عن السَّجَم والرَّماد والنِّيلة والهِباب

 


 

 

 


Khaldoon90@hotmail.com

وقع تحت بصري منذ مدَّة ، مقالٌ قصير ، أو خاطرةٌ موجزة ، نُشرتْ وتُدولت بكثافة في أكثر من موقع من مواقع التواصل ومجموعاته عبر تطبيق واتساب ، وهي مادة نُشرت غُفلاً عن اسم مؤلفها. وقد حاول كاتب ذلك المقال – أيَّاً كان – أن يشرح من خلاله ، مفردة " سَجَمِي " العامية التي تقولها النساء حصراً في السودان ، في معرض التعبير عن مشاعر الحزن ، والتأثر الوجداني ، أو التحسُّر والألم أحيانا.
وقد اجتهد ذلك الكاتب المجهول ، اجتهاداً بيِّناً في تخريج عبارة " سَجَمِي ! " تلك وتأثيلها ، اجتهاداً لا بأس به ، خصوصاً في جانب الحرص على إيراد بعض الشواهد الباذخة من أشعار فحول الشعراء العرب الأقدمين ، إعتقاداً منه بأنها شواهد تؤيد ما ذهب إليه من تفسير وتأصيل لُغوي لعبارة " سجمي " النسوية السودانية الدارجة.
ولما كانت تلك الخاطرة برمتها ، ليست بالطويلة طولاً مفرطاً أصلا ، فقد أحببنا أن نثبتها هاهنا بأكملها ، لكي تكون حاضرة أمام أعين القراء وفي أذهانهم كذلك ، وذلك حتى يسهُلُ عليهم أمر مناقشتنا لها. وفيما يلي نص الخاطرة:
" ما معنى كلمة سجمي ؟ أول مرة أعرف أنَّ كلمة ( سجمي .. سجمي ) من صحيح اللغة العربية القديمة !!!.
كلمة تستعملها كثير من نساء السودان .. وهي كلمة مأخوذة من معنى صحيح في اللغة العربية .. رغم أنَّ كثيراً منهنّض لا يعرفن معناها .. سجمي .. ( السجم ) الماء والدمع.. فالمرأة عند أهل السودان إذا أرادت أن تعبر عن حزنها واستغرابها من شيئ قالت سجمي ! ( أي أن دمعي سيسيل )....
قال لبيد بن ربيعة في معلقته:
باتتْ وأسبلَ واكفٌ من دِيمةٍ
يروِي الخمائلَ دائماً تَسْجامُها
وقال الهُذَلِي:
تذكَّرْتُ شجْواً ضافَنِي بعد هَجْعةٍ
على خالدٍ والعينُ دائمةُ السَّجْمِ
وأرضٌ مسجُومة .. أي ممطورة .. ونسوق مثل هذه الكلمات حتى لا تغيب عن واقعنا وتذهب مع موجة العولمة التي تدخلت في كل شئ وحتى في الكلمات !!! .... " انتهى كلام الكاتب المحترم.
فنقول: مع احترامنا التام لمؤلف هذا الخاطرة – أياً كان - ، وتقديرنا لاجتهاده في تسطيرها الذي نهض به حرصاً منه – كما قال – على تأصيل الكلمات السودانية ، وشرح غوامضها ، وصوناً لها من موجة العولمة الجارفة الخ ، إلاًّ أننا نرى أنه قد أبعد النُّجعة أيما إبعاد في تخريجه لهذه العبارة العامية البسيطة " سجمي " ، وحَمَّلَها بالفعل فوقما تحتمل ، فضلاً عن أنه لم يُلق بالاً للسياق اللغوي التعبيري ، الذي تُقال فيه عبارة " سجمي " هذه ذاتها ، في إطار عربية أهل السودان الدارجة ، والثقافة الكلية التي تعبِّر عنها تلك اللهجة على وجه التحديد. كما أنه لم يجتهد ذات الاجتهاد الذي بذله في إيراد الشواهد الشعرية الرفيعة ، في التماس الألفاظ المشابهة لكلمة " سَجَمْ " وهي اللفظة المفتاحية في هذه العبارة ، أو القريبة من " سجم " ، سواء في اللغة الفصحى أو في العامية السودانية على حدٍّ سواء.
ذلك بأن أول ما يتبادر للشخص السوداني العادي والأصيل بذائقته اللغوية الفطرية ، عندما يسمع كلمة " سجم " ، أنها كلمة لها علاقة باللون الكالح والأسود والداكن. فهي تدل على كلا معنيي السواد والاتساخ عموما ، لآنها دائماً ما تقرن بالرمَّاد وهو معروف ، فيقال: " السَّجَم والرَّماد " ، اللذان هما لعمري ، المعادل الموضوعي المطابق تماماً للنِّيلة والهِباب في البلاغة المصرية الدارجة. ويوصف الشخص أو الشئ في معرض الذم فيقال: " سَجْمان ورَمْدان " ، أو " مَسجَّمْ ومَرمَّدْ " بذات المعنى. وبالتالي فإن من يسمع أو يقرأ عبارة " سجمان ورمدان " ، فإن ذهنه لا ينصرف إلى تصور حالة " سيولة " كالتي توجد على سبيل المثال في عبارة مثل: " مطيَّن ومطمبَجْ " مثلاً التي توحي بالبلل والسيولة ، وإنما يتصور فورا منظر السواد والاتساخ وسوء الحال ، وليس الدموع والبكاء كما زعم الكاتب.
وبالفعل ، إنه لا يندر أن تسمع امرأة سودانية وهي تندب: " وا سجمي .. وا رمادي " ، وربما قالت " وا سوادي .. أو أسود علي ! " بمعنى واحد كناية عن سوء الحظ والتعاسة ، وكآبة الحال ، وسوء العاقبة ليس إلاَّ " ، وبالتالي فإنه لا مكان هنا للدموع أصلاً في هذه العبارة ، وإن كان الموقف يقتضي أحياناً وغالباً، ذرف الدموع.
ثم إن النساء السودانيات يقلن أحياناً " سجم خَشمِي !! " فهل يمكن أن يكون معناها هنا: " دموع فمي " ، أو أن فمي سوف يذرف دمعاً أو أي سائل آخر كما يقول هذا الكاتب؟. كل ما في الأمر أن هذا تعبير مجازي آخر ، يقال كناية عن الحسرة وخيبة الأمل. كنَّت عن لعق الصاب وأكل الحصرم بفمها ، بشيئ بائس وكئيب وأسود كالسجم الذي هو سُخام القدر التافه ، تتذوقه في فمها ، بدلا من الشهد مثلا الذي هو رمز الهناء والسرور.
على أنه صحيحٌ أنَّ " سَجَم " السودانية أصلها فصيح ، ولكنه ليس مشتقاً من " انسجام الدمع " أو " الدموع السواجم " الخ ، وإنما من لفظ آخر مختلف عنه تماماً في المعنى ، وان اقترب أو تشابه معه في اللفظ.
ففي تقديرنا أنَّ " سَجَم " السودانية الواردة في عبارة " سَجَمي " هي تحريف " سَخَمْ " بالخاء الفوقانية التي منها سُخَام القدر كما في الفصيح ، وهو السواد الذي يلحق بالآنية عندما تتعرض للنار ، وهو ذاته الذي يقال له بالعامية السودانية ، وخصوصا في عامية أهل الوسط وكردفان " السَّكَنْ ". وقد يُقال له " السَّجَم " نفسها كلمةً واحدةً ، كما عند الشايقية مثلاً الذين تشيع بينهم عبارة: " أسود من سجم الدُّواك " ، وهو مجاز يؤثر الكاتب الكبير البروفيسور عبد الله علي إبراهيم استخدامه.. والدُّواك هي جمع دوكة ، وهي تنُّور أفطح من الفخار يُصنع فيه الخبز التقليدي في السودان. وبعض الناس في غرب السودان يقولون " السَّجَنْ " بالنون عوضاً عن الميم ، ولا ضير فهي من تلك أيضا.
وتأسيساً على ذلك ، فإنَّ السَّخَم أو السُخام بالخاء والميم ، والسَّكَن بالكاف والنون ، والسَّجَم بالجيم والميم ، والسَّجَن بالجيم والنون ، كلها في تقديرنا ، ألفاظ متشابهة لفظاً ومتطابقة معنىً. ذلك بأن حروفها الأساسية مما يتبادل ويتعاقب ، كما أن سياقات استخدامها في العامية السودانية ، وفي العربية الفصحى معاً ، تؤيد ذلك.
ولعل مما يثير الدهشة في الختام ، أنه كيف ساغ لهذا الكاتب السوداني افتراضاً راجحاً ، أن يترك " سجم الدُّواك " المبهرة هذه ، وهي بيت القصيد تماماً ، ونظيراتها الأخريات ، ثم يعمد إلى تشقيق الشعر تشقيقاً مجانيَّاً ، تصيُّداً منه لمعنىً بعيد جداً لهذه العبارة السودانية البسيطة والمباشرة ، حتى صار حاله كحال من أراد أن يقتل صرصوراً بطلقة مدفع ، بينما كانت تكفيه خبطة من نعله فحسب.
///////////////////

 

آراء