نحو التغيير (1) … بقلم: عمر الترابي

 


 

 


alnahlan.new@hotmail.com
كثيراً مايستعصي على المرء أن يَستمرِيء لعقله المضي في تقعيد نظرياتٍ تفارق الواقعَ و تغايره و تمضي به إلى نطاق النظرية الضيق ولربما تُغيب عنه إمكانية الفعل، ولكني اليوم أبيت إلا أن أخوض غمار التجربة وأرتجي من رحلتي النُهضان بالقيم السوية والدفع بالمجتمع نحو الخير، فالأمر أنه في الزمان الذي أضحى العالم فيه يتسابق إنجازاً ويتوالى إتقاناً ويتسامى خيراً، يأسى القلب لحال يجدُ فيه محيطَه -الذي يحب- بعيداً كل البعد عن إعمال هذه الإنجازات العلمية، واستنهاض مُستحثات هذه المعاني الخُلقية، وهو في بونٍ شاسع وفصام بين عن الإنجاز والابتكار، برغم كمون الطاقات الخلاّقة ووفرة مستوجبات النهضة والعمار، وهذا الضمور الحضاري المؤلم واقعٌ جزئي ولكن الذي يرسّخه ويركِّز أعمدته في أرضنا هو التساهل في التعامل معه واليأس من علاجه والركس إلى القول بأنه داء عُضال، تثاقلاً إلى أرض الخمول ونفوراً عن الإيجابية والقيم الرضية في تغير المجتمعات نحو الأفضل والأشرق والأطيب والأنبل.
كلي إيمان بخير هذا الشعب، وكلي ثقة بقدرته على تجاوز المحن وعلى أهليته للمضي في طريق التحدي، ولكني جُد حزين أنه مثقل بمفاهيم مغلوطة وأنه أُملي عليه خارطة طريق خاطئة، لست غراً لأرمي أمةً وشعباً كشعب بلادي الحبيبة بالخمول وبالجمود، فهذا شأن لا أرتضيه لنفسي ولا لأمة عملاقة كأمتي، ولكني واثق وأنا أقول إن مقامنا بين الأمم أسمى من هذا المقام ونصيبنا في عمارة الأرض وخلافتها أنبل، وأن واقعنا لا يناسب تطلعاتنا، وبعيداً عن الشماعات الأساسية التي ترتكز عليها التحليلات المتكاسلة، من أننا بعيدون! وأن وضعنا مختلف ! وأن عقلياتنا بها كذا وكذا! وغيرها من ما يعتذر به فئة ليست قليلة من مثقفي بلادي لأنفسهم ويدثرون به سوءة قعودهم عن القيام بواجب التنوير والتبشير والحث والقيام بالأمة لتبلغ مبلغها وشأوها الذي يُمليه تاريخها القديم وطاقاتها الفكرية والعلمية المتناثرة في الأرض كلها إبداعاً وجمالاً.
تغيير وتجديد المفاهيم
أقدر تماماً الجهود التي تتناثر هنا وهناك، ولكني طموح بأن هذا الشعب يستحق الأفضل وأن هذا الأفضل لا يأتي بغير تجديد المفاهيم وتأصيلها وبعثها من جديد بثوب يناسب العصر ويوائم الواقع، ترقية مفاهيم العمل والعطاء والبذل وتوجيه المدارك العلمية و تجويد الخطاب الأكاديمي وتطبيق التطبيقات العلمية والإستفادة من الخبرات وتوفير المناخ المستطاب لبزوغ فجر الإنطلاق نحو العالم والإنعتاق من ربقة النظرة الإقليمية الضيقة، فلم تكن هذه الأمة يوماً مقصورة الخير لذاتها؛ فهي أمةٌ حكمت حضارتها قبل الميلاد مصراً بالعدل وأمة كست الكعبة ردحاً من الزمان وأمة مدت شعاع الدعوة بالحسنى إلى كل حركات التحرر والأخيار في العالم.
البحث عن مخرج
ربما يُقنعنا الخطاب الذي يدمجنا ضمن محنة القارة الإفريقية أو نكسة دول العالم الثالث، ولكن يبقى تشخيص المشكلة وانتقاء الحل لها مطلباً يفرض علينا البحث عن مخارج لأزماتنا، ولطالما خاطب القرآن الكريم الإنسان مطالباً إياه بعقل الأمور وبمقايستها وبالإعتبار بالأمم ليتلمس في دنياه طريق الرشاد ويبلغ سؤله في الآخرة دار السلام، ومرتكزات النهضة الحقيقية تستصحب أول ما تستصحب تجارب الأمم وتنتظمها دراسةً وتدبراً لعل بها تكون العبرة الدافعة لعجلة التقدم في البلاد، هذا المقال يخاطب المثقفين في البلاد بضرورة الإيجابية والعطاء والتفاعل مع هذا الواقع، ويخاطب العلماء في كل مكان ممن ينتمون لهذا الشعب أن أسهموا في وضع لبنات النهضة الحقيقة التي نريدها لهذه الأمة، ويخاطب قادة العمل السياسي في الأحزاب السودانية ويخاطب السادة أشياخ الطرق الصوفية وأهل البيوت الدينية والقيادات العشائرية، أن استنهضوا الهمم، لنتوافق على لبنات بناء وتنمية حقيقية ترتكز على فهم لقدرات الشعب ومتطلبات العصر.
إن الذي يمد بصره شرقاً نحو شبه القارة الهندية وينظر إلى وتيرة التقدم التكنلوجي والعملي التي أعيت حتى دول الصف الأول لها لحاقاً، لينظر بإعجاب وتقدير، وليتمنى ان تكون هذه التجربة مثالاً يحتذى، ولست بدعاً من الناس إذ أدعو العالم للنظر في التجربة الهندية في العلوم التقنية وتطبيقاتها، فصاحب الكتاب الشهير The world is flat سبقني مدحاً في تلك السيرة ومتمعناً في كيف لأمة إيجابية أن تُعايش العولمة قبل أن تجابهها، تعايشها بالتزود بكل أدوات المعركة من علم ومختبرات واكتشافات وتُركّزها كرقم يقصده مواطنو أكبر الدول ليُتموا فيه معاملاتهم البسيطة عبر أدق الخدمات التكنلوجية وأقلها تكلفة، للدرجة التي تنامى فيها عدد دافعي الضرائب الأمريكية المتخذين محاسبين ماليين ومستشارين قانونيين من شبه القارة الهندية، وآسى حينما اقفي مستبصراً لإستعداد أمتي للعولمة، فأرى انها ما زالت في منطقة استيعاب المفهوم ناهيك عن تقويم أدوات المعايشة، وهنا لا ألوم العامة أبداً، بل أين مفكرو الثقافة أين علماء الإتصال أين أهل العلوم الإجتماعية الذين يناظرون رصفاءهم في أعتى الدول كفاءة ونشاطاً وحسن أداء، أم أنه بخلٌ على هذه الأمة؟ يقيناً أعلم أن الإجابة أنه ليس ببخل فهم أشد نخوة وعطاءً مني، ولكنها الشماعات، ولأنهم أيضاً لربما حاولوا مرة وصدمتهم عقبة، ولكن هذا لا يستحل لنا أن ندع أمتنا تردح في حلقات ضيقة، وهي في مقدورها العطاء الفسيح.
عذر لا يليق
اعتذر لي بعض مثقفي بلادي بأن الحال كله مردود للفكر السياسي السوداني، ولعمري أنه عذر لا يليق، فالفكر السياسي الذي تحدث عنه، أربابه أهل علم وثقافة وإن كانت لكل قاعدة شواذ، والفكر السياسي كإطار نظري شامل لدراسة وتصور ماضي وحاضر ومستقبل الظاهرة السياسية، إنما هو نتاج تفاعل المثقف والمعطيات المعاشية انضاف عليها تعاطي سلطات مختلفة منها سُلطة المثقف في التعاطي وسلطته في النصح وسلطة الحكومات وغيرها، فالواقع السياسي إنما هو إفراز للوضع الفكري ومد للتفاعل بين المثقفين والمعاش، وهنا نهيب بالمثقفين أن يقودوا حملات الإصلاح والإصحاح من داخل الكيانات السياسية المؤثرة، ولا ينتظروا أن تتحرك الكيانات ما دام أنهم هجروها، فهذا لايستقيم! ولعل هذا ما بدأ ينتظم في كثير من كياناتنا الآن ولعله بشرى خير كما سنفرد الحديث في هذه السلسلة.
استنهاض قواعد الحل
إذاً فهذه دعوة للأمة كلها لأن تنظر إلى ماضيها البهيج وتزدهي به وتستلهم منه قدرها ولنتوافق على تقييم لحاضرنا ننفر بعده عن حال القعود، في هذه السلسة التي قدر الله لها أن تُسمى بهذا الإسم "نحو التغيير" وسنستصحب معنا بعضاً من المعالم التي سنحاول الوقوف عليها للوصول إلى صيغة مثلى للتغيير وتعيين أسبابه ودواعيه وسُبله، هذا والله من وراء القصد، علها تكون فتحاً نحو التغيير إلى الأفضل، والتغيير منبعه سنن الصالحين وهديهم فنسأل الله أن يعُم به الجمع ويزيد به النفع وتَحصُل به البركة وبالله العون بدءاً وختماً وما (ان اريد الا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب) (هود88(
ولكي نخرج من الإطار الخَطابي والمضمار التنظيري نأتي على تحليلٍ لما يستقبلنا مع استنهاض قواعد الحل من معطيات الحال، مسددين ومقاربين لتوطين الحلول وتأهيلها لتكون اهلاً للتطبيق الواقعي، ولعلي لا أحتاج إلى التذكير بأننا في هذه السلسلة نوالي اجتهاداً فردياً ليكون مُنطَلقاً وباكورةً لتتوالي مناقشات أهل الشؤون لتفاصيله، وأبدأ بأهم المفاهيم والمبادئ التي ينبغي أن تُربى في عقلياتنا زُرافات ووحدانا، وهو مبدأ التخطيط بأنواعه المتكاملة، فكل شئ في الدنيا إذا بُني على العشوائية وإن سلِمت النية فإنه قد يَسلم وينتهي إلى غير ما يُراد له، حتى النهضة إذا قامت بلا تخطيط فإن عواقبها ستكون إخلال وإنعدامُ اتزان، لذلك كل شئ ينبغي أن يكون بقدر ووفق ترتيبات مدروسة، ومقام ذلك من واقعنا أننا شهدنا ثورات في ميادين عدة سرعان ما انهارت إلى خُسران أو أعقبها داء صعب المداواة وتفاقمت عنها دواعي نحملها ربما منذ بضع قرون، فمثلاً ربُما قررت إحدى حكوماتنا السابقة استنهاض ثورة صناعية فمضت إلى إقامة المصانع وإعمال الجهود بصدد تلك الثورة ولربما بتكلفة ضخمة ومجهودات أضخم وانتهضت لها أحلاماً عراض، ولكن بعد أن استوت على سوقها تبين عقمها وعجزها عن دفع التنمية فعادت خسراناً وتعطلت قبل تغطية أبسط تكاليفها وأورثت مديونات (متراكمة) و خللاً عظيماً في الخطة المرسومة (إن وجدت)، وإذا جئنا إلى التحليل فنظرة غير المختص مثلي تُختصر وتقتصِر في إجمال الأمر بأنه سوء في التخطيط وقراءة خاطئة لمعاني النهضة ومتطلباتها وعواملها، وحتى على الصعيد الشخصي إذ مسحنا جنبات أنفسنا لطالعتنا نماذج كثيرة لعواقب وخيمة تولدت فقط عن انعدام التخطيط ولا أقول خطأه وسوءه، وكذا الحال في الجماعات المتوسطة و الأكبر تنامياً إلى ما بدأنا به من حال الحكومات والمنظومات المتنَفذة، ولا يتم التغيير الأتم إلا إذا ما بُدِء من الأفراد مداً إلى الجماعات والهيئات فالأحزاب فالدولة ومجتمعها كما سيلي.
ماذا نريد أن نغير ومن ماذا؟؟
حينما نتعمق في تركيز ولا أقول تعريف مفهوم التخطيط، يتداخل في النفس البعد الطيب للشعب والأمة ويأتي الهمس المقلل من شأن هكذا مفهوم وبصيغة متوكلة أو قل (متواكلة) بالقول خليها على البركة، في حين البركة هي الزيادة والنماء على أصل يُبتنى وأمر لا يُقاس عليه، وكلنا حافظ لإعقلها وتوكل، ونحن نستقبل بشريات الهجرة النبوية المباركة ملؤها عظات ونفحات تحمل أعظم منافذ لأمةٍ معافاة تنهض بالحضارة وأسس التفكير السليم وبواعث التغير الأسلم، فالرسول صلى الله عليه وآله وصحبه سلم بعد أن أُذِن له في الهجرة أمعن في التخطيط لها ولآثارها و سُبلها وتأنى فيها فاتجه جنوباً وأمّن تدابير رحلته صلى الله عليه وسلم مستصحباً توكله على الله عز وجل فكانت البركة والإعجاز في الحمامة والعنكبوت وفي السكينة النصرية وفي أن ساخت قوائم فرس سُراقة وأن درت عجفاء أم معبد الخزاعية تأمينا ومنحة ومعجزةً إلهية، وأبسط أبجديات كل الحضارات إنما تجعل التخطيط مدخلاً للعمل الناجح، والتخطيط ينبغي أن يكون بمصداقية وبعيداً عن الشعارات التي توهم الشعب وحكامه بإنجازات ورقية، لذلك اعتمدت أن يكون المطلب الأول لنا في التغيير هو التخطيط لهذا التغيير، فالله عزوجل يقول (..ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم...) (الرعد11) ويقول الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغيّر ما بقوم حتى يقع منهم تغيير، إما منهم أو من الناظر لهم، أو ممن هو منهم بسبب؛ كما غيّر الله بالمنهزمين يوم أُحُد بسبب تغيير الرّماة بأنفسهم، إلى غير هذا من أمثلة الشَّريعة).أ,هـ، وفي الآية تغيير الله و تغيير القوم والعكس بالعكس، وإشارة إلى أن ما بالقوم هو جزء لما هو بالنفس، فليُتبدر لعله يُفتق أفكار التغيير وينير القلوب إلى سبيله، وعليه فليكن أساسنا في التخطيط لهذا التغيير السؤال لماذا نريد أن نتغير ومن ماذا نريد أن نتغير وإلى ماذا نريد أن نتغير ونصير، وبعون الله سنحدد بعضاً من أهداف التغيير التي ملخصها الوصول إلى حالة منشودة للفرد وللأمة، وليتم ذلك ينبغي التعاطي بوضوح مع حقيقة الواقع المأزوم، فمن لا يعترف بالسقوط لن يستضيع النهوض أبداً، فخبر ومعرفة المشلكة أول مفاتح الحل كما هو معلوم، إذا نستطيع أن نُجمل حديثنا بالقول أن التغيير ضرورة لازمة وأن أول ضمانات نجاحه التخطيط السليم له بإستقراء الواقع المعاش والمستقبل المنشود وتحديد السبيل الأقصر والأفلح بين هذا الواقع وذاك المستقبل وقيد ذلك كله بالتوكل وطلب العون الإلهي لمباركة الأمر، أي: قناعة وعزم وتخطيط وتوكل.
وفي المقال القادم سنفصل في أركان هذا التغيير الذي نريده والمفارقة بينه وبين الثورة والتطوير وحتمية التأني فيه، وضرورة الإقتناع بالمبدأ والإنطلاق من الوحدات الأصغر فالأكبر تباعاً. ونُذَكِر أن هذا كله يأتي اتساقاً لتحقيق مستقبل أفضل لهذه الأمة ومكانة أطيب بين الأمم، وأنه خطاب لكافة المجتمع للإتساق في نهج التغيير للحوق ركب الأمم سيما أنه يأتي إنطلاقاً من قيم الشعب الهادية للتجارب وأملاً في قدراته وإيماناً بطاقاته الخلاقة وقدرته على التغيير، هذا ولله عاقبة الأمور.
* اكاديمي سوداني بدولة الامارت العربية المتحدة

 

آراء