مُحَاوَرَةٌ أجراها يحيى الحسن م. الطاهر “سايِح” مع إبراهيم جعفر
رئيس التحرير: طارق الجزولي
19 January, 2023
19 January, 2023
"تُرَىْ كَيْفَ عِنَاقُ اللُّغةِ الهَارِبَةٍ تَتَخَفَّىْ فِي الطُّرُقِ الغَيْمِيَّةِ الزَّرْقَاءِ المَنْفِيَّةْ؟!" ...
شعر: إبراهيم جعفر
من "القصيدة الضَّبابيَّة"
مُحَاوَرَةٌ أجراها يحيى الحسن م. الطاهر "سايِح" مع إبراهيم جعفر
مَن يَطْمَحُ إِلىْ فَهْمِي مِن بوَّابةِ الفَلْسَفَةِ
فقد بَعُدَ شأوُهُ عنِّي
أَنَا مِن الشِّعر، أنا من مادَّةِ الغِمُوضِ
فَاحْدِسْنِي ... أشعُرْنِي ... حامِمْنِيْ
آنَذَاكَ فَقَطْ تَعْرِفُنِيْ ..!
يَا سَوسَنَةً مِن زَمَانِ التَّوَحُّدِ
مُسَيَّجٌ أَنَا بِالغَرَابَةِ واللاّ حُضُورْ
نَارٌ في اشْتِعَالِ الدُّخَانِ بِالنَّفْيِ
وفِي النَّفْيِ أُوْجَدْ
إبراهيم جعفر.
مقطع مقتبس من:- "من إنجيل الأُلوهة الشخصية"
إبراهيم..!– هاأنذا– عفويَّاً– أدخُل عليه- كما يشاءْ– من باب الشعر والمشاكسة الحميمة – ولا التفلسف والعقلانية الباردة! إبراهيم جعفر محمد خليفة – زمنٌ من الخربشاتِ ينشرها أحياناً ويصمت عنها لا مبالياً كثيراً، وربَّما خَجِلاً – مِمَّا نُشر:- الإستبصارات الوجودية في شعر النور عثمان أبّكر– مجلة الثقافة السودانية – 1980م – عدة كتابات متناثرة في:- النقد الأدبي، الشِّعر "في ملفّات الأيّام والصحافة الثقافية، الزرقاء، السياسة، الأزمنة العربية، وعدا ذاك .."
إبراهيم هاكَ هذه "الإبر" كي توخزكَ- بلُطْفٍ – يٌثيرُكَ كَيْ يَسْحَبُكَ مَعِيْ إلى "بُرهَةِ" هذِهِ المُحَاوَرَة:-
حالة الموازاة باعتبارها من أعمق الفعاليَّات الذِّهنيَّة للذَّات الناشزة بطبعها من "اليقين والتحدد في هويِّةٍ ما" – هذه الحالة تُحفِّزُنِي لأَن أُبَاغِتُكَ "في فوضى جُوَّاكْ" بهذا السؤال:-
ما هي الوجدانات الدقيقة التي ترسم "وضعيَّة شعوريَّةً" ذاتَ سِمَاتٍ مُحدِّدَةٍ للوضعيَّة المادِّيَّة المسمَّاة إبراهيم جعفر؟ .. ثُمَّ .. هل تَرَىْ أنّ هناك ثَمَّةُ "إمكانٌ لمُوازَاةٍ" بين الذَّات المادِيَّة – أو التَّبَدِّي المَادِّيِّ للذَّات – وبين نسيجها الشِّعُورِيّ أم أنَّ كُلَّ ما هُنَاكَ هو التَّمَازُجُ والظِّلِّيَّةْ – بمعنى أنَّ "الأَثيرَ الشَِّعُورِيَّ للذَّات" هو مُكَوِّنٌ– في العتمة– للوضعيَّة المادِّيَّة؟
2 . "الحالة الشِّعريَّة" منظُورَاً إليها باعتبارِهَا "حالة آنيَّة تَتَخَفَّىْ طَيِّ الإِيقاعِ الرَّتيبِ للحياةِ اليوميَّة – ألا تَحُسُّ مَعِي – أنَّها بِنَفْيِنَا إلى "نسيجِ العالمِ في مستوَى الإِحداثِ الشِّعُورِيِّ لَهُ" تُفَاصِلُنَا عن ذَاتِيَّتِنَا وهويَّتِنَا ذاتِ التَّفاعُلِ السِّلبِيِّ مع موجُودات هذا العَالَمْ؟ ..
1
بدء المساءلة بـ"ما هي" يعني إشارة لإمكان متملِّص بطبيعته وهو إمكان الإمساك "بجَمْرِ" المشاعر الهاربة التي "تَنِدُّ بطبيعتها عن الإنسجان في صيغتنا اللُّغويَّة، أو حتَّى التَّصوُّريَّة، أو رُبَّمَا الشِّعُورِيَّة؟!– كما كتبتُ في "شَهوة في زمن الحُرقَة الخفيفة– 6/3/1985.."، إمكان الإمساك بالدَّيمُومة الشِّعوريَّة التي هي في طبعها سيولة غامرة تُعاشُ ولا تُقَالْ ... إنَّها تُحاولُ أن تُحسِّسَ نَفْسَهَا فقط في "آنِ" حالة الشِّعرِ الذي هو في جوهرِه مَشْدُوْهٌ بالسُّؤَالِ الصَّميميِّ الذي قَدَّمْتُ به إحدى قصائدي "القصيدة الضَّبابيَّة– 1981م.." وهو:- تُرَىْ كَيْفَ عِنَاقُ اللُّغَةِ الهَارِبَةٍ تَتَخَفَّىْ فِي الطُّرُقِ الغَيْمِيَّةِ الزَّرْقَاءِ المَنْفِيَّةْ؟! ... فطُرُقُ الشِّعور هي، في عُمقِها، في حِدَّتِها الأولى، "غيميَّة زرقاء مَنْفِيَّة" فهل أُحاولُ أن أُسمِّي بعد ما تراءى لكَ أنتَ على أنَّهُ "وضعيَّةٌ شِعُورِيَّةٌ مَا" .. ؟! ..
ولأنِّي أُخَطْرِفُ دائِمَاً بِأنَّ الشِّعَرَ هو تلك "الموسيقَى المُبْهَمَة التي تَسْتَوطِنُ الرُّوح" وأنَّنا لا نَكْتُبُهُ إلاَّ إذا "شَعَرْنَا أنَّنَّا سنمُوتُ إن لم نَفْعَلْ ذلك"، كما يتفجَّعُ الشَّاعِرُ الألمانيُّ ريلكة Rilke مُرتَعِبَاً بجَمَالِهِ، فإنِّي أختَارُ تَسمِيَةً شعريَّةً مَا لما يُمكنُ أن يُكوِّنَ شيئاً من "حتَّاي"، والتي هي "وضعيَّتي الشِّعُوريَّة"، أو قُلْ "جُوَّانِيَّتِي" كما أسْتَظْرِفُ أن أُسَمِّيْهَا، وتِلْكَ التَّسْمِيَةُ مَنثُورَةً فِي مَا أَسْمَيْتُهُ "مِن إِنجِيلِ الأُلوهةِ الشَّخصيَّة"– الجُّزء الأوَّل– إنّه يُشَاكِسُكَ ويُحَامِمُكَ مَعَاً فيقولُ عنِّي "ولَعَلَّهُ يُنَاسِبُ مِزَاجِي لِحدٍّ مُرْضٍ!":-
مَن يَطْمَحُ إِلىْ فَهْمِي مِن بوَّابةِ الفَلْسَفَةِ
فقد بَعُدَ شأوُهُ عنِّي
أَنَا مِن الشِّعر، أنا من مادَّةِ الغِمُوضِ
فَاحْدِسْنِي ... أشعُرْنِي ... حامِمْنِيْ
آنَذَاكَ فَقَطْ تَعْرِفُنِيْ ..!
يَا سَوسَنَةً مِن زَمَانِ التَّوَحُّدِ
مُسَيَّجٌ أَنَا بِالغَرَابَةِ واللاّ حُضُورْ
نَارٌ في اشْتِعَالِ الدُّخَانِ بِالنَّفْيِ
وفِي النَّفْيِ أُوْجَدْ
خَاصِمْنِيْ كَيْ تَعْرِفُنِيْ ..
فَارِقْنِيْ كَيْ تَعْرِفُنِيْ ..
يا أيُّهَا الكَادِحُ للرَّبِّ كَدْحَاً فَلا مُلاقِيْه،
الحَقُّ الحَقُّ أقولُ:-
من لاقَىْ الرَّبَّ المُتَفَتِّحَ كالحَقْلِ
في عَتْمَةٍ خَلفِيَّةٍ، في الصَّمْتِ،
في لا تُرَابيَّةِ المَغِيْبِ القَرَوِيِّ
المُرَوْحَنِ بالنَّالِ المُفاجِئِ بِالمَطَرِ
يُلاقِيْنِيْ ..
إبراهيم جعفر.
مقطع مقتبس من:- "من إنجيل الأُلوهة الشخصية"
ذلِكَ شَيْءٌ من "جُوَّانيَّتِي" أو "الوضعيَّة الشَِّعُورِيَّة" التي تعنِي "رُبَّمَا" ... فهل من تَلاقٍ بينِي و"مَجْهُولٍ" ما يقرؤُنِي منكُم، بل هل من تَلاقٍ بينِي وإِخْوَانِي في الرُّوحِ .. هَلْ ..؟! ..
ثُمَّ ماذا؟؟ .. آهٍ .. ها أنتَ تُباغتُنِي بقَسْوَةِ الفنَّانِ الرَّجيمِ فتُسائلُنِي مُكَمِّلاً:- وهل تَرَىْ أنَّ هناكَ ثَمَّةُ مُوازَاةٍ بين الذَّاتِ المَاديَّة ونسيجِها الشِّعُورِيِّ أم أنَّ كُلَّ ما هُناكَ هو التَّمازُجُ والظِّلِّيَّة بمعنَى أنَّ "الأَثيرَ الشِّعُورِيَّ" هو "مُكَوِّنٌ في العَتْمَةِ" للوضعيَّة المَادِّيَّةْ؟
في مقالٍ بعنوان "الحياة والشِّعُور" في صفحة "14–15" من كتاب "الطَّاقة الرُّوحيَّة" المُعرَّب عن هنري برجسون Henry Bergson من قِبَل سامي الدِّروبي يحدسُ هنري برجسون فيكتُب:-
"فالشِّعور والمادَّة إذن صورتان من الوجود، مختلفتان اختلافاً أساسيَّاً، بل متعاكستان، تتّخذان شكلاً حيَّاً وتنتظمان فيما بينهما على تفاوتٍ .. فأمّا المادَّة فهي ضرورة وأمّا الشِّعور فهو حرِّيَّة ولكن مهما تعارضتا، فإنَّ الحياةَ تجد سبيلاً إلى الجَّمعِ بينهما. وما الحياة إلاَّ الحرِّيَّة المتَّصلة بالضَّرورة، تُصرِّفُها وفقَ مصلحتها. وما كانت لتُمَكَّن الحياة لو أنَّ الجَّبر الذي تخضع له المادّة لا يستطيع أن يُخفِّفَ شيئاً من صرامته. فلنفرض أنْ قد كان في المادَّة، في بعضِ اللحظاتِ وبعضِ النِّقاطِ، شيءٌ من المرونة ... فهناكَ استقرَّ الشِّعور، استقرَّ في أوَّلِ الأمرِ صغيراً جدَّاً، حتّى إذا استتبَّ له المقام أخذَ يتَّسع، وما زالَ يدورُ نصيبه حتَّى طغى على كلِّ شيء، لأنَّه أُوتِيَ وقتاً، ولأنَّ المقدارَ الضَّئيل من اللاَّ جبر ينضافُ بعضهُ إلى بعض، فيؤدِّي إلى حُرِّيَّةٍ ليست بذاتِ حدود .. " ..
فهل صورة الوجود تبدو مؤسَّسة من تناقضين كما قال هنري برجسون في "الطَّاقة الرُّوحيَّة" وهل الشِّعور موازٍ للمادَّة بالاتِّجاه الآخر، أو الضِّدَّ حيثُ لا تكون الحياة، وهي بالأصلِ البسيط "حيويَّة" الشِّعور الذي يفيضُ في الأشياء، سوى حيويَّة تَشُقُّ طريقها للمادَّة التي هي "الضَّرورة" أو، بمعنىً شخصِيَّ وشِعْرِيَّ وحيَّ وخارجَ عن تسمياتِ "التَّأمل الفلسفِي"، التي هي الموت، ومن ثَمّ يكونُ طريقُ الحياة عبر المادَّة ليسَ سوى "ثُغرَةٌ" صغيرةٌ تُسمَّى الأجسادَ الحيَّةَ التي وقفَ عندها صاحبُنا د. هـ. لورنس في كتابه رؤيا Apocalypse فعرَّف الحياة فقط بأنَّها الكائنات الحيَّة، أي الفاعليَّة السَّائلة المتفجِّرة في ما هو حي، صارفاً النَّظر أو مُشيحاً بعينيه في خوفٍ عن المادَّة، عن (الأشياء المنسابة بلا معنى) وواضعاً خطَّاً فاصلاً بينها و(الحي) في موافقة ضمنيَّة تتجاهل لا مكترثةً أحد أطراف الوجود:- وهو المادَّة (و نعني بها الأشياء لا الأحياء)، أو قُلْ، فيما يقولُ الشِّعر، هي الطَّبيعة عموماً ......
ورُبَّمَا يَتَبَدَّىْ لي الآن أنَّ موقِفَيْ هنري برجسون ود . هـ . لورنس حيَّان ومُريحَان للتَّحَسُّسِ الشَّخصِيِّ وللحقائقِ الشَّخصِيَّةِ التي تُرَاوِدُنِيْ أحيَانَاً، ولكنَّ حدسِي يميلُ في مستوىً أعمق من ذلكَ التَّجاهلِ اللَّورَنْسِيِّ (نسبةً إلى د.هـ. لورنس) المليء بالغبطة المُغرِيَة بالتَّصديق في صيحةِ "إنَّ الحَيَاةَ هي الكائنات الحيَّة" ومن ثَمَّ "إِكْمَالاً مِنِّي" لا شَأنَ لنا بإِزعاجِ علاقتنا مع "الأشياء المنسابة بلا معنى، والتي هي مجرَّد أشياء"- ويتَّفِقُ– بصُورَةٍ مريبة– في النَّظرةِ إليها "غَثَيَانُ" سَارتر العَدَمِيِّ مع "رُوحيَّةِ" برجسون وفرديَّة د. هـ. لورنس اللاَّمُنتَمِيَة الصُّوفيَّة .. إذ أنَّ معنى كلمة "الأشياء" هنا– وفِي كُلِّ ذلكَ– هو الموجُودات الحاوية لكُلِّ ما ليسَ "كائنَاً حَيَّاً" في بَسَاطةٍ "مُحيرَةٍ" ومُلتَبِسَةٍ، وبالتَّالي فهو ذاتُ مَعنَى ما يَعرِفُهُ هنري برجسون عن المادَّة، التي هي ضرورة مصمتة خاضعة للجَّبر، والموافقة لمعرفة د. هـ. لورنس المتواطئة (عبر التَّجاهل الضِّمني للمادَّة "الميِّتة" اصْطِلاحَاً) مع هذه الرُّؤيَا البرجسونيَّة والمُلاقِيَة كذلكَ- بغرابة- فينومينولوجيَّاً فلسفة سارتر العدميَّة الواضعةَ الأشياءَ، في تفسيرها الأنطولوجيِّ للموجودات، في خانةِ "الوجود–في–ذاته"، أي الوجود المصمت الذي ليس له من "تَطَلُّعٍ" خارجَ ذاتهِ، أو قُلْ، بلغةِ الشِّعورِ، ليس لهُ من أشواقٍ تسيل خارج انغلاقه (الميِّت) على ما هو عليه.
قلتُ هاذياً بجملةٍ صغيرةٍ قبل قليل أنَّ حدسي يميل للقاءٍ بمستوى أعمق من هذا "الشَّوف" اللاَّ شعريِّ قليلاً للأشياء .. فيجذِبُنِي أكثرَ سِحْرُ أنْ أَرَىْ الحَيَاةَ في صُورَةِ (الفَرَح الحَيَوِيِّ الذي تتخلَّلُ به النَّارُ جَسَدَ الفَحمِ الغافِي– لحظيَّاً– وليس المَيِّت ..) ... وهذا لونٌ واحدٌ فقط من ألوان ابتهاجِ الحياةِ الدِّيُونيزيَوزِيِّ بذاتِهَا .. ويَجْذِبُنِي كذلك، بأوغلِ وأعمقِ من ذاك، نُفُوْذٌ شعوريٌّ أنَّ الطَّبيعةَ هي (جُلبَابُ اللهِ الحَيِّ) وأنَّها ليست (أشياء) بل هي تفجُّرٌ ساكنٌ للحياة لدرجة أنَّها تبدو أحياناً "لا حياة" .. أو قل هي– أي الطبيعة- تبدو أحياناً– في كلماتٍ أُخرى– رائعةَ السُّكون لدرجةِ "اللاَّمبالاة" والتَّباعُد اللَّذان يبدُوَانَ خِدَاعَاً و(مُوَارَبَةً) مِن فِعْلِ جَمَالٍ قَاسٍ يَبْدُو أنَّهُ لا يُجِيْبُ عَاشِقَهُ لأنَّهُ لا وُجُودَ لهُ إلاَّ في الصَّمت .. إنَّها، بِبَسَاطَةِ الغِنَاءِ الحقيقيَّة (والغِنَاء للإنسان هو المَخْرَجْ!)، قد تُغرِي عَاشِقَهَا أحْيَانَاً بالشِّعُورِِ أنَّه ليس سِوَىْ شخصٌ (مَسْحُورٌ بالجَّمال العُمرُو ما جَاوَبْ مُنَادِيْ( فِيمَا يُغنِّي المُطرِبُ السُّودانِيُّ عُثمَان حسين والشَّاعرُ، السُّودَانِيُّ كذَلِكْ، حِسين بازرعة ..
ثُمَّ إنِّيَ قد فِضْتُ كَاتِبَاً مَرَّةً، في "كيفَ أنامُ وفي دمي هذى العقارب؟!– قصة قصيرة .."، هذا
"الشَّيء":-
"العقاربُ .. العقاربُ .. في ساحةٍ خضراء التممنا في أصيل ينفح الدنيا بخضرة لا تصدق .. يأتيني وجد التقبيل لكل حيٍ نما وازدهى مغرقاً في صوفية خضرته الخاصة والآسرة .. كنت أمعن في تأمل عشبة ما وهي ترقص وأُقَبِّلُ صديقي "مصطفى" فرحاً وأُ صيحُ بعُثمان ومصطفى:- أُنْظُرَا .. هاهي ترقص .. هذه العشبة .. أُنْظُرَاهَا انْظُرَاهَا .. ! .. الرِّيحُ كانت تتمايل بها .. فتاةٌ أقول؟! .. موجةٌ؟! .. هي موجةٌ–فتاةٌ تفوحُ بعَبَقِ الجِّنْسِ ويَلْفَحُنِي طَمْيُهَا "الأُنْثَوِيُّ" فأقذف؟! .. العُشبة ترقص في هواء التَّراتيلِ فيُتَعْتِعُنِيْ لحنُ صباحِ أذكرُ به غِنَاءَ الطِّيُورِ في يومٍ غائبٍ غائمٍ من أيَّامِ الطِّفُولةِ البعيدةِ المنفيَّةِ حينَ كُنتُ أُغيبُ في دُهْمَةِ أشجارِ حيِّ "السَّرَايَاتِ" في "كوستي" بغرابةٍ وأُمْعِنُ في حالةٍ ربَّانيَّةْ .. قريبَاً مِنْكَ كُنْتُ يا الله أَدْخُلُ ذهولاً سحرياً وتُدَغْدِغُنِيْ كُنْتُ "يا صباح يا زاكِي العبير، سلِّمْ عليهُمْ عليهُمْ كَتِيْرْ .. "*.. أَحْلُمُ كُنْتُ آنذَاكَ في سَاحَةٍ خضراء والعُشبةُ ترقُص .. يَتَدَاخَلُ حُلُمِيْ بعَينين "جِنِّيْتَين"، في الحُلُمِ أُطاردُ، أنا وهي، في سَاحَةٍ رَملِيَّةٍ مُمتَدَّةٍ بطُولِ السَّهْوِ الغَافِي، البَرقَ الذي يلمعُ ثُمَّ يُغِيبْ .. البرقُ كان "يَفِجُّ" السَّحابَ في التماعاتِ بهجةٍ قصيرةٍ وممتلئةٍ .. نُطاردُ البَرقَ معاً .. نجرِي .. يهرب منَّا .. يلتمعُ في البَهْجَةِ ساخراً ويختفِي .. يختفِي سَاخِرَاً، بعد بهجته القصيرة، في العتمة السماوية .. نُطاردُهُ .. نضحك .. نخلعُ عنَّا أثوابَنا أو نَدَعَهَا تَتَنَاثَرُ على أجسادنا كيفما شاءت .. ثوبُها يهوي، بحُرِّيَّةٍ، تحت الكتفين، في الهواء، كفراشةٍ، كبالونةٍ ... ثوبُها يصيرُ بالونةً شفافةً .. وأنا وهي نطارد البرق .. البَالُونَةُ الشَّفَّافَةُ تتوهَّجُ مثل البرق .. هي والبرق يصبحان معنىً واحداً .. البَالُونَةً الشَِّفَّافَةُ تتَّحِدُ بالبرق .. يا برق لماذا تقتربُ منَّا؟! أتُرَاكَ خُدِعْتَ بالبالونة الشفافة فانحنيتُ عليها بالقُبَلْ .. قُبَلْ .. قُبَلْ .. بالونةٌ شفَّافةٌ وبرق .. نُمسِكُ أنا وهي بذيل البرق الممتد والمتموِّج كذيل سمكةٍ حرّةٍ، ذيلٍ ناريٍّ لسمكةٍ حرة و"فاعلةٍ مختارةٍ" في نهرها .. نبحث عن "حراشيفه" التي تقذف النار .. نزغزغه ونضحك .. لا نجد حراشيفاً .. نضحك ونضحك " أتاريك يا ود السما كتّ بتلعب ساي وانتَ كُلَّكْ سلام لكن نارك شقاوة أطفال .. شقاوة أطفال بس كانت نارك .. إنت بتلعب .. بتلعب .. تلعب وبس .. تاني ما حتغشَّنَا يا ابن اللذين يا شيطان .. يا ولد، يا طفل بيلعب .. يلعب .. يلعب ..." تُفَرْقِعُ ضحكتُنَا واحدةً وعاليةً و"مُسَتَّفَةً" بالمرحِ وبالنِّجُومِ الرَّائعة الحانية .. أَحْلُمُ .. أَحْلُمُ .. ولكن .. العقاربُ .. العقاربُ .. العقاربُ .. وذاكَ اليَومْ .. كيفَ أَنَامُ وفِي دَمِي هَذِيْ العقارب لا تغفلُ عن نهشي بسُمِّهَا الغريب الطَّعمِ واللَّونِ الذي يَتَقَبَّلُهُ القَلبُ في صَمْتٍ شَهِيْدْ؟ .. كَيفَ أَنَامُ؟ العقاربُ .. كيف أنامْ .. كيف أنامْ؟! ..."
فهلاَّ ذلكَ ليسَ سِوَىْ لَونٌ آخَرٌ لرُؤْيَايَ للطَّبيعَةِ في مُستَوَاهَا الأُلوْهِيِّ الحَيِّ ..؟! .. عَلَىْ كُلٍّ هُنَالِكَ أُلُوهَةٌ مَا كَامِنَةٌ في الطَّبِيعَةِ قد تُلاقِيْنَا مُقْبِلَةً بِرذَاذِ الفَرَحِ الرُّوحِيِّ بِنَا، كَمَا نَفْرَحُ بِهَا، حِيْنَاً وقَدْ تَبْدُوْ لا مُكتَرِثَةً ومُدْبِرَةَ وقَاسِيَةً آناتَ أُخْرَىْ لِدَرَجَةِ أنَّنَا نَمِيْلُ إِلَىْ الاعْتِقَادِ أَنَّهَا (سَرَابٌ وخِدَاعٌ)..
وآخِرَاً، هَلْ فِي مَا قُلْتُ إِجَابَةٌ مَا للمُساءَلَة؟ .. لا أدرِي ولكنِّي أرَىْ فيه اقترابَاً مُتَآخِيَاً مِن– إنْ لَمْ يَكُنْ تَلاقِيَاً مَعَ– الإِحسَاسِ بالظِّلِّيَّةِ والتَّمَازُجِ (الذي عَنَيْتَ في سُؤَالِك) أو قُلْ هُوَ (اللَّعِبُ الحَيُّ الأَسَاسِيُّ) في عَلاقَةِ الشَّيْءِ بِالحَيِّ أو قُلْ هُوَ– كَمَا قَدْ أَشْعُرُ أَنَّكَ تُفضِّل ..!- علاقة المَادَّة بالشِّعُور... وكَفَىْ!
فجر الأربعاء 12/11/1986م.
2
إنَّ قصيدة الشِّعر تُومِئُ بإصبعها إلى "أُلوهةٍ" ما وتناديها من خللِ كلماتها و"لغتها" التي استحالت سحاباً .. هي أشواقٌ لنفضِ ترابِ الوقائع اليوميَّة في مستوى رتابتها "اللَّزجة أو النَّاشفة" وفي مستوى "حيويَّتِهَا الجَّمْعِيِّ" معاً– حتَّى لو كانَ دفَّاقَاً بـ"المعنى" مثل الطَّقس الدِّيني– باتِّجاهِ "سَحَابٍ مَا" قد يكونُ ضبابيَّاً ومُلَوَّنَاً، و بأعمقِ من ذَلِكَ قد يكونُ دَمْعِيَّاً وشَفَّافَاً، وقَدْ يَكُونُ كَذَاكَ صَافِيَاً وطِفْلِيَّاً ..
ثُمَّ .. هل الشِّعر هو "إِحدَاثٌ شُعُورِيٌّ للعالم" أم مُلاقَاةٌ لحقيقتِهِ الشِّعُوريَّة ومن ثَمَّ "حقيقتَنَا" الشِّعُورِيَّة المُتَنَاثِرَة في حالاتٍ تَلتَقِي بـ"حالةِ العالم" الحيَّة كحياتِنَا في أسَاسِهَا؟ .. إنَّ كَلِمَةَ "الإحداث الشِّعوريِّ للعالم" تجعلنا وكأنَّنَا فِي الشِّعرِ نَكُونُ عَلَىْ مَسَافَةٍ مِن العَالم وكأنَّهُ "يُرَىْ" العالمُ من داخلِ اللَّونِ الذي "احتَفَلَتْ" به الكِتَابَةُ وسَمَّتْهُ "عَالَمَاً" .. نَعَمْ "الإِحدَاثُ الشِّعورِيُّ" للعالم هو شِعْرٌ لكن هو فقط في الدَّرجَةِ الأَدْنَىْ من الشِّعْرِ المَجَّانِيِّ "ولَيْسَ مِمَّا هُوَ لَيْسَ شِعْرَاً ويُطْلَقُ عَلَيْهِ عَادَةً "شِعْرَاً" ..!" ... إِذْ أنَّ الشِّعْرَ "هُنَاكَ"، فِي البَعِيْدِ الحَقِيْقِيِّ، فِي الغَرَابَةِ الأَصْلِيَّةِ الَّتِيْ هِيَ "أَنَا"، لِقَاءٌ بالرُّوْحِ المُتَنَاثِرَةِ فِيْنَا وفِي العَالَمِ عَلَىْ شَكْلِ فَيَضَانَاتٍ صَغِيْرَةٍ مِن جَدَاوِلِ الحَالاتْ .. وكُلُّ قَصِيْدَةٍ إِنْ لَمْ تَكُنْ لِقَاءَاً بِحَالةٍ يُموَّجُ فِيْهَا سِيَاجُ "العَادِيَّةِ" الوَاصِلَنَا سَلْبَاً مَعَ العَالمِ "الوَقَائِعِيِّ" فَإِنَّهَا لَنْ تُحِقِّقَ ذَاتَهَا كَقَصِيْدَةٍ ..
القَصِيْدَةُ، ببساطةٍ، هي لقاءٌ لعُزلَتِنَا الحُرَّة بـ"أَنْتَ" مَا أو بحمِيمِيَّةٍ مَا:- فقد تكونُ اندغَامَاً في صَبَاحٍ ما، في غُرُوبٍ ما، فِي عَيْنِيَّةٍ إِنْسَانِيَّةٍ مَا تُكَوِّنُ كُلَّ تِلْكَ الحَيَوَاتِ فِي آنٍ مَعَاً "كَقَولِ المُغَنِّيْ:- حبِيْبَيْ غَابْ فِي مَوْضِع الجّمَال بَلاقِيْهْ أو:- فِي المَرْأَىْ الجَّميل أَلْقَاكْ وأَحِسْ إنُّو رُوحِي مَعَاكْ .." .. ويكونُ ذلكَ الاخْتِلاطُ "غَسَقَاً" هُوَ حَالُ الأَشْيَاءِ فِي سَذَاجَتِهَا الأُوْلَىْ .. القَصِيْدَةُ شَوْقٌ لإِقَامَةِ زَمَانِ "الهِيُولِى" الشِّعُورِيِّ الَّذِيْ لا نَسْأَلُ عَنْهُ بَلْ نَحْيَاهُ إِذَا حَضَرْ ..
3
ما الشِّعرُ عِنْدَكْ؟
إنَّ ذَاكَ قد هَذَيْتُ بِهِ فِي الكَلام الَّذِيْ مَضَىْ ... وأَلْقَانِيَ أُحِدِّثُكَ هُنَا لأَنَّ الذَّات الشَّاعِرَة ليست من الذَّات "السَّامِيَةْ". نَعَمْ، سُمُّوُّهَا هُوَ شَيْءٌ مِن حَقِيْقَتِهَا كَذَاتٍ شَاعِرَةٍ، هُوَ فَطِيْرَةُ صَفَاءٍ تُمَازِجُ طُفُوْلَتَهَا الخَاصَّة وضِحْكَهَا الأَوَّل؛ ذَاكَ هُوَ السِّمُوُّ "الذي هُوَ شَيْءٌ جَمَالِيٌّ فِي أَوَّلِ المَقَامِ دُوْنّ أَنْ يَكُوْنَ أَخْلاقِيَّاً ..!" ثُمَّ مَا هِيَ الآفَاقُ الَّتِيْ تَنْفَتِحُ فِيْهَا مَكَامِنُ "الأُلُوْهِيَّةِ" وَمَا "الأُلُوهِيُّ" إِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئَاً مِنْهُ هُوَ ذَاكَ الَّذِيْ أَوْمَأْتُ لَهُ بالْتِبَاسٍ فِيْ هَلْوَسَاتُ شَخْصٍ على حافَّةِ جِنُوْنٍ مَا .. !– قصة قصيرة– كتابة :- "جَبَلٌ يَتَدَثَّرُ بالعُشْبِ هُنَاكَ فِي العَتْمَةِ السِّرِّيَّةِ، في الرُّوحِ، فِي الوَجْدِ، فِي البَعِيْدِ الحَقِيْقِيِّ، فِي رِبُوبِيَّةِ السِّكُونِ المَسَائيِِّ ... " ...
وإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ مَا تَنَاثَرَ دَعْوَةً شَخْصِيَّةً لِـ"هِيَ" أَنْ:-
خَشَّيْتِي فِيْ ضَبَابِي وانْذَهَلْتِ؟!
كَانْ رَحْمَانِكْ جَانِي
بَرْتَاحْ فِي وَثَن جَسَدِكْ .. مَا تَخَافِيْ ..!
إبراهيم جعفر
السَّبت 29 /11/ 1986م.
khalifa618@yahoo.co.uk
شعر: إبراهيم جعفر
من "القصيدة الضَّبابيَّة"
مُحَاوَرَةٌ أجراها يحيى الحسن م. الطاهر "سايِح" مع إبراهيم جعفر
مَن يَطْمَحُ إِلىْ فَهْمِي مِن بوَّابةِ الفَلْسَفَةِ
فقد بَعُدَ شأوُهُ عنِّي
أَنَا مِن الشِّعر، أنا من مادَّةِ الغِمُوضِ
فَاحْدِسْنِي ... أشعُرْنِي ... حامِمْنِيْ
آنَذَاكَ فَقَطْ تَعْرِفُنِيْ ..!
يَا سَوسَنَةً مِن زَمَانِ التَّوَحُّدِ
مُسَيَّجٌ أَنَا بِالغَرَابَةِ واللاّ حُضُورْ
نَارٌ في اشْتِعَالِ الدُّخَانِ بِالنَّفْيِ
وفِي النَّفْيِ أُوْجَدْ
إبراهيم جعفر.
مقطع مقتبس من:- "من إنجيل الأُلوهة الشخصية"
إبراهيم..!– هاأنذا– عفويَّاً– أدخُل عليه- كما يشاءْ– من باب الشعر والمشاكسة الحميمة – ولا التفلسف والعقلانية الباردة! إبراهيم جعفر محمد خليفة – زمنٌ من الخربشاتِ ينشرها أحياناً ويصمت عنها لا مبالياً كثيراً، وربَّما خَجِلاً – مِمَّا نُشر:- الإستبصارات الوجودية في شعر النور عثمان أبّكر– مجلة الثقافة السودانية – 1980م – عدة كتابات متناثرة في:- النقد الأدبي، الشِّعر "في ملفّات الأيّام والصحافة الثقافية، الزرقاء، السياسة، الأزمنة العربية، وعدا ذاك .."
إبراهيم هاكَ هذه "الإبر" كي توخزكَ- بلُطْفٍ – يٌثيرُكَ كَيْ يَسْحَبُكَ مَعِيْ إلى "بُرهَةِ" هذِهِ المُحَاوَرَة:-
- سؤالٌ تسوقه إلتباسيَّتُهُ:-
حالة الموازاة باعتبارها من أعمق الفعاليَّات الذِّهنيَّة للذَّات الناشزة بطبعها من "اليقين والتحدد في هويِّةٍ ما" – هذه الحالة تُحفِّزُنِي لأَن أُبَاغِتُكَ "في فوضى جُوَّاكْ" بهذا السؤال:-
ما هي الوجدانات الدقيقة التي ترسم "وضعيَّة شعوريَّةً" ذاتَ سِمَاتٍ مُحدِّدَةٍ للوضعيَّة المادِّيَّة المسمَّاة إبراهيم جعفر؟ .. ثُمَّ .. هل تَرَىْ أنّ هناك ثَمَّةُ "إمكانٌ لمُوازَاةٍ" بين الذَّات المادِيَّة – أو التَّبَدِّي المَادِّيِّ للذَّات – وبين نسيجها الشِّعُورِيّ أم أنَّ كُلَّ ما هُنَاكَ هو التَّمَازُجُ والظِّلِّيَّةْ – بمعنى أنَّ "الأَثيرَ الشَِّعُورِيَّ للذَّات" هو مُكَوِّنٌ– في العتمة– للوضعيَّة المادِّيَّة؟
2 . "الحالة الشِّعريَّة" منظُورَاً إليها باعتبارِهَا "حالة آنيَّة تَتَخَفَّىْ طَيِّ الإِيقاعِ الرَّتيبِ للحياةِ اليوميَّة – ألا تَحُسُّ مَعِي – أنَّها بِنَفْيِنَا إلى "نسيجِ العالمِ في مستوَى الإِحداثِ الشِّعُورِيِّ لَهُ" تُفَاصِلُنَا عن ذَاتِيَّتِنَا وهويَّتِنَا ذاتِ التَّفاعُلِ السِّلبِيِّ مع موجُودات هذا العَالَمْ؟ ..
- "الشِّعْرُ تَأْسِيْسٌ جَدِيْدٌ للوُجُودِ بمعاييرٍ ذاتيَّةْ" أو "إِعادَةُ خَلْقٍ ذَاتِيٍّ لَهُ". أفَلا يَكتَسِبُ الشِّعْرُ– بهَذَا الشَّوف– طابِعَاً يسمُو "بالذَّاتِ الشَّاعِرَةِ" إلى آفَاقٍ تَنْفَتِحُ فِيهَا مَكَامِنُ الأُلُوهِيِّ الرَّحْبْ"؟ ... ثُمَّ: ماهُوَ الشِّعْرُ عِنْدَكْ؟
1
بدء المساءلة بـ"ما هي" يعني إشارة لإمكان متملِّص بطبيعته وهو إمكان الإمساك "بجَمْرِ" المشاعر الهاربة التي "تَنِدُّ بطبيعتها عن الإنسجان في صيغتنا اللُّغويَّة، أو حتَّى التَّصوُّريَّة، أو رُبَّمَا الشِّعُورِيَّة؟!– كما كتبتُ في "شَهوة في زمن الحُرقَة الخفيفة– 6/3/1985.."، إمكان الإمساك بالدَّيمُومة الشِّعوريَّة التي هي في طبعها سيولة غامرة تُعاشُ ولا تُقَالْ ... إنَّها تُحاولُ أن تُحسِّسَ نَفْسَهَا فقط في "آنِ" حالة الشِّعرِ الذي هو في جوهرِه مَشْدُوْهٌ بالسُّؤَالِ الصَّميميِّ الذي قَدَّمْتُ به إحدى قصائدي "القصيدة الضَّبابيَّة– 1981م.." وهو:- تُرَىْ كَيْفَ عِنَاقُ اللُّغَةِ الهَارِبَةٍ تَتَخَفَّىْ فِي الطُّرُقِ الغَيْمِيَّةِ الزَّرْقَاءِ المَنْفِيَّةْ؟! ... فطُرُقُ الشِّعور هي، في عُمقِها، في حِدَّتِها الأولى، "غيميَّة زرقاء مَنْفِيَّة" فهل أُحاولُ أن أُسمِّي بعد ما تراءى لكَ أنتَ على أنَّهُ "وضعيَّةٌ شِعُورِيَّةٌ مَا" .. ؟! ..
ولأنِّي أُخَطْرِفُ دائِمَاً بِأنَّ الشِّعَرَ هو تلك "الموسيقَى المُبْهَمَة التي تَسْتَوطِنُ الرُّوح" وأنَّنا لا نَكْتُبُهُ إلاَّ إذا "شَعَرْنَا أنَّنَّا سنمُوتُ إن لم نَفْعَلْ ذلك"، كما يتفجَّعُ الشَّاعِرُ الألمانيُّ ريلكة Rilke مُرتَعِبَاً بجَمَالِهِ، فإنِّي أختَارُ تَسمِيَةً شعريَّةً مَا لما يُمكنُ أن يُكوِّنَ شيئاً من "حتَّاي"، والتي هي "وضعيَّتي الشِّعُوريَّة"، أو قُلْ "جُوَّانِيَّتِي" كما أسْتَظْرِفُ أن أُسَمِّيْهَا، وتِلْكَ التَّسْمِيَةُ مَنثُورَةً فِي مَا أَسْمَيْتُهُ "مِن إِنجِيلِ الأُلوهةِ الشَّخصيَّة"– الجُّزء الأوَّل– إنّه يُشَاكِسُكَ ويُحَامِمُكَ مَعَاً فيقولُ عنِّي "ولَعَلَّهُ يُنَاسِبُ مِزَاجِي لِحدٍّ مُرْضٍ!":-
مَن يَطْمَحُ إِلىْ فَهْمِي مِن بوَّابةِ الفَلْسَفَةِ
فقد بَعُدَ شأوُهُ عنِّي
أَنَا مِن الشِّعر، أنا من مادَّةِ الغِمُوضِ
فَاحْدِسْنِي ... أشعُرْنِي ... حامِمْنِيْ
آنَذَاكَ فَقَطْ تَعْرِفُنِيْ ..!
يَا سَوسَنَةً مِن زَمَانِ التَّوَحُّدِ
مُسَيَّجٌ أَنَا بِالغَرَابَةِ واللاّ حُضُورْ
نَارٌ في اشْتِعَالِ الدُّخَانِ بِالنَّفْيِ
وفِي النَّفْيِ أُوْجَدْ
خَاصِمْنِيْ كَيْ تَعْرِفُنِيْ ..
فَارِقْنِيْ كَيْ تَعْرِفُنِيْ ..
يا أيُّهَا الكَادِحُ للرَّبِّ كَدْحَاً فَلا مُلاقِيْه،
الحَقُّ الحَقُّ أقولُ:-
من لاقَىْ الرَّبَّ المُتَفَتِّحَ كالحَقْلِ
في عَتْمَةٍ خَلفِيَّةٍ، في الصَّمْتِ،
في لا تُرَابيَّةِ المَغِيْبِ القَرَوِيِّ
المُرَوْحَنِ بالنَّالِ المُفاجِئِ بِالمَطَرِ
يُلاقِيْنِيْ ..
إبراهيم جعفر.
مقطع مقتبس من:- "من إنجيل الأُلوهة الشخصية"
ذلِكَ شَيْءٌ من "جُوَّانيَّتِي" أو "الوضعيَّة الشَِّعُورِيَّة" التي تعنِي "رُبَّمَا" ... فهل من تَلاقٍ بينِي و"مَجْهُولٍ" ما يقرؤُنِي منكُم، بل هل من تَلاقٍ بينِي وإِخْوَانِي في الرُّوحِ .. هَلْ ..؟! ..
ثُمَّ ماذا؟؟ .. آهٍ .. ها أنتَ تُباغتُنِي بقَسْوَةِ الفنَّانِ الرَّجيمِ فتُسائلُنِي مُكَمِّلاً:- وهل تَرَىْ أنَّ هناكَ ثَمَّةُ مُوازَاةٍ بين الذَّاتِ المَاديَّة ونسيجِها الشِّعُورِيِّ أم أنَّ كُلَّ ما هُناكَ هو التَّمازُجُ والظِّلِّيَّة بمعنَى أنَّ "الأَثيرَ الشِّعُورِيَّ" هو "مُكَوِّنٌ في العَتْمَةِ" للوضعيَّة المَادِّيَّةْ؟
في مقالٍ بعنوان "الحياة والشِّعُور" في صفحة "14–15" من كتاب "الطَّاقة الرُّوحيَّة" المُعرَّب عن هنري برجسون Henry Bergson من قِبَل سامي الدِّروبي يحدسُ هنري برجسون فيكتُب:-
"فالشِّعور والمادَّة إذن صورتان من الوجود، مختلفتان اختلافاً أساسيَّاً، بل متعاكستان، تتّخذان شكلاً حيَّاً وتنتظمان فيما بينهما على تفاوتٍ .. فأمّا المادَّة فهي ضرورة وأمّا الشِّعور فهو حرِّيَّة ولكن مهما تعارضتا، فإنَّ الحياةَ تجد سبيلاً إلى الجَّمعِ بينهما. وما الحياة إلاَّ الحرِّيَّة المتَّصلة بالضَّرورة، تُصرِّفُها وفقَ مصلحتها. وما كانت لتُمَكَّن الحياة لو أنَّ الجَّبر الذي تخضع له المادّة لا يستطيع أن يُخفِّفَ شيئاً من صرامته. فلنفرض أنْ قد كان في المادَّة، في بعضِ اللحظاتِ وبعضِ النِّقاطِ، شيءٌ من المرونة ... فهناكَ استقرَّ الشِّعور، استقرَّ في أوَّلِ الأمرِ صغيراً جدَّاً، حتّى إذا استتبَّ له المقام أخذَ يتَّسع، وما زالَ يدورُ نصيبه حتَّى طغى على كلِّ شيء، لأنَّه أُوتِيَ وقتاً، ولأنَّ المقدارَ الضَّئيل من اللاَّ جبر ينضافُ بعضهُ إلى بعض، فيؤدِّي إلى حُرِّيَّةٍ ليست بذاتِ حدود .. " ..
فهل صورة الوجود تبدو مؤسَّسة من تناقضين كما قال هنري برجسون في "الطَّاقة الرُّوحيَّة" وهل الشِّعور موازٍ للمادَّة بالاتِّجاه الآخر، أو الضِّدَّ حيثُ لا تكون الحياة، وهي بالأصلِ البسيط "حيويَّة" الشِّعور الذي يفيضُ في الأشياء، سوى حيويَّة تَشُقُّ طريقها للمادَّة التي هي "الضَّرورة" أو، بمعنىً شخصِيَّ وشِعْرِيَّ وحيَّ وخارجَ عن تسمياتِ "التَّأمل الفلسفِي"، التي هي الموت، ومن ثَمّ يكونُ طريقُ الحياة عبر المادَّة ليسَ سوى "ثُغرَةٌ" صغيرةٌ تُسمَّى الأجسادَ الحيَّةَ التي وقفَ عندها صاحبُنا د. هـ. لورنس في كتابه رؤيا Apocalypse فعرَّف الحياة فقط بأنَّها الكائنات الحيَّة، أي الفاعليَّة السَّائلة المتفجِّرة في ما هو حي، صارفاً النَّظر أو مُشيحاً بعينيه في خوفٍ عن المادَّة، عن (الأشياء المنسابة بلا معنى) وواضعاً خطَّاً فاصلاً بينها و(الحي) في موافقة ضمنيَّة تتجاهل لا مكترثةً أحد أطراف الوجود:- وهو المادَّة (و نعني بها الأشياء لا الأحياء)، أو قُلْ، فيما يقولُ الشِّعر، هي الطَّبيعة عموماً ......
ورُبَّمَا يَتَبَدَّىْ لي الآن أنَّ موقِفَيْ هنري برجسون ود . هـ . لورنس حيَّان ومُريحَان للتَّحَسُّسِ الشَّخصِيِّ وللحقائقِ الشَّخصِيَّةِ التي تُرَاوِدُنِيْ أحيَانَاً، ولكنَّ حدسِي يميلُ في مستوىً أعمق من ذلكَ التَّجاهلِ اللَّورَنْسِيِّ (نسبةً إلى د.هـ. لورنس) المليء بالغبطة المُغرِيَة بالتَّصديق في صيحةِ "إنَّ الحَيَاةَ هي الكائنات الحيَّة" ومن ثَمَّ "إِكْمَالاً مِنِّي" لا شَأنَ لنا بإِزعاجِ علاقتنا مع "الأشياء المنسابة بلا معنى، والتي هي مجرَّد أشياء"- ويتَّفِقُ– بصُورَةٍ مريبة– في النَّظرةِ إليها "غَثَيَانُ" سَارتر العَدَمِيِّ مع "رُوحيَّةِ" برجسون وفرديَّة د. هـ. لورنس اللاَّمُنتَمِيَة الصُّوفيَّة .. إذ أنَّ معنى كلمة "الأشياء" هنا– وفِي كُلِّ ذلكَ– هو الموجُودات الحاوية لكُلِّ ما ليسَ "كائنَاً حَيَّاً" في بَسَاطةٍ "مُحيرَةٍ" ومُلتَبِسَةٍ، وبالتَّالي فهو ذاتُ مَعنَى ما يَعرِفُهُ هنري برجسون عن المادَّة، التي هي ضرورة مصمتة خاضعة للجَّبر، والموافقة لمعرفة د. هـ. لورنس المتواطئة (عبر التَّجاهل الضِّمني للمادَّة "الميِّتة" اصْطِلاحَاً) مع هذه الرُّؤيَا البرجسونيَّة والمُلاقِيَة كذلكَ- بغرابة- فينومينولوجيَّاً فلسفة سارتر العدميَّة الواضعةَ الأشياءَ، في تفسيرها الأنطولوجيِّ للموجودات، في خانةِ "الوجود–في–ذاته"، أي الوجود المصمت الذي ليس له من "تَطَلُّعٍ" خارجَ ذاتهِ، أو قُلْ، بلغةِ الشِّعورِ، ليس لهُ من أشواقٍ تسيل خارج انغلاقه (الميِّت) على ما هو عليه.
قلتُ هاذياً بجملةٍ صغيرةٍ قبل قليل أنَّ حدسي يميل للقاءٍ بمستوى أعمق من هذا "الشَّوف" اللاَّ شعريِّ قليلاً للأشياء .. فيجذِبُنِي أكثرَ سِحْرُ أنْ أَرَىْ الحَيَاةَ في صُورَةِ (الفَرَح الحَيَوِيِّ الذي تتخلَّلُ به النَّارُ جَسَدَ الفَحمِ الغافِي– لحظيَّاً– وليس المَيِّت ..) ... وهذا لونٌ واحدٌ فقط من ألوان ابتهاجِ الحياةِ الدِّيُونيزيَوزِيِّ بذاتِهَا .. ويَجْذِبُنِي كذلك، بأوغلِ وأعمقِ من ذاك، نُفُوْذٌ شعوريٌّ أنَّ الطَّبيعةَ هي (جُلبَابُ اللهِ الحَيِّ) وأنَّها ليست (أشياء) بل هي تفجُّرٌ ساكنٌ للحياة لدرجة أنَّها تبدو أحياناً "لا حياة" .. أو قل هي– أي الطبيعة- تبدو أحياناً– في كلماتٍ أُخرى– رائعةَ السُّكون لدرجةِ "اللاَّمبالاة" والتَّباعُد اللَّذان يبدُوَانَ خِدَاعَاً و(مُوَارَبَةً) مِن فِعْلِ جَمَالٍ قَاسٍ يَبْدُو أنَّهُ لا يُجِيْبُ عَاشِقَهُ لأنَّهُ لا وُجُودَ لهُ إلاَّ في الصَّمت .. إنَّها، بِبَسَاطَةِ الغِنَاءِ الحقيقيَّة (والغِنَاء للإنسان هو المَخْرَجْ!)، قد تُغرِي عَاشِقَهَا أحْيَانَاً بالشِّعُورِِ أنَّه ليس سِوَىْ شخصٌ (مَسْحُورٌ بالجَّمال العُمرُو ما جَاوَبْ مُنَادِيْ( فِيمَا يُغنِّي المُطرِبُ السُّودانِيُّ عُثمَان حسين والشَّاعرُ، السُّودَانِيُّ كذَلِكْ، حِسين بازرعة ..
ثُمَّ إنِّيَ قد فِضْتُ كَاتِبَاً مَرَّةً، في "كيفَ أنامُ وفي دمي هذى العقارب؟!– قصة قصيرة .."، هذا
"الشَّيء":-
"العقاربُ .. العقاربُ .. في ساحةٍ خضراء التممنا في أصيل ينفح الدنيا بخضرة لا تصدق .. يأتيني وجد التقبيل لكل حيٍ نما وازدهى مغرقاً في صوفية خضرته الخاصة والآسرة .. كنت أمعن في تأمل عشبة ما وهي ترقص وأُقَبِّلُ صديقي "مصطفى" فرحاً وأُ صيحُ بعُثمان ومصطفى:- أُنْظُرَا .. هاهي ترقص .. هذه العشبة .. أُنْظُرَاهَا انْظُرَاهَا .. ! .. الرِّيحُ كانت تتمايل بها .. فتاةٌ أقول؟! .. موجةٌ؟! .. هي موجةٌ–فتاةٌ تفوحُ بعَبَقِ الجِّنْسِ ويَلْفَحُنِي طَمْيُهَا "الأُنْثَوِيُّ" فأقذف؟! .. العُشبة ترقص في هواء التَّراتيلِ فيُتَعْتِعُنِيْ لحنُ صباحِ أذكرُ به غِنَاءَ الطِّيُورِ في يومٍ غائبٍ غائمٍ من أيَّامِ الطِّفُولةِ البعيدةِ المنفيَّةِ حينَ كُنتُ أُغيبُ في دُهْمَةِ أشجارِ حيِّ "السَّرَايَاتِ" في "كوستي" بغرابةٍ وأُمْعِنُ في حالةٍ ربَّانيَّةْ .. قريبَاً مِنْكَ كُنْتُ يا الله أَدْخُلُ ذهولاً سحرياً وتُدَغْدِغُنِيْ كُنْتُ "يا صباح يا زاكِي العبير، سلِّمْ عليهُمْ عليهُمْ كَتِيْرْ .. "*.. أَحْلُمُ كُنْتُ آنذَاكَ في سَاحَةٍ خضراء والعُشبةُ ترقُص .. يَتَدَاخَلُ حُلُمِيْ بعَينين "جِنِّيْتَين"، في الحُلُمِ أُطاردُ، أنا وهي، في سَاحَةٍ رَملِيَّةٍ مُمتَدَّةٍ بطُولِ السَّهْوِ الغَافِي، البَرقَ الذي يلمعُ ثُمَّ يُغِيبْ .. البرقُ كان "يَفِجُّ" السَّحابَ في التماعاتِ بهجةٍ قصيرةٍ وممتلئةٍ .. نُطاردُ البَرقَ معاً .. نجرِي .. يهرب منَّا .. يلتمعُ في البَهْجَةِ ساخراً ويختفِي .. يختفِي سَاخِرَاً، بعد بهجته القصيرة، في العتمة السماوية .. نُطاردُهُ .. نضحك .. نخلعُ عنَّا أثوابَنا أو نَدَعَهَا تَتَنَاثَرُ على أجسادنا كيفما شاءت .. ثوبُها يهوي، بحُرِّيَّةٍ، تحت الكتفين، في الهواء، كفراشةٍ، كبالونةٍ ... ثوبُها يصيرُ بالونةً شفافةً .. وأنا وهي نطارد البرق .. البَالُونَةُ الشَّفَّافَةُ تتوهَّجُ مثل البرق .. هي والبرق يصبحان معنىً واحداً .. البَالُونَةً الشَِّفَّافَةُ تتَّحِدُ بالبرق .. يا برق لماذا تقتربُ منَّا؟! أتُرَاكَ خُدِعْتَ بالبالونة الشفافة فانحنيتُ عليها بالقُبَلْ .. قُبَلْ .. قُبَلْ .. بالونةٌ شفَّافةٌ وبرق .. نُمسِكُ أنا وهي بذيل البرق الممتد والمتموِّج كذيل سمكةٍ حرّةٍ، ذيلٍ ناريٍّ لسمكةٍ حرة و"فاعلةٍ مختارةٍ" في نهرها .. نبحث عن "حراشيفه" التي تقذف النار .. نزغزغه ونضحك .. لا نجد حراشيفاً .. نضحك ونضحك " أتاريك يا ود السما كتّ بتلعب ساي وانتَ كُلَّكْ سلام لكن نارك شقاوة أطفال .. شقاوة أطفال بس كانت نارك .. إنت بتلعب .. بتلعب .. تلعب وبس .. تاني ما حتغشَّنَا يا ابن اللذين يا شيطان .. يا ولد، يا طفل بيلعب .. يلعب .. يلعب ..." تُفَرْقِعُ ضحكتُنَا واحدةً وعاليةً و"مُسَتَّفَةً" بالمرحِ وبالنِّجُومِ الرَّائعة الحانية .. أَحْلُمُ .. أَحْلُمُ .. ولكن .. العقاربُ .. العقاربُ .. العقاربُ .. وذاكَ اليَومْ .. كيفَ أَنَامُ وفِي دَمِي هَذِيْ العقارب لا تغفلُ عن نهشي بسُمِّهَا الغريب الطَّعمِ واللَّونِ الذي يَتَقَبَّلُهُ القَلبُ في صَمْتٍ شَهِيْدْ؟ .. كَيفَ أَنَامُ؟ العقاربُ .. كيف أنامْ .. كيف أنامْ؟! ..."
فهلاَّ ذلكَ ليسَ سِوَىْ لَونٌ آخَرٌ لرُؤْيَايَ للطَّبيعَةِ في مُستَوَاهَا الأُلوْهِيِّ الحَيِّ ..؟! .. عَلَىْ كُلٍّ هُنَالِكَ أُلُوهَةٌ مَا كَامِنَةٌ في الطَّبِيعَةِ قد تُلاقِيْنَا مُقْبِلَةً بِرذَاذِ الفَرَحِ الرُّوحِيِّ بِنَا، كَمَا نَفْرَحُ بِهَا، حِيْنَاً وقَدْ تَبْدُوْ لا مُكتَرِثَةً ومُدْبِرَةَ وقَاسِيَةً آناتَ أُخْرَىْ لِدَرَجَةِ أنَّنَا نَمِيْلُ إِلَىْ الاعْتِقَادِ أَنَّهَا (سَرَابٌ وخِدَاعٌ)..
وآخِرَاً، هَلْ فِي مَا قُلْتُ إِجَابَةٌ مَا للمُساءَلَة؟ .. لا أدرِي ولكنِّي أرَىْ فيه اقترابَاً مُتَآخِيَاً مِن– إنْ لَمْ يَكُنْ تَلاقِيَاً مَعَ– الإِحسَاسِ بالظِّلِّيَّةِ والتَّمَازُجِ (الذي عَنَيْتَ في سُؤَالِك) أو قُلْ هُوَ (اللَّعِبُ الحَيُّ الأَسَاسِيُّ) في عَلاقَةِ الشَّيْءِ بِالحَيِّ أو قُلْ هُوَ– كَمَا قَدْ أَشْعُرُ أَنَّكَ تُفضِّل ..!- علاقة المَادَّة بالشِّعُور... وكَفَىْ!
فجر الأربعاء 12/11/1986م.
2
إنَّ قصيدة الشِّعر تُومِئُ بإصبعها إلى "أُلوهةٍ" ما وتناديها من خللِ كلماتها و"لغتها" التي استحالت سحاباً .. هي أشواقٌ لنفضِ ترابِ الوقائع اليوميَّة في مستوى رتابتها "اللَّزجة أو النَّاشفة" وفي مستوى "حيويَّتِهَا الجَّمْعِيِّ" معاً– حتَّى لو كانَ دفَّاقَاً بـ"المعنى" مثل الطَّقس الدِّيني– باتِّجاهِ "سَحَابٍ مَا" قد يكونُ ضبابيَّاً ومُلَوَّنَاً، و بأعمقِ من ذَلِكَ قد يكونُ دَمْعِيَّاً وشَفَّافَاً، وقَدْ يَكُونُ كَذَاكَ صَافِيَاً وطِفْلِيَّاً ..
ثُمَّ .. هل الشِّعر هو "إِحدَاثٌ شُعُورِيٌّ للعالم" أم مُلاقَاةٌ لحقيقتِهِ الشِّعُوريَّة ومن ثَمَّ "حقيقتَنَا" الشِّعُورِيَّة المُتَنَاثِرَة في حالاتٍ تَلتَقِي بـ"حالةِ العالم" الحيَّة كحياتِنَا في أسَاسِهَا؟ .. إنَّ كَلِمَةَ "الإحداث الشِّعوريِّ للعالم" تجعلنا وكأنَّنَا فِي الشِّعرِ نَكُونُ عَلَىْ مَسَافَةٍ مِن العَالم وكأنَّهُ "يُرَىْ" العالمُ من داخلِ اللَّونِ الذي "احتَفَلَتْ" به الكِتَابَةُ وسَمَّتْهُ "عَالَمَاً" .. نَعَمْ "الإِحدَاثُ الشِّعورِيُّ" للعالم هو شِعْرٌ لكن هو فقط في الدَّرجَةِ الأَدْنَىْ من الشِّعْرِ المَجَّانِيِّ "ولَيْسَ مِمَّا هُوَ لَيْسَ شِعْرَاً ويُطْلَقُ عَلَيْهِ عَادَةً "شِعْرَاً" ..!" ... إِذْ أنَّ الشِّعْرَ "هُنَاكَ"، فِي البَعِيْدِ الحَقِيْقِيِّ، فِي الغَرَابَةِ الأَصْلِيَّةِ الَّتِيْ هِيَ "أَنَا"، لِقَاءٌ بالرُّوْحِ المُتَنَاثِرَةِ فِيْنَا وفِي العَالَمِ عَلَىْ شَكْلِ فَيَضَانَاتٍ صَغِيْرَةٍ مِن جَدَاوِلِ الحَالاتْ .. وكُلُّ قَصِيْدَةٍ إِنْ لَمْ تَكُنْ لِقَاءَاً بِحَالةٍ يُموَّجُ فِيْهَا سِيَاجُ "العَادِيَّةِ" الوَاصِلَنَا سَلْبَاً مَعَ العَالمِ "الوَقَائِعِيِّ" فَإِنَّهَا لَنْ تُحِقِّقَ ذَاتَهَا كَقَصِيْدَةٍ ..
القَصِيْدَةُ، ببساطةٍ، هي لقاءٌ لعُزلَتِنَا الحُرَّة بـ"أَنْتَ" مَا أو بحمِيمِيَّةٍ مَا:- فقد تكونُ اندغَامَاً في صَبَاحٍ ما، في غُرُوبٍ ما، فِي عَيْنِيَّةٍ إِنْسَانِيَّةٍ مَا تُكَوِّنُ كُلَّ تِلْكَ الحَيَوَاتِ فِي آنٍ مَعَاً "كَقَولِ المُغَنِّيْ:- حبِيْبَيْ غَابْ فِي مَوْضِع الجّمَال بَلاقِيْهْ أو:- فِي المَرْأَىْ الجَّميل أَلْقَاكْ وأَحِسْ إنُّو رُوحِي مَعَاكْ .." .. ويكونُ ذلكَ الاخْتِلاطُ "غَسَقَاً" هُوَ حَالُ الأَشْيَاءِ فِي سَذَاجَتِهَا الأُوْلَىْ .. القَصِيْدَةُ شَوْقٌ لإِقَامَةِ زَمَانِ "الهِيُولِى" الشِّعُورِيِّ الَّذِيْ لا نَسْأَلُ عَنْهُ بَلْ نَحْيَاهُ إِذَا حَضَرْ ..
3
ما الشِّعرُ عِنْدَكْ؟
إنَّ ذَاكَ قد هَذَيْتُ بِهِ فِي الكَلام الَّذِيْ مَضَىْ ... وأَلْقَانِيَ أُحِدِّثُكَ هُنَا لأَنَّ الذَّات الشَّاعِرَة ليست من الذَّات "السَّامِيَةْ". نَعَمْ، سُمُّوُّهَا هُوَ شَيْءٌ مِن حَقِيْقَتِهَا كَذَاتٍ شَاعِرَةٍ، هُوَ فَطِيْرَةُ صَفَاءٍ تُمَازِجُ طُفُوْلَتَهَا الخَاصَّة وضِحْكَهَا الأَوَّل؛ ذَاكَ هُوَ السِّمُوُّ "الذي هُوَ شَيْءٌ جَمَالِيٌّ فِي أَوَّلِ المَقَامِ دُوْنّ أَنْ يَكُوْنَ أَخْلاقِيَّاً ..!" ثُمَّ مَا هِيَ الآفَاقُ الَّتِيْ تَنْفَتِحُ فِيْهَا مَكَامِنُ "الأُلُوْهِيَّةِ" وَمَا "الأُلُوهِيُّ" إِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئَاً مِنْهُ هُوَ ذَاكَ الَّذِيْ أَوْمَأْتُ لَهُ بالْتِبَاسٍ فِيْ هَلْوَسَاتُ شَخْصٍ على حافَّةِ جِنُوْنٍ مَا .. !– قصة قصيرة– كتابة :- "جَبَلٌ يَتَدَثَّرُ بالعُشْبِ هُنَاكَ فِي العَتْمَةِ السِّرِّيَّةِ، في الرُّوحِ، فِي الوَجْدِ، فِي البَعِيْدِ الحَقِيْقِيِّ، فِي رِبُوبِيَّةِ السِّكُونِ المَسَائيِِّ ... " ...
وإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ مَا تَنَاثَرَ دَعْوَةً شَخْصِيَّةً لِـ"هِيَ" أَنْ:-
خَشَّيْتِي فِيْ ضَبَابِي وانْذَهَلْتِ؟!
كَانْ رَحْمَانِكْ جَانِي
بَرْتَاحْ فِي وَثَن جَسَدِكْ .. مَا تَخَافِيْ ..!
إبراهيم جعفر
السَّبت 29 /11/ 1986م.
khalifa618@yahoo.co.uk