مُناقشة هادئة ل “حوار فوق العادة”
boulkea@yahoo.com
حاور الإذاعي المُخضرم الأستاذ على شمو على شاشة التلفزيون الإسبوع الماضي النائب الأول لرئيس الجمهورية الأستاذ على عثمان محمد طه في لقاء إتخذ صفة "حوار فوق العادة". وقد تناول اللقاء العديد من المحاور السياسية والإقتصادية, وكان أبرز ما قال بهِ السيِّد النائب هو أنَّ الحكومة ليس لديها أية حساسيِّة تجاه الرأي الآخر المُخالف, وأنَّ حُرية التعبير مُتاحة للجميع. ومن هذا المُنطلق يجىء تناولنا للحوار ومُناقشتنا للعديد من القضايا التي تطرَّق لها.
بادر السيِّد النائب بتهنئة الشعب السوداني بذكرى الإستقلال وقال : ( هذه الذكرى الحبيبة لنفوس كل السودانيين, والتي تختلط فيها مشاعر إستحضار الماضي بالحاضر واستشراف المستقبل. نحن نضم صوتنا لملايين السودانيين الذين يلهجون بالدعاء والثناء لآباء الإستقلال وللمجاهدين الأوائل من الوطنيين الذين ناضلوا في سبيل تحقيق هذا الحُلم وأن يكون السودان بلداً عزيزاً مستقلاً ذا سيادة ). إنتهى
حديث السيِّد النائب هذا يُمثل نقلة كبيرة في خطاب – وإن لم تتبعهُ ذات النقلة في ممارسة - أهل تيار الإسلام السياسي في نسختهِ الإخوانيَّة السودانيَّة, ذلك أنهُ يعترفُ بأنَّ التاريخ ليس صفحة "بيضاء" تبدأ فيها الكتابة فقط عند وصول أهل هذا التيار للسُّلطة, بل التاريخُ بناءٌ و تراكم, فقد جاءَ على الإنقاذِ حينٌ من الدهر زعمت فيهِ أنَّ إستقلال السُّودان لم يتمّْ إلا في العام 1991 ( عام إنفاذ القانون الجنائي الذي تضمَّن تطبيق الحدود ). حينها سَرَتْ في أوساطِ الناس طرفة تقول : "رحم الله الأزهري الذي مات قبل أن يشهد الإستقلال".
قال السيِّد النائب أنَّ إنعكاسات مشروع تعلية خزان الرصيرص الذي يقف كرمز للتنمية على المشروع السياسي تتمثل في أنَّ "عائد التنمية لا بُدَّ أن يكون لكل أهل السودان". وهذا حديث لا تقفُ عليه شواهد الممارسة طوال العقدين الماضيين من حُكم الإنقاذ. فمن ناحية تمَّ تركيز المشروعات والخدمات في "الخرطوم" بطريقة جعلت الناس يهجُرون الولايات و الأقاليم والأرياف ويتزاحمون بالملايين في العاصمة ( ثلث سكان السودان موجودون بالعاصمة ), مُضافاً إليهم مئات الآلاف من الذين هجروا الوطن, والآخرين الذين في طريقهم لمغادرتهِ. ومن ناحية ثانية إحتكر عائد الموارد التي توفرَّت "البترول" فئة محدودة من الموالين للإنقاذ ومنسوبي حزبها والمنتفعين منها.
لا يكفي – يا أستاذ علي – أن تستشهد ب "التوزيع الجغرافي" لبعض المشروعات على عدالة توزيع عائدات التنمية في البلد طالما أنَّ "السياسات" الإقتصاديَّة تنحازُ لفئاتٍ سياسية و إجتماعية محدودة, وتهملُ مصالح غالبيَّة السكان, وليس أدلَّ على ذلك من تحطيم أكبر مشروع زراعي مروي في السودان "مشروع الجزيرة" الذي كان يقفُ كرمز للإنتاج و للتنمية الحقيقية التي تعود على جميع أهل السُّودان.
قال السيِّد النائب الأول إنَّ الحُريَّة متوفرة في السودان, وأنهم كحكومة ينطلقون من فكرٍ يسمحُ بالحُريَّة حتى في مستوى إختيار العقيدة. هذا القول كذلك لا تدلُّ عليهِ أية شواهد, ليس فقط في مجال الحُريَّات السياسية, بل في مجال حُريَّة الصحافة والإعلام.
أحد شواهد التضييق الشديد على حُريَّة الصحافة يتمثل في الإغلاق المُتكرِّر للصُحف, ليس بسبب أنها تهدِّد "الأمن القومي" كما تدَّعي الأجهزة الأمنيَّة, ولكن في كثير من الأحيان بسبب "إستهداف" شخصي من قبل مُتنفذين حكوميين وأمنيين. الإغلاق لا يخضعُ لمعايير قانونيَّة أو مهنيَّة, والأخطر من ذلك أنَّ الجهة التي من المُفترض أن يكون لها القرار الأخير في مُراقبة الشأن الصحفي, وهى المجلس القومي للصحافة والمطبوعات تقف مُتفرجاً لا حول لهُ ولا قوَّة (ديكوراً), وهذا ليس إدعَّاءً من كاتب هذه السُّطور بل هو – للمُفارقة - حديث الأستاذ علي شمو رئيس ذلك المجلس, ومُحاور السيِّد النائب الأول في "حوار فوق العادة".
في حوار أجرتهُ معهُ الأستاذة "هبة محمود" أجاب الاستاذ على شمو عن سؤال حول علاقة المجلس القومي للصحافة والمطبوعات بإغلاق الصُحف بالقول : ( نحن مجلس ليس لدينا دور، وهذه واحدة من المشاكل التي تواجهنا، هذه الصحف التي تم إيقافها لسنا نحن من قمنا بإيقافها عن العمل ،ولا يوجد أحد قام بإستشارتنا حين تقرر وقفها، نحن لا نملك القوة، لا قانون الصحافة يُعطينا القوة ولا حتى القوانين الأخرى كذلك ). إنتهى
غير أنَّ أكثر الجوانب التي تسلط الضوء على غياب النواحي القانونيَّة في إتخاذ القرارات المُتعلقة بقضية الحُريات, يتمثل في إجابة السيِّد النائب الأول على سؤالٍ حول إغلاق بعض مراكز البحوث والدراسات. قال الأستاذ علي أنَّ هذه المراكز لها إرتباطات مع أجهزة مُخابرات خارجيَّة من حيث التمويل والأهداف, ودلل على ذلك بالقول : (هناك الآن كتاب عن الولايات المتحدة يُسمى روق ستيت – "الدولة المارقة" يتحدث عن إرتباط المخابرات الأمريكية بتمويل أنشطة منظمات المجتمع المدني في العديد من البلدان الإفريقية والعربية بل ذكر بالتحديد إسم بعض المنظمات السودانية ولا أقول الوطنية التي تتلقى أموالاً ). إنتهى
تعلمُ – يا أستاذ علي – وأنت رجل قانون في المقام الأول قبل أن تكون سياسياً أو تنفيذياً أنَّ ورود معلومة في "كتابٍ ما" – إذا ثبت ورودها - لا يكفي أن يكون دليلاً للإدانة. ومن ناحية أخرى فإنَّ كتاب "الدولة المارقة : دليل للقوة العظمى الوحيدة في العالم" لمؤلفهِ "وليام بلوم" صدرت طبعتهُ الأولى في عام 2000, وقد أتيحت لكاتب هذه السُّطور فرصة الإطلاع عليهِ حينها, ثم أعيدت طباعة الكتاب في عام 2005 ولم يرد فيهِ ذكر إسم اية منظمة سودانيَّة كما تقول.
الفصل (19) من الكتاب والذي جاء تحت عنوان " حصان طروادة : الصندوق الوطني للديموقراطيَّة " تناول علاقة مؤسسة ال "ناشيونال إنداومنت فور ديموكراسي" بمنظمات ومراكز وجهات محلية في مختلف أنحاء العالم تعملُ على نشر الديموقراطيَّة في بلدانها, ولم يرد في هذا الفصل أية ذكر لإسم مؤسسة أو منظمة أو مركز أبحاث سوداني. بل إنَّ السودان لم يرد ذكرهُ على الإطلاق في الكتاب إلا في الفصل (25) الذي تناول قضية عدم إعتذار أمريكا عن أخطائها ومن ضمنها ضرب مصنع الشفاء.
لا توجد في الكتاب – يا أستاذ علي - أية إشارة من قريب أو بعيد ل( مركز الدراسات السودانية ) أو ( مركز الخاتم عدلان للإستنارة والتنمية البشرية ) وهما المركزان المعنيَّان بالإغلاق حتى الآن على الأقل.
وبإفتراض أنَّ هذه المراكز لها إرتباطات مع دوائر المُخابرات الأمريكية فلماذا تمَّ التصديق لها أصلاً بالعمل في السودان ؟ ولماذا لم يتم إغلاقها طيلة هذه السنوات ( مركز الدراسات السودانية يعمل في السودان منذ عام 2001, ومركز الخاتم عدلان يعملُ منذ عام 2007) ؟
أمَّا وأن تتخذ قضيَّة تلقي الأموال من الخارج ذريعة لإغلاق هذه المراكز فهو أمرٌ يثير الدهشة و الإستغراب فحكومة الإنقاذ منذ أن إستلمت السلطة – يا أستاذ علي – تتلقى أموالاً في شكل مكرمات و منح وهبات من مُختلف دول العالم, فهل حوَّلها ذلك إلى حكومة عميلة تنفذ سياسات تلك الدول ؟ إنَّ الأمر الفيصل في موضوع التمويل الخارجي لهذه المراكز والمُنظمات يتمثل في النظر في أوجه صرفها لتلك الأموال وهو دورٌ رقابيٌ لا شكَّ أنَّ السُّلطات المعنيَّة ظلت تقوم به كلَّ عام بمراجعتها للميزانيات السنوية لتلك المراكز.
أمَّا فيما يختصُ بموضوع العلاقات الخارجيَّة فقد قال السيِّد النائب الأول أنَّ أمريكا لم تدعم السودان حتى في ظل الحكومات الديموقراطيَّة, وأنها لا تستهدفُ الإنقاذ بقدر ما تستهدف "إستقلال القرار الوطني", وهذا حديثٌ صحيحٌ في مُجملهِ, ولكنهُ لا يصلحُ لتفسير طبيعة علاقة أمريكا بالإنقاذ.
صحيحٌ أنَّ أمريكا لم تدعم الحُكومات الديموقراطيَّة, ولكن صحيحٌ أيضاً أنها لم "تقاطع" السودان ولم تفرض عليهِ "عقوبات" طوال تاريخ العلاقة بين البلدين إلا في ظل الإنقاذ. ثمَّ أنَّ إستقلال القرارلا يرتبط بالعداء والعقوبات والمُقاطعة ضربة لازب, فدولة مثل ماليزيا ظلت تنتهج نهجاً في التنمية يؤكد إستقلالها ومع ذلك لم تدخل في حالة من العداء أو القطيعة مع أمريكا.
قريبٌ من حديث الأستاذ على عن العلاقة مع أمريكا, ما ذكرهُ بخصوص العلاقة مع إسرائيل التي قال أنها ( كانت دوماً معنية باللعب على أوتار الصراع الداخلي في السودان ). ثم أضاف : ( أنا أعجب لمن يقولون أنه تم ضربنا لأننا ندعم حماس ).
صحيحٌ أنَّ موقف السُّودان من الكيان الصهيوني ظلَّ ثابتاً منذ إعلان إستقلال السُّودان وحتى اليوم, حيث ظل السودان يدعمُ القضية الفلسطينية دعماً مادياً ومعنوياً كاملاً منذ إندلاع النزاع العربي الإسرائيلي في 1948, مروراً بحرب 1967 التي فتح فيها السودان أراضيه ومطاراتهِ العسكرية لإستقبال الطائرات المصريَّة المقاتلة, و وصولاً لمشاركة كتائب كاملة من القوات المُسلحَّة السودانيَّة في عبور إكتوبر العظيم, ولكن صحيحٌ أيضاً أنَّ دولة إسرائيل لم تقم طوال ستين عاماً من حالة العداء التي وسمت علاقات البلدين بالإعتداء على الأراضي السودانيَّة أو على المواطنين السودانيين في أى بقعة من بقاع المعمورة.
وهذا ما يجعلنا نطرحُ على الأستاذ علي الأسئلة التالية : لماذا لم تضرب إسرائيل السُّودان – يا أستاذ علي - إلا في الأعوام الثلاثة الأخيرة من عهد الإنقاذ وليس خلال العشرين عاماً الماضية ؟ وإذا كان العداء التقليدي بين البلدين – بحسب رأيك – هو الذي يُفسِّر ضرب إسرائيل لأهداف في السودان فلماذا لم تقم إسرائيل بضرب تلك الأهداف خلال كل عهود الحكم الوطني ؟
في ختام هذا المقال نهمسُ في أذن الاستاذ على شمو بأنَّ الحوار "فوق العادة" لم يتطرَّق مُطلقاً للحديث عن قضايا في غاية الأهميَّة للمواطن السوداني مثل الفساد الذي إستشرى في جسد الدولة والمُجتمع, والفقر الذي عمَّ البلاد وشمل غالبية السُّكان, وتدهور مُخرجات التعليم, وهجرة العقول, و مآسي العلاج والصحَّة, وغير ذلك من القضايا التي تطرحها مُناسبة الإستقلال التي أجرى عنها الحوار.