ظل الدكتور علي الحاج القيادي في المؤتمر الشعبي ينتقد اتفاقية السلام الشامل ومآلاتها بعد انفصال الجنوب ويقول أن أهم عيوبها هي أنه لا توجد محاضر للإجتماعات والمفاوضات يمكن الرجوع إليها، علي عكس المفاوضات التي قادها في السابق مع الحركة الشعبية في نيروبي وأبوجا وفرانكفورت حيث تم التوقيع علي محاضر الإجتماعات المشتركة بين الطرفين. وسمي هذا التفاوض بالتناجي. هذا النقد لا يتعلق بمجريات السياسة في دول العالم الثالث فحسب بل هي أيضا جزء من معتركات السياسة في العالم المتقدم أيضا.فقد شن الكاتب الأمريكي الشهير بول كروقمان سيلا من النقد في صحيفة النيويورك تايمز ضد ما اسماه تزوير التاريخ ضد أطروحات جيب بوش الذي اعلن رغبته للترشح لرئاسة الجمهورية في الإنتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري،والسبب هو أن جيب بوش الأخ الأصغر لجورج بوش قال إن الحرب علي العراق ربما تكون صاحبتها بعض الأخطاء، لكن كروقمان قال إن ما حدث في العراق يعتبر جريمة لأن الرئيس السابق جورج بوش قصد تضليل الشعب بحجب وتزوير الحقائق بشأن أسلحة الدمار الشامل في العراق، وهو ذات ما يحاول المرشح جيب بوش فعله الآن وهو يضع علي قمة مستشاريه للسياسة الخارجية بول ولف وتز وزير الدولة في الدفاع أثناء الحرب علي العراق الذي يتحمل وزر جريمة التضليل والفشل في العراق. درءا لهذه الفجوة في التوثيق قام السفير عبدالرحمن ضرار مسئول ملف العلاقات الخارجية في مكتب النائب الأول حينها علي عثمان بتسجيل وقائع كل جلسات المشاورات التي كانت تجري بين علي عثمان ووفده المفاوض خاصة بعد لقاءاته الثنائية مع قرنق.وقد جمع السفير ضرار هذه الوقائع في كتاب مصفوف إلا أن الإذن بطبعه لم صدر حينها ، ربما لأن القيادة السياسية لم تكن ترغب في أن تكون وقائع المفاوضات في صدر الجدل العام بعد أنفصال جنوب السودان مباشرة. وهذا ما أشار اليه الكاتب المصري الكبير فهمي هويدي وهو يقول في ندوة بالخرطوم عام 2012 كيف لبلد ينفصل ثلثه ولا تتم أي مراجعات حقيقية أو محاسبات سياسية، وفي مجال كرة القدم وهي أقل خطورة من مصائر الشعوب والبلدان يتم شطب بعض اللاعبين وأنهاء عقد المدرب و طرد حارس المرمي إذا مني الفريق بخسارة ثقيلة، فما بالك بمصير الشعوب؟. صدرت طبعة خجولة من هذه اليوميات من دار نشر مجهولة دون أن يتصدرها تقديم أو شرح لخلفيات الرصد والتوثيق وحتي دون الإشارة لجهد السفير عبدالرحمن ضرار الذي جمع ووثق لوقائع المشاورات طيلة فترة المفاوضات، مما قلل من قيمة هذه المادة التوثيقية الهامة ، والتي تعد حتي الآن المرجع الوحيد لبعض وقائع التفاوض كما وثقها السفير ضرار من سجلات الإجتماعات وجلسات المشاورات بين النائب الأول حينها علي عثمان وفريقه المفاوض.ومنهج تسجيل هذه الوقائع قائم علي الرصد المجرد دون تدخل في متن المادة بالتعليق أو التحليل مما يرفع من قيمتها التاريخية والتوثيقية.كما خلا الكتاب من تسجيل وقائع الإجتماعات والنقاش الداخلي، بل أكتفي بتلخيص الموقف الكلي الذي يتم الإتفاق عليه في النهاية. هذا الكتاب رغم قلة حظه من النشر والذيوع والإنتشار إلا أنه الوثيقة المقابلة لسرديات هيلدا جونسون وزيرة التعاون الدولي الأسبق في النرويج في كتابها عن تحقيق السلام في السودان. وهو كتاب وصفه بعض كبار المفاوضين في نيفاشا في أنه لم يعكس كل الحقائق وأنها نسبت لنفسها أدوار بطولية في التفاوض ليست صحيحة.وقد أتيحت لي عدة سوانح لسؤال بعض كبار المفاوضين في نيفاشا الذين أجمعوا أنهم لم يطلعوا علي كتاب هيلدا جونسون بمن في ذلك النائب الأول الأسبق علي عثمان نفسه. والكتاب كما لا يفوت علي ذكاء الكثيرين فيه نزعة الإنحياز لمواقف الحركة، وشبهة الإعجاب الشخصي بكاريزما جون قرنق. في المقابلة الشهيرة التي أجراها علي عثمان مع أحمد البلال الطيب في تلفزيون السودان عقب خروجه من التشكيلة الحكومية لتوضيح موقفه وشرح وجهة نظره في مآلات الأحداث التي أكتنفت السودان قال أنه علي أستعداد للدفاع عن موقفه في مفاوضات السلام في نيفاشا عندما يحين الوقت المناسب. وهذا يعيد للذاكرة الجدل الشهير بين الأستاذين سيد الخطيب والطيب مصطفي في البرنامج الأستاذ الطاهر حسن التوم بقناة النيل الأزرق، حيث أتضح للمشاهد والمراقب والمتابع أن بعض فصائل الإنقاذ والإسلاميين تريد أن تحمل أوزار أنفصال جنوب السودان للنخبة التي قادت التفاوض، وكان رأي الأستاذ سيد الخطيب حينها أنهم أنجزوا أتفاقا تاريخيا أوقف الحرب وفتح أبواب السلام ولكن لا يتحملون مسئولية تطبيق الإتفاقية وما أنتهت اليه من نتائج ومآلات قادت الي أنفصال جنوب السودان واشعال حرب جديدة في السودان الشمالي. تعكف الآن مجموعة وطنية لتوثيق الوقائع السياسية لهذه الحقبة الهامة في تاريخ السودان الحديث،بدأت في جمع الوثائق وأجراء المقابلات مع الرموز السياسية لهذه الحقبة وأعضاء وفد التفاوض وممثلي القوي السياسية المختلفة.تضم هذه المجموعة نخبة من الأكاديميين والباحثين علي رأسهم الأستاذ البحاثة جمال شريف والدكاترة عوض السيد الكرسني وحسن حاج علي وآخرين وتحظي برعاية كريمة من وزيرة الرعاية الإجتماعية التي آلت علي نفسها أنجاز هذا المشروع رغم توفر عدد من المراكز والمؤسسات البحثية المتخصصة.ولكن حتي تخرج الينا نتائج وخلاصات هذا التوثيق في شكل مطبوعة مرجعية محترمة فإن كتاب "يوميات نيفاشا" الذي قررت هذه المجموعة إعادة طبعه يعتبر أهم مرجع متاح حاليا لوقائع التفاوض في نيفاشا بين حكومة السودان والحركة الشعبية. وتكشف وقائع هذا الكتاب مدي تهافت الإتهامات الجزافية بأن الإتفاقية صممها وحررها الأمريكيون وجلس علي عثمان وفريقه المفاوض للتوقيع عليها. بل يؤكد الكتاب أن الإتفاقية جاءت نتيجة تفاوض حقيقي وعنيف ومباشر وأن فكرا سياسيا عميقا وتكتيكا تفاوضيا ذكيا حاول الطرفان أستخدامه مما جعل المحصلة النهائية هي خلاصة موضوعية لتسويات حقيقية وتنازلات مشتركة من الجانبين. يوضح الكتاب الأسس التي دخلت بها المناطق الثلاث للتفاوض،وفي الحيثيات التي وردت كثير من الردود علي الإتهامات السابقة التي حاول الدكتور غازي صلاح الدين أن يجرم بها الفعل السياسي والتفاوضي لعلي عثمان وفريقه المساعد. في الإجتماع الثنائي الثامن بين علي عثمان وقرنق ناقش الطرفان معضلة الترتيبات الأمنية وأصرار قرنق علي أنسحاب كل الجيش من جنوب السودان الذي وصفه بأنه جيش أحتلال. وقد وصف علي عثمان في جلسته التشاورية مع الفريق المفاوض مساجلات حواره مع قرنق وقال: " انه شعر بان هناك امر ما يجعل قرنق يتردد، وانه سعي لمعرفته مستخدماً اساليب العلاج النفسي، حيث بدأ بحديث مبسط مطول حول تاكيد الحرص على السلام بوصفه افضل علاج لازالة الحواجز النفسية والهواجس وان القائد لا يصنف الناس بانهم معه أو ضده بل يتقدم المسيرة قفزاً موسعاً صدره للجميع وان السلام يجب أن يدفن المرارات وان الجيش عنصر ايجابي بالتالي ليس مقبول ولا من مصلحة السلام استعدائه،أو أن يشعر بان السلام يجئ على حسابه، مع ضرب العديد من الامثلة واضاف سيادته أن قرنق وافق على ذلك، فانتقل بالحديث إلي أن المطروح ليس هزيمة احد بل فوز كلا الطرفين معاً لذا قبلت الحكومة بتجاوز القتال والتمرد، وقبلت اعتبار قوات الحركة احد مكونات الجيش القومي لتشجيعها على الاقبال على السلام. وقال علي عثمان: شرحت له مأخذنا على النقاط التي قدمها .عقب قرنق بالتساؤل على الضمانات التي ستقدم له مستشهداً تجارب مشار ولام اكول والصادق المهدي ومحمد عثمان الميرغني قائلاً أن الحكومة لم تف بالتزاماتها تجاههم، بل غدرت بهم وشقت احزابهم فاوضح له السيد النائب الأول أن التعقيدات الناتجة عن حالة الحرب هي المسئولة عن عدم تنفيذ بعض الاتفاقات وان الضمانات عديدة وتشمل السلام الشامل هو الضمانة الكبرى والشعب ينتظر بلهفة وصول القائد القومي الجديد لتطبيق الاطروحات التي طالما سمع بها ولن يسمح بالعبث بالسلام.والشراكة السياسية الكاملة التي ستنهي الحاجة للتحالفات والتحالفات المضادة. "(أنتهي الإقتباس). أزدادت قناعتي بعد المراجعة العميقة لوقائع المشاورات حول التفاوض التي تضمنها كتاب "يوميات نيفاشا" المظلوم والمهمل من قبل الفريق السياسي لمجموعة نيفاشا ومؤسسات الدولة التي ساهمت في طبعه بصورة باهتة لا تليق بأهمية الوقائع السياسية التي تناولها ولا حساسيتها التاريخية التي ستصبح يوما ذاكرة الشعب، أن أتفاقية السلام الشامل مع الحركة الشعبية التي أفضت الي أنفصال جنوب السودان بنيت علي تفاهمات سياسية وشخصية مع قرنق أكثر من كونها اتفاقية قانونية بين طرفين. وقد أدي موت جون قرنق الي مآلات الإنفصال لغياب قاعدة التفاهمات السياسية التي بنيت عليها الإتفاقية حاد عنها من خلفوه علي القيادة.وهناك أسباب أخري هامة لم يحن الوقت السياسي للتعمق في تحليلها وأبراز نتائجها ساهمت في مواطأة هذا الفشل السياسي المشهود. هذا الجهد الوطني الخالص لتوثيق وقائع هذه الحقبة الهامة في تاريخ السودان الحديث بواسطة نخبة من الأكاديميين والباحثين يجب أن يتجه الي كتابة التاريخ وتوثيق وقائعه كما حدثت وليس لإصدار براءة سياسية للقيادة التي تحملت مسئولية التفاوض والفريق المعاون. لقد تفرقت بهذه النخبة السياسية التي قادت التفاوض في تاريخ السودان الحديث أيدي سبأ فقد أعتزل كل من علي عثمان ونافع علي نافع العمل التنفيذي والسياسي المباشر، و أناخ أدريس عبدالقادر رئيس فريق التفاوض راحلته علي مبتغيات العمل الخاص وهدأة مزارعه في كسلا، وابتعلت هموم العمل الدبلوماسي مطرف صديق ولاذ يحي حسين بعمله الخاص، ومحمد مختار تلفع بصمته المبين، وظل سيد الخطيب سيدا لنفسه في مركز الدراسات الإستراتيجية، وذهب الدرديري محمد أحمد يبحث عن روب المحاماة من جديد.وبقي أمين حسن عمر يغرد وحيدا داخل السرب. ربما أن عزاءهم الوحيد بعد اعتزال السياسة المباشرة والهجمات القاسية عليهم من قبل الطيب مصطفي ورفاقه هو أن وقائع كتاب "يوميات نيفاشا" منحهم صك البراءة السياسية الكاملة. إن ترجل هذه النخبة عن المسرح السياسي لن يغلق الجدل التاريخي لمآلات أتفاقية السلام، ولكنها ستعيد أنتاج نفسها بطرق ووجوه جديدة، وما استمرار حالة التفاوض بقيادة البروفيسور إبراهيم غندور في أديس أبابا مع الحركة الشعبية قطاع الشمال إلا إعادة لجزء حي وحيوي من هذا التاريخ. أرجو ألا يسقط سهوا أو عمدا مرة أخري الحق الأدبي للسفير عبدالرحمن ضرار في الجمع والمراجعة والتوثيق لوقائع المشاورات والمفاوضات في نيفاشا.