مُعضلة قطاع الشمال وتأثيراتها على العلاقات السودانية الجنوب سودانية
ديسمبر 2012م
مُعضلة قطاع الشمال وتأثيراتها على
العلاقات السودانية الجنوب سودانية
د. المعتصم احمد علي الأمين (*)
تمهيد:
تبحث هذه الورقة في مسألة قطاع الشمال بالحركة الشعبية لتحرير السودان، ودورها في تأزيم العلاقات بين السودان والسودان الجنوبي ، وتتساءل حول ماهية مطلوبات السودان الجنوبي من قطاع الشمال والعكس هل هو ارتباط عضوي بين الطرفين لا انفصام بينهما ؟ أم أن التوصل إلى حل في هذه القضية يمكن أن يسمح فى المدى البعيد في فك الارتباط بين الطرفين ، وهل حالة عدم الثقة بين البلدين ورغبة بعض الأطراف الجنوبية في استمرار مشروع السودان الجديد يلعب دوراً في عدم التوصل إلى حل واقعي في هذه القضية ؟ .
وتتناول الورقة أيضاً مساعي السلطة في الخرطوم لحل هذه القضية وجوانب القصور والنجاحات ، والتطورات المحتملة ، وخطط قطاع الشمال للتصدى لمحاولة الطرفين في بناء حلول يمكن أن تتجاوزه واتجاهاته المستقبلية .
ثم تنتهي الورقة بتقديم عدة توصيات للمساهمة في حل هذه القضية ، الشائكة التي أرقّت القارة الإفريقية ، وشككّت في قدرة أبنائها في حل قضاياهم المهمة دون تدخلات خارجية .
بعض مطلوبات دولة الجنوب من قطاع الشمال :
لعل أهم مطلوبات السودان الجنوبي من قطاع الشمال ، جعله حائط صد أمامياً ضد محاولات الخرطوم للتقدم نحو الجنوب ، أو الاتصال بمكونات الجنوب الداخلية سواء أكانوا من المليشيات المتعاونة مع الخرطوم في السابق، أو الكتلة الإسلامية في جنوب السودان ، أو سلاطين وزعماء الجنوب بالإضافة إلي الجماعات الجنوبية الأخرى التي تعاملت وتعايشت مع الشمال لسنوات طويلة، وأجبرت آخر المطاف إلى الانحياز للجنوب صونا لمكتسباتها ومصالحها الخاصة وأمنها الشخصي في ظل زُهدا سودانيا بائناً في قطاع واسع من أبناء الجنوب الذين طالما عاشوا في الشمال وانتسبوا إليه من دون أن تبدر منهم بادرة تعاون أو تعاطف مع الحركة الشعبية لتحرير السودان .
وبعض قادة الجنوب ربما يعتقدون أن ترحيل التوتر والحرب إلى السودان كفيل بإبعادها عنهم حيث سيكون ميدانها الأساسي الشمال وليس الجنوب مما يسمح لهم بترتيب أوضاعهم الأمنية والعسكرية في الفترة الحرجة بعد الاستقلال مباشرة.
كما أن الجنوب يعاني من صعوبات جمة لعل أهمها أن قبائله المختلفة تكاد لا تجمع على شيء مشترك مثل اللغة والتاريخ وتراث لحكومة منظمة بقدر إجماعها على قدرة السلاح في حسم خلافاتها ومصالحها المتعددة ، والسلاح منتشر بكثرة في الجنوب ، وهناك الآلاف ممن تدربوا على استعماله ، وأن حربا أهلية واسعة إذا دارت في السودان الجنوبي فمن الصعب السيطرة عليها وقد يترتب عليها ضحايا ُكثر ، كما أن هذه الحرب قد تتوسع أكثر في حالة تدخل الدولة السودانية وهى على دراية تامة بموازين القوى في السودان الجنوبي وقبائله المختلفة وقادته العسكريين ، لذلك أعُتبر قطاع الشمال في الحركة الشعبية حائط صد متقدم ضد الأطماع الشمالية في السودان الجنوبي في عرف كثير من القادة الجنوبيين، وخصوصا وأن هناك جماعات داخل السلطة في الخرطوم قد لاتكون راضية باستقلال الجنوب وترى أن الغرب استغل مشكلات السودان المختلفة مثل مشكلة دارفور وغيرها لكي يضغط عليه لمنح الجنوب حق تقرير المصير، وأن مستقبل السودان الزراعي والرعوي والنفطي جُله متركز في الجنوب، وأنه وبمجرد تغيّر السلطة في الشمال وخفوت الضغوط على الخرطوم وربما تعثّر حكومة الجنوب فإنها ربما تسعى لعودة الوحدة القسرية مرة أخرى وقد تجد تشجيعا إفريقيا وإقليميا لذلك من الافضل عدم التفريط في قطاع الشمال واعتباره رأس الحربة في إستنزاف الخرطوم .
كذلك يعرف القادة الجنوبيون أن هناك ملفات وقضايا كثيرة لاتزال عالقة بين الشمال والجنوب يصعب تجاوزها مثل مشكلة أبيي ومشكلة الحدود الطويلة بين البلدين ، وأن السلطة في الخرطوم لو تمسكت بحقوقها كما نص عليه بروتكول مشاكوس بحدود 1/1/1956م فإنها سوف تخرج مناطق كثيرة مدّعاة للجنوب وعلى رأسها أبيي لذلك ربما حاول البعض المساومة على قطاع الشمال في الحركة الشعبية من أجل تحقيق مكاسب جنوبية في هذه القضايا ، وأنه ومن دون ضغوط وحروب ساخنة حول الحدود ربما يفقد الجنوب هذه المناطق ، وذلك عندما يتدخل مجلس الأمن الدولي ومجلس السلم الإفريقي ويفرض على البلدين حلولا قد لا تكون في صالح دولة الجنوب بموجب إتفاقية مشاكوس بجعل الحدود الدولية هي خط 1/1/1956م .
لذلك فإن قطاع الشمال يقوم بالدور الأكبر في تسميم العلاقة بين البلدين، فلولاه فربما تمكن البلدان من حسم كثير من القضايا العالقة وذلك لانعدام التوتر الأمني على الحدود وانعدام تهديدات قطاع الشمال بنقل الحرب إلى الخرطوم ، وإصرار الدولة السودانية أو بعض من تياراتها على السير في طريق السلام بعد أن دفعت أكبر مستحقاته وهي فصل جنوب السودان فلا يصعب عليها دفع مستحقاته الأخرى في سبيل إقامة علاقة طيبة بين البلدين تبرهن على قدرة أبناء القارة الإفريقية في تجاوز خلافاتهم المزمنة .
كذلك ربما اعتبر قادة السودان الجنوبي قطاع الشمال ذا أهمية قصوى في تحقيق مميزات اقتصادية لا غنى للجنوب عنها وعلى رأسها البترول حيث يعلم هؤلاء أنه من الصعوبة بمكان الاستغناء عن المنشآت الاقتصادية النفطية في الشمال على الأقل في السنوات الخمس الأولى من عمر الاستقلال ، وأن اعتمادها عليه سوف يكون كليا ، وأن الشمال ربما يغالي في تقدير حجم مستحقاته من الجنوب في السماح بتصدير ثروته النفطية، وأنه ربما يصل مع الجنوب إلى إتفاقيات مرضية في حالة الضغط والتهديد عبر إثارة مختلف القضايا وعبر قطاع الشمال ، صحيح أنه على المستوى القريب قد يخلق توترات في العلاقة المشتركة إلا أنه على المستوى المتوسط والبعيد قد يعمل لصالح استدامة التعاون عبر إتفاقيات ملزمة كما حدث في إتفاقية أديس أبابا الأخيرة التي وقّع عليها في سبتمبر 2012م والتي أعطت الجنوب مميزات اقتصادية بائنة مثل إجازة الحريات الأربعة وتصدير النفط بسعر مُجز وفتح الحدود والمعابر بين البلدين لتحرير السلع المختلفة حتى دون أن يعترف الجنوب بأن له دورا في دعم الحركة الشعبية قطاع الشمال عسكريا في جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان بالإضافة إلى الجبهة الثورية التي تضم بعض الحركات المتمردة في دارفور(1) .
كما أن قطاع الشمال يفيد دولة الجنوب من خلال انتظامها النشط ضد الدولة السودانية وخصومها الآخرين سواء أكانوا اسرائيليين أو جماعات ضغط غربية وكنسية أو دول إفريقية مجاورة تسعى لإبقاء الضغط على النظام السوداني مهما قدم من تضحيات وتنازلات مثلما حدث عندما استقل السودان الجنوبي عبر ضغوط مكثفة ، وموافقته على مناقشة قضايا جنوب كردفان والنيل الازرق ومنطقة أبيي والميل 14 بالرغم من أنها تقع خارج حدود 1/1/1956م بحسبانها حدود رسمية بين البلدين بحسب بروتوكول مشاكوس في 2002م .
وبالتالي فإن المساهمة في التحالف ضد الدولة السودانية قد يعني الانتظام في حلف متين مع قوى ومنظمات دولية تحول دون انهيار دولة السودان الجنوبي اقتصاديا أو عسكريا من خلال المظلة الواسعة التي يحققها ذلك التحالف ، وإن الانكفاء على الذات والتخلي عن قطاع الشمال ومصالحة السودان قد تؤدي بهذه المنظمات وجماعات الضغط والدول صاحبة المصلحة للتخلي عن الدولة الجنوبية مما يفقدها مميزات كثيرة على الشمال ، وهذا ما لاتستطيع التفريط فيه خصوصا لو علمنا أن الإسرائيليين على سبيل المثال يعتبرون السودان مصدر خطر بالنسبة لهم ويمكن أن يلعب دورا كبيرا في مساندة الدولة المصرية بعد وصول الإسلاميين للحكم مما يؤدى آخر المطاف إلى قيام دولة إقليمية عظمى قد تضم مصر والسودان وليبيا ، ويصبح لها القدرة على مواجهة إسرائيل وربما القضاء عليها نهائيا ، وشواهد التعاون العسكري بين هذه البلدان متوافرة وموجودة حتى في التاريخ الحديث الذي سبق إتفاقية كامب ديفيد 1978م ، لذلك تعتبر الدولة العبرية قطاع الشمال ركناً مهماً في أمنها القومي والإستراتيجي ولاتستطيع أن تفرط فيه ، كما أنها( إسرائيل ) سوف تذّكر الجنوبيين بأياديها عليهم ويكفي أنها ساندتهم حتى وصلوا إلى مرحلة الاستقلال لذلك عليهم دفع استحقاقات من ساندوهم في السابق وعلى رأسها عدم السماح للسودان بالأمن والنماء حتى لايتمكن من بناء تحالف مع مصر يكون سببا في تهديدها آخر المطاف(2).
كما أن بعض قادة جنوب السودان ربما يكونون متخوفين من الأيدي الإسرائيلية الطويلة واغتيالهم في حالة تخليهم عن تحالفهم معها ، وبناء علاقات أكثر قربا مع السودان ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، ولعل جونسان سافيمبي خير مثال وذلك عندما تمكن الموساد الإسرائيلي من القضاء عليه والقضاء على حركته الإنفصالية في أنجولا ( يونيتا ) ، كما أن حادثة اغتيال الجنرال جورج أطور ما زالت غامضة وقد أشارت أياد إلى أن للموساد الإسرائيلي دورا في تصفيته لصالح الجنوب .
كما أنه ومن ناحية أخرى فإن دعم قطاع الشمال قد يوحي للجنوبيين من أنصار الدكتور جون قرنق أن مشروعه المتمثل في السودان الجديد مازال يعمل، ويمكن أن يحقق نجاحات حتى بعد أن انفصل جنوب السودان ، وذلك من خلال تقسيم المشروع إلى مرحلة أولى ومرحلة ثانية تنتهي باستيلاء قطاع الشمال على السلطة في الخرطوم ، ومن ثمة إعلان اتحاد السودانيين بأسس جديدة كما نادى بذلك جون قرنق تحت راية العلمانيين والمنحدرين من أصول إفريقية خاصة ، وأنه في حالة فشل قطاع الشمال الوصول إلى السلطة في أي مرحلة من مراحل التنفيذ فإنه سوف يجد الدولة الجنوبية المعترف بها دوليا حاضرة لاحتضان قياداته والبدء من جديد حتى تحقيق المشروع بدلا من أن يكون السودان قطرا متحداً وفي حالة فشل المشروع يمكن للسلطة أن توجه ضربة مميتة لقيادته وأنصاره دون حماية مؤكدة مثلما حدث للحزب الشيوعي بعد محاولته الانقلابية الفاشلة في 19يوليو 1971م.
ويمكن القول ايضاً إن احتضان قطاع الشمال في الحركة الشعبية يوفر للحركة تعاطف قطاعات في السودان وهي التي تعارض السلطة الحاكمة في الخرطوم ، ويمكن أن تستفيد من خبراتها المختلفة في تجميل وجه دولة جنوب السودان بالرغم من تأزم العلاقات والحرب بين البلدين ، ويمكن ومن خلال خبراتها وأموالها في الخارج أن تسهم في تطوير جنوب السودان بشرط أن ُتبرهن الحكومة الجنوبية على قدرتها على لجم الجنوبيين الأكثر عدائية للشمال بعمومياته من دون أن يفرقوا مابين مواطنين شماليين متعاطفين مع المعارضة أو مواطنين شماليين آخرين متعاطفين مع السلطة ولهم معها مصالح ، وفي حالة اتضح ذلك جليا يمكن للجنوب أن يستفيد من عشرات الألوف من الكوادر الشمالية المؤهلة للعمل في الجنوب بدلاً من الانتشار في قارات الأرض الستة بالإضافة إلى رؤوس الأموال السودانية والعربية الأخرى تحت رعاية قطاع الشمال التي ترغب في الاستثمار في الجنوب وترى أنه الأقرب إليها من كل الدول الأخرى والقادر على تحقيق آمالها في تغيير السلطة في الخرطوم وبناء سودان جديد على أسس علمانية جديدة !.
مساعي السلطة لحل الأزمة:
أتبعت السلطة السودانية عدة طرق للفصل بين قطاع الشمال في الحركة الشعبية وبين بقية مواطني السودان وخصوصا في المناطق التي تشهد نزاعا مسلحا في جنوب كردفان والنيل الأزرق .
ويمكن القول أن المعضلة الحقيقية للسلطة الحاكمة وجُدت في منطقة جنوب كردفان ، وذلك لوعورة تضاريسها وللأعداد الكبيرة نسبياً من المواطنين المنخرطين في أنشطة الحركة الشعبية لتحرير السودان ، أو من المتعاطفين مع طرحها الفكري والساعين إلى بناء سودان جديد بحسب أفكار العقيد الدكتور جون قرنق، وذلك علي عكس جنوب النيل الأزرق الذي تختفي فيه التأثيرات المسيحية والانقسام الثقافي وأنشطة الكنائس الغربية ، بالإضافة إلى التداخل الطبيعي والتواصل الاجتماعي والسياسي لمئات السنين بين هذه المناطق وبقية سكان السودان ، وقد كانوا في مرحلة من المراحل التاريخية يقودون الدولة السنارية (1505م- 1820م) ، وخرجت من بين ظهرانيهم كثير من القيادات التي سادت البلاد وخصوصا في الحقب المتأخرة من الدولة السنارية(3) لذلك لم يكن للبعض منهم حساسيات تاريخية مسبقة مع بقية مجتمع البلاد والتعايش معه والتأثير فيه والتعايش مع مكوناته المختلفة ، كما أن سهولة الحركة واستواء الأرض - إلا من هضاب محدودة - أسهم في الانفتاح الكبير بين جنوب النيل الأزرق وبقية أنحاء السودان ، كما ان الدولة المجاورة لهذا الإقليم وهي إثيوبيا سعت لاستقرار المنطقة في عهد الرئيس مليس زيناوي(مايو 1991- أغسطس 2012م ) بعد سنوات من عدم الاستقرار ، وتعرف نتائج دعمها للمتمردين في المنطقة ، حيث سيترتب عليه نتائج في علاقات البلدين قد لاتكون الدولة الإثيوبية مستعدة لدفع مستحقاتها كاملة في الوقت الذي تبحث فيه عن التنمية والاستقرار وفي العهد الذي تدخل فيه بنزاعات مع إريتريا والصومال وبعضا من مكوناتها الداخلية (4) . علي عكس دولة جنوب السودان التي لم يكتمل شكل الدولة فيها ، ولم تُبن مؤسسات الدولة المختلفة، وقد لايعنيها كثيراً إحصاء خسائرها المادية والبشرية جراء تجدد النزاع مع الشمال بسبب نقض الخبرة وتحول قياداتها من قادة في حروب عصابات إلى رجال دولة بين عشية وضحاها! وعلى العكس من ذلك ربما يؤدي ذلك إلى تقوية مكوناتها الداخلية وتوحيدها لمواجهة خطر الشمال الذي طالما خاض حروبا في جنوب السودان .
وقد عملت السلطة السودانية أولا وعبر عدة طرق للفصل بين أهداف ومطالب جنوب السودان وأهداف ومطالب جنوب كردفان حيث أتهم الإعلام الحكومي في أحيان عديدة أن السودان الجنوبي والحركة الشعبية لتحرير السودان يعملان على تحقيق أجندتهما الخاصة بعيدا عن أجندة ومصالح أبناء جنوب كردفان بالرغم من أن الأخيرين هم من قدم الفاتورة الأعظم في الحرب الاهلية الاخيرة التي بدأت في 1983م وانتهت مع إتفاقية السلام الشامل في 2005م ، ثم مالبثت أن تجددت مرة أخرى في 6 يونيو 2011م ، وأن دولة السودان الجنوبي نالت كل مطالبها الخاصة المتعلقة بالاستقلال وبناء دولة جديدة بينما ُتركت منطقة الجبال لمصيرها من دون أن تنال شيئا من الحكم الذاتي أو الاستقلال أو العمل على نمائها اقتصاديا وتمييزها إيجابيا حتى في الفترة الانتقالية التي كانت فيها الحركة شريك أساسي في الحكم ، ولعل الضغط الإعلامي الحكومي على هذه النقطة مع أسباب كثيرة أخرى دفع بقيادات الحركة الشعية لتحرير السودان(قطاع الشمال ) إلى أن يكونوا أكثر تصلبا في مطالبهم من قيادة دولة الجنوب الوليدة ، ودفع دولة الجنوب كذلك بأن تتعهد حتى في يوم إعلانها الاستقلال رسميا أنها لن تنسى أبناء جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور حتى بحضور قيادات الدولة السودانية (5) ! .
ثم ما لبث أن تطور هذا الموقف إلى أن وصل إلى مرحلة إغلاق أنبوب النفط في مارس 2012م بالرغم من مراهنة الكثيرين على استحالة ذلك بسبب إسهامه بأكثر من 98% من ميزانية دولة السودان الجنوبي ، إلا أن إغلاقه وإن أضّر بالاقتصاد الجنوبي إلا أنه أرسل إشارة قوية لأبناء جنوب كردفان والنيل الأرزق بأن دولة السودان الجنوبي لن تنساهما ولن تنسى قضيتهما حتى لو تضّررت ضررا بالغا في سبيل تحقيق مطالب هاتين المنطقتين ، وأن الأمر ليس كما يصوره البعض أن الجنوب نال استقلاله وتخلى بالتالي عن حلفائه التقليديين الذين طالما حملوا معه السلاح .
وعملت السلطة عبر أدبياتها المختلفة وبعضا من قيادات جنوب كردفان من المسلمين أمثال الفقيد مكي علي بلايل على اعتبار المواجهة في جنوب كردفان مواجهة جزئية بين الإسلام والمسيحية ، وأتوا بأدلة كثيرة للبرهان على ذلك لاتخلو من صحة مثل استهداف القيادات الدينية والطرق الصوفية وأئمة المساجد والخلاوي بالذات من قبل الحركة الشعبية حتى لو كانوا غير منضوين تحت لواء الحكومة(6) . وأن المسيحيين يحاولون التمدد شمالا مستغلين الأزمة في هذه المنطقة لاستمالة المواطنين في الأطراف والهامش والذين يسهل التأثير عليهم بسبب الحرب والفقر والجوع والشحن الإعلامي. وبما أن انتشار الإسلام في جنوب كردفان واسع وأن المسيحيين أقلية ضئيلة فإن التأكيد على هذا الاتجاه قد يؤدي إلى نتائج تسهم في انخراط المواطنين في الدفاع عن هويتهم الدينية والروحية والابتعاد عن تأثيرات الحركة ودعايتها المختلفة ، إلا أن بعض القيادات المسيحية في جبال النوبة وبذكاء شديد وربما بتصميم مسبق نأت بنفسها عن الحرب ، وذهبت أبعد من ذلك في الانخراط مع السلطة في الدعوة الى نبذ العنف والإتجاه نحو السلام ، ربما عرفت في قرارة نفسها أن تشجيعها الحرب في جنوب كردفان قد يعطي السلطة المبرر للتأكيد على مزاعمها بشأن الأنشطة المسيحية في تلك المناطق ! .
وعملت السلطة كذلك على إظهار وتلميع قيادات جنوب كردفان المختلفين مع الحركة الشعبية ، وكانوا من قبل من أبرز قياداتها العسكرية مثل اللواء تلفون كوكو الذي طالما حارب السلطة في الخرطوم وآمن بقضية جنوب كردفان وطرح الحركة الشعبية لتحرير السودان ، ووصل إلى رتبة رفيعة في جهازها الأمني والعسكري ، وعندما تحقق السلام تذّمر من ضآلة نصيب ومكاسب جنوب كردفان في الاتفاقية فزج به في سجون الحركة الشعبية لسنوات، وعلى الرغم من اختلاف اللواء تلفون كوكو مع السلطة في الخرطوم جذريا إلا أن هناك بعض الجهات القريبة من السلطة أخذت في الإلحاح على قضيته والإصرار على إطلاق سراحه واعتباره قائداً جماهيرياً مهما في جنوب كردفان.. لم يخرج على سلطان الحركة ألا غضباً لضآلة نصيب المنطقة في السلطة والثروة وشاهداً على خذلان الحركة الشعبية ، ومن ثم أخذت في النفخ في صورته حتى يبرز كزعامة مستقلة في المنطقة(7) بعيداً عن نفوذ الحركة الشعبية الذي يدور في ظل هيمنتها أفراد ُكثر من أبناء جنوب كردفان من أمثال عبدالعزيز الحلو وغيره بوصفهم الممثلين الحقيقيين والقادة الوحيدين لأبناء جنوب كردفان . وأصرّت السلطة كذلك على إبراز الوجه المستقل لأبناء جنوب كردفان من خلال الاتصال بالقيادات القديمة التي هاجرت خارج البلاد لعشرات السنوات من أمثال بشير فلين ومحمد أبوعنجة أبوراس وغيرهم.
وعملت السلطة أيضا من أجل كسب معركتها في جنوب كردفان على وجه الخصوص على تصعيد أبناء تلك المنطقة إلى مناصب رفيعة في الدولة ومجلس وزرائها وفي السلك العسكري والشرطي وفي مختلف المناصب المميزة ( ومما لاشك فيه هم أهلٌ لذلك ) ولكن كانت حركة التعيينات سريعة جدا للدرجة التي أصبحوا فيها ممن يهيمنون ويستحوذون على نصيب لافت من أنصبة السلطة المركزية بالمقارنة مع أعدادهم وبالمقارنة مع بقية سكان السودان الآخرين ، ولعل الغرض من ذلك إشعارهم بأن الدولة منحازة لهم وأنها متعاطفة مع قضاياهم الحقيقية، وأنها تسعى لرفع التهميش التاريخي عنهم( حتى لو تساوا في التهميش مع كثير من مناطق السودان البعيدة عن المركز ولكنها لا تحمل السلاح)، وأن الحركة الشعبية لا هم لها إلا استغلال قضاياهم المختلفة وتحقيق مكاسب من وراء تضحياتهم ودمائهم التي سالت غزيرة في ثرى جنوب السودان . وبالرغم من جدوي هذه الإستراتيجية ربما على المستوي القريب والمتوسط إلا أنها قد لاتكون ناجحة لأنها تثير أطماع آخرين من أبناء نفس المنطقة أو مناطق السودان الأخري في حصولهم علي نفس مميزات ومناصب أبناء قبائل جنوب كردفان مما يؤدي إلي نتائج عكسية لأن أبناء جنوب كردفان متنوعون في نواح كثيرة على مستوى اللغة والقبيلة والحظ من التعليم والقرب من المراكز الحضارية وسهولة الاتصال مع الآخرين ، مما يعمل على تشظي المنطقة بأكثر من سابقتها بسبب التنافس في تحصيل السلطة والرتب الرفيعة في سلك الجندية والوظيفة العامة ، ولقد جربّت السلطة من قبل ذلك عبر إشراك الجنوبيين وخصّصت لهم على مدار عشرات الحكومات التي مرت على البلاد مناصب رفيعة إلا أن ذلك لم يُجد نفعا ، واتضح بعد الاستقلال أن كثيراً من هذه القيادات كان على صلة خاصة بالحركة الشعبية بحيث سرعان ما انخرطوا في مؤسساتها السلطوية عقب الاستقلال مباشرة من أمثال أقنس لوكودو وألسون منايا مقايا وغيرهم.
ثم عملت السلطة منذ وقت مبكرعلى الاهتمام اقتصاديا بمنطقة جنوب كردفان وعملت على تنمييتها بشتى السبل المتاحة كي تبرهن على تعاملها مع مختلف رعاياها بمساواة وعلى الرغم من الحروب التي اندلعت في تلك الأجزاء فإن مشاريع الأعمار لم تتوقف فقد كان من الممكن السفر إلى مدينة الدلنج على سبيل المثال بطريق معبد وممهد ولا تستطيع أن تصل إلى مروي أو دنقلا أو الفاشر بنفس التسهيلات بالرغم من اشتداد أوار الحرب لسنوات طويلة في تلك المنطقة .. ومميزات الاستقرار السياسي والأمني الذي يسود في الولايات الشمالية ، كما أن السلطة لم تثن مناطق جنوب كردفان من قيام جامعة إسوة بالولايات الأخرى رغم الاضطراب السياسي والأمنى .
وقد دفعت جهود التنمية الاقتصادية في تلك المنطقة بالحركة الشعبية إلى استهداف مشاريع التنمية على وجه الخصوص وتدميرها كي لا تسحب الحكومة البساط من تحت أرجلها عبر إقناعها للمواطنين بأنها تسعى حثيثا إلى تنمية القدرات الاقتصادية لهذه المناطق بالرغم من أدعاءات التهميش التى ظلّت ترفعها الحركة الشعبية ، وكانت آخر المشاريع المستهدفة طريق العباسية تقلي الذي تم فيه قتل العشرات من المهندسين والعمال وتدمير آليات المشروع وأسر العمالة الصينية! ومن ثم إطلاق سراحها في جوبا عاصمة الدولة الوليدة بعد مفاوضات مباشرة بين الصين ودولة جنــوب السودان (8) !.
ملامح الاتجاهات المستقبلية لقطاع الشمال :
مع تجدد الحرب في جنوب كردفان في 6/6/2011م قبيل الإعلان الرسمي لاستقلال دولة جنوب السودان في 9/7/2011م دخلت المنطقة مرة أخرى في أتون الحرب ثم ما لبثت أن توسعت مع شمولها ولاية النيل الازرق وما صاحب ذلك من تسلسل جماعات عديدة من متمردي دارفور إلى الدولة الوليدة وإعلان الجبهة الثورية المتحدة لإسقاط النظام عبر الحرب المسلحة .
ربما هدفت بعض الاتجاهات داخل منظومة الجبهة الثورية إلى محاكاة النموذج الليبي وإسقاط النظام عبر الانطلاق من مناطق جنوب كردفان والوصول إلى العاصمة المثلثة عبر دعم دولي يحاكي الدعم الذي وجده الثوار الليبيون الذين نجحوا أخيرا في إسقاط نظام العقيد القذافي في 20/10/2011م بعد حرب بدأت من بنغازي في 17/2/2011م وانتهت بمقتل العقيد القذافي . لذلك ربما اعتقد الغرب أن قطاعات مؤثرة من الشعب السوداني وبعض الدول العربية والإفريقية المجاورة قد ترضي بهذه الترتيبات بمثلما رضيت وشاركت في الإطاحة بالعقيد القذافي .
بيد أن وجه الاختلاف الأساسي يتمثل في أن الجماعات المتمردة التي أرادت الإطاحة بالحكومة السودانية لم تكن جزءا من النسيج السياسي المسالم الذي ُيشكل غالبية الإرادة الشعبية السودانية .. لأن بعضها جماعات ذات طابع إثني واضح ظلت لسنوات طويلة تشارك في حروب جنوب السودان وتتضامن مع الحركة الشعبية إلى أن نال السودان الجنوبي استقلاله ، وبالتالي ربما نظرت أغلبية الشارع السوداني إلى هذه الحركات باعتبارها جزءا خاضعا لدولة مجاورة معادية أكثر من كونها جماعات مطلبية محلية تسعى إلى تحقيق مصالح أغلبية المواطنين ، بعكس الحالة الليبية التي كانت جزءا أصيلا من تيار عريض ينادي بإسقاط النظام الليبي مع الاختلاف الكبير في توجه النظامين وأيدلوجيتهما الحاكمة.
لذلك من الصعوبة بمكان تكرار السيناريو الليبي في الدولة السودانية وبالرغم من ذلك تجددّت الحرب وكما هو متوقع لم تشهد توسعا وتطورا بحيث تهدد المراكز الثانوية فضلاً عن الحواضر الكبرى في الدولة السودانية وظلت محصورة في الأطراف الجنوبية من الدولة وبعيدة حتى عن جوارها الجغرافي إلا من هجمات صاروخية متفرقة كما في كادوقلي وتلودي ، وبالتالي فإن استمرار هذه الحرب قد يؤدي إلى استنزاف الدولة ولكنه يؤدي إلى نتائج وخيمة على سكان هذه المناطق على وجه التحديد ، ولعل أبرز تأثيراتها المنظورة وقف التنمية الاقتصادية وتدمير البنى التحتية الهشة وفشل الزراعة والتعليم والصحة وتأثر المواطنين بالحرب المباشرة مثل الألغام والقصف وغيرها، وهؤلاء المواطنون ظلوا متأثرين أصلا بحرب جنوب السودان ربما لأكثر من ثلاثين عاما سابقة وقد لايكون في قدرتهم التحلي بالصبر بأكثر من ذلك مما سوف يساهم على المدى القريب والمتوسط على إخلاء هذه المناطق ونزوح المواطنين الذين ظلّت جذورهم تمتد عميقا في هذه التربة ربما لآلاف السنين ، وهذا ما لا يمكن أن يتحملّه الرأي العام والمحلي والذين ظلوا يستثمرون في هؤلاء الناس ، وبالتالي ربما يندفع هؤلاء القادة إلى التفكير مجددا في التغيير ولكن بطرق جديدة لايكون فيها الضرر على مناطق واحدة تُحمل اثمان الحرب بينما تنمو المناطق الأخرى ، وبالتالي ربما يكون البديل التفكير في الوصول إلى السلطة عبر العمل العسكري المسلح داخل العاصمة القومية وإقامة مشروع السودان الجديد الذي لم يمت في تفكير كثير من هؤلاء القادة ومن يقف من خلفهم. بيد أن الوصول إلى السلطة عبر هذا الطريق قد تكون له خسائره الكبيرة في حالة الفشل ، وربما لايمكن لهم مرة أخرى النهوض بفعل قمع السلطة الرهيب في حالة فشل المحاولة وخصوصا لو ثبت أنها محاولة إثنية مغلقة ، لأن جميع محاولات تغيير السلطة في السابق كانت تحاول أن تبدو قومية تضم بين حناياها جميع إتجاهات وعرقيات الشعب حتى لو لم تكن مشاركة بالحقيقية في التغير!.
ربما كانت هناك محاولات سابقة للوصول إلى السلطة عبر هذا الطريق أيام التحالف مع الجنوبيين بقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان وقائدها الدكتور جون قرنق ، وكانت هناك عوامل مشجعة على نجاحها لعل من أبرزها الحزام العريض حول العاصمة القومية من المنحدرين من جنوب السودان ومن المناطق الأخرى حول جنوب السودان ، كما أن الحكومة السودانية كانت في حالة خلاف في كثير من المراحل مع المجتمع الدولي والدول العربية والإفريقية المجاورة مما سيسهل علي الحركة الشعبية تنفيذ مخططها دون تدخل عربي أو إفريقي مجاور .
إلا أن توقف المحاولة في هذا الاتجاه فيما يبدو كانت من خلفه جهات علمية واستخباراتية دولية كانت تعلم أن فرص نجاح السيطرة على العاصمة الخرطوم من قبل الحركة الشعبية لتحرير السودان كبيرة ، ويمكن أن ينجح مخططها وبنسبة عالية من الأمان ولكن لوقت محدود نسبة لرفض توجهها الإثني والديني من قبل الأغلبية مما يؤدي إلى قيام حركة مقاومة مسلحة سوف تنجح بفعل تفوق اعدادها البشرية وعمق تجربتها السلطوية في القضاء على حكم الحركة الشعبية ، وربما تؤدي إلى استئصال المنحدرين من الجنوب وطردهم من الشمال نهائيا ، ومن ثم حدوث فجوة من عدم الثقة بين الطرفين ربما تستمر لعشرات السنين ، لذلك كان الخيار المفضل أن يتم التغيير بواسطة الإقناع والدعاية والإعلام والاستنزاف الاقتصادي وتركّز الحرب في الجنوب وعلى الأطراف أولا أو فصل جنوب السودان ومساعدة الأطراف الأخرى التي يطلق عليها المهمشة للوصول إلى السلطة . إلا أن انفصال جنوب السودان عاجلاً ، وحدوث ثورات الربيع العربية وخسارة حلفاء مؤثرين كانوا يعملون كما تدلل كثير من الشواهد على استهداف الحكومة السودانية مثل العقيد معمر القذافي والرئيس محمد حسني مبارك ، وتململ حكومة دولة جنوب السودان من عبء مساندتها للحركات المسلحة نتيجة للضغوط الاقتصادية التي تتعرض لها جراء وقف ضخ النفط بإرادتها نحو موانىء التصدير الشمالية ، وسقوط اليمين المتشدد والمحافظين الجدد لدورتين متتاليتين في الولايات المتحدة الأمريكية مع وصول الرئيس باراك أوباما لدورة أخرى فتّ من عضُد وتصميم هذه الحركات للوصول إلي السلطة عبر الزحف الثوري ولم يبق أمامها خيارات كثيرة إلا التحالف الوثيق مع حركات دارفور المسلحة ومحاولة إسقاط النظام من الرأس أي من العاصمة الخرطوم .
والذي ربما يزيد من تصميم الحركة الشعبية قطاع الشمال للوصول إلى السلطة عبر القوة في العاصمة الخرطوم خوفها من جمود الأوضاع على ماهي عليه لوقت طويل قد يُضفي عوامل مُثبطة جديدة مثل استغلال موارد اقتصادية جديدة مثل الذهب الذي بدأت ثمراته تترى وأسهم في التخفيف من أثر توقف ضخ جنوب السودان (9) ، كما أن وزارة النفط تعمل بصمت وتسعى إلى إدخال حقول أخرى إلى منظومة الإنتاج النفطية ويساعدها في ذلك نجاحات تاريخية سابقة ، وفي حالة حدوث ذلك قد لا تكون الحكومة السودانية راغبة في تصدير نفط الجنوب ويمكن أن تستغني عن ذلك نهائيا إلا في حالة رغبتها في تصديره للسيطرة على القرار السياسي الجنوبي. أضف إلى ذلك أن نجاح الحكومة السودانية أخيرا في تعلية خزان الرصيرص في أكتوبر 2012م قد يؤدي إلى استقرار اقتصادي محسوس عبر زيادة المنتج من الطاقة الكهربائية وإضافة اراضي زراعية حول البحيرة والبدء في تشغيل ترعتي كنانة والرهد التي تنطلق من ولاية النيل الازرق و تصل حتي بالقرب من سنار مما يسهم في حدوث طفرة زراعية في أراضٍ لم تكن تعرف الري الدائم بقدر اعتمادها على موسم واحد في العام وهو موسم الأمطار حيث تعاني كل هذه المناطق من عطش وجفاف شديدين حتى العام القادم ، إلا أن دخول الترعتين سوف يغّير نمط الإنتاج بخطوات نحو الأمام .
وبالتالي لم يعد أمام قطاع الشمال سوى وقت محدود للمحاولة وتغيير النظام ويمكن أن تساعده عوامل أخرى في مساعيه مثل الاختلافات العميقة والانشقاقات في النظام الحاكم وخصوصاً وأن كثيراً من الإرهاصات تشير إلى ذلك، ولعل إعلان السلطات عن اكتشافها لمخطط تخريبي في 26/11/2012م وتوجيه الاتهام لقيادات أمنية وعسكرية رفيعة في نظام الإنقاذ مثل الفريق صلاح عبدالله وغيره يمكن أن تغري قطاع الشمال بالتحرك .
ويمكن أن تجد الحركة الشعبية لتحرير السودان - قطاع الشمال- مؤازرة أكبر في مساعيها لتغيير النظام من إسرائيل وذلك لتلاقي رغبة الطرفين في تغيير النظام بشكل جذري فمما لاشك فيه أن إسرائيل قد تفاجأت من قدرات حركة حماس الصاروخية أبان المواجهة الأخيرة وحصولها على صواريخ متوسطة المدى مثل فجر 5 التي وصلت تل أبيب لأول مرة مما أسقط في يدها وأجبرها علي قبول التهدئة مؤقتا في 24/11/2012 وذلك ربما لحين من التأكد من قدرات حماس الصاروخية ومصادرها المختلفة للحصول على ذلك السلاح المتطور وقدرتها التصنيعية ومخزوناتها من المواد المتفجرة التي هددّت عاصمتها تل أبيب ، وإسرائيل لاتخفي اتهاماتها من أن مصدر هذه الصواريخ إيران وأنها وصلت إلى غزة عبر السودان او تمت إعادة تركيبها وتجميعها بالسودان (10)، لذلك عملت على قصف مصنع اليرموك للسلاح في نوفمبر 2012م وذلك قبل المواجهات الأخيرة مع حماس ، ومع حدوث المواجهات وتأكدها من حصول حماس على مثل هذه الصواريخ فإنها قد لاتكتفي فقط بقصف المنشآت العسكرية السودانية وطرق ومسالك توصيلها ولكنها قد تتجه في محاولاتها إلى تنصيب نظام جديد موالٍ في الخرطوم أو محايد تجاهها ، وتعتبر ذلك من أولويات أمنها القومي، ومما لاشك فيه أنها سوف تجد في الحركة الشعبية لتحرير السودان- قطاع الشمال- وحركات دارفور المسلحة الأداة المثلى لتحقيق أغراضها.
صحيح أن إسرائيل فشلت في تغيير سياسات أو حكومات كثيرة في المنطقة ولعل أكبر فشل لها سيطرة حكومة حماس علي قطاع غزة المجاور لها إلا أن إسرائيل تمتلك من ناحية أخرى قوى اكاديمية وعلمية وعسكرية وخبرات في مجال دعم حركات التمرد وقدرات فنية للوصول إلى أهدافها بطرق مختلفة قد لا تخطر على البال في ظل مجتمع متصارع ، كما أن المال والتحالف الوثيق مع الدول الكبرى لايعوزها بالإضافة إلى السيطرة على الرأي العام الغربي والأمريكي على وجه التحديد .
كل هذه العوامل مجتمعة قد تعجّل وتدفع بالحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال – إلى محاولة تغيير النظام من العاصمة القومية ولن تكون وحدها في هذا المخطط حيث سيكون من مناصريها بعضاً من القطاعات التي تأثرت بحكم المؤتمر الوطني الذي استمر في الحكم دون تداول لأكثر من عشرين عاما وفيهم من لايتورع علانية من تشجيع قصف المنشآت السودانية وتحديد أهداف أخرى محتمة !.
مقترحات في سبيل حل قضايا الصراع
مما لاشك فيه أن الحرب في كل من جنوب كردفان والنيل الأزرق من أكبر القضايا التي سوف تؤرق السودان في السنوات القادمة وذلك لارتباطها الوثيق بقضية انفصال جنوب السودان ، لذلك يتعجل البعض في حل هذه المشكلات عبر الحلول السريعة مثل الحسم العسكري أو التوصل إلى اتفاقيات خطيرة تزيد من حدة المشكلة بدلا من أن تحلها على المدى الطويل .
لذلك يجب أن يتأسى السودانيون إيجابياً بالإدارة البريطانية في تخطيطها وصبرها الطويل حتى تمكنت من نسج كل تلك المكائد من أجل تعويق نهوضه المستقبلي ومن ثم السيطرة عليه لعشرات السنين حتى بعد أن نال الاستقلال التام.
ولعل أوضح مثال على ذلك قانون المناطق المقفولة الذي بدأ العمل به منذ العام 1922م وحتى مؤتمر جوبا في 1947م ومنح أمر التعليم للمؤسسات الكنسية حتى عهد حكومة الفريق إبراهيم عبود 1958- 1964م ، في كل تلك المدة الطويلة استطاعت الإدارة البريطانية أن تصنع مشكلة التنافس العرقي والديني في السودان والتي لم تنته حتي بعد أن نال الجنوب استقلاله في يوليو 2011م ، الاختلاف الوحيد بين التجربتين هو أن بريطانيا خططّت لتعطيل التواصل الطبيعي بينما على السودانيين أن يخططوا لإعادة التواصل بين أطراف السودان وولاياته المختلفة وحتى السودان الجنوبي ووسط إفريقيا .
لذلك يجب أن يأتي العمل متأنيا ومدروسا ومبنياً على خطط طويلة الأمد حتى ُيكلل بالنجاح بدلا من محاولات الحل المتسرعة التي تضر أكثر مما تنفع ، وأول خطوات الحل تكون بتفهم العلاقة الوثيقة بين الحركة الشعبية في كلا البلدين حيث من الصعوبة بمكان فصمها في بداية أمرها حتى لو أدى ذلك إلى خسارة استقلال السودان الجنوبي نفسه ! ، وذلك لخوف الحركة الشعبية ودولتها الجديدة من العدو التقليدي الذي طالما دخلت معه في حروب ممتدة حتى نالت استقلالها أخيرا ، لذلك من الصعوبة بمكان أن تفرط في حليف استراتيجي مثل الحركة الشعبية لتحرير السودان قطاع الشمال ، وحلفاء إثنيين ودينيين في الشمال في سبيل إقامة علاقة مشكوك في طبيعتها مع الدولة السودانية التي قد لا تثق فيها أصلا وعلى وجه الخصوص نظامها الحاكم وأحزابها السياسية التقليدية لميراث الحرب الطويلة لذلك يجب أن يكون مثل هذا الأمر مفهوما للمخططين السودانيين وألا ّيطلبوا بأكثر مما لايستطيع الطرف الآخر أن يقدمه لهم .
لذلك على السلطات السودانية أن تتفهم ارتباط الطرفين في هذه المرحلة بالذات والعمل على حله ولكن عبر سياسات النفس الطويل عن طريق بناء الثقة مع السودان الجنوبي أولا ، والسماح لحرية الحركة والتنظيم السياسي للحركة الشعبية قطاع الشمال، وإشراكها في السلطة والثروة لفترة تجريبية ، ويمكن أن يكون اتفاق مالك عقار رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان قطاع الشمال مع السيد نافع علي نافع في يونيو 2011م بداية اللبنة الأولى في بناء علاقة تجريبية ، حيث سيسمح هذا الاتفاق للسودان الجنوبي بتفكيك ارتباطاته مع قطاع الشمال من دون أن يلام بأنه تخلى عن حليف استراتيجي طالما ساعد الجنوبيين حتى نالوا استقلالهم ومن ثم تنكروا له ، لأن مثل هذا الإهمال والنكران قد لا يستطيع سياسي جنوبي أن يتبناه لأنه سيكون قد عزل نفسه تماما عن قواعده الجماهيرية في الجنوب في ظل تنافس قبلي وعسكري محموم وفي ظل حالة عدم استقرار للدولة الجنوبية الوليدة .
أما الخطوة الثانية فتتمثل في ضرورة تفهم أن بعض مواطني جنوب كردفان والنيل الأزرق ينظرون إلى بعض قادة التمرد باعتبارهم أبطالاً قبليين لهم وأنهم جزءاً من الكبرياء العرقي الذي يجب مساندته مهما كانت أخطاؤه ، وأن القضاء عليه عسكريا قد يعني القضاء على كبريائهم الخاص لذلك لن يسمح بمثل ذلك الأمر حتي لو أدى ذلك إلى فنائه وهذه من بعض طبيعة الحروب الإثنية التي يصعب تجاوزها ، وذلك بسبب الأخطاء الاجتماعية والسياسية العديدة التي صاحبت بناء السودان الحديث وقانون المناطق المقفولة وتعمد الإدارة البريطانية وضع بعض أبناء تلك المناطق في أعمال قد تحط من شأنهم ، لذلك فإن مسألة الحسم العسكري لاتعد مجدية مع هؤلاء ، وإن السلام المؤقت لحين تصحيح الصور الذهنية الشائهة يمكن أن يُعيد بناء اللحُمة الوطنية والاجتماعية مرة أخرى وخصوصا وأن التعليم الحديث والترقيات الطبيعية في سلالم الخدمة العامة وإعلاء قيم الدين جعلت العديدين يؤمنون بأن التغيير الإيجابي في طريقه الصحيح.
أما الخطوة الثالثة فتتمثل في إبعاد التدخلات الإقليمية والدولية عن ملف قطاع الشمال وذلك لأن بعض الدوائر المغلقة في الغرب تسعى لإعادة إنتاج الأزمة في السودان من خلال إثارة الحرب في تلك المناطق وذلك لتعويق البلاد ومنعها من النهوض والتقدم كي لا تصبح أداة مساندة للدول العربية والإسلامية الأخرى ومن ثم تُضرر مصالحها في المنطقة وتهديد حليفتها الإستراتيجية إسرائيل، كما ان التدخل الخارجي في أزمة جنوب السودان أدى إلى الإنفصال مع عوامل كثيرة أخرى لذلك يجب أن تحرص السلطات على إبعاد الأخرين عن قضية قطاع الشمال مع بذل المرونة الكافية للوصول إلى سلام ولو مؤقتاً مع الطرف الآخر.
والخطوة الرابعة تتمثل في عدم إهمال العامل العسكري لحسم الخلاف بين الطرفين بحيث يجب أن يكون واضحا للعيان أن القوة الثقيلة يمكن أن تلعب دورا مؤثرا في الوصول إلى تسوية بالنسبة للخلافات العالقة بين الطرفين .
وتكمن أهمية هذا العامل في أنه يجعل الطرف الآخر لايذهب بعيدا في أحلامه وتخطيطه لدرجة التفكير في قلب المعادلة الحاكمة من رأسها ووصوله لمرحلة القوى المطلقة في طول البلاد وعرضها حيث إن مثل هذه المطامع قد تغري بالصمود لعل وعسى الطرف الآخر يستسلم وينهار ، وبالتالي يصبح الطريق أمامه متاحا حتي وصوله إلى أهدافه النهائية والوصول إلى حلم تحقيق السودان الجديد .
توصيات البحث :
1- أن قضية ارتباط قطاع الشمال بالحركة الشعبية لتحرير السودان لايمكن حسمها بالحلول الأمنية وحدها .
2- على جهات الاختصاص المختلفة وضع خطة إستراتيجية بعيدة المدى للتعامل مع قطاع الشمال والحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق.
3- أن تحسين العلاقات مع السودان الجنوبي لايمكن أن يتحقق في الوقت الراهن إلا بالتفاهم والتسوية مع قطاع الشمال لميراث الحرب الطويلة بين البلدين .
4- يلعب العامل العرقي دورا أساسيا في تأجيج الصراع وهو عامل يكاد يكون مغيباً عن التداول في القضية .
5- ضرورة الوصول إلى تفاهمات محلية مع قطاع الشمال قبل تدخل العامل الدولي الذي اثبت على الدوام أنه قد يعقّد القضايا بدلاً من أن يحلها .
6- التنمية والتمييز الإيجابي عوامل مهمة في سبيل تحقيق سلام مستدام في مناطق الصراعات والحروب الأهلية .
7- ضرورة تفعيل دور الطرق الصوفية في بناء علاقة اجتماعية جديدة في البلاد حيث اثبت أن الطرق الصوفية من الجهات القليلة التي استطاعت اختراق القبلية .
8- ليس من الضروري بناء سودان متجانس في أفكاره السياسية واتجاهاته المختلفة لأن من شأن ذلك أن يضعف البلاد - لأن وجود طرف مختلف في الساحة السياسية يساعد في تقوية النظام الذي ترتضيه الأغلبية .
9- ضرورة معرفة أن مناطق التماس التي تجري فيها الحرب يمكن أن تكون في حالة السلام منطلق اشعاع حضاري وروحي يصل برسائله الأطراف القصوى في السودان الجنوبي وبقية أنحاء القارة الإفريقية .
مصادر الدراسة :
1- بروفيسور/ حسن سيد سليمان ، أثر إتفاقية السلام الشامل علي العلاقات بين دولتي السودان وجنوب السودان ، ورقة منشورة أعدت لمؤتمر السودان الواقع وآفاق المستقبل ، جامعة إفريقيا العالمية ، كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية والسياسية، (الجزء الأول) ، مطبعة دار جامعة إفريقيا العالمية للنشر،الخرطوم 25-26 سبتمبر 2010م ، ص ص 257-344.
2- ياسر عبدالقادر ، التغلغل الصهيوني في إفريقيا - إشارة للعلاقات الصهيونية الإثيوبية ، إصدار مركز البحوث والدراسات الإفريقية ، جامعة إفريقيا العالمية ، الخرطوم 1998م ، ص 77.
3- جاي سبولدنق ، عصر البطولة في سنار ، تعريب أحمد المعتصم الشيخ، إصدار هيئة الخرطوم للصحافة والنشر ، الخرطوم 2011م، ص 201.
4- د. عبدالوهاب الطيب البشير ، الأقليات العرقية والدينية ودورها في التعايش القومي في إثيوبيا من الإمبراطورية إلي الفيدرالية 1930- 2007م ، إصدار مركز البحوث والدراسات الإفريقية ، جامعة إفريقيا العالمية ، الخرطوم 2009، ص 178.
5- صحيفة الصحافة السودانية ، الصفحة الأولي ، العدد 6459، 10 يوليو 2011م .
6- مكي علي بلايل، إغتيال الشهيد بلندية وصحبه - دلالات الرسالة وواجبات المعنين بها (2-2) صفحة الرأي. صحيفة المجهر السياسي ، 28/7/2012م .
7- تلفون كوكو .. اعتقال لأجل غير مسمي ، تقرير أخباري ، صحيفة السوداني 10/10/212.
8- وقيع الله حمودة شطة ، محلية العباسية تقلي .. أزمة الإدارة وانهيار الأمن!! صفحة الرأي، صحيفة الإنتباهة 7 يوليو 2010م.
9- د. عبدالعزيز مرحوم ، الإقتصاد السوداني بين معالجة تداعيات الإنفصال وتطلعات التكامل ،ورقة منشورة أعدت لمؤتمر السودان الواقع وآفاق المستقبل ، مصدر سابق، ص ص 345-380.
10- نظير مجلي ، مسؤول إسرائيلي السودان دولة إرهابية ، صحيفة الشرق الاوسط اللندنية ، العدد 12386 ، 26/10/2012م .
Matasm al-ameen [matasm.alameen@gmail.com]