العنوان الذي اخترته لهذه الكلمة ، عبارة شهيرة من عبارت الغناء السوداني الحديث ، وردت في أغنية ذائعة الصيت ظهرت في سبعينيات القرن الماضي. تلك هي أغنية " طير الرهو " ، وهي أغنية من تأليف الشاعر الكبير " إسماعيل حسن " ، وألحان الفنان " صلاح بن البادية " ، وأداء المطرب " حمد الريح ". وقد تميزت هذه الأغنية بصفة خاصة بطرافة موضوعها وجدته ، وتفرده عن المألوف والسائد من أنماط الشعر الغنائي التقليدي الذي كان سائدا حينئذِ. ففيها تأمل ، وفيها ذكرى ، وفيها شجن ، وفيها حنين. وفيها خواطر فلسفية ، وفيها خصوصا إسقاطات نفسية عميقة ذهب بعض المؤولين إلى أنها إسقاطات وإيماءات رمزية سياسية قصد منها الشاعر صديقه القائد السياسي الاتحادي الكبير الشريف حسين الهندي رحمه الله ، الذي رمز له الشاعر بطير الرهو نفسه كما زعموا ، ذلك الطائر المهاجر الرحالة ، الذي يغيب عن أرض السودان مهاجرا في بلاد الله الواسعة طوال أشهر الشتاء القارس والصيف اللاهب ، ولا يعود إليها إلا مع أواخر فصل الصيف وأوائل فصل المطر الذي نسميه نحن الخريف ابتداءا من أواخر يونيو أو أوائل يوليو من كل عام. والله يا طير الرهو قسماً عديل ما فيه لوْ دمع الحبايب زي نغيم الساقية في الوادي البعيد بتسوي شوْ ** ** ** أشكو ليك من جور زماني كيف رماني شوف وراك شوف الزمن كيفن بيسوْ حتى باقي الزاد كمل والليل طويل طولاً غريب ما فيه ضوْ والريح تنوح فوق الدروب واخوفي من صوت الرياح وكتين تنوح وتسوي أوْ ... الخ الخ .. تأمل هذا الاستخدام البديع لجرس حرف الواو الساكن الذي يصك المسامع ، ويضغط على الأحاسيس بوقعه الرهيب مما يزيد من درامية الصورة في هذا النص الأخاذ إسماعيل حسن ، والذي يمضي معه حتى يأتيك بذلك القرع نفسه مجسدا في مثل قوله: والنغيمة الحلوة تسبقنا وتنقر بابنا .. كوْ ولكن ، ما هو طير الرهو هذا المقصود في هذه الأغنية ، وما هي صفته ؟. وهل أهل السودان جميعهم ، بل غيرهم من المتحدثين بالعربية ، سواء في تصور صفته تلك ، أم أن هنالك اختلافات فيما بينهم حيالها ؟ . يبدو أن اللفظ " رهو " كاسم يطلق على نوع معين من الطيور ، ليس قاصراً على العامية السودانية وحدها. فقد عثرت في موسوعة ويكبيديا بالشبكة العنكبوتية على أن هذا اللفظ نفسه مستخدم في اللهجة السعودية ، وغالباً في لهجة الحجاز أو المنطقة الغربية عموما ، على نوع معين من الطيور المائية رمادية اللون تشبه الكركي أو الغرنوق ، تصاد للحمها الشهي المذاق. وهذه الطيور التي يسميها الناس هناك بطير " الرهو " أيضاً ، تعرف باسمها العلمي باللاتينية Anthropoides virgo ، بينما تعرف في الإنجليزية إما بال Damoiselle crane أو ال Grey crane . وفي ظني أيضاً ، أن سكان المناطق النيلية بوسط وشمال السودان يطلقون اسم الرهو على ذلك الطائر المائي ذي المنقار الطويل نوعاً ما ، والمعقوف في نهايته إلى أسفل ، وذي الرقبة السوداء والمؤخرة السوداء أيضاً ، بينما سائر جسده في الوسط أبيض اللون ، أو العكس ، وهو لعمري ذات الطائر الذي كان يقدسه قدماء المصريين منذ آلاف السنين ويصورونه بكثره على جدران قصورهم ، ومقابرهم ، و معابدهم ، وما يزال يعرف عندهم باسم " أبو منجل " ، نسبة لشكل منقاره المعقوف الذي يشبه المنجل. وهذا الطائر يعرف في معظم اللغات الأوروبية بما فيها الإنجليزية باسم Ibis ، بينما اسمه العلمي في اللاتينية هو Threskioris Aethiopica . وهذا الطائر المائي المهاجر ، ما يزال يشاهد بكثرة في جميع أنحاء السودان وخصوصا في موسم الخريف والفيضان ، بما في ذلك الخرطوم حيث يحط فوق بعض الأشجار في بعض الأماكن وخصوصا جزيرة توتي ، وغابة السنط ، وجزيرتي النيل الأبيض وغيرها. وهو طائر يصلح للصيد مثل البط الأوز وغيرها من الطيور المائية ، وقد أخطأ مؤلف هذه المادة المنشورة بموسوعة ويكبيديا عندما زعم أن هذا الطائر غير موجود حاليا في وادي النيل. وأحسب أنه هو " الرهو " نفسه الذي ورد ذكره في طبقات ود ضيف الله في معرض ترجمته لبعض الشيوخ الذي مرض وذكر له أن شفاءه في دهن الرهو ، فاصطاد أحد أقاربه له رهوة ببندقية له فجاءه بدهنها ، وكانت تلك – كما لاحظ محقق ذلك الكتاب: بروفيسور يوسف فضل – من الإشارات النادرة لاستخدام الأسلحة النارية في السودان في ذلك العهد المتقدم. بيد أن طائر " الإيبيس " الآىف ذكره ، والذي نرجح أنه هو الذي يسميه أهل وسط وشمال السودان بطير الرهو ، يُعرف في كردفان باسم " النِعيجة " ، بكسر النون وياء ممالة ، فكأنه تصغير لكلمة: " النعجة " ، ولا أدري لم سموه هناك بهذا الاسم. والنعيجة هي واحدة من مجموعة من الطيور المهاجرة التي تزور سهول كردفان وغيطلنها عادة مع أوائل فصل الأمطار أو ما يسمى عندهم ب " الرُشاش " ، مثل: النعيجة المذكورة ، والحبارى ، وأم عكَّار ، والسمبر ، وأبو اندلق ، والمرعة وغيرها. ولئن كان أهل كردفان لا يكادون يستخدمون مفردة " الرهو " هكذا في كلامهم في الإشارة إلى اسم طائر بعينه ، إلا أنهم يسمون ذلك الطائر الأبيض الرشيق الحركة ، الذي يعرف في مناطق أخرى بالسودان باسم " طير البقر " ، يسمونه " الرِّهيو " على التصغير أو " أب رهيو " ، فكأن هذا الاسم هو تصغير رهو نفسها كما هو واضح. والأطفال هناك يغنون له عندما يرون أسرابه الرشيقة تنطلق في جو السماء في العشيات ، ويقولون له وهم يفركون أناملهم الصغيرة: " أب رهيو تعال .. أديني بيوضة .. نديك خدورة " ، وهم يعتقدون أن الشامات أو النقاط البيضاء التي تظهر على أظافرهم بعد ذلك الغناء ، هي مما منحه لهم ذلك الطائر الميمون. على أن أهل كردفان يكنون عن سوء الجوار بعبارة: " جيرة اب رهيو " ، ذلك بأن أب رهيو أو طير البقر ، طائر كسول وأخرق ، يحب تتبع أسراب البقر ، والتسكع بين المروج والغيطان فقط ، ولا يحسن صنع الأعشاش المحكمة كما تفعل السمبرية الحكيمة والوقورة والصناع. وكثيرا ما يتعدى أب رهيو على أعشاش السمبر الجاهزة خلسة ليتخذها سكنا بدلا من أعشاشه الرديئة الصنع ، فيثور الشجار بينهما. وللمقارنة أيضاً ، فإن طائر أب رهيو الذي يعرف كثير من مناطق السودان بطير البقر ، معروف بهذا الاسم نفسه في المغرب ، وهو لعمري اسم له صدى حتى في بعض اللغات الأوروبية مثل الإنجليزية التي يعرف فيها باسم Cattle egret إلى جانب اسمه الآخر Heron ، كما يعرف في الفرنسية ب pique-bœuf أي ناقد الثيران. ويعرف المصريون هذا الطائر في عاميتهم باسم " أبو قردان " ، واسمه العلمي باللاتينية هو Bubulcus ibis مما يدل على أن عنصر الرهوية المضمنة في اسمه الكردفاني حاضر فيه بقوة من حيث التصنيف السلالي والله تعالى أعلم.