هداية وخبال وشهوة (1)

 


 

 

20 فبراير 2023

"التاريخ يعيد نفسه: المرة الأولى كمأساة، والمرة الثانية كمهزلة". كارل ماركس

ضاقت دوائر حلقة السودان الشريرة حتى بتنا نشهد تكرار الأحداث والمواقف في أقل من أربع سنوات، لا كدورات تاريخنا السياسي الحديث الأولى ذات العقود. وأصبحت تفاصيلها حية وأقرب للاستعادة بوسائط التواصل الاجتماعي عكس حظ الدورات الأولى التي احتاج توثيقها سنوات طويلة وكتباً موسوعية غير ميسورة المنال. لذلك فإن كثيراً مما يحدث في واقعنا السياسي اليوم يبدو وكأنه (ديجافو) عشناه بتفاصيله قبل برهة، جاعلاً بعض الكلام زائداً عن الحاجة أو غير مفيد.
هذه السلسلة القصيرة من المقالات تأمل أن تسهم في نقاش البديل الجماهيري "الجذري" لعملية التسوية السياسية الحالية، وهو نقاش ضروري لا يغني عنه المصير الحتمي المعروف لهذه العملية، ويجب أن يكون مفارقاً لأساليب الممارسة السياسية السائدة، وشفافاً لا يتعالى على الأسئلة التي تؤرق الجماهير بالإجابات المعلبة المحفوظة.

حتسقط بس، يعني في زول ما عارف؟
تنبئنا التجربة القريبة أن مآلات العملية السياسية الجارية حالياً لن تكون تحولاً ديمقراطياً ولا تحقيق الحرية والسلام والعدالة، ولا الاقتراب من تحقيق الاستقرار أو التنمية أو تحسين معاش الناس، وأنها ستنتهي لما هو أسوأ من انقلاب 25 أكتوبر.
وتشي أحاديث بعض قادة قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي الموقعين على الاتفاق الإطاري (قحت فيما يلي) وبعض الشخصيات "المستقلة" المقربة منها بقناعتهم أن مصير هذه العملية هو السقوط. ويقر معظمهم بالصعوبات التي ستواجه النظام الجديد، بينما كان أحد أهم مبرراتهم للسير فيها ادعاؤهم بأنها الخيار العملي الوحيد ممكن التطبيق. ويضعون شروطاً ظاهرة التعجيز كضمانات لنجاحها، أهمها ضرورة توحد القوى الثورية والجماهيرية ودعمها لرؤى قحت (نفس القوى التي ظلت تطرح رؤى مختلفة تماماً أصمت قحت آذانها عنها). والأرجح أن تتحول هذه الشروط/الضمانات بعد الكارثة لمبررات لإعادة كتابة تاريخ تغسل فيه هذه القوى أيديها من مسؤوليتها عن حدوس ما سيحدس.
هذه الفقرة من مقال مرحب بالاتفاق السياسي المرتقب للدكتور الشفيع خضر نشر في 12 فبراير تكفي لإزالة أي غشاوة تظن بإمكانية نجاح التسوية: " نكرر القول، بأن أي اتفاق سياسي جديد لن يصمد كثيرا إذا لم تكن في صدر أولوياته قضية العدالة ومحاسبة المسؤولين عن جرائم سفك دماء الشهداء، وإذا لم يضع وينفذ برنامجا إسعافيا عاجلا لتخفيف أعباء المعيشة، وإيقاف التدهور الاقتصادي، وكشف وضرب مكامن الفساد في الدولة والمجتمع، وإذا لم ينفذ تدابير عملية لاستعادة الدولة المخطوفة من براثن حزب المؤتمر الوطني".
هذه الأولويات الستة كانت هناك يوم خرجت جماهير مايرنو والدمازين وعطبرة وبقية أنحاء السودان في ديسمبر 2018، وكانت هي نفسها حين اقتحمت طوق القيادة العامة الأمني في أبريل 2019، وهي هي أثناء التفاوض، وأثناء ملاحم ما بعد مجزرة اعتصام القيادة و30 يونيو، وأثناء التفاوض اللاحق. هي نفس الأولويات التي فشلت الحكومة الانتقالية بطبعتيها كفاءات ومحاصصة في تحقيقها رغم أن الظروف الذاتية والموضوعية حينها كانت أفضل منها اليوم.
بين الأمس
في 2019 كانت غالبية الشارع متوحدة حول تجمع المهنيين، وارتضت قيادة قوى الحرية والتغيير لمرحلة ما بعد إسقاط البشير مع بعض الريبة، رغم أن الفصل بين التجمع وقحت فصل تعسفي نبع من عدم متابعة دقيقة لتاريخ وآليات عمل مقاومة نظام الإنقاذ.
حينها كان البرهان وقادة الجيش حديثي عهد بقمة السلطة وممارسة السياسة المحلية والعلاقات مع الخارج، وكان حميدتي مدركاً بدقة لعوائق صعوده هرم السلطة. وكان المجتمع الدولي يحاول سبر أغوار القوى المؤثرة على المشهد.
كان قادة قحت مطمئنين لقدرتهم على استغلال الفترة الانتقالية والشراكة لتغيير موازين القوى الداخلية والخارجية لمصلحتهم، مستندين على إيمان عميق بقدراتهم وخبراتهم وعلاقاتهم، وعلى استهانة فائقة بقدرات العسكر.
ولكن الواقع كان تخلياً عن الجماهير وتماهياً مع العسكر وأطراف المجتمع الدولي المختلفة، وصراعات ومؤامرات بين الحلفاء حول المناصب والمشاريع، وتصدعات داخلية، ومحاصصات في الوزارات والهيئات، واستمراراً لبعض مناهج عمل نظام المؤتمر الوطني، وسماحاً لحفنة أشخاص بالهيمنة على مفاصل اتخاذ القرارات والسياسات في قحت، وما تبع ذلك من إنشاء وتمدد شبكات مصالح وعلاقات مع شخصيات ومؤسسات ومنظمات وحكومات محلية ودولية خارج الأطر السياسية الرسمية.

واليوم
المتابع لتمثيل المشاركين في ورش "المرحلة النهائية"، ولتلميع الشخصيات، وللنشاط المحموم لوضع الخطط والاتصال بـ"الخبراء" والمرشحين، يستطيع أن يتنبأ بأن المرحلة القادمة لن تختلف عن الفترة الانتقالية الأولى في مناهج العمل ومواصفات الشخوص. كما صغرت دائرة اتخاذ القرار حتى صارت لا تزيد عن أشخاص بعدد أصابع اليدين فوق المحاسبة والمرجعيات، وبعض أهم أجسام قحت منقسمة بصورة عمودية على مستوى قياداتها في غفلة من الشارع وغالبية جماهيرها، بينما البقية لافتات لأشخاص يعاد تدويرهم بين اللجان والورش ووسائل الإعلام بدون أن نعرف من وماذا يمثلون.
ولا يصعب توقع مواصلة الحكومة الجديدة ما انقطع من برنامج حكومة الشركاء في مجالات الاقتصاد والسلام والعدالة والعلاقات الخارجية، فقحت لم تقدم نقداً حقيقياً لإدارة هذه الملفات، وإنما قدمت صورة زاهية إجمالاً للأداء مع تسليط الضوء على مصاعب موضوعية معروفة، وألقت باللائمة على د. حمدوك وأطراف أخرى في البقية. وبرنامج د. جبريل الاقتصادي بعد الانقلاب هو في وجهته العامة نفسه برنامج الحكومة الانتقالية، كما أن هدف النقاش حول سلام جوبا أصبح تجويد تنفيذه وليس مراجعته أو تغييره.
على الضفة الأخرى البرهان وحميدتي ورفاقهما الانقلابيون باقون في قيادة قواتهم، وهم يعلمون أن التناقض بين جناحيهم الآن ثانوي مقابل معركتي بقائهم ومصالحهم ضد الشعب وجماهير الثورة، ولقد توسعت قدراتهم وعلاقاتهم كماً ونوعاً بصورة مرعبة لمستقبل الوطن.
اللاعبون الدوليون صاروا أكثر معرفة بأوزان وأثمان الموقعين على الاتفاق الإطاري مدنيين وعسكريين، وهم الآن أقدر على استغلال الفاعلين المحليين لتنفيذ مخططاتهم الخاصة بالسودان ضمن خططهم الجيواستراتيجية الأكبر.

وبعد
الغرض من هذا الاستعراض المختصر دعوة قوى "التغيير الجذري" وعلى رأسها الحزب الشيوعي السوداني لعدم تشتيت جهودها في دعوات إسقاط الاتفاق الإطاري والنظام القادم، وصرف طاقاتها المحدودة للمهام الجسيمة لبناء وتنظيم الحركة الجماهيرية. قد يكون مفيداً مناقشة الكلفة السياسية الجماهيرية لموقف الحزب الداعي لإسقاط حكومة الشراكة الانتقالية مقابل ما استفاده الشعب والحزب فعلاً.

(يتبع)

husamom@yahoo.com
////////////////////////////

 

آراء