالتَّأكيدِ أكثَرَ رِوايَاتِهِ جُرأَةً فِكريَّةً وثَقَافِيَّةً، كما وهِيَ كذلِكَ أكثَرَ إِنشَاءِاتِهِ الرِّوائيَّةِ عَصْرِيَّةً. ونَعْزُو هُنَا نَجاحُ الرِّوَايَةِ إِيَّاهَا، على وجهِ التَّعيين، إلى تَجنُّبِهَا الكِلَيْشِيْهَاتِ المُبسَّطَةِ عنِ الخَيْرِ والشَّرِّ والحُبِّ الرَّومانسِيِّ، إلى رَسْمِهَا صُوَرَاً نَفَّاذَةً لِتعقِيْدَاتٍ وتناقُضَاتٍ سايكُولَوْجِيَّة، ثُمَّ، الأَهَمَّ من ذَلِكَ، إلى استِراتِيجِيَّتِهَا السَّرْدِيَّةِ البَارِعَةِ المُتَمَثِّلَةَ فِي خَلْخَلَةِ وِجْهَةِ نَظَرٍ مألُوفَةْ. وفِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَسْتَبِقُ رِوايَةُ "الأَبلَهْ" ليسَ فَقَطْ اهتِمَامات الفِكرِ الوِجُودِيِّ في القَرْنِ العِشْرِين وإنَّمَا هِيَ تَسْتَبِقُ، أَيْضَاً، هِمُومَ عَصْرِنَا الحَدِيْثِ
في جِمَاعِهَا.
هامش:
* Dostoevsky, Feodor, The Idiot, Introduction and Notes by Agnes Cardinal, Wordsworth Editions Limited, 1996. New Introduction and Notes added in 2010.
[اكتملت هذه التَّرجمة في أبريل من العام 2016م]
khalifa618@yahoo.co.uk
///////////////////////////