khaliddafalla@gmail.com في لقاء عابر علي هامش المشاورات غير الرسمية ببرلين الأسبوع الماضي مع ياسر عرمان قال وهو يحاول ان يرسم في حديثه ما اسماه مظاهر انحطاط مشروع الإسلاميين ان الإنقاذ أفرزت في الفن ندي القلعة وفي التصوف شيخ الأمين وفي السياسة تراجي مصطفي زاعما ان هذه الشخصيات تعبر عن منظومة واحدة لمظاهر الانحطاط الثقافي وقال مقارنا ان اليسار يكفيه ان افرز في مشروعه الثقافي محمد وردي. ما كان يهمني هذا التوصيف في سياق الجدل السياسي لكن استوقفتني حمولته الأيدلوجية، اذ ان العقل السياسي الذي يبحث عن التسويات ما يزال مشغولا بالمقارعة الأيدلوجية بشان افرازات الانحطاط الثقافي لما اسماه المشروع الاسلامي في السودان، اذ تقتضي شروط التسوية التجاوز والبناء علي المشتركات. ولعل هذا التوصيف يفتقر الي أسس التعريف السليم بالظواهر الاجتماعية، اذ لا توجد ثقافة منحطة او اخري راقية لانه توصيف يحمل جينات العقلية الاستعمارية والاستعلائية ، و وجود هذه الرموز التي أشار اليها في المشهد الفني والديني والسياسي هو نتيجة حتمية لطبيعية الحراك الثقافي و الاجتماعي السائد، وكذلك هو استجابة لتحديات المرحلة التاريخية في تطور المجتمع السوداني، وقد ساهمت الحركة الشعبية ومثيلاتها من الحركات المسلحة الآخري في تشكيل وبلورة هذا المناخ الذي يدينه ياسر عرمان لانها خلقت حالة من التجريف الثقافي والخواء الفكري والتسطيح السياسي ، اذ جعلت العنف هو الشرعية الثورية للتغيير دون ان تحتمل لأواء النضال السياسي والبناء الديمقراطي المتدرج و جعلت من خطاب الأقليات الجهوية والجغرافية محورا للحشد وصناعة الغبن الاجتماعي للتغير. و اذا سلمنا جدلا حسب زعم ياسر عرمان ان السودان يمر بحالة انحطاط ثقافي فان سببه الأساسي ليس مشروع الإسلاميين فحسب لانه افرز تراجي وشيخ الأمين وندي القلعة او لانه حسب زعمهم يغذي القبح ويحارب الجمال، بل اعتقد جازما ان مشروع الحركة الشعبية وغيرها من حركات الهامش المسلحة لها القدح المعلي في حالة التجريف الراهنة بما خلقته من اضطراب سياسي واجتماعي و تسببت حالة النزوح الجماعي جراء الحرب ومحرقة الشباب وتطلعاته الفتية في هز أركان المنظومة القيمية السائدة وفشت في المجتمع وفقا لذلك ثقافة العنف وتحبيذ مغامرات الحرب وكسوبها السياسية والاقتصادية واستسهالها علي طريق التعليم والمثابرة والمنافسة الاجتماعية العادلة. لا يحتجن احد علي انه ليس للاسلاميين مشروع ثقافي في الفن بل هي محاولات خجولة لأضطراب الفقه وغياب نزعة الاجتهاد والتجديد في هذا الصدد، رغم محاولات شيخ الترابي الجريئة، لكن في المقابل فأن مغايظة تيار اليمين الاسلامي المحافظ بالقول ان مشروع اليسار الثقافي صنع او افرز محمد وردي لهو قول متهافت، لأن الأيدلوجيا لا تصنع الفن ولأن مشروع محمد وردي الغنائي اكبر من يدعيه تيار بل هو إستجابة جمالية باذخة وتوهج لافت لتفاعل الوعي والرومانسية في لحظة فارقة في تاريخ السودان الحديث، وهو امتداد طبيعي لكنه استثنائي ومتفرد لحالة التجديد في الغناء السوداني التي سبقه فيها آخرون من الرواد. ومحمد وردي مشروع فني باذخ صنعته موهبته الاستثنائية وعبقريته الفذة ووعيه الذاتي وادراكه لطبيعة اللحظة التاريخية ودوره الثقافي والجمالي في تشكيلها بشخصيته التي لا تقبل المساومات، وهو بذلك ليس نتاج اصطناع فني علي عينّي اليسار الأيدلوجي، لقد استمعت الي وردي وهو يقول ان الغناء للانقاذ هو غناء للاسمنت والكباري وليس لمشروع ثقافي، ولكن هذه التفاعلات وملابسات الحالة الاجتماعية والثقافية أنتجت الظاهرة محمود عبدالعزيز (حوته) الذي اكتملت أدواته الفنية والإبداعية واتسعت شعبيته في ذات العهد الثقافي الموصوف بالانحطاط. وقد صنف بعض أهل اليسار ظاهرة محمود عبدالعزيز انها حالة احتجاج فني علي غياب الحرية. ولكن اصدق وصف للظاهرة وقفت عليه هو ما أشار اليه بروفيسور عبدالله علي ابراهيم في ان محمود عبدالعزيز اخترط ثقافة فرعية sub culture من التيار الثقافي الرئيس ، و اصبح أيقونة فنية اكثر من انه صوت احتجاجي في الفن كما حاول بعض أهل اليسار ان يصنفوه، بل تجاوز حالة التصنيف الأيدلوجي اذ اجتمع في حب محمود من الحواته أهل اليمين واليسار وتحولت ذكراه السنوية الي احتفاء أسطوري في اكبر الاستادات ومبادرات حية لمشروعات خيرية. تستطيع رموز الفن والثقافة ان تعيد تعريف اللحظة التاريخية التي تعيش فيها ولا تأتي استجابة وإفراز طبيعي لحالة انحطاط او تطور في الحالة الثقافية. أصبحت اكثر قناعة من ذي قبل انه لا يمكن التوصل الي تسويات سياسية دون ابتدار عميق بين مختلف النخب الفكرية والأيدلوجية ، لأن الاختلافات ليست حول محاصصات السلطة والثروة فحسب بل هي ايضا حول جملة من الأفكار والتصورات عن طبيعة الدولة السودانية وكيفية إدارة التنوع والوفاء بالحقوق للأقليات، وتلك اجابات لا يملكها السياسيون فقط بل لا بد من اشراك أهل الفكر والنظر خارج سياق التفاوض الرسمي في الحوار والنقاش. كانت اجابة احد ابرز القائمين علي الحوار الذي أجراه مركز الدراسات بالدوحة العام قبل الماضي انه للمرة الأولي تجتمع نخبة سودانية مختارة تمثل مختلف التيارات الثقافية والفكرية للحوار والنقاش تحت سقف واحد. واتحسر عندما اطالع إسهامات د. الواثق كمير السياسية والفكرية لمخاطبة جذور الأزمة السودانية ولا اجد منبرا يجمعه للحوار مع مختلف نخب التيارات الآخري. يمكن للسياسيين ان يتفاوضوا لكن لا بد من خلق منابر مفتوحة للحوار بين مختلف النخب الفكرية في التيارات المختلفة ، لأن الحل الشامل للأزمة يجب ان يستند الي أسس فكرية وليس لتنازلات سياسية تقتضيها توازنات القوة في اللحظة الراهنة فحسب، لأنها معرضة للانهيار مع اول التماع برق يزمجر في السماء. علي هامش حديث الفن ومزاعم الانحطاط الثقافي يسعدني ان انشر في هذه الزاوية تعليق الاستاذ عبدالعزيز حسين الصاوي الكاتب المرموق في الساحة السياسية والثقافية والفكرية علي الحوار القلمي حول الطبقة الوسطي الذي دار بيني والدكتور عطا البطحاني علي صدر هذه الصحيفة، وقد آبتدر الاستاذ الصاوي منذ سنوات خلت حوارا فاعلا حول الاستنارة والديمقراطية واتجه لتأسيس مجموعة (نحو مجتمع مثقفين) وظل رهين محابس الانتاج الفكري والثقافي منذ ان هجر العمل الدبلوماسي قبل عقود خلت وكرس معظم إنتاجه الغزير ونظره العميق للإصلاح الفكري والديمقراطي داخل تفاعلات حركة القوميين العرب،و وأصبح مهموما الان بحركة الاستنارة والإصلاح الديمقراطي في السودان. ، تحت عنوان هامشيات حول موضوع الطبقة الوسطي كتب الاستاذ عبدالعزيز حسين الصاوي الآتي: بدأت خلال الايام القليلة الماضية مناقشة واعدة بين الاستاذين خالد موسي دفع الله وعطا البطحاني حول موضوع الطبقة الوسطي. هذا دلو صغير بين الدلوين الكبيرين.
محاولات صاحب هذه الخواطر لتصويب استراتيجية المعارضة تدور حول إهمالها لضرورة تنمية المقومات الموضوعية للديموقراطية بما يتضمن، مع أخريات، إعادة النظر في رؤيتها للعلاقة بين سياسات نظام الانقاذ والطبقة الوسطي. التركيز المجرد علي إسقاط النظام يظل قائما رغم كل الجهد المعارض لاعداد خطط مابعد- الانقاذ، لان المفقود حقا وفي كافة تجاربنا ضد أنظمة الانقلابات، هو تذليل عقبة عدم وجود قوي ومناخات ثقافية ديموقراطية تؤمن استمرار نظامها السياسي بما يسمح بتنفيذ تلك الخطط، وهو امر وثيق الصلة بطبيعة احتياجات وتطلعات شرائح الطبقة الوسطي. من هنا اهتمامي بالمناقشة المشار اليها عبر هذه الملاحظات السريعة المبتورة بضيق الوقت السوداني المزدحم استثناء لمن تتحدد فترة بقائه في الوطن بارتباطات بقائه الاطول خارجه.
المتابع لخطاب المعارضة السودانية يخرج بأنطباع ان حقبة الدكتاتورية الانقاذية الراهنة لم تترتب عليها اي تغييرات في تركيبة الرأسمالية السودانية ، علي الاقل بالمقارنة للحقبة الدكتاتورية المايوية، تبعد عنها مصطلح الطفيلية السائد في هذا الخطاب. بالاضافة لمقتضيات الموضوعية في الاعتراف بعدم صحة هذا التقدير إزاء حقائق معينة مثل توسع القطاع المصرفي ونشوء قطاعي الاتصالات والصناعات البترولية خلال هذه الحقبة، فأن في تلمس حدود ومواقع الطبقة الوسطي فائدة مباشرة للمعارضة لان هذه المواقع هي نفس مصادر تمتين قوامها النوعي وتأهيلها لتأسيس ديموقراطية تدوم. النظام الحالي يتقاسم مع سلفه وحليفه المايوي الخاصية الرئيسية، الشمولية التي تنعكس اقتصاديا في تخصيص معظم الدخل القومي للقطاعين العسكري والامني وفي سوء توزيع ماينتج عن النشاط الاقتصادي في القطاعات الاخري. ولكنه يختلف عن المايوي في انه نظام نخب إسلامية التوجه نمت وتوسعت كما ونوعا متغذية من غنائم فترة التحالف مع المايوية ومن العلاقات الخليجية بحيث تراكم لديها رأسمال بالبعدين الاقتصادي والتعليمي يتجاوز بمراحل ماتوفر للاخرين، وأضحت بذلك مؤهلة للقيام بعملية تغيير لكنها لاتتعدي البني المادية الى مجال التغيير الحقيقي في البني الثقافية والعقلية ( تحديث وليس حدثنة MODERNIZATION AND NOT MODERNITY ).
مع الاطروحة الرئيسية في مقال الاستاذ دفع الله، المتميزة كعادتها بالغني المعرفي والثقافي، والخاصة بتطورات التركيبة الطبقية السودانية خلال الحقبة الانقاذية، اتفق بهذا المعني وفي هذه الحدود. فيما يتعلق بتعليق الاستاذ البطحاني، الذي لايقل ثراء وتحريضا علي التفكير، اتفاقي معه يكاد يكون كاملا، اي مع إضافة نقطة جانبية خاصة بعوامل نمو الطبقة الوسطي في جنوب افريقيا بما في ذلك اتساعها للهامش الاسود . في ظني إن هذا النمو يعود ايضا الى ان نظام التفرقة العنصرية كان نظام تفرقة في الديموقراطية أيضا بما يعني انها كانت موجودة رغم انحصارها في البيض مما ساهم في خلخلته داخليا بظهور قيادات مثل دو كليرك عبرت عن التصاعد المطرد لنفوذ الطبقة الوسطي، متناغما مع ضغوط نضالات الاغلبية الافريقية والدعم العالمي. هذا السياق الديموقراطي غير قائم لدينا كمتن قوي في المجتمع وبالتالي كقوة ضغط سلمي متصاعد، ما يسمح للسلطة بتلاعبات انفتاحية مسيطر عليها سلطويا. ومايعني، من جهة أخري، أن نمو الطبقة الوسطي سيبقي محدودا ومشوها ولكن تبقي له إفرازات مفيدة للعمل المعارض ومنافذ لتعظيمها ، إذأ أدرك جوهر المعضلة التي تواجهه، عن طريق تعظيم الضغط في مجال إصلاح النظام التعليمي بصورة خاصة.
في استطراد من هذه النقطة سنلاحظ ان الدكتاتوريات العالم ثالثية التي كانت مسنودة من الغرب، والاخري التي تقع في نطاق ثقافته الدينية وحضارته عموما، مثل اوروبا الشرقيه، جري تحولها الديموقراطي بقدر كبير من السلاسة ( اندونيسيا ، كورياالجنوبيه، تركيا الخ .. الخ.. الخ). هناك فيما يبدو مايشبه القانون في العلاقة بين الديموقراطية والرأسمالية يمكن قبوله رغم ضد الانتقادات المشروعة الذائعة ضد الاخيرة بتعديل مقولة تشيرشل الشهيرة حول الديموقراطية لتصبح: الرأسمالية هي أسوأ الانظمة باستثناء كافة الانظمة الاخري. والشاهد إن هذا الشرط المزدوج أيضا مفقود لدينا، فلا دكتاتوريتنا مسنودة من الغرب ولا نقع ثقافيا ودينيا في المجال الاوروبي