نوادر من الواقع

 


 

 

حسن ابراهيم حسن الأفندي

قد يعجب البعض , وهل هذا وقته والتناحر والحرب تحرق الأخضر واليابس عندنا وفي سوريا ولبنان وفلسطين والعراق واليمن وغيرها ؟
وأجيب ببساطة , وماذا يفعل القلم إذا دوى صوت البندقية ؟ بل ولمن أكتب ومن أعظ من قراء العربية وكلهم لا يقلون استيعابا وحماسا وغيظا وفورانا عنى ؟ فلست أكثر الناس ثورة ولا أكثرهم حماسا حتّى أنصب نفسي واعظا , وإن كنت من أكثرهم حزنا وأسى , وإن كان قلبي يتقطع حتى اختل نبضه وزاد خفقانه وأصبح يهدد حياتي ويجعلني في موقف لا أحسد عليه ! فمنذ أن ذهب محمد الدرة مقتولا في رعبه وخوفه وأنا لا أطيق الحياة وأحس بشيء غير يسير من تقصيرنا وعجزنا المخجل , ثم تأتي هدى التي فقدت أسرتها في موقف مأساوي يدمي له قلب كل آدمي ناهيك عن القلوب العربية والقلوب المسلمة التي آمنت بأن الإيمان يجعل من الجميع جسدا واحدا إذا اشتكي منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى . ولكن يبقى السؤال : ماذا في يدي , بل ماذا في يدك قارئي العزيز غير ما نملك من موقف أضعف الإيمان فربما نحرم حتي من كلمات عطف ينطق بها اللسان , ولا نملك إلا الدعاء سرا بقلوب كليمة محزونة ؟ وما ذكرت محمد الدرة ولا الطفلة هدى للحصر ولكن للمثال, فلو أردنا حصرا لما أسعفنا المكان ولا الزمان , ولكن حزني يمتد إلي شيخ المجاهدين أحمد يس والرنتيسي وجمال أبو سمهدانة ويشتد بي القهر والغبن ولا حيلة ولا ولا حول ولا قوة إلا بالله , فالقرار يملكه الأقوياء , يحللون الحرام ويحرمون الحلال , الكيل بمعيارين , لإسرائيل حق القتل والذبح بحجة الدفاع عن النفس ومن أجل جنديين خطفا لا يعرفان سوي الرصاص والموت للآخرين , بينما يخطف سعدات ووزراء ونواب حماس وليس من حق الفلسطينيين ولا العرب ولا المقاومة أن تفعل شيئا ! حكم القوي علي الضعيف :
من يهن يسهل الهوان عليه مـا لجرح بمـيت إيـلام
وخلاصة القول عندي في هذا الصدد قول الجواهري , يرحمه الله :
لم يبق عـــــندي ما يبتزه الألــــم حسبي من الموحشات الهم والهرم
لم يبق عندي كفاء الحادثات أسى ولا كــفــاء جـــراحات تضــــج دم
وحين تطغى علي الحران جمرته فالصمت أبلـــغ ما يطوى عليه فم
عموما , يمهل ولا يهمل , أومن بها وأومن بأن لكل أمة أجلها , وسأكون أول شامت لأمريكا إن حان أجلها وكنت علي وجه الأرض ما أزال حيا , وحتي إن طواني الموت أخال أني سأطرب يومها في حياة البرزخ طربا عظيما , ولعمري فإني ظللت حيا لا أخاف أمريكا ولا صواريخها , فعند الله من المذنبات الكثير , تلك الصواريخ الجبارة العاتية , ما يمحو بها أمريكا أو حتي الكرة الأرضية أو الشمس أو القمر أو أوروبا أو الكون بكامله , صواريخ متعددة الأحجام تجوب هذا الفضاء الرحب في انتظار أمر من حرفين (كن), فعلينا أن نتمسك بإيماننا وأن نخلص العبادة والالتزام بأوامر الله ونواهيه حتي يكون الدعاء مستجابا يقوم علي أساس سليم .
ولما لم أكن من سياسيي الأمة ولا من منظريها ولا حتى من رجرجة محللي المواقف والأحداث المتطوعين أو المأجورين , فإني أترك ما لقيصر لقيصر وأعود بالقارئ الكريم إلي ما ظللت أحترف من كتابة لا تعدو أن تكون مجرد مختارات أو خواطر لا علاقة لها بالبحث العلمي أو الدراسات أو النقد , ولعل إحدى المجلات وجهت إلي مشكورة دعوة للمشاركة بكتاباتي علي صفحاتها التي يحررها كما تقول صفوة الأقلام العربية , وأجبت الدعوة بموضوعي ( كراهيتي للمتنبي ) والذي نشرته تحت مسمى أو باب نقد ودراسات , وهو لا يعدو أن يكون مجرد خواطر كتبتها في مرحلة من العمر مليئة بالضجر والنفس المضطربة , وإن كنت أومن جادا بكل لفظ كتبته , فما من عادتي أن أجامل ولا أن أماري , وأخذ قراء تلك المجلة يدبجون تعليقاتهم المضادة ويوجهون التهم لي جزافا , فهم قد أهملوا كل إشادة لي بشعر الرجل وعظمة ما قال من حكمة وخلاصة تجارب , ولم ينظروا إلا إلي أني قلت إني أكره المتنبي , والحق يقال إن كراهيتي تأتي لبعض سلوكيات الرجل وما بدر منه من قول غير مقبول عقلا ولا عقديا , فقط كانت ثورتهم لأني تعرضت لاسم كبير هو المتنبي , لم يقرأوا جيدا بعقل وروية وبصيرة إلي ما أوردت من منطق ومن مبررات لا تدحر ولا ترد , غيبت العاطفة تماما لديهم صوت العقل , فلم أجد مقارعة الحجة بالحجة ولا المنطق بالمنطق حتى أن بعض من يحملون الألقاب الديكورية ـ ديك ...تور ـ راحوا يتصدون في بلاهة وعجز واضحين لما كتبت دونما سند علمي يدعم ما ذهبوا إليه رغم اعتمادي علي الدلائل والبراهين التي تسند ما ذهبت إليه , فآثرت عدم الرد عليهم لا تعاليا ولكن إيمانا بأن ما كتبوه لا يزيد علي مجرد عواطف تقف بجوار الرجل وتغيب تماما صوت العقل.
ولعل من أولى النوادر السمجة الرعناء أن يظن بأن مثلي يمكن أن يكون شعوبيا يستهدف أحد الرموز العربية الكبيرة , وقد لوّح أحد منتقدي بهذا , وليكن له ما يريد , فالجهل مصيبة المصائب , ولعل الرجل لم يقرأ لي شيئا ولا يعرف عني شيئا , لا يعرف عن كتاباتي التي حفلت فخرا واعتدادا بأجدادي العرب الذين حملوا رسالة السماء في بسالة ورجولة وقدرة أعدتهم لها مشيئة الله , لم يعرف دفاعي عن الأمة العربية وذكائها الوقاد وعن أرفع المعاني التي حفلت بها أشعارهم وأقوالهم وحكمهم وذكاء مواقفهم وسرعة بديهتهم وشجاعتهم وإيمانهم بالله وبالذات , لم يقرأ عني الهجوم الكاسح الذي أشنه دوما علي دعاة التبعية النفسية والأدبية للغرب الذي أخذ منا أصول حضارته ونظرياته وعلمه وتأثر مفكروه بابن رشد وشعرائنا , بزهير بن أبي سلمي , لم يعرف أني أول من حاضر على وجه الأرض عن عظمة وغناء العلم وتطوره ورفعته في العصر الجاهلي وأوضحت لماذا إذن سمي بالعصر الجاهلي , وفعلت ذلك مؤمنا حقيقة برفعة العلم عند شعراء العصر الجاهلي وما وصلنا من أشعارهم , وعجبي !
وشر البلية ما يضحك , فقد سخرت وضحكت لما كتبوا كثيرا , ليس إلا استهزاء بما راحوا إليه في جهل فاضح , فالنادرة أو الطرفة أو النكتة لا تأتي إلا عن ذكاء وقاد وفهم عميق للموقف أو المواقف , لها دلالتها ولها تعبيرها ولها قيمتها ووزنها الحقيقي الدسم والثمين , وقد عرفت ببلدتنا بشمال السودان رجالا عرفوا بالذكاء والعبقرية , استثمروا المواقف وخلدوا وقفات لا يمحوها الزمن ولا عوامل التعرية وتقلبات الأجواء ولا تغسلها مياه النيل ولا سيول المزن الهواطل الوطفاء .
أذكر منهم على سبيل المثال , ذلك الشيخ عبد الكريم , تروى عنه ما تروى من القصص والملح والطرائف , استدعاه مرة مأمور مركز الشرطة ببلدتنا وكان بريطانيا ويبدو أن الشيخ عبد الكريم كان سليط اللسان على المستعمر البريطاني كثير النقد له , وأراد المأمور الإنجليزي أن يرهبه شيئا ما , قال له : يا شيخ عبد الكريم , ما تعرف أني رجل صعب ؟ فرد عليه شيخ عبد الكريم بهدوء وبرود شديدين : وما تعرف يا جناب المأمور أني مضطر ؟ وكان يشير الشيخ عبد الكريم إلي المقولة الشهيرة : المضطر يركب الصعب .
وقيل إن شيخ عبد الكريم كان يركب مرة حمارا له يعرف بضخامته طولا وعرضا وارتفاعا ودخل به سوق المدينة , وكان هناك تاجر كبير اسمه غريب , عرفت عنه الصلاح وفعل الخير , فقد أنشأ معهدا إسلاميا كبيرا ومسجدا جامعا ودار إحياء للقرآن الكريم ومنازل لإمام الجامع والمؤذن وغيرهم من العاملين بمؤسساته وترك أوقافا كثيرة لتمويل مشروعاته الإسلامية ـ نفعه الله بها ـ وسأل الحاج غريب الشيخ عبد الكريم بسؤال أورده هنا بدقة : أنت يا شيخ عبد الكريم , الحمار دا من وين ؟ وفهم شيخ عبد الكريم أن هناك غرضا خبيثا من سؤال الحاج غريب أو من طريقة سؤاله , فأجاب علي الفور ودونما عناء ولا تفكير : أمها مننا لكن أبوها غريب !
ولما كنا يصدد الحديث عن المواقف التي تدل علي ذكاء , كان لابد أن أذكر موقفا لأحد سكان بلدتنا هو المرحوم مصطفي الأعور , نشأنا فوجدنا اسمه هكذا , فربما لقب بالأعور لغمامة بيضاء كانت تغطي إحدى عينيه , كان ممن يشتكون من مرض الربو ولعلي أول مرة أقف علي قرب من مريض بالربو ومعاناته عندما رأيت هذا الرجل متألما يضيق نفسه وهو علي سفر بإحدى الشاحنات التي تصل شمال السودان بالعاصمة , كان السفر وقتها حجيما حقيقيا لا يطاق , وأعتقد أن موقف من يشرفون علي الشاحنة يومها لم يكن إنسانيا علي الإطلاق مع هذا الرجل الذي كسب كل عطفي وعاطفتي , ولكن أي حيلة ليافع مثلي تجاه مثل تلك الأمور , فقد طلب أن تقف الشاحنة ليتمكن من إخراج دواء الربو الذي يستنشقه من حقيبة ملابسه فلم يسمع له أحد وتركوه يتعذب عذابا فوق طاقة البشر , موقف يحز في نفسي كلما ذكرته , المهم كان ذلك الرجل في مجلس حافل في إحدى الليالي ببلدتنا يتسامرون كعادة أهل القرى وتكبر تلك المجالس في الليالي المقمرة , قام ليشرب ماء من زير فخاري سعته لا تقل عن العشرين سطلا من الماء , طلب منه أحد الجالسين بأن يحضر له ماء , فأحضره ولكن الطلب تكرر من ثان وثالث ورابع , ووجد ألا مخرج من تلك التكاليف إلا بالحيلة , وصل الزير واخذ يصرخ : العقرب العقرب . نهض الجميع ركضا نحو مكان الماء , وسألوه عن العقرب , فسألهم إن كانوا حضروا جميعا أم تخلف منهم أحد . ولما علم بحضورهم جميعا قال لهم : الآن تستطيعون شرب الماء كل منكم بنفسه!
وماء الزير ما زال يداعب خاطري ونفسي رغم عشرات السنوات التي أخذت أتعامل فيها مع الثلاجات والبرادات , فقد تربينا عليه منذ الولادة حتى كبرنا , والزير إناء فخاري كما أسلفت له مسامات يخرج منها بعض الماء , يتبخر بحرارة الجو فيأخذ من حرارة الماء الذي بداخل الزير شيئا كثيرا , فيصبح الماء داخل الزير باردا طيبا, ولعلي أنوي بعد التقاعد عن العمل الحكومي قريبا إن شاء الله للتفرغ للكتابة والشعر, فإن أجمل قصائدي لم أكتبها بعد وإن أروع ذكرياتي لم تجد المساحة الكافية للتسجيل, وأن أقتني زيرا لأشرب منه ماء يبل أحشاء صادينا حتى وإن وجدت مقاومة من أسرتي ورأوا أني أعود إلي عصر البداوة والبدائية .
وقيل إن أحد الظرفاء الأذكياء من أبناء مدينة دنقلا بشمال السودان , كان غضبان صدر عل أحد إخوته , وأراد أن يشتمه , وصدف أن مر ابن هذا الرجل الذكي ولم يرد السلام علي الأب وعمه اللذين يجلسان سويا , فانتهز الأب الفرصة لشتم أخيه وأخذ يقرع ابنه : يعني يا ولد أنت ما بتقول حتى لعمك الكلب دا إزيك يا كلب ؟ وأخذ يكررها عدة مرات عن عمد وسوء نية .
وقيل إن أحد أبناء قبيلة شهيرة بشمال السودان كان جالسا ومعه عدد من إخوته وأبناء عمومته , ومر رجل فتحدث مستفزا الآخر الجالس وسط أهله وأساءه إساءة بليغة ولكن الرجل لم يحرك ساكنا , وانصرف المعتدي , فعاتب الأخوان وأبناء العمومة أخاهم وسألوه لماذا لم يرد وهل يُمسك المسئ علي أخيهم ذلة تخيفه وتمنعه من الرد ؟ فأجاب: باقيلكم أنا ما قاعدلي فوق راي؟ فسألوه عن رأيه في ذلك , فرد :باقيلكم لو قمت أرد عليه ما كان كسّرني !
ومر أحد المرضي بكرة القدم بسوق الخضار القديم بالخرطوم , كان علي ما يبدو مريخيا متحمسا , لاحظ أحد عمال تفريغ الشاحنات وهو يستلم البطيخ الكبير الأخضر القشرة المستدير كالكرة بكفاءة عالية من العمال الذين يرمون له بذلك البطيخ من شاحنة ممتلئة به , فكر مجنون الكرة بأن العامل هذا يصلح لأن يكون حارس مرمي بالفريق , وتحدث معه ووعده بكثير من الإغراءات مثل سيارة صالون وبيت أنيق وعدد من آلاف الجنيهات السودانية عندما كان الجنيه يساوي ثلاثة دولارات , ووافق الرجل , وفي أول مباراة وصلته كرة قوية , كانت كالقذيفة , استلمها ببساطة فصفق الجمهور واشتعل الإستاد نارا , تحمس حارس المرمي الجديد وطرب للتصفيق فما كان منه إلا أن نظر خلفه وألقي بالكرة داخل الشباك تماما مثلما كان يفعل بالبطيخ !
وأخبرني أحد أصدقائي أن في بيت أحد أخوته بعض الدجاج وبطة , وذات يوم طلب من زوجته أن تذبح لهم البطة فرفضت , فكر في حيلة , كان ملما بطبيعة البط وتصرفاته , أحضر وعاء به ماء ووضعه للبطة , وأخذت البطة تدخل منقارها حتى قاع الإناء وتشرب ويبدو أنها تحتاج للهواء فتخرج منقارها وترفعه إلى أعلى كعادة البط عند الشرب , فتحجج صاحب البيت بأنه يسقي البطة بينما هي تشتكيه لله , وعليه الطلاق أن يذبح البطة أدبا لها .
ويروى أن أحد أبناء الدول العربية حصل له شيء ما في دماغه , فتطوع أحد حكام إحدى دول الخليج بعلاجه علي نفقته الخاصة بعد أن رفع إليه الأمر , وحمل المريض في غيبوبة تامة وسافر , وأجريت له عملية جراحية استغرقت عدة ساعات , وأفاق الرجل بعد يومين ليجد أمامه عددا من الممرضات الحسناوات من مختلف الدول الأسيوية والأوربية , هششن في وجهه وأحسن معاملته , ظن أنه مات وأنه الآن بالجنة وحوله الحور العين , فقال : صدق وعده!
وليست كل الطرائف تأتي عن ذكاء وإنما تحتمل الوجه الآخر عن قصد أو دونما قصد, فكثيرا ما تجد امرأة عجوزا تسافر إلي الحج ويضع لها أبناؤها داخل اللحاف التي تنام عليه بعض النقود السودانية , وكان الجنيه السوداني يعادل أكثر من اثني عشر ريالا سعوديا وقتها , أو يضعون لها شيئا من الذهب تصرفه بالسعودية , نوع من التهريب بطرق غير مشروعة , وكانت بعثة الحج الرسمية السودانية تصحب معها فريقا من العاملين بالإذاعة السودانية لينقلوا أخبار الحجيج السوداني مطمئنة أهاليهم , وتجري عدة مقابلات يوميا علي الهواء مباشرة مع بعض الحجيج وإذا بحاجة طاعنة في السن تقول : وصلنا بخير وعلي خير ونحن الآن بمني وأعرّف ولدي عثمان بأن الأمانة التي وضعها داخل اللحاف وصلت وناس الجمارك ما عرفوها وما وصلوا لها ! ويستفيد رجال الجمارك من مثل هذه التصريحات العشوائية غير المحسوبة للأعوام القادمة , فيتحسسون اللحافات وغير اللحافات ويقبضون الكثير من الأموال المهربة ويصادرونها . وقد حصل لي موقف مشابه مرة في مطار الخرطوم كان بطله ابني حذيفة المهندس المعماري حاليا , فقد كنت عائدا من سلطنة عمان في منتصف الثمانينيات بالضبط لقضاء إجازتي السنوية , كانت معي ماكينة خياطة سنجر أحملها بصندوقها جهارا نهارا , استلمها مني رجال الجمارك وأجروا اللازم وأخذوا مني مبلغ تسعة دولارات أمريكية علي ما أذكر جماركا عنها , بينما كان داخل حقيبتي جهاز فيديو ماركة أكاي الشهيرة وكان جمركه مرتفعا إلى حد ما , انشغل رجال الجمارك بماكينة الخياطة ولم يحسنوا تفتيش الحقائب , وخرجنا بالفيديو بسلام , ولكن صغيري يومها بدأ يسألني ويلح في السؤال مستفسرا عن الفيديو وهل مرَّ من الجمرك بسلام ؟ كان سؤاله غير مناسب وفي مكان غير مناسب, فلم نكن غادرنا صالة الوصول بعد والمسئولون من حولنا من كل جانب , حاولت زجره فلم يفهم وصفعته علي وجهه وما زال مصرا علي السؤال باعتبار أنه يريد أن يفهم فقط الموقف , وأخذت أبلع ريقي وجف لساني , ولكن إرادة الله كانت قد هيأت لي سترا رغم نزعة ابني الفضولية في معرفة ما جري بشأن الفيديو .
ومن النوادر التي تدل علي البساطة والجهل بالأشياء في آن واحد ما حدث بمدينة دنقلا قبل سنوات طويلة وقبل أن تصل إليها خدمات الكهرباء , كانت لابنة عمة لي متزوجة من ابن عم ثري جدا ومعروف , ثلاجة تعمل بجاز الكيروسين والعويل المشتعل , نظرية ناجحة من قام بعملها لا أعرفه حتى الآن ولم أكلف نفسي بالتفكير أو السؤال عن ذلك , وكان تبريدها ممتازا , حضرت إحدى سيدات مدينة دنقلا لزيارة ابنة عمتي , وجدت كرما وضيافة وشربت عصير الليمون البارد وعليه بعض المكعبات من الثلج , أعجبها ذلك فصارحت ابنة عمتي بأن ابنتها حامل وستحكي لها بهذا الثلج والليمون البارد وربما تشتهي أن ترى الثلج وأن تتذوقه وهي حامل كما يقولون في طور الوحم , ولهن اعتقاد بأن من تشتهي شيئا من الحوامل ولا تجده في طور الوحم فإن ذلك يؤدي إلي تعسر عملية الولادة , استجابت ابنة عمتي لطلبها وأحضرت لها ما تبقى من مكعبات الثلج فربطته العجوز في صرة في طرف ثوبها , وجلست تتسامر , وخرجت وكان طرف ثوبها يتدلى حتى الأرض , وذاب الثلج وانتهى وجمع ذلك الجزء من ثوبها كمية من التراب الذي ابتل بماء الثلج وكوّن طينا , ووصلت منزلها ونادت على ابنتها الحامل وأخبرتها بالثلج وأنها أحضرت لها منه كمية , مدت يدها إلي طرف ثوبها لتفتح الصرة فما وجدت سوى بعض التراب المبتل ولم تجد شيئا من الثلج , كاد أن يطير عقلها وفكرت في أن عيال ابنة عمتي حرامية , أمهم أعطتها الثلج وهم سرقوه منها دون أن تشعر , مسكينة لم تكن تعرف خاصية الثلج أو خواصه من تجمد وذوبان!
وأنا أكتب هذه الذكريات تزحمني الكثير منها التي تأبى إلا أن أسجلها , وأذكر أني تحدثت مرة في أحد فصول كتبي عن بعض مواقف ذلك الرجل الشجاع المشهور بالتلب , وهو لقب يعني الرجل الشجاع قوي القلب الكامل وما إليه من هذه الصفات ذات المديح الحسن , كان يسمع إذاعة لندن أحيانا , وعرف أن طائرة هندية سقطت وعلى متنها أكثر من أربعين راكبا ماتوا جميعهم , حضر إلي سوق البلدة ووجد أحد الشياب الذين عُرف عنهم ضيق الصدر , كان يدعى حامد وهو من التجار الصغار ذوي الدخل المحدود , قال له : يا حامد أريد أن أكلمك بسر شريطة ألا تخبر به أحدا. فسأله: وما السر ؟ فأجاب :إن طائرة هندية بها أكثر من أربعين راكبا وقعت ومات كل من بها كما أذاعت إذاعة لندن . ضاق صدر عم حامد فقال بصوت مرتفع : وأنا مالي ومال طائرة هندية تقع ولا حتى يموت كل الهنود ؟ فأخذ صاحبنا التلب يهديء من روعه ويطلب منه أن يتحدث بهدوء فالأمر سري للغاية ولكن الرجل كان متماديا في رفع صوته , فأخذ التلب يقول عن الرجل بأنه لا يفهم في السياسة ولا إيه ؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله , الرجل لا يقدر خطورة الموقف ولا يحترم الأمور السرية !
ونفس التلب هذا كانت تبنى له حجرة صغيرة لقضاء الحاجة بمنزلهم , فقد كانت تحفر حفرة من ثلاثة إلى أربعة أذرع عمقا وتغطى بصبية من الأسمنت والرمل والحصى, وتترك لتجف لعدة ساعات أو ليوم كامل علي الأقل حتى تتماسك ذرات الصبية مع السيخ الحديدي الصلب ثم تستعمل , ويبدو أنه استعجل في استخدامها وجلس عليها فانهدمت به الصبية , وجرى الناس لإنقاذه وسحبه إلي الخارج من تلك البئر الضحلة, وبوصولـهم إليه وجدوه يردد : يا خسـارة الأسمنت !
وكان التلب على سفر مرة , صلى الظهر أربع ركعات , لم يقصر , فنبهه أحد أقاربه بأنه لم يقصر وسأله عن سر ذلك , فأجاب بأنه نسي وأخطأ خطأ كبيرا , وبوصوله أم درمان كان يقول لكل من يقابله بأنه أخطأ اليوم خطأ كبيرا فلم يقصر الصلاة وصلى الظهر أربع ركعات , كان يقولها ويكررها جادا متحسرا وكأنه ارتكب كبيرة من الكبائر أو موبقة لا تغفر أو ضيع فرصة لا تتكرر!
ولعل إذاعة لندن كانت تحظى باهتمام كبير ممن يملكون مذياعا , فالمذياع كان نادرا ولا يتوافر إلا عند قلة من الناس , وكان ببلدتنا السيد حسن قناوي , كان محظوظا وممن يمتلكون مذياعا , وكان هناك مجلس يضم المراحيم أبي وخالي وابن خالي وحسن قناوي وعدد من الشيب والشباب , وقبل الثامنة مساء بقليل ينسحب من المجلس حسن قناوي ليتابع أخبار لندن , وما أن تنتهي النشرة حتى يعود بحماس شديد ليحكي بتفصيل ممل لما سمعه من أنباء , وكان يعلق علي تصرفات الرئيس الأمريكي بحنق كبير وغيظ وحماس واضح ضده , ويتمنى أن لو أُعطي له ليجعله خادما عنده أو طباخا , تعبير عن السخط والاستياء من قديم ضد أمريكا الفتوة الظالمة , وكانت زوجة حسن قناوي على ما يبدو متوفية فتزوج بأخرى بدينة ولم ينجب منها سوى ولد واحد , ولأنه كان وحيدا فقد كان عزيزا وغاليا , وكانت أمه وأقاربها يطلقون عليه نور العين إمعانا في تدليله , وصدف أنه رمى أحد أقرانه في ذلك الوقت بحجر على رأسه , وكان قرينه ظريفا لطيفا مشهورا بالملحة والطرفة والنكتة , رد عليه الصاع صاعين , فحضر أهله وعلى رأسهم والدته , وبدأ السؤال :
لماذا تضرب نور العين ؟ ورد : ونور العين ليه يضربني ؟ فيسمع أن نور العين كان يود أن يضرب القمرية , فيجيب : وهل القمرية على رأسي ؟ وتنهي المعمعة بسلام في الغالب , ولكن تبقى القصة لصيقة بمولانا عبد الفتاح محمد عبد الجليل , تروى كأحد نوادره المتكررة , فالرجل كان مرحا وكان ودودا وكان محبوبا من الجميع , وحيثما عمل قاضيا تعلق به الناس وأحبوه , واستقر به المقام قاضيا بمحكمة الخرطوم جنوب , ولكنه سكن مدينة الثورة قريبا من غالبية الأهل وخرج يوم جمعة لأداء صلاة الجمعة, وجاء عدد من المسلحين المتشددين الذين على ما يبدو يختلفون مذهبيا مع إمام الجامع , والغريبة أنهم كلهم لم يكونوا سودانيين , فاختلاف المذاهب عند السودانيين ليست تقود بأي حال من الأحوال إلى عداوات وقتل ورصاص , والسودانيون أكبر وعيا فى هذا الصدد من غيرهم من المتشددين , وأطلق المتشددون النار فأردوا ما لا يقل عن ثلاثين قتيلا وعددا من الجرحى , وكان من بين الموتى مولانا عبد الفتاح , قرأت اسمه بجريدة الخليج فلم أصدق نفسي , فالرجل كان شابا ممتلئا حيوية ونشاطا وكان قاضيا نزيها إلي أبعد الحدود وخدوما للجميع من معارفه وغير معارفه ممن يقصدونه , اتصلت هاتفيا بالسودان فتأكدت أن القتيل هو نفسه قريبي الذي أعرفه وليس غيره , فقد كنت أمني النفس أن يكون الاسم متطابقا مع اسمه ولكن المصاب ربما يكون شخصا آخر غيره , وهكذا تأخذ الأقدار خيارنا , ويبدو أن المتشددين اتجهوا بعد فعلتهم النكراء تلك ببيكاب أو غيره إلي امتداد الخرطوم حيث كان يقيم الشيخ أسامة بن لادن , ويبدو أنهم كانوا يريدون تصفيته أيضا جسديا ولم يجدوه والله أعلم لاعتقادهم بأنه بدا متساهلا بعض الشيء في بعض أمور خلافية بينهم . ولله ما أعطى ولله ما أخذ .
كان هذا القاضي الشاب يتردد كثيرا على مجلس أخي المرحوم ابن خالي وعديلي ـ متزوج أخت زوجتي الكبرى ـ الأستاذ عبد القادر عثمان حسنين , وإني لأشهد للرجل بأنه كان كريما ومتصدقا وكثير المساعدة للآخرين , وكنت أكاد أن أقول إني كنت ألتقي هذا القاضي الشاب يوميا قبيل مغادرتي للسودان في هجرة امتدت لأكثر من عقدين , وكنت أحيانا أجلس ضمن رواد مجلس الأخ الأستاذ عبد القادر عندما لا أكـــــون مرتبطا بموعد أو عمل أو ليلة شعرية أو اجتماع نقابي , وكان الأخ عبد القادر أحيانا يصاب بشيء من الاكتئاب أو الزهق والإحباط فيجلــس وتـبـدو ملامحه صارمة إلي حد كبير , ومـر أحـد المجانـين أو السكارى ـ لا أحدد بالضبط لعـــــدم معــرفتي بحالته عـندئذ ـ وأخذ يسـب ويشتم في الوضع والرئيس نميري , وكان المجلس على شارع عام أمام منزل أخينا عبد القادر , جزع البعــــض وربما خافوا من أن يأتي بعض رجال الأمن فتصــــبح المشـــــكلة كـبيرة , وكان أخونا عبد القادر في حالة السأم التي تحدثنا عنها, وذهب إليه الرجل المجنون أو السكران ليجلس في مقابلته وجها لوجه , لم يحرك عبد القادر ساكنا وظل يرقب الرجل بنظرات حادة ومخيفة , فعلا خاف الرجل وقال لعبد القادر : والله أنت جنك أطرش ومن الأحسن نتركك ونذهب , وفعلا ذهب تاركا أخانا عبد القادر في ضحك شديد متواصل لا ينقطع !
وقبيل الختام تذكرت موقفا حدث لي لا أنساه ما حييت وكان له أثره وغور آلامه , يضحكني حينا ويحزنني أحيانا أخرى, كان سوق بلدتنا , يعمر ويكتظ وينشط بالمشترين والبائعين يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع , وكنا نذهب للسوق ومع الطفل منا خمسة مليمات ( تعريفة ) يشتري بها شيئا يروق له , ثم يحوم طوال اليوم داخل السوق يراقب هذا وينظر إلي ذاك ويخطط لتعريفة السوق القادم , وكان ببلدتنا عدد من الأشراف يقيمون بها , فإذا دخل أحدهم السوق , دخل معه رهط من الحواريين والمقربين الذين يعرفون بالخلفاء ( جمع خليفة وهو لقب مميز للفرد ) , ويتقاطر الناس نحو الشريف للتحية والبركة , وكان الفصل شتاء وشتاء شمال السودان بارد جدا وجاف مما يصيب اليدين والرجلين بطبقة سوداء من القشرة تسمى بالقشف , حتى أن أجسامنا الغضة حينها تتشقق وتنزف دما أحيانا , مما يضطر الوالدة لأن تمسح جسد الطفل بالودق وهو دهن الشحم الذي يحصلون عليه من الكبوش والأبقار والجمال المذبوحة , ويقوم الودق بترطيب الجلد أو بدور دهانات دوف وكاميل وجليسوليد ونيفيا والفازلين في هذا الزمان , وبتليين القشف يتم أخذ حمام لتمكين الماء من تسهيل عملية حك الجلد بنوع من الحجارة الصغيرة المسامية خفيفة الوزن والتي لا تؤذي الجلد طالما كان القشف قد أصبح مشربا بدهن الودق والماء , ورأيت الشريف ورأيت تزاحم الناس للسلام عليه , حاولت أن أفعل مثلهم وأن أسلم عليه , وصلته ويدي عليها طبقات من القشف , مددت يدي فإذا به يقول لي : يا فالح نظف يدك وسلم مرة لاحقة . أحرجت كثيرا وحز ذلك في نفسي كثيرا ولكن يبقى الحال على ما هو عليه !
يبدو أني أطلت الحديث على القارئ الكريم ولكن بقيت لي جملة واحدة لابد أن أكتبها للتاريخ , وهي أني كلما رأيت الآنسة كوندليزا رايس , كلما تذكرت الموت والتحلل والهياكل العظمية , فبكيت !
*من كتابي ليالي الاغتراب ...٣ أجزاء

thepoet1943@gmail.com

 

آراء