نحو التغيير 5 … بقلم: عمر الترابي
12 June, 2009
إن ما طَرقناه في المقالات السابقة بمجملها إنما هو أسس فكرية إجتماعية سياسية عامة تؤطر لعملية التغيير، ومرتكزات تقوم عليها ما سنرمي إليه من قضايا جوهرية في ما سيفتح الله به من مقالات قادمة، هذا و بالله العون باديةً وختاماً وعليه التكلان.
إن جِماع هذا الأمر وبُغيته ومقياس حَسنه من عدمه إنما هو بقدرما يصل بالإنسان إلى مستوىً مرضي من الرفاهية وبقدرما يجعل الأمة أهلاً لدورها الحضاري الأصيل؛ انطلاقاً من إرثها و دورها الطبيعي في الريادة الحضارية للأم، إن تغييرنا المنشود لا يُحكم عليه فقط بحِسيات التغير الإجتماعي والفكري والثقافي و الديني حسب ولا بظلالها وخلالها، ولكن التغيير المنشود يتناول الأثر المباشر الذي يتبدى في معاش الفرد واقتصاده وفكره تنامياً إلى ما يليه ويمليه من حظ الأمة من الرُقي والنهضان، وما لذلك من مقاييس ومعايير تعارف عليها المجمتع للقياس.
لذلك جعلنا من أهداف هذا التغيير ترقية مستوى التنمية البشرية كمقياس لحِراكنا، وبذلك فإن هذا الجزء من هذه السلسلة سيكون فيه التناول لهذه المعاني والتركيز على تبيانها، علها تُسهم في فتح آفاق للمفكرين ليتدارسوا هذا الأمر ويولوه من البحث والدرس حقه، فإن مقامه من أيما مشروع للتغيير مقامٌ جوهري لا يتأتى تقويم الحصاد للجهود إلا به، بل إنه يسبق ذلك بكونه مطلباً ملحاً في مرحلة التخطيط للتغير وفق المعايير العالمية التي سيُقاس عليها، وعليه فسيكون هذا المضمون محل نظرنا، وسيركز الحديث هم التنمية البشرية مفهوماً و كسباً وغايةً ومبتغى.
وحتى لا يشتط بنا الحديث فنستأذن أهل الإختصاص في أن تكون نظرتنا لهذا الواقع عالةً على بعض البحوث –في هذا الحقل-في شقها النظري، واتجرأ الإجتهاد في تنزيلها ما أمكن؛ فأستميح القارئ الكريم العذر مذكراً إياه أن ما نختطه هنا إنما هو محاولة لإستنهاض طاقات هذا الشعب الجبارة لتُسهم في وضع خارطة طريق للخروج بالأمة من الأزمات التي تحيك بها والمحن.
فلعله من المعلوم ان المفهوم المرتضى للتنمية البشرية أو الإنسانية يقوم على عملية توسيع "خيارات" البشر، والواقع أن هذا المفهوم إكتسب في العقود الأخيرة منحىً أرحب إذ طُور المفهوم ليرتكز على "الإستحقاقات" كمعيار لقياس رفاهية البشر، بدلاً عن المقاربات التقليدية التي تكيف تعريف الرفاهية على أساس المنفعة، ولعل هذا كما يشير الباحثين يعود لجهود العالم الهندي الشهير امارتيا سن صاحب كتاب development as freedom وهو الحائز على نوبل للإقتصاد، فأمتاز طرحه عن الدراسات الاقتصادية الأخرى التي لزمت أولوية الدخل والثروة باعتباره المؤشر الوحيد للتنمية، امتازت بأنه مضى متعدياً بالمفهوم إلى تطويره لمفهوم الإستحقاقات التي تمتد كما يتبدى من مبناها اللغوي إلى مجموعة الحقوق التي يكتسبها البشر لكونهم بشر وأن بشريتهم هذه تكسبهم الحق في العيش الكريم، مادياً ومعنوياً، جسداً ونفساً وروحا، وضبطاً لذلك فإن الباحثين عرفوها بالقول ويقصد بالإستحقاقات تلك الحقوق الجوهرية التي ينبغي أن يتمتع بها البشر، وتشتمل بمفهومها الواسع، على الحريات السياسية والإجتماعية والإقتصادية، و توفر الفرص للإنتاج والإبداع، وتوفر الفرص لتحقيق الذات وإحترامها، وتوفر الفرص للعيش حياة طويلة وصحية، وتوفر الفرص للحصول على مختلف أنواع المعارف وتوفر الموارد اللازمة لمستوى معيشي لائق.
هذا وقد طور برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مؤشرا مركباً لقياس التنمية البشرية، إستند على الإستحقاقات، المتعلقة بالحالة الصحية للبشر (كما يقيسها العمر المتوقع) والتعليم (كما يقيسه مؤشر مركب من معدل معرفة القراءة والكتابة بين الكبار والتحصيل التعليمي ) ومستوى المعيشة كما يقيسه متوسط دخل الفرد).
ويتبدى هذا المفهوم وهذه المعانى في تقرير الخبير المستقل فيُبتدر دوماً بالحديث عن الحق في التنمية التي تعرف بأنها عملية إنمائية محددة يمكن من خلالها "إعمال جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية إعمالاً كاملاً". وهو مستمد من نص إعلان الحق في التنمية (1986)، الذي يعرِّف التنمية على أنها عملية تحسين شاملة لرفاه السكان، ويصف خصائصها كذلك، وجماع الحقوق التي تمثل مركب مؤشر التنمية و تكامل هذه الحقوق يعني ضمنياً أنه إذا ما انتهك أي حق منها، فإن تركيبة الحقوق بكاملها ستكون قد انتهكت أيضا ً، فلذلك نرى دقة وصعوبة تحقيق تقدم في هذا المقياس، وهو ما ننبه إلى ضرورة مراعاته.
وبعد هذه المقدمة النظرية التي تمهد لخطوط عريضة في مشروع تحقيق الأهداف، فإنه من المهم تحديد مقدار ما نريده من تقدم في المؤشر (الذي يتراوح من صفر لأدنى مؤشر تنمية إلى 1 لأعلى مستوى) ويخطط له بمقدار ما تسعف به المقدرات في تضمين هذه الحقوق وترفيعها وفقاً للمقايس العالمية المرتضاة، وهذا التقدم يحتاج إلى جهد سياسي وفكري عظيم، والإجماع السياسي الذي يصل إلى الرضى للجماعات والأفراد في تداول الرأي، فوجب لذلك أن يُعنى الباحثين والدارسين بتقديم النصح في هذا المضمار للجهات التنفيذية في الدولة.
فأثر مؤشرات التنمية وتصانيفها يؤثر على سمعة الدولة، فإنه لو تحقق لها تقدم في مؤشرات التنمية فإنها ستكتسب الكثير من المزايا المعنوية فالمادية التي ستساعدها في الوصول إلى مستوى معيشي أفضل ودور حضاري أوثق وبشريات مستقبل أطيب، ونحن نظن أننا كأمة سودانية متعددة الأعراق أهل لنحقق مكانةً جيدة في السلم الإنمائي ومقاييسيه و ذلك لتوافق منطلقات واقعنا - الثقافي التعددي و الديني والفكري – نظرياً لكونه يُؤمن بالحقوق المؤثرة في المؤشر فإنه يوافق موجبات التقدم العام في هذا المؤشر من مساواةٍ وعدلٍ وسلام وغيرها ؛ فمثلاً ترفض التنمية الإنسانية أي شكل من أشكال التمييز ضد البشر على أي معيار كان: النوع أو الأصل الاجتماعي أو المعتقد، وهذا ما يمكن إيجاد مقاربته في المعتقد العام فأدياننا تساوي بين الناس كلهم أمام الدولة دون ميزٍ بسبب المعتقد أو الدين أو الأصل، والمنطلقات العامة لمواثيق غالب مؤسساتنا الحزبية السودانية على اختلاف مشاربها خاصةً الوسطية منها كذلك، فبذلك الدعوة إلى الحقوق الواردة أعلاه تجد أصولها مسلم بها، وإن اختلت الممارسات فهي شذوذ عن القواعد العامة و علينا تقويمها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
السؤال الذي نطرحه الآن لننطلق عبره نحو التغيير المطلوب والمكان المرموق الذي نريده، نزعم أن سبيلنا الأوفق لتحقيقه كمقصد أصيل لابد أن يعبر بنا عبر المداخل التي افترعناها، وإنه إنما يبدأ بتقييمٍ صادق لواقعنا الآني وماضينا الأقرب لنحدد اتجاه سيرنا صعوداً ورقياً أم هبوطاً و تواضعاً، فبذلك نحدد معالم العلاج الناجع أو الخطة المستقبلية، فبالنظر في المؤشرات نجد أن السودان كغالب الدول الافريقية والعربية حقق مؤشره الإنمائي تقدم –متردد-، لكنه رغم الجهود المقدرة التي بُذلت دون الطموح لدولة تمتلك طاقة فكرية ثقافية اقتصادية كامنة تؤهلها للريادة.
والآن لنرى الخطوط العريضة التي تسهم في تحقيق التقدم المنشود وهذا بحد ذاته يحتاج إلى سلسلة منفصلة أتمنى أن يُفرِد لها أحد رجال الوطن أو مؤسساته الوقت والجهد لتكون نوعاً من التوعية والتناصح السليم ،وهنا فإننا نُجمل بنظرة عامة أهم الخطوات بعبارات فضفاضة كأن نقول أن السبيل إلى التنمية يبدأ ببناء القدرات البشرية الممكِّنة من التوصل إلى مستوى رفاه إنساني راق، وعلى رأسها العيش حياة طويلة وصحية، واكتساب المعرفة، والتمتع بالحرية، لجميع البشر دون تمييز. وأيضاً يتم بالتوظيف الكفء للقدرات البشرية في جميع مجالات النشاط الإنساني، الإنتاج وفعاليات المجتمع المدني والسياسة. وهذا البناء عملية معقدة ومركبة تبدأ من مستويات ما قبل الولادة وتترافق مع الإنسان برعايةٍ آبدة إلى أن يتوفاه الله، وهذه العملية العجيبة تحتاج لكم هائل من التخطيط والترسيم والتقعيد! فإن التحسين الشامل يتطلب التقدم في رعاية حقوق الإنسان بمعناها الواسع لتتألف من عناصر مختلفة تمثل مختلف الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فضلاً عن الحقوق المدنية والسياسية. ويتطلب التقدم إعمال الحق في التنمية كاملاً –كما يقول الخبراء- تحسيناً لهذه القوة الموجهة، من قبيل أن يكون هناك تحسن في بعض من هذه الحقوق، أو واحد منها على الأقل، دون انتهاك لغيرها.
فقي ما يلي من مقالات سنحاول ما استطعنا الحديث عن الحقوق العامة ومحاولة تطويرها على الصُعد الشخصية والجمعية، ومرتكزاتها من البيئة العامة للمجتمع، ولعل الذي دعانا إلى اتخاذ منبر عام لمخاطبة مثل هذه القضية إنما هو لقناعة تامة بأن التنمية البشرية تحتاج أبداً إلى إبداع جماعي لا يتم ولا يكون إلا بتضافر كل أفراد المجتمع، فلعل تأصيل هذه المفاهيم واتخاذ السبل للوصول إليها يتم بجهد قاعدي.
نسأل الله تعالى أن يبارك لنا فيها ويوفقنا إلى رشادها مما يأتي بالخير علينا، فتكون باكورة عمل جمعي يتقدمه خبراء الوطن ويثمر بهذا الجهد وينفع، ولله سبحانه الأمر من قبل ومن بعد، نسأله العون على ما ينفع عليه توكلنا هو نعم المولى وإليه المصير.
و نواصل،