والخطاب السّياسي ،متى يعقل ويرشد؟

 


 

 


إذا بدأنا  بالقاموس  اللّغوي لخطابنا السياسي وجدنا فيه لغة تعكس وضعنا السياسي المضطرب وعلاقة الشد والجذب بين مكونات المجتمع المختلفة كما تميز خطابنا منذ بدايات الإنقاذ بلغة استعدائية وإقصائية بدأت "بأمريكا روسيا قد دنا  عذابها"والأمريكان ليكم تسلحنا"الى أن وصلنا" للحس الكوع" كما أن لغة المعارضة لم تكن أفضل من ذلك حيث ابتدأنا من "تهتدون" وانتهينا "بتفلحون"فتشاركون وتجادلون وتغالطون وبينهما "البلد بلدنا " ونحن أسيادها "كما أننا بدأنافي الطرف  الآخر "بسلّم تسلم"ثم سلّمنا واستلمنا وسنستلم وهذا ما يسم خطابنا السياسي بميسم العبثية والبعد عن الموضوعية واحترام الإنسان الذي نحسبه ساذجا ونريد أن نبسط وصايتنا عليه  ونعطي أنفسنا وحدنا المشروعية السياسية والأخلاقية ونجسم بذلك جهلنا وعجزنا السياسي  وتردينا الفكري وسطحيتنا وتعسفنا وبعدنا عن الشفافية والمصداقية في الأمور.ولم يسلم من الأمر حتى الذين يلوكون مصطلح "المهمّشين"الذي يقول عنه  الدكتور"صبري محمد خليل"إنه مصطلح سالب وليس بموجب "لأنّ الاستخدام السائد للمصطلح في الخطاب السياسي يكاد يقصره على دلالته العرقيةثم تقصر أخيرا على استعلاء عرقي يمارسه العرب أو الشماليين على من سواهم"
ماسبق يوضح لنا أنّ خطابنا السياسي بعيد عن المعايير العلمية ومبني على الروح التعليمية والتربويةفالمخاطب –بفتح الطاء-تلميذ والمخاطب-بكسر الطاء-أستاذ مع أن العكس قد يكون صحيحا في كثير من الأحيان وهنا يكون موقف التلميذ سلبيا  يتلقى ولايحق له أن يرفض ما قيل له أوطلب منه ،فالأمر في الخطاب التربوي بين أستاذ ومتلق أما السياسي فبين ندين متساويين تحكمه الشفافية وتعزّزه المصداقية.
الخطاب السياسي يحدد الفئة المستهدفة لتنوع  المخاطبين وتمايز ثقافاتهم وتعدد انتماءاتهم وأطيافهم السياسية حتتى يمكن أن يحقق هدفه ويوصل رسالته وبالتالي يتحقق الاحترام للمخاطبين؛لأن خطابنا لايدل على وعي سياسي يعبرعن احترام المتحدث لمن يخاطبهم باتجاهاتهم المختلفة كما أنه عاجز عن إقناع المتلقي بمضمونه الذي ييفتقد المصداقية والواقعية فعندما ينكر مسؤول وجود فساد  مدلل عليه ومشاهد  ويدعي أننا أفضل من أمم أخرى  وأننا نسير وفق استراتيجية وبرامج مدروسة وخطط فاعلة وعملية ؛ فإنه لايلقي عقولنا بل يسيئ إلينا كثييرا.
خطابنا لايستند الى فقه سياسي يعتمد على ثقة المخاطب فيه وفي مصداقيته لأنه يفتقد مقومات الشفافية  والثقة والموضوعية وبالتالي يكون المعني بخطابه  هو من يستفيد منه أو يشترك معه في صفاته ومرتكزاته، ومثل هذا الخطاب لايملك  القدرة على إقناع المخاطب  بتنبؤاته واستنتاجاته فقد يكمن ادراك المتلقين ومعرفتهم وثقافتهم اعلى  وأشمل وهذه إشكالية كبيرة في التعاطي السياسي في السودان.
لغة الخطاب السياسي يفترض أن يكون له مردود في الأذهان بقوة مدلوله وجمال صياغته  واستمرارية تأثيره  فمن منا لايحفظ خطاب "الحجاج بن يوسف"في الكوفة قبل قرون"إني لأرى رؤوسا قد حان قطافها وإني لصاحبها ،وكأني أنظر الى الدماء بين العمائم واللّحي"أو كلمات "زياد بن أبيه""والله لآخذن الولي بالمولى والمقيم بالظاعن والصحيح منكم في نفسه بالسقيم حتى ليلقى الرجل أخاه فيقول :أنج سعد فقد هلك سعيد"ولكل مقام مقال ولكل عصر لغة ورجال.
فالسياسي لابد أن تكون له لغته المحترمة وأسلوبه الذييميّزه وكلماته المعبرة عنه والمفردات والمضامين التي تحقق أهدافه وتميّز خطابه لأنه يواجه مواقف متعددة  ينتظر الناس  خطابه عن طريق خطبة سياسية أو حوارمقروء أو مسموع أو مشاهد ومسموع وقد يواجه بعدد من السائلين والمحاورين مما يفرض عليه أن يجهز نفسه ويحدد أجوبته فيما يطلب منه  أو يفاجأ به بحيث يفرق بين ما يقال ومالايقال  وما يذكر وما يلمح له وما يقوله بصدق وما يكتفي فيه بالمعاريض وغيرذلك .وهنا لابد من  معرفة  مستوى المحاور  وإمكانته العلمية والثقافية  والتحاورية حتى لايورط في أمر
يلهث في  تكذيبه ونفيه أو ادعاء أن حديثه أفرغ من مضمونه أوجاء مبتورا  أو نسب اليه ما لم يقله ’وكل ذلك لايغيب عن فطنة القارئ أو المستمع  ولايشفع له لأن إدراك ذلك كله يضمن سلامة  .
إنّ ادراك المتحدث  لتباين مفاهيم  ومقاصد من يخاطبهم يفرض عليه إحداث التوازن في الخطاب بين الطول والقصر  والأصل والفرع والمهم والأهم والثابت والمتغير. إنّ  هدف السياسي بخطابه أن يحدث تغييرا في الأفكار وعصفا في العقول وبسطا للأفكار وتعريفا بما هو واقع أو محتمل حتى يمكنه أن يؤثر في الناس بضمون خطابه وسلامة رأيه وصدق معالجاته.
المطلوب في خطابنا السياسي أن يتحدث باللغة التي يتعامل بها الناس لتحقيق التواصل مع بسطه لرؤيته دون تعقيد أو تنميق بل بتلقائية يقبلها المخاطبون ويتفاعلون معها وبها
دون تجريح أو تشهير ودون تبرير للإخفاقات وتخريج للأخطاء ومداراة للحقائق ودون التبشير بوعود لاتنجز  وانجازات لاأساس لها في الواقع وطموحات لايسايرها معطيات الواقع أو مآلات الاستشراف.
عبّاس محجوب

Dr Abbas Mahjoob [ammm1944@gmail.com]

 

آراء