هيلدا جونسون تروي أسرار وخفايا مفاوضات نيفاشا -4-
جوزيف لاقو و قصة التغلغل الإسرائيلي في جنوب السودان
في غمرة استعراضنا وتحليلنا لكتاب هيلدا جونسون (تحقيق السلام في السودان:السيرة الخفية للتفاوض الذي أنهي أطول حرب في أفريقيا) فتحت علينا صحيفة (هارتس) الإسرائيلية كوة مثيرة من تاريخ السودان الحديث، حيث نشرت يوم 28 يناير الماضي إعترافات نادرة للواء جوزيف لاقو ،عبر حوار أجرته معه دانا هارمان مراسلة الصحيفة في جوبا تحدث فيه عن العلاقات السرية بين إسرائيل وجنوب السودان منذ آخر عقد الستينات. تمثل إعترافات جوزيف لاقو وثيقة تاريخية وخلفية هامة تفسر كثير جدا من التفاصيل والمعلومات التي ترويها هليدا جونسون عن مسارات التفاوض وتحقيق السلام في السودان. ورغم أن الدعم الإسرائيلي لحركات التمرد في الجنوب لم يعد سرا خافيا بعد الأعترافات التي سجلها كبار ضباط المخابرات الأسرائيلية مؤخرا، إلا أن أقوال وإعترافات جوزيف لاقو تكتسب أهمية خاصة لأنها إعترافات سودانية في المقام الأول ، كما أنها تتضمن قيمة تاريخية عالية الموثوقية تكشف العديد من أسرار الماضي وطبيعة التطور السياسي لقضية جنوب السودان التي بدأت بمطالب بسيطة في العدالة والتنمية وإحترام الخصوصية الثقافية الي إنفصال درامي لأكبر دولة في أفريقيا.
حسب التوجيهات التي أعطتها المخابرات الأسرائيلية لجوزيف لاقو في العام 1969، فقد خرج من جنوب السودان الي يوغندا بالبر تحت إسم شارلس، وعندما غادر الكونغو الي روما تحول إسمه الي ناثان،وهناك تسلم جوازا مزورا بأسم ليونارد وهو في طريقه من روما الي جزر الكومورو. وسمع لأول مرة في مطار بن غوريون من يناديه باسمه الحقيقي (جوزيف لاقو)، كان ضابط المخابرات الأسرائيلي الشاب يسرع نحوه وهو يحط من الطائرة ويقول له (مرحبا بك في إسرائيل لقد إنتظرناك طويلا). عاد جوزيف لاقو الي جنوب السودان بعد إنتهاء مهمته في إسرائيل بإنجازين الأول هو وعد من رئيسة الوزراء غولدا مائير بأن إسرائيل ستمد التمرد في جنوب السودان بالمال والتدريب والسلاح، والثاني هو أنه تم تجنيده شخصيا عميلا لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد).ويعترف جوزيف لاقو بأن تلك الزيارة قد غيرت وجه التاريخ في السودان، لأن إنفصال جنوب السودان عبر الأستفتاء كان نتيجة طبيعية للتعاطي والتدخل الإسرائيلي المبكر في قضية جنوب السودان. قبل الإسترسال في متابعة إعترافات جوزيف لاقو وشهادته المخلطة للتاريخ لا بد من شرح بعض ملامح الإستراتيجية الإسرائيلية تجاه السودان والتي صدرت في كتاب بعنوان " إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان" في عام 2003 عن مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا التابع لجامعة تل أبيب. لمؤلفه موشي فرج ضابط الموساد المتقاعد
.في هذا الصدد يقول يقول فهمي هويدي: "ما يهمنا الآن في الإستراتيجية التي وضعت وبدأت "إسرائيل" في تنفيذها منذ أواخر الخمسينيات هو موقع السودان والبحر الأحمر فيها. ضاعف من أهمية السودان في الاستهداف الإسرائيلي أنه يطل بدوره على البحر الأحمر، الذي اعتبرته "إسرائيل" رئة ثانية، وممراً يوصلها بالدول الآسيوية ودول شرق أفريقيا.. وهو السياق الذي يفرض على السودان تقديم الدعم إلى حركات التمرد والانفصاليين في الجنوب. اختراق السودان لإضعافه وتهديد عمق مصر الإستراتيجي، اقتضى توفير عدة نقاط للارتكاز تيسر عملية الوصول إلى متمردي الجنوب. وهو ما دفع "إسرائيل" إلى البحث عن مواقع لها في ثلاث دول محيطة بالسودان هي: إثيوبيا وأوغندا وكينيا. وهو ما تحقق في عام 1958، حيث باشرت جولدا مائير العملية بنفسها مبتدئة بإثيوبيا. ولهذا الغرض أنشأ جهاز الموساد شركة «أينكودا» لتكون واجهة له، وقاعدة لإطلاق الجواسيس والعملاء إلى كل من السودان واليمن وعدن، للاتصال بالعناصر المقاومة في الداخل. " .
إن شهادة جوزيف لاقو لا تختلف في جوهرها عن المعلومات الموثقة التي أوردها ضابط المخابرات المتقاعد موشي فرجي. ولعل الاختلاف الوحيد هو أن جوزيف لاقو يدعي بأنه بادر للاتصال بإسرائيل بعد حرب الأيام الستة بينما يورد كتاب " إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان" أن إسرائيل خططت لاحتواء السودان منذ وقت مبكر لأضعافه ، واستغلال قضية الأقليات لتفتيت نسيجه الداخلي وتماسكه الاجتماعي وكذلك إتباع سياسة شد الأطراف ، مما يشي أن إسرائيل ربما كانت موجودة في جنوب السودان قبل زيارة جوزيف لاقو لأسرائيل عام 1969. وفي هذا الصدد يقول جوزيف لاقو معترفا (إن مساعدات إسرائيل أوصلتنا الي ما نحن فيه اليوم من انفصال جنوب السودان) وأضاف بأن شعب جنوب السودان لن ينسي هذه المساعدات التي قدمتها إسرائيل. يعترف لاقو بأن العلاقة بدأت برسالة أرسلها الي رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها ليفي أشكول قال فيها " أهنئكم علي الانتصار الكبير في حرب الأيام الستة علي العرب.إنكم فعلا شعب الله المختار". كان لاقو يدلي بهذه الإعترفات لمراسلة الصحيفة في جوبا ، وهو يرتشف الشاي الأحمر ويداعب عصاه التي يتوكأ عليها بعد أن تجاوز الثمانين . قال لاقو في خطابه Congratulations for your victory against the Arabs. You are God Almighty's chosen people.". كان لاقو ينطق بهذه الجملة وهو يقول ضاحكا " لقد كان خطابا جيدا". لقد كان الإتفاق بين لاقو وجهاز المخابرات الأسرائيلي هو أن تمد تل أبيب قوات الأنانيا بالمال والعتاد والسلاح وتوفير فرص التدريب، علي أن يشعل لاقو الجبهة الجنوبية حتي ينشغل الجيش السوداني بنفسه ولا ينضم الي جيوش المواجهة العربية في الحروب المستقبلية لإسرائيل. إنتظر لاقو في جنوب السودان رد خطابه الذي بعثه الي رئيس الوزراء الإسرائيلي بعد حرب الأيام الستة ، إلا أن أشكول رئيس الوزراء حينها قد توفي قبل أن يصله الخطاب. وما أن إطلعت خلفه غولدا مائير علي الخطاب بعد مضي بعض الوقت حتي طلبت حضور جوزيف لاقو الي تل أبيب علي وجه السرعة. كان الإسرائيليون أكثر رغبة في مناقشة الشق الخاص برغبة الأنانيا في إشعال حرب الجنوب وشغل الجيش السوداني عن الانضمام لقوات المقاومة العربية ، وكذلك محاصرة بعض القوات المصرية التي ربما تنضم لمساندة الجيش السوداني في حرب الجنوب. لم يذهب جوزيف لاقو الي تل أبيب متخفيا فقط بل تم تهريبه عبر عدة مطارات و بجوازات مزورة وأسماء مستعارة حتي يستحيل كشف شخصيته أو وجهته في وقت كان يموج فيه العالم العربي بروح التصدي والمقاومة، وكذلك كانت أفريقيا في فترة التحرر الوطني. صمم جهاز المخابرات الإسرائيلي برنامج زيارة مكثف وحافل للضيف الأفريقي الكبير حيث طاف لاقو خلال أسبوعين علي عدد من القواعد العسكرية الإسرائيلية في الجبهة شملت الجولان ،وسيناء والضفة الغربية. وأخيرا قابل في ختام الزيارة رئيسة الوزراء غولدا مائير في مكتبها الرسمي في تل أبيب، ودار حوار حسب روايته حول العديد من القضايا شملت موضوعات الدين والسلاح وقد أكد لاقو لمضيفته رئيسة الوزراء الأسرائيلية غولدا مائير أن الجنوبيين يعتقدون أن اليهود هم أبناء عمومة المسيح، وبعد ذلك تطرق الحديث لقضايا الإمداد والتسليح وتم الأتفاق علي الصفقة التي ذكرناها سابقا. سرعان بعد عودته الي جوبا وصلت شحنة السلاح الأولي من تل أبيب وهي عبارة عن مدافع 2 و 3 مليميتر مضادة للطيران ، وبنادق آلية تم أسرها من الجيوش العربية في حرب 1967. وإعترف لاقو أن إسرائيل لم تمدهم بسلاح حديث أو مصنوع في إسرائيل وذلك خوفا من افتضاح أمر مساعدتها لمتمردي جنوب السودان. وبعد تلك الشحنة الأولي من السلاح وصل الي جنوب السودان ثلاثة خبراء إسرائيليين الأول خبير عسكري، والثاني خبير فني والثالث طبيب. ورغم حصول الأنانيا حينها علي أسلحة من المتمردين الكونغوليين ، ومن تجار السلاح الدوليين ، إلا أن المدد والعتاد الأسرائيلي أسهم في رفع القدرة القتالية لجيش الأنانيا حينها، ومنذ ذلك الوقت تحولت الأنانيا الي قوة عسكرية تستطيع أن تتصدي وتتحدي الجيش السوداني وأن تحدث الأثر المطلوب علي الأرض. يقول لاقو إن العلاقة مع إسرائيل إذا إستمرت بذات الوتيرة كان يمكن أن تكون قد حسمت قضية الجنوب علي نحو مغاير مبكرا ، ولكن بحلول عام 1972 مارست كل من مصر وليبيا ضغوطا كبيرة علي الرئيس اليوغندي عيدي أمين ، حتي تحول الي خانة العداء مع إسرائيل مما أدي الي إغلاق السفارة الإسرائيلية في كمبالا وطرد كل الخبراء العسكريين. وبهذا تم إغلاق أهم طريق كانت تستخدمه إسرائيل لتوفير المدد والسلاح للتمرد في جنوب السودان. وفي المقابل كانت الخيارات الأخري عالية الكلفة خاصة إسقاط المدد والسلاح بالطائرات في جنوب السودان مما يتطلب عبور الأجواء الأثيوبية وإعادة التزود بالوقود في كينيا. وفي ظل هذه الظروف التي قل فيها العون الأسرائيلي بفعل قطع العلاقات اليوغندية الأسرائيلية التي شكلت ضغوطا أضافية علي الأنانيا ، إستجاب جوزيف لاقو لوساطة مجلس الكنائس العالمي ، والإمبراطور هيلا سلاسي ووقع علي إتفاقية أديس أبابا للسلام في العام 1972 ، وكانت أحدي شروط الحكومة السودانية وقف التعاون الفوري مع إسرائيل. أدي توقيع إتفاقية أديس الي غضب إسرائيل مما دفع اللواء جوزيف لاقو الي الذهاب فورا الي نيروبي ليشرح لضابط المخابرات المسئول عنه طبيعة الأوضاع الجديدة في السودان والأسباب التي دفعته لتوقيع الاتفاقية. حاولت إسرائيل إقناع جوزيف لاقو بالإنسحاب والنكوص عن الإتفاقية إلا أنه نجح في إقناعهم في أن جيشه لم يعد يطيق الحرب وهو يحتاج الي راحة قسرية لبعض الوقت. وبالفعل كما قالت صحيفة هارتس فإن فترة الراحة التي طلبها جوزيف لاقو بلغت أحدي عشر عاما حتي إندلعت الحرب مرة أخري بواسطة أحد ضباطه وهو جون قرنق في العام 1983. وقد ساعد في ذلك أن بعض الضباط الجنوبيين الذين دربتهم إسرائيل أثناء حرب الأنانيا تم إستيعابهم في الجيش السوداني ، وبعضهم تقلد مناصب عليا وأصبحوا معلمين في الكلية العسكرية وبعض أفرع القوات المسلحة. ولعله من الغريب أن يذكر لاقو أن التمرد في نسخته الثانية (الحركة الشعبية) عام 1983 بقيادة جون قرنق لم تنجح في بداية عهدها في خلق علاقات تعاون مع إسرائيل نسبة لاتفاق سري أبرمه نميري مع وزير الدفاع الإسرائيلي أريل شارون. ويواصل لاقو القول الي أن نميري كان يضمر مواصلة القتال من جديد في الجنوب خاصة بعد أكتشاف البترول ، وتطبيق الشريعة في الجنوب ، وكان يدرك أنه لا يمكن أن ينجح في ذلك إلا بتحييد إسرائيل. وفي هذا الصدد التقي نميري مع شارون في نيروبي حيث أعلن له دعمه وتأييده لأتفاقية كامب ديفيد وأن السودان يطمع في صداقة إسرائيل ، علي أن تتعهد إسرائيل بعدم تقديم أي دعم للتمرد في جنوب السودان. ووفقا لهذا اللقاء تم إتمام صفقة سياسية غريبة المنشأ والأطوار بين الخرطوم وتل أبيب في ظروف بادية الغرابة وبائنة التناقض لأن نظام الرئيس جعفر نميري كان أكثر أصولية من ذي قبل رافعا للشعارات الإسلامية ولكنه في ذات الوقت يتمتع بعلاقة صداقة سرية مع إسرائيل. وكانت أحد شروط الصفقة حسب شهادة جوزف لاقو ترحيل الفلاشا الأثيوبيين الي إسرائيل عبر السودان ، وفي المقابل تمتنع إسرائيل عن دعم أي تمرد قد ينشأ في الجنوب . وقال شارون ردا علي نميري : "وماذا نريد من لاقو إذا كانت مصالحنا مرتبطة بك". وفي أحدي مغالطاته المعلومة للتاريخ يزعم جوزيف لاقو أن نميري بعد إتفاقه مع شارون شعر بالثقة والقوة فأنقلب علي إتفاقية أديس أبابا وخرقها ومزقها . ولعل سدنة التاريخ الحديث وشهود الأحداث الحية يؤكدون أن خرق الإتفاقية بدأه جوزيف لاقو في ظل صراعه التاريخي المحموم مع أبل ألير، و قاد الاستوائيين للمطالبة لإعادة تقسيم الأقليم الواحد الي ثلاث مديريات لتقليل نفوذ الدينكا في الحكومة الإقليمية. وبالطبع عادت إسرائيل لدعم حركة التمرد بقيادة قرنق من جديد، ولكن هذه المرة لم تكن لوحدها بل أيضا ساهمت في ذلك ليبيا وأثيوبيا ، ونجحت إسرائيل في جلب خبراء عسكريين من المانيا مما كان له أكبر الأثر في تقوية جيش الحركة الشعبية وأتساع رقعة الحرب وشراستها. ويقول لاقو للصحيفة بعد إعلان الاستقلال أريد زيارة إسرائيل ومشاهدة الأماكن التي زرتها عام 1969، وأكد علي ضرورة قيام علاقات دبلوماسية بين البلدين لأنه لا يمكن نسيان الأصدقاء القدامي.
حول العلاقات المستقبلية المحتملة مع إسرائيل قال دينق ألور في حوار مع صحيفة (هارتس) الإسرائيلية إن جنوب السودان يرغب في علاقات دبلوماسية مع إسرائيل بعد اعلان الدولة المستقلة في يوليو القادم، ويحبذ كبار المسئولين في الجنوب عدم التحدث عن مستقبل العلاقات مع إسرائيل حتي لا يثيروا حفيظة الشمال الذي ظل يتهمهم بتلقي المال والسلاح والدعم السياسي من تل أبيب، ولعل شهادة جوزيف لاقو التي عرضناها في صدر هذا المقال تخرج هذا القول من دائرة المزاعم والإدعاءات الي مقام الحقائق والوثائق. رفض دينق ألور أن يعترف أنه زار إسرائيل من قبل رغم وجود بعض المؤشرات الدامغة في هذا الصدد ، ولكن لديه أقارب يعيشون هناك. فقد عادت مؤخرا الي جوبا إبنة أخته مع أبنائها الثلاثة بعد أن حصلوا علي اللجوء السياسي في إسرائيل خلال الثلاث السنوات الماضية. ولكن يشكو دينق ألو قدر هؤلاء الأطفال لأنهم يجيدون التحدث بالعبرية فقط، ولا يوجد في جوبا من يشاركهم الحديث بهذه اللغة التي سيكون لها في القريب العاجل شأنا في مستقبل جوبا السياسي والاقتصادي. هذه الخلفية ضرورية لنتعرف في الحلقة القادمة عن المحادثات غير المعلنة التي كان يجريها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش مع جون قرنق. (ونواصل)
khalid Musa [kha_daf@yahoo.com]