أحزنني للغاية ما حاقَ بمدينة النهود ، قصبة دار حَمَر ، وكُبرَى مدن ولاية غرب كردفان مؤخراً ، من مأساة إنسانية مؤلمة ، تسببت فيها أمطار وسيول رهيبة ، أحالت جُل تلك المدينة العريقة والنابضة بالحياة ، إلى ركام من الأنقاض البائسة. ومن المؤكَّد أنَّ ما استفزني لهذا الشعور الطاغي من الحزن والتأثُّر لما حلَّ بمدينة النهود ، سوى مشاطرتي لسائر السودانيين ، من رسميين وشعبيين ، مشاعر التعاطف والتضامن مع ضحايا تلك الكارثة الطبيعية تحديداً ، وغيرها من الكوارث الأخرى المماثلة التي حدثت من جراء الأمطار الغزيرة والسيول والفيضانات التي شهدتها مناطق أخرى في السودان كذلك ، مثل كسلا وغيرها ، مع بداية فصل الخريف الحالي ، هو أنَّ مدينة النهود هي مسقط رأسي ، ولنا فيها أهل وعشيرة ، ونسبٌ وصهر ، وذكريات طفولة حبيبة إلى النفس. ولقد رأيت وأنا من على البعد في ديار الغربة ، من خلال جولة كاميرا إحدى القنوات الفضائية السودانية ، مشهداً جاشت له روحي لهفة ، من قلب " فريق الشايقية " حيث وُلدت ، فيه صبيٌّ صغير من أبناء ذلك الحي ، يتحدث في حسرة عن آثار تلك المأساة وتفاصيلها ، ولكن في إبانة وشجاعة وثبات ورباطة جأش. وكأني بذلك الصبي يقف قريبا من موضع بيت جدي " الضو " رحمه الله ، أو في الشارع الرئيسي الذي يطل عليه ذلك البيت ، ويفصل ببنه وبين بيت جدي الآخر " عوض الكريم " ، رحمهما الله جميعا. إنه ذلك الشارع الكبير الذي يخترق حي الشايقية ، ويؤدي إلى " سوق بشير ". أما الضو المذكور ، فهو جدي والد والدتي ، وكان قد قدم إلى النهود من نواحي أم دم حاج أحمد بدار الريح من ريفي شرق كردفان ، في عشرينيات القرن الماضي ، وربما قبلها بقليل ، فطاب له المقام فيها ، واتخذها مسكناً وموطنا. ذلك بأن النهود قد كانت آنئذٍ ، مدينة مزدهرة جدا ، وبها فرص واعدة ، جذبت إليها طوائف كبيرة من الناس من شتى البقاع ، من داخل السودان وخارجه على حد سواء. قالوا: قدم جدي الضو رحمه الله إلى النهود ، في صحبة صديقيه الحميمين: جدي عجبنا والد خالنا الضو عجبنا وإخوانه ، والذي من ذريته أيضاً ، أولاد عمنا الأستاذ حامد سليمان رحمه الله ، وصديقه ورفيقه الثاني هو جدي " فكي عثمان " ، رحمه الله كذلك. وهنالك تزوج جدي الضو جدتنا الحاجة المبرورة " أمونة بنت محمد ترس " ، التي أنجبت والدتي وإخوتها. وللحاجة أمونة المذكورة ، علاقات قرابة رحمية بعدد معتبر من أسر النهود المرموقة. وكان ابن النهود البار ، البروفيسور عوض أبراهيم عوض ، قد ذكر حاجة أمونة بت ترس من ضمن قائمة من الأسماء المميزة ، وذات الجرس الخاص في النهود ، في مقال شهير نشره من قبل. أما جدي الآخر " عوض الكريم " ، فهو ابن عم جدي الضو لزم كما يقولون ، وقد وصل إلى النهود بعد وصول جدي الضو إليها بسنوات ، واستوطنها كذلك. كنا نسافر إلى النهود بصحبة الوالدة غالباً ، في أيام العطلات المدرسية الصيفية ، ونحن بعد أطفال صغار في منتصف ستينيات القرن الماضي. كانت تلك الرحلة شاقة ومرهقة ومملة حقاً، وكنا نحس وطأها القاسي على أنفسنا وأجسادنا الغضة آنئذٍ ، على الرغم مما يخففه عنا ما يرتبط بالسفر عادة من تشويق وإثارة ، وخصوصاً الاستمتاع بما كان يُحمل معنا من زاد وأطعمة خاصة مثل الدجاج المحمر والمقرفص ، والبيض المسلوق ، والطحنية ، والمربى وهلم جرا. تبدأ الرحلة باللواري من ام دم إلى ام روابة ، ثم بالقطار من روابة إلى الأبيض ، ومن ثم باللواري مرة أخرى من الأبيض إلى النهود. لم تكن ثمة شوارع مرور سريع مسفلتة وقتئذٍ ، مما كان يزيد من مخاطر تعثُّر السيارات في الأوحال والكثبان الرملية ، أو تعطلها أحيانا بسبب بعض الأعطاب التي قد تحدث أحياناً في بعض أجزاء السيارة من جراء تلفها او انكسارها كعمود الجنب وما إليه. أما في رحلة العودة التي كانت تتزامن غالباً مع بدايات فصل الأمطار أو " الرُشلش " ، فإن الرحلة قد تتعطل أحيانا بسبب هطول الأمطار الغزيرة مما يضطر السائق إلى المبيت في بعض القرى والبلدات التي تقع في الطريق بين النهود والأبيض مثل: الخوي ، والعيارة ، وأم صميمة وغيرها. أعلم أن هذا قد صار الآن من الماضي بفضل الله ، وأن المسافر قد صار بوسعه حالياً ، أن يفطر في الخرطوم ، ويتعشى في النهود في نفس اليوم. لقد كانت النهود تمثل بالنسبة لي منذ تلك الفترة ودائماً ، من حيث جغرافيتها البشرية والاقتصادية ، نموذجاً ساطعاً للمدينة السودانية التي لا تقع على شريط السكك الحديدية ، ولذلك فإن شخصيتها المدينية والحضرية لم تشكلها السكة حديد وتطبعها بطابعها المميز ، وإنما شكلتها اللواري والشاحنات بامتياز. مثلها في ذلك مثل مدن سودانية أخرى على هذا النمط مثل: الدويم ، والكوة ، والقطينة ، ودنقلا ، وبارا ، والمناقل ، ورفاعة ، والفاشر ، والجنينة. وقد خطر لي بهذه المناسبة ، أن سائقي اللواري السفرية ، وخصوصا مساعديهم ، قد شكلوا دائماً عاملاً أساسيا في نقل وانتشار الكثير من مظاهر ثقافة الوسط والعاصمة بالتحديد وخاصة القولية منها ، إلى شتى انحاء السودان. يلتقطونها وإن شئت " يلفحونها " من حواري العاصمة وأسوافها ، ثم ينطلقون بها ، فيلقونها على آذان السابلة والمستمعين من أعالي " التندات " ، على طول البلاد وعرضها ، فصاروا بذلك من عوامل توحيد الوجدان الوطني بمعنىً من المعاني. أما مدينة النهود على وجه التحديد ، فقد ارتبطت عندي أنا بصفة خاصة ، بخصائص ومميزات محددة ، بل بأشياء ومفردات خاصة ، بل توشك أن تكون حصرية وقاصرة عليها. فمن بين تلك الأشياء والمفردات ، ذلك النوع من الحجر الجيري الذي تُبنى به المنازل ، والذي يُعرف عند أهلها ب " مُنْقُرْ .. مُنْقُر " ، الذي رأيناه – للأسف – قد تداعى ، بل ذاب وانماص بفعل هذه الكارثة الماحقة ، وأضحى مجرد أكوام من الجير اللثق. ومن بينها أيضاً ، ثمرة أبو ليلى أو أبو ليليه ، ذات القشرة البنية الهشة ، والنواة المخضوضرة اللون ، التي تكسوها طبقة من المسحوق حلو المذاق. وكذلك ثمرة الحميَّض اللذيذة التي تشبه في طعمها المشمش أو البرقوق. وربما كان مصدر عجبي ودهشتي آنئذٍ ، أن تلك المنتجات لا توجد في بيئتنا الأصلية الرملية وشبه الصحراوية نسبيا ، بشرق كردفان. وأكلتُ " أم برْطبُّو " وهي عبارة عن طبق تقليدي حلو من مسحوق القونقليس والحليب ، وسمعت بملاح " أم زماطة " الذي قيل لنا أنه يصنع من ماء البطيخ أو منقوعه الحلو، ولكنني لم أذقه. ولكن النهود ارتبطت في ذهني أيضا بالحداثة. ففيها دخلت السينما لأول مرة ، وفيها شاهدتُ أول حفل غنائي ساهر في حياتي في سنة 1967م ، أحياه – على ما أذكر – الفنانون: محمد وردي ، وسيد خليفة ، وحمد الريح. وقد أقيم بذات السينما. وفيها سمعت الفتيات يغنين في بيوت الأفراح بأغنيات ما يزال صداها يرن في أذني من قبيل: اشتقت لوصالا دي قست علي مالا مشغولة بدلالا .. الخ كما سمعت الشباب يرددون كلمات أغنية أظنها للأستاذ صديق عباس ابن المدينة ، ولكنها لم تسجل بالإذاعة ، تقول كلمات مطلعها: من مُناي وهجري عزِّي لي رسولي شوفي لي زولاً قدري أقضي معاه عمري .. الخ وفيها شاهدت وأنا طفل ، مبنى نادي السلام ، الذي يعتبر أقدم نادي ثقافي في السودان إذ أنه تأسس في عام 1917م ، أي أن مئوية إنشائه قد حلت منذ العام الماضي. لم أدخل مبنى النادي نفسه ، ولكنني وقفت بالقرب من سوره المحاط بسياج من أشجار الحناء والإنجِلْ والتمر هندي ، وربما اختلسنا شيئا من ثمار أشجار التمر الهندي الناضجة المحيطة بذلك النادي وأكلناها. إنَّ النهود هي رابعة مدن شمال كردفان الكبرى التي ذكرها الشاعر الرقيق الأستاذ " محمد حامد آدم " ، في أغنيته التي يناجي بها طائر البلوم ، والتي صدح بها المطرب الكبير الأستاذ " عبد الرحمن عبد الله " ، متعهما الله تعالى معاً بالصحة والعافية ، وذلك حين يقول: امشي بارا وديك أم روابة والنهود الآسر شبابا والأبيض غرِّد حبابا دُرَّة رايعة وحايزة الكمال يا بلومي شيل السلام... فهذه المدن الأربع ، قد ظلت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً جدا بعضها مع البعض الآخر ، اجتماعياً ، واقتصادياً ، وثقافيا ، بل من النادر ألآ يكون لقاطن إحداهن ، أقارب ، أو أصدقاء ، أو زملاء دراسة أو عمل في المدن الثلاث الباقية ، أو المدن والقرى الأخرى المجاورة لأيِّ منهن. ومهما يكن من أمر في الختام ، فإنني أودُّ من خلال هذه العُجالة ، أن أُعبِّر عن عميق تأثري لما حدث لمدينة النهود ، وصادق تعاطفي ومساندتي لجميع قاطنيها ، وخصوصاً للمتضررين منهم من جراء هذه الكارثة ، سائلاً الله تعالى أن يعينهم ، وأن يأخذ بيدهم ويخفف عنهم ، وأن يخلف عليهم بخيرٍ مما افتقدوه ، وذلك حتى تعود النهود الجميلة ، وذات الشباب الآسِر ، لأحسن مما كانت عليه ، بتضامن أهلها ، وجهود المسؤولين على مختلف المستويات ، ومساعدة الخيرين من أهل السودان بالداخل والخارج.